خطبة بعنوان: (وداع العام الهجري) بتاريخ 29-12-1424هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد الذي جعل الشمس ضياءاً والقمر نوراً وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً وأشهد أن لا إله إلا الله بارئ النسمات ومبدع الكائنات وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أزكى البريات صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أمــا بــعـــد:
فاتقوا الله عباد الله وتفكروا في هذه الليالي والأيام كيف تمر سريعاً يوم بعد يوم وأسبوع بعد أسبوع وشهر بعد شهر كما قال تعالى (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) وقال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)، وقال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
عباد الله هذه موعظة عظيمة وخطاب بليغ لأمة الإسلام نتلوه ونحن نودع بهذا اليوم المبارك عاماً هجرياً كاملاً تصرمت أيامه وقوضت خيامه كلمحة برق أو غمضة عين عام مضى لن يعود بأية حال إلى يوم القيامة.
رحل هذا العام وقد خلف من الأمور الغريبة العجيبة الشيء العظيم.
فيا عبد الله ويا أمة الله قفوا وقفة تأمل ومحاسبة وتفكر واتعاظ ألم يخلف هذا العام في قلوبنا ذكر وموعظةً أن الدنيا ممر وليست مقراً أليست تفنى ولا تبقى وهاهو هذا العام يمثلها في انقضائه وفنائه وهي لا تدوم على حال بل سرعان ما تتغير وتتبدل وتزول أهلها سائرون لا تقف بهم المراحل تطويهم الليالي والأيام لا يتوقفون بحال المسرور والمهموم والغني والفقير الكل يقطع الدنيا والكل سيرحل عنها لكن من هو الذي استعد و تهيأ.
من هو الذي عمر آخرته بالأعمال الصالحة من هو الذي عبر هذه الدنيا كالمسافر فيها ينتظر العودة إلى مقره الأصلي وداره المريحة.
عباد الله أماني الدنيا كاذبات وآمالها باطلة عيشها مهما صفى فهو نكد وصفوها مهما طاب فهو كدر هل ينتظر فيها المرء إلا نعمة زائلة أو مصيبة نازلة أو فقد حبيب أو مراجعة طبيب هي أيام معدودة وآجال مضروبة وأنفاس محدودة.
كم أضحكت من أقوام ثم سرعان ما أبكتهم كم أفرحت من أشخاص ثم ما لبثوا أن أحزنتهم إن كانت متعت قليلا فقد منعت طويلا وإن سرت أياماً فقد أحزنت أعواماً وصدق الله العظيم (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)
فما أهون الدنيا على الله جاء في مسند الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن المستورد بن شداد قال كنت في ركب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بسخلة ميتة منبوزة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” أترون هذه هانت على أهلها فقالوا يا رسول الله من هوانها قال فو الذي نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله عز وجل من هذه على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء”
هذه حال الدنيا إنها قنطرة نعبرها إلى الآخرة وينبغي أن يكون أخذنا منها بقدر الحاجة ليخف الحساب ونتفرغ للأعمال الصالحة ولا ننشغل بها ونتكالب عليها وتلهينا عن أخرتنا وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يتخوف على أصحابه من الدنيا أن تبسط عليهم كما بُسطت على من كان قبلهم فيتنافسوها كما تنافسها القوم فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم قال صلى الله عليه وسلم ” إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”
وهذا ما جعل كثيراً ممن تكالبوا على الدنيا يضيعون آخرتهم لأنهم لا يبالون من أين حصلوا على الريال وبالتالي يدخل الحرام إلى أجسادهم ولا تسل عن آثاره السيئة عليهم ولذا تسوء أحوالهم وتكثر همومهم ومصائبهم استمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن هذا المعنى بقوله” من كان همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له”
أكثروا يا عباد الله من التوبة والاستغفار في هذا اليوم العظيم وعاهدوا الله جل وعلا على الثبات على الطاعة وترك المعاصي لعل عامكم يختم بالخير والمسرة واستقبلوا عامكم الجديد بالفأل والرجاء والعمل الصالح لعل الله أن يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليالي والأيام مطايا للإتعاظ والاعتبار وأشهد أن لا إله إلا الله وفق عباده الصالحين للصالحات وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً امــــا بــــــعــــــــــد:
فاتقوا الله عباد الله وتفكروا في عامكم المنصرم كم ودعنا فيه من حبيب وغال كم دفنا فيه من أب وأم وأخ وأخت وولد وبنت أليسوا لهم آمال وطموحات ألم يبنوا فللاً وعمارات أليست لهم غايات وأمنيات ألم يأتيهم الموت فجأة فعجزوا عن رده ألسنا ننتظر آجالنا أليس الليالي والأيام تنقلنا إلى مصيرنا.
عباد الله أن من أعظم الغفلة أن يعلم العبد أنه يسير إلى أجله وهو غافل ساهٍ لاهٍ لا يعمل لهذا اليوم فالجد الجد والعزيمة العزيمة وشمروا واجتهدوا وتنافسوا في الأعمال الصالحة.
ورضي الله عن أبي الدرداء لما دخل الشام نادى يا أهل الشام [اسمعوا قول أخ ناصح فاجتمعوا عليه فقال مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون مالا تأكلون إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيدا وأملوا بعيداً وجمعوا كثيراً فأصبح أملهم غرورا وجمعهم ثبورا ومساكنهم قبورا].
ألم يأن يا عباد الله أن ندرك حقيقة الدنيا وأنها مزرعة الآخرة فهي جسر لنعبر عليه لحاجتنا إليه هاهو الحسن البصري يقول[ أدركت أقواماً مالا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه ولا يأسفون على شيء منها فاتهم ولقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه]
عباد الله اجتهدوا في عمران دنياكم بالعمل الصالح واستعدوا للرحيل وتهيأوا للعرض الأكبر على الله فالأعمار قصيرة والآجال قريبة والاجتماع الحقيقي في الجنة أما اجتماع الدنيا فمهما صفى إلا أن فيه تكديراً وتنغيصاً اللهم أيقظنا من الغفلة وأرزقنا الاستعداد للنقلة.
هذا صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين فقد أمركم الله بذلك في كتابه الكريم فقال جل من قائل عليما [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] وقال صلى الله عليه وسلم(من صلى علي مرة واحده صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا خاصة لكل خير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد، واجزهم يا ربنا خيراً على ما يقدموه للعلم والتعليم وما يبذلونه من بذل سخي، فبلادنا تنفق ثلث ميزانيتها على التعليم وما يتعلق به، فلله الحمد والشكر .
اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وارفع درجاتهم في الجنات، واغفر لهم ولآبائهم وأمهاتهم وأصلح نياتهم وذرياتهم.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]، وأقم الصلاة
.
الجعمة: 29-12-1424هــ