خطبة بعنوان: (الغش وآثاره) 12-3-1431هـ .

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله حرم أكل المال بالباطل، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله القائل في سنته: (من غشنا فليس منا) (رواه مسلم)، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله لعباده أجمعين: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً](الأحزاب: 70، 71).

أيها المؤمنون طلب الرزق الحلال واجب وابتغاء المال الطيب ضرورة لاستقامة الحياة الاجتماعية واستقرارها قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ](البقرة: الآية 168).

الرزق الحلال الطيب هو ما اكتسب عن طريق عمل مشروع وحرفة مباحة لا شبهة فيها والحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، والمال الحرام رزق خبيث محقت بركته وهو مانع من استجابة دعوة آكله فا الله جل وعلا طيب لا يقبل إلا طيباً ولا يرفع إليه من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه.

وقد ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)(رواه مسلم).

لابد مع جمال الظاهر من طهارة الباطن وصفاء النفس وسلامة الصدر والصدق في القول والعمل والتعامل مع الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)(رواه مسلم).

ولعل من أعظم ما ينطوي عليه القلب من المساوئ الغش لأن له آثاراً اجتماعية خطيرة على الأفراد والمجتمع والغش من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي يدل على أن فاعله خبيث النفس أسود الفؤاد ضعيف الدين.

عباد الله وواقع الحال اليوم أن كثيراً من الباعة يقعون في هذا الخلق السيء فيأكلون أموال الناس بالباطل قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ…] (النساء الآية 29).

كم من الناس ينفق سلعته بالحلف الكاذب واليمين الفاجرة فيخدع ويغش ويكذب ويخون ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ)(رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في سنن ابن ماجة 2/755)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)(رواه مسلم).

ونهى صلى الله عليه وسلم عن كتم العيب في السلعة والكذب وأخبر أن ذلك محق للبركة في البيع قال صلى الله عليه وسلم: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا – فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)(متفق عليه). وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ«مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ» قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ«أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى)(رواه مسلم).

إخوتي في الله الغش والخداع والتدليس كبيرة من كبائر الذنوب تدل على ضعف الإيمان بالله وقلة مراقبته والخوف منه في السر يظهر فيه المتعامل غير ما يخفي ولذا فهو عمل من أعمال المنافقين الذين يظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل وهذا العمل يؤدي إلى تقويض المجتمع وتفككه وخلخلة بنائه لأن الثقة تفقد بين أفراده وكل مجتمع تكاثر فيه الغش والخداع والنصب والتحايل وعدم رعاية الأمانة فهو مجتمع يتأخر ولا يتقدم وتنخر فيه هذه الأمراض كما ينخر السوس في الخشب لأن هذا المجتمع يفقد أعز ما يملك وهو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض وأوجبه الله على عباده وجعله شعاراً على الإيمان والأمن والسلوك والتعامل بين الناس.

ومظاهر الغش والخداع والكتمان واستغلال الناس كثيرة وقد جاء النهي عن كثير منها صراحة في النصوص الشرعية قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع مثل أن يكون ظاهر المبيع خيراً من باطنه كالذي مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز والطبيخ والعدس والشواء وغير ذلك أو يصنعون الملبوسات كالنساجين والخياطين ونحوهم أو يصنعون غير ذلك من الصناعات فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان) انتهى كلامه.

قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ لِبَيْعٍ وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ)(رواه مسلم).

لقد نهى الإسلام عن كل ما يؤدي إلى الكسب الحرام وسد الأبواب الموصلة إليه فحرم السرقة والربا والغصب والمقامرة والغش والزور والخديعة والرشوة والخيانة والنصب والاحتيال والمتاجرة بما حرم الله.

والمسلم مأمور بالعمل والكفاح والسعي في مناكب الأرض لتحصيل القوت الحلال والمال الطيب بالصدق والأمانة وتقوى الله عز وجل والعمل في نظر الإسلام نوع من الجهاد المبرور يثاب عليه العامل أعظم الثواب وأوفى الجزاء.

قال صلى الله عليه وسلم: (من أمسى كالاً على عياله أمسى مغفوراً له)(رواه الطبراني، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 5485)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم واحد من حرام لم يقبل له صلاة ما دام عليه)(رواه أحمد، وضعفه الألباني في الضعيفة 2/240).

فأكل الحرام وجمع المال عن طريق الآثام جرم فظيع عند الله وإفساد خطير في المجتمع لأنه ينشر جواً محموماً من الماديات والشهوات والجريمة والأطماع القاتلة.

عباد الله إن سف التراب وأكل الأعشاب خير من الموائد الحافلة بالأنواع الشهية من الأطعمة والأشربة التي هي حصيلة أموال استولى عليها أصحابها عن طريق الباطل والحرام. قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه)(رواه أحمد، وضعفه الألباني في الضعيفة ج11 رقم5175).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى واحذروا أكل الحرام فإن الأجساد على النار لا تقوى.

واعلموا أحبتي الكرام أن رسولكم صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب ج2 رقم1785).
وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) (رواه الترمذي، وصححه الألباني في ج2 رقم1782).

وإن من مظاهر الغش والخداع والتغرير في معاملات الناس ما يأتي:
1) الكذب في التعريف بالبضاعة وأنها جيدة ورخيصة والماركة الفلانية وهكذا.
2) أن يدَّعي البائع أنه اشتراها بكذا ويأخذ ربحاً يسيراً والواقع خلاف ذلك أو يكون اشتراها وحصل بها عيب ومن أنفق سلعته بالحلف الكاذب استحق الوعيد الشديد فهو من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

3) بيع ما حرم الله من الأغاني الماجنة والصور العارية والأشرطة والكتب والمجالات التي تدعو إلى الفاحشة والجريمة وتزينها في قلوب الشباب والفتيات.
4) بخس الكيل والميزان والتطفيف فيها قال تعالى: [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ] (المطففين الآية 1، 2، 3).

5) التناجش فإذا عرضت سلعة للبيع يزيد فيها الشخص وليس له رغبة في شرائها لكنه يريد نفع صاحب السلعة والنجش خداع وتغرير سواء كان بالزيادة أو الإحجام عن الزيادة لمصلحة المشتري وضرر البائع كما يفعله بعض الناس مع من يجلبون السلع على الأسواق

وكما يفعله بعض المتعاملين في بيع السيارات ولله در عمر بن عبد العزيز حينما وقف ذلك الموقف الرائع فقد أرسل عاملاً له يبيع له بيعاً فلما باعه عاد فقال لعمر لولا أني كنت أزيد فأنفقه لكان كاسداً فقال له عمر هذا بخس لا يحل فبعث منادياً ينادي إن البيع مردود وإن البيع لا يحل.

وهذا ديدن سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم فهم بعيدون عن الغش منزهون عن الكذب مترفعون عن الخداع والتغرير مصونون من أكل الحرام.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يحشرنا معهم وأن يجمعنا مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن يوردنا حوضه ويرزقنا إتباعه والثبات على سنته.

هذا وصلوا وسلموا على صاحب اللواء المعقود والحوض المورود محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، اللهم آدم علينا نعمة الصحة والعافية.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو ولاة أمرنا بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده إلى نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه.

[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (النحل الآية 90).

الجمعة : 12-3-1431هـ