خطبة بعنوان: (خطر شهادة الزور) 14-6-1431هـ.
الخطبة الأأولى :
الحمد لله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد ألا إله إلا الله أمر بحفظ الألسنة عن قول الزور وشهادة الزور، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أصدق الخلق قولاً وأعفهم لساناً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق في أقوالهم وأفعالهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا](النساء الآية135).
عباد الله: لقد جاء الإسلام بحفظ الحقوق وتحقيق العدل بين الناس بكل وسيلة مشروعة وفي سبيل ذلك شرع الطرق المختلفة لإثبات الحقوق وبيانها عند التنازع لأن الناس لو يعطون بدعاواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن القاعدة العامة في ذلك (أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وأهم طرق إثبات الحقوق التي يستدل بها القضاة ويحكمون بموجبها هي الشهادة، وقد أولاها الله جل وعلا عناية كبيرة، وأكد عليها، ورتب على الكذب فيها إثماً عظيماً، وصدق الله العظيم: [وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ](البقرة الآية283).
عباد الله إن حاجة الناس لا تستقيم بدون الشهادة، ففيها حفظ الحقوق والأرواح والأموال والأنساب والعقول، وهي الطريق الواضح لإنصاف المظلومين وردع الظالمين وحسم التنازع بين المتخاصمين.
قال بعض السلف ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، فإن قوله تعالى: [فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ] يراد به مسخ القلب، وخص القلب بذلك لأنه موضع العلم بالشهادة [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ](البقرة الآية140)، وقال تعالى: [وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ](المائدة الآية 106). وهنا أضاف سبحانه الشهادة إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها لأنها توضح الحقوق وتبين الحق من الباطل.
عباد الله: وقد أوجب الله الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين والأقربين لا يمنعه من ذلك طمع دنيوي أو خوف من أحد أو محاباة لقريب أو عزيز، وصدق الله العظيم: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ](النساء الآية 135). وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أَلَا لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ)(رواه أحمد).
ومع أهمية الشهادة وعظمها وضرورتها لإثبات الحقوق إلا أن بعض الناس تساهل فيها وركب مركباً صعباً، فمن الناس من يشهد بما لم يره أو يعلم عنه وإنما تأخذه العاطفة أو الحماس أو الطمع الدنيوي.
ومن مظاهر التساهل أن البعض يصدق خبر من يطلب الشهادة حيث يقول له أنا ملكت الأرض الفلانية أباً عن جد وملكها ثابت وأريدك تشهد معي أنها ملكنا، أو يقول له إن الأرض ليست ملكاً لأحد وهي أرض بور وشهادتك لا تضر أحداً لأني إن لم آخذها أخذها غيري، فيشهد بعض الناس ظناً منه أنه لا يضر أحداً، وما علم هؤلاء أن الإثم هنا أعظم لأن هذه الأرض تتعلق بها حقوق الناس الذين يتعلقون ببيت مال المسلمين، فما كان من الأراضي يخص الدولة فنفعه عام للناس ولذا عقوبة الاعتداء عليه أعظم.
ومن مظاهر التساهل بالشهادة أن يقابل شخص آخر في المحكمة أو غيرها ويقول له اشهد لي بكذا وأشهد لك، وأحياناً لا يعرف أحدهما الآخر ولا يعلم عن صدقه وكذبه وصلاحه وفجوره.
ومن مظاهر التساهل بالشهادة التهاون في تزكية الشهود وجرحهم وهو لا يعلم عن حالهم شيئاً وإنما يأخذه الحماس والعاطفة والانتصار لفلان من الناس لمكانته أو لكثرة أمواله أو لمنصبه، فيقع في أمر عظيم يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم والاعتداء عليهم.
أيها المؤمنون: إن من أفظع الكذب وأقبحه شهادة الزور فإنها من الفسق والفجور، فذنبها عظيم وإثمها جسيم، بها تضيع الحقوق، ويظلم البريء، ويبرأ الظالم الآثم، فلا يتعاطاها إلا ضعيف الإيمان عديم الوجدان، وقد عدلت شهادة الزور الشرك بالله، قال الله تعالى: [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ](الحج الآية 30، 31).
وشهادة الزور من أكبر الكبائر وأعظم الموبقات، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لَا يَسْكُتُ)(رواه البخاري).
شاهد الزور يستحق الطرد والمقت والتعزير والتشهير وتعريف الناس به حتى يحذروه، كتب عمر بن الخطاب إلى عماله في شاهد الزور أن يضرب أربعين سوطاً، وأن يسوَّد وجهه، ويحلق رأسه، ويطاف به، ويطاول حبسه.
وكان الخلفاء رضوان الله عليهم إذا جيء لهم بشاهد زور أوقفوه وعرفوا الناس به وحبسوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)(رواه البخاري).
عباد الله: ويترتب على شهادة الزور أمور عظيمة منها:
1) تضليل الحكام عن الحق، والحكم بناء على البينة الظاهرة لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فإذا كانت البينة كاذبة أخذ الحق غير صاحبه والإثم على الشاهد.
2) ظلم من شهد له لأنه ساق إليه حقاً ليس له، وهذا من الزور والبهتان، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا)(رواه البخاري).
3) الظلم لمن شهد عليه حيث سلبه ماله وحقه بهذه الشهادة الكاذبة، وهنا قد يدعو عليه المظلوم دعوة تحصبه ومن وراءه، فدعوة المظلوم مستجابة.
4) تخليص المجرمين من عقوبة الجرائم التي ارتكبوها، فقد يشهد معهم أحد شهادة
زور تخلصهم من العقوبة التي تنتظرهم وهنا يكون ظلم شاهد الزور للمجتمع بأسره
لأن هذا الشاهد يُعِين على انتشار الجريمة ويجرم في حق نفسه ومجتمعه.
5) يترتب على شهادة الزور انتهاك المحرمات وأكل أموال الناس بالباطل.
6) القول على الله بغير علم حيث يكذب شاهد الزور ويغير الحقائق دون مراعاة لما يترتب على شهادته، فقد يكون فيها كذب على الله وافتراء على عباد الله.
7) يترتب على شهادة الزور أن الحاكم والمحكوم له والمحكوم عليه كلهم خصماء لشاهد الزور يوم القيامة، لأنه أجرم بحقهم جميعاً، وهؤلاء الذين يأخذهم الحماس ويصدقون فلاناً أو فلانة بأن هذا ملك لهم ولا ينازعهم فيه أحد ويطلبون شهادة عليه فيشهد معهم وهو لا يعلم، وقد يكون ذلك قبل ولادته، كل هذا مما وقع فيه الناس ويقعون فيه، والخصومة بين يدي الله جل وعلا، وصدق الله العظيم: [وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً](الفرقان الآية72).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله وراقبوه وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
أيها المؤمنون الشهادة ليست مجرد قول باللسان ولا حديث عابر في مجلس ولا كلمة
يقولها المرء يمحوها بالتوبة والاستغفار، الشهادة كلمة يترتب عليها العدل في الحكم، وتنزع بها الحقوق، وتصان بها الأرواح، وتسفك بها الدماء، وتحفظ بها الأموال أو تهدر، فإلى الله المشتكى كم خربت شهادة الزور من بيوت عامرة، وكم ضيعت من حقوق ظاهرة.
وكم أزهقت من أرواح بريئة، وكم أفسدت من مجتمعات، وكم خلصت من المجرمين الآثمين وظلمت من الناس الصادقين الأبرياء، إنها شهادة الزور التي يطول ضررها أصحاب القبور في قبورهم، والأجنة في بطون أمهاتهم، تؤكل بها حقوق الأيتام، وتضيع بها أموال القاصرين، والحساب بين يدي الحكيم العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، الحكم العدل سبحانه، والشهود في ذلك اليوم هي جوارح شاهد الزور الذي شهد في الدنيا زوراً وبهتاناً.
فليتق الله شاهد الزور وليتب إلى الله قبل أن يوقف بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين في يوم يقتص فيه للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
ليتق الله فسيأتي يوم يتمنى لو قطع لسانه في الدنيا ولم يشهد شهادة زور، وصدق
الله العظيم: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ
كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً](الإسراء الآية36).
اللهم احفظ علينا ألسنتنا من أن نقول زوراً أو نشهد زوراً اللهم وفقنا لكلمة الحق في السر والعلانية.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد.
اللهم اغفر لهذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات اللهم استر عوراتهم وأمن روعاتهم وارفع درجاتهم في الجنات وأغفر لهم ولآبائهم وأمهاتهم، اللهم أصلح نياتهم وذرياتهم يا ذا الجلال والإكرام.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّ رُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] (النحل: الآية 90، 91).ـ. وأقم الصلاة.
الجمعة: 14-6-1431هــ.