خطبة بعنوان: (تأملات في الأمر الملكي حول ضبط الفتوى) 10-9-1431هـ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).
أيها المؤمنون: إن من أخطر الذنوب وأعظم المعاصي القول على الله جل وعلا بغير علم، يقول الله تعالى [{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }(الأعراف: 33).
والتصدر للفتوى منصب عظيم وموقع خطير لا يجوز أن يتولاه إلا من كان ذا علم راسخ، وفهم ثاقب، وجلوس طويل عند أهل العلم الراسخين، وقد تهيب من هذا المنصب أكابر الصحابة والتابعين، وخيار العلماء العاملين على مدار تاريخ أمتنا الطويل، فهذا أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم).
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله (أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم محدث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث ولا مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا).
الفتوى توقيع عن رب العالمين، وبيان لشرع الله، وإظهار لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها عظيم جدا، ولذا جاءت نصوص صريحة تبين خطورة الفتيا والتحليل والتحريم، قال الله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}(النحل: 116)، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم (مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْتًا مِنْ جَهَنَّمَ)(رواه أحمد)، وقال: (مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ)(رواه أبو داود، وحسنه الألباني في سنن أبي داود).
عباد الله: لقد كان سلفنا الصالح حريصين على سلامة المنهج، متورعين فيما يقولون، لا يمكن أن يصدر منهم شيء إلا بعد روية وتثبت وتمحيص، وهذا أحد الأئمة الأعلام، والخلفاء العظام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول (وا بردها على كبدي ـ ثلاث مرات ـ أن تسأل الرجل عما لا يعلم فيقول الله أعلم).
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما (إذا غفل العالم عن لا أدري أصيبت مقاتله).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن أشياء فيقول (لا أدري، فإذا قيل له في ذلك قال إن هؤلاء يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنم).
أيها المؤمنون: لقد تطاول الكثيرون على منصب الفتيا، وابتليت الأمة بأشخاص يتكلمون في دين الله بغير علم ولا هدى، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويتتبعون أقوالاً شاذة لأمور يعلمها الله عنهم، وقديما كان نموذج من هؤلاء يفتي في كل مسألة، ويجيب كل سائل، فأجمع بعض العقلاء ممن عرفوا حاله أن يختبروه فيما يعلمون ليبرهنوا على كذبه، فنحتوا كلمة لا أصل لها، وسألوه عنها، وهي كلمة ـ الخنفشار ـ فقال هي نبت طيب الريح إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال الشاعر:……..، ثم قال: وقال فلان، وقال فلان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوقفوه لئلا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد أخذ هذا المتعالم يهرف بما لا يعرف، ويأتي بأشياء من نفسه، فأخبروه أن هذه الكلمة من عندهم، وأنه لا أصل لها.
وهكذا يتكرر هذا النموذج في طول البلاد الإسلامية وعرضها، فإلى الله المشتكى من الجرأة على الله، وانتحال شخصية العالم ممن لا يعرف بالعلم ولا مجالسة العلماء.
وقد جاء في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّة)(رواه أحمد، وابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم3650).
وقد وصف ابن القيم رحمه الله حال بعض المفتين ممن يتصدرون وليسوا بأهل للفتوى فقال: (انتكست عليهم قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار العلم، لكن بالدعاوى الباطلة، وشقاشق الهذيان، ولا والله ما ابتلَّت من وَشَلِه أقدامهم ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم..).
وقال رحمه الله واصفاً حال المفتي الصادق والعالم الرباني (ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلِّغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السَّنيَّات فيكف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات).
وصدق الله العظيم [فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43، 44).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، واشهد أن محمدا عبد الله ورسوله إمام المفتين، وقدوة الموقعين عن رب العالمين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
أيها المؤمنون: لقد صدر أمر خادم الحرمين الشريفين بقصر الفتوى على أهل الاختصاص، وهذا التوجيه الكريم أثلج صدور الغيورين، وجاء في وقته المناسب بعد ما طفحت وسائل الإعلام بفتاوى وأقوال عجيبة ظهرت فيها الجرأة على الله والتطاول على أهل العلم الكبار، بل إن بعض هذه الفتاوى أصبحت مادة يتناقلها بعض الناس يسخرون منها، وكل هذا ينسب للدين وحملة الشريعة.
نعم لقد جاء هذا التوجيه السامي في وقته بأن يسند الأمر إلى أهله، ومن حاد عن الجادة أو خالف فسيعرض نفسه للمساءلة كائنا من كان.
وتعالوا معي نعرض شيئا من هذا التوجيه الكريم داعين لخادم الحرمين الشريفين بالتوفيق والهدى والرشاد، وأن يمده الله بالصحة والعافية لإكمال مسيرة البناء لهذه البلاد المباركة.
قال حفظه الله: (ولقد تابعنا هذا الأمر بكل اهتمام ورصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم حفظا للدين ، وهو أعز ما نملك ، ورعاية لوحدة الكلمة ، وحسماً لمادة الشر ، التي إن لم ندرك خطورتها عادت بالمزيد ، ولا أضر على البلاد والعباد من التجرؤ على الكتاب والسنة ، وذلك بانتحال صفة أهل العلم ، والتصدر للفتوى..).
إلى أن قال حفظه الله (..ويدخل في معنى تلك التجاوزات ما يحصل من البعض من اجتهادات فردية ، يتخطى بها اختصاص أجهزة الدولة ، و لاسيما ما يتعلق بالدعوة والإرشاد ، وقضايا الاحتساب).
وقال حفظه الله (.. ولم تكن ولن تكون الجلبة واللغط والتأثير على الناس بما يشوش أفكارهم ، ويحرك سواكنهم ، ويتعدى على صلاحيات مؤسساتنا الشرعية أداة للاحتساب وحسم الموضوع ، بل إن الدخول الارتجالي فيها يربك علم مؤسساتنا الشرعية ويسلبها صلاحياتها ، ويفرغها من محتواها ، بدعوة واضحة للفوضى والخلل)..
أيها المؤمنون: لقد جاء هذا الأمر السامي الكريم واضح المعالم فيما يتعلق بالفتوى وقضايا الدعوة والاحتساب والخطابة، وحري بكل مسلم عاقل حصيف أن يجتهد في تطبيقه، ومن حسنت نيته وخلص عمله فسيجد في هذا الأمر ضالته لأنه يحمل المسؤولية من هم أهل لها في مجالات الفتوى والاحتساب والخطابة.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفق خادم الحرمين الشريفين لكل خير، وأن يجزيه عن البلاد والعباد خير ما جزى حاكما عن بلاده.
وأن يوفق أهل الاختصاص الذين أحيل لهم الأمر لتطبيقه على الوجه الذي تقر به عين خادم الحرمين الشريفين، ولقطع مادة الخلاف والنزاع في المسائل الخلافية التي يثيرها بعض من لا يدركون أبعادها.
هذا وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله إمام العلماء، وقدوة المفتين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين لكل خير، ووفق ولاة أمرنا لما فيه خير البلاد والعباد.
اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وأصلح نياتنا وذرياتنا يا كريم.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا واستجب دعاءنا يا كريم.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 10-9-1431هـ