خطبة بعنوان: (دروس مستفادة من حج عام 1431) بتاريخ 20-12-1431هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

 

الخطبة الأولي:
الحمد لله الذي وفق حجاج بيت الله الحرام لأداء حجهم بأمن وأمان وصحة وعافية، وأشهد أن لا إله إلا الله تفضل على عباده فأعادهم إلى ديارهم بعد رحلة الحج وهم يشعرون بنعم الله المتتالية عليهم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أفضل من طاف وسعى ولبى وكبر وتنقل بين المشاعر صلى اله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا](الأحزاب الآيات 70، 71، 72).

واعلموا بارك الله فيكم أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

عباد الله لئن عاد الحجاج من تلك البقاع بفضل من الله ونعمة فعليهم أن يستفيدوا من مدرسة الحج ويأخذوا منها الدروس والعبر فلا يظلموا أحداً ولا يسفكوا دماً ولا ينتهكوا محرماً ولا يخدشوا عرضاً ولا يرتكبوا فاحشة ولا يقروا منكراً ولئن وجد الحجاج خيمة أو شجرة يستظلون بها في المشاعر المقدسة فعليهم أن يتذكروا يوماً عظيماً شديد الحر عظيم الكرب لا يجدون فيه ما يستظلون ولا ينفع فيه إلا رحمة أرحم الراحمين.

ولئن تجلل الحجاج ثياب الإحرام ونزعوا عنهم كل لباس فعليهم أن يتذكروا ذلك المشهد العظيم حينما يقوم الناس حفاة عراة لا فرق بينهم الكبير والصغير والشريف والوضيع والسيد والعبد والأمير والمأمور يقفون في صعيد واحد لا حول لهم ولا قوة إلا بالله لا ينفع في ذلك اليوم بعد رحمة الله إلا عملهم الصالح وتسقط هناك الشعارات والعصبيات والولاءات، ويتفوق المؤمنون الصادقون ويجتازون ذلك الامتحان الرهيب.

وصدق الله العظيم: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ](الأنعام الآية94).

أيها المؤمنون هل حقق الحج في نفوس الحجاج وضمائرهم تقوى تردعهم عن كل منكر وأوجد وزعاً جرهم عن كل معصية وأيقظ إيماناً يأمرهم بكل فضيلة وزرع شعوراً يلازمهم ويذكرهم في كل تصرفاتهم بالدار الآخرة إذا كان الحج حقق ذلك كله فهذا هو الحج المبرور نسأل الله الكريم من فضله.
وهذا الحج هو الذي يستفيد منه الحاج ويتعلم الدروس العظيمة التي تثمرها رحلة الحج المباركة.

ومن أهم هذه الدروس وأعظمها وأكثرها بركة على الناس.
أولاً: الإعلان الواضح بتجريد التوحيد له جل وعلا هذا الإعلان يبدأ مع الحاج منذ اللحظات الأولى حينما يتلبس بالنسك (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك)، ويستمر إعلان التوحيد لله في مناسك الحج كلها فالتلبية توحيد والطواف بالبيت توحيد والسعي توحيد والوقوف بعرفة توحيد والمبيت بمزدلفة توحيد ورمي الجمار توحيد والحلق والنحر كل ذلك إعلان للتوحيد وبراءة من الشرك وأهله فرحلة الحج من أولها إلى آخرها إعلان للتوحيد تهليل وتسبيح وتحميد وتكبير وتلبية ودعاء.

وصدق الله العظيم: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ](الأنعام الآيتان162، 163).
فمن أجل توحيد الله شرعت الشرائع وأرسلت الرسل وخلقت الخليقة بل من أجل التوحيد قام سوق الجنة والنار فمن وحد الله ومات على ذلك دخل الجنة ومن مات على الشرك دخل النار.
المؤمنون يوحدون الله فلا يعبدون سواه ولا يدعون غيره ولا يخافون إلا منه ولا يرجون أحداً غير الله.
المؤمنون يتعبدون لله بكل جوارحهم في خلواتهم وصلواتهم وليلهم ونهارهم وحياتهم وموتهم كل ذلك عبادة لله سبحانه وتعالى.
يأتمرون بأمره ويقفون عند نهيه ويسلمون لربهم تسليماً مطلقاً في كل شئونهم ولذا يحسون بطعم السعادة التي لا يحس بها غيرهم من بني البشر.

ثانياً: يظهر في الحج تجريد المتابعة في أداء المناسك للرسول صلى الله عليه وسلم القائل: [خذوا عني مناسككم](رواه أحمد).
فالحاج يلبي بتلبية الرسول صلى الله عليه وسلم ويشهد المشاعر مثل شهوده ويرمي الجمرات مثل رميه دون مبالغة أو غلو كما يفعله بعض الجهلة وفي الطواف والسعي ونحر الهدي وسائر المناسك يؤديها الحاج مثلما أداها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تمام المتابعة له صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(رواه البخاري ومسلم).

وهذا الأمر لا خيار فيه للحاج لأنه إذا لم يفعل ذلك كان حجه وبالاً عليه وربنا جل وعلا يقول: [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا](الحشر الآية7).
ويقول تعالى: [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً](النساء الآية80).
ويقول تعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ](آل عمران الآية31).
لا بد من الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أمر فلا أمر إلا أمره وإذا نهى فلا نهي إلا نهيه وإذا أبدى رأياً فلا رأي إلا رأيه والسعيد من رزق حسن الإتباع والشقي من حرم بركة الإتباع وأسلم نفسه للضياع والمفتون من خالف فضاع في بحر الابتداع.

ثالثاً: وفي الحج إعلان لسقوط جميع الشعارات الزائفة والدعاوى القاصرة فلا الجاه ولا المنصب ولا الحسب ولا النسب هو مجال التفاضل بين الناس بل التفاضل بينهم بالتقوى والعمل الصالح ولذا تلبية الحجاج واحدة ولباسهم واحد ومناسكهم وتنقلاتهم وتجمعاتهم واحدة وفي صعيد عرفات تظهر المساواة الحقة بينهم فقيمة الإنسان ومجده ورفعته بقدر تمسكه بدينه وعبوديته لخالقه وصدق الله العظيم: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ](الحجرات الآية13).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الطائفين وقدوة الملبين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاعلموا بارك الله فيكم أن الشكر على النعماء خلق كريم يصدر عن أصحاب النفوس الصادقة والقلوب الطاهرة وحقيقة الشكر أن تكون الحركات والسكنات والمشاعر والأحاسيس ناطقة بالحمد والثناء على النعم سبحانه لما أولاه من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة والعطايا التي يعجز الإنسان عن شكرها وإن من
نعم الله على عباده في هذه الأيام نعمة تمام الحج بأمن وأمان وطمأنينة وسلام.
والشكر خلق الأنبياء والمرسلين ومن سلك طريقهم من الأتقياء والصالحين وإن أعظم هدية يقدمها من رجع من الحج عنوانا على شكر لله تعالى وتقرباً إليه أن يكون قدوة لأهله وذويه ومن حوله في أخلاقه وأقوله وأفعاله ليظهر أثر الحج عليه في كل تصرفاته مع الآخرين فما أحسن الحسنة بعد الحسنة.

وأما ألذ الطاعة بعد الطاعة وما أقبح السيئة بعد الحسنة قال بعض التابعين: (من علامة حب الله ورضاه عن الحاج أن يواصل الطاعة بعد الطاعة ومن علامة عدم قبوله إتباع الطاعة بالسيئة).
قيل للحسن البصري رحمه الله ما علامة الحج المبرور فأجاب (الحج المبرور أن ترجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة).

عباد الله في البلد الأمين تعلو نفوس الصالحين وتتحقق أمانيهم وينعمون بصفو الأيام يتلذذون بالخشوع والقرب من الله وينعمون بالأمن ويتمتعون بالخيرات والبركات والثمرات [أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ](القصص الآية57).

وقد تحقق ذلك كله لحجاج بيته الحرام في هذا العام فحق عليهم شكر هذه النعمة ورد الجميل لأهل الفضل فقد كان لولاة أمرنا جهود مشكورة مبرورة في تيسير أمور الحج فجزاهم الله عنا خير الجزاء ومن شكر النعمة أن نحمد الله ونشكره على ما من به على ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين من الصحة والعافية وقد استبشرنا خيراً بتكلل العملية الجراحية له بالنجاح وهذه نعمة عظيمة تستحق منا الشكر وإخلاص العبودية لله والتضرع إليه أن يديم نعمة الأمن والرخاء ورغد العيش على بلادنا وأن يزيدها تمسكاً بشرعه القويم.

اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا، اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أوليتنا من الخيرات والبركات، اللهم وفق ولاة أمرنا لكل خير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد، اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات، اللهم استر عوراتهم ، وآمن روعاتهم وارفع درجاتهم في الجنات.

عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (النحل الآية 90).
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك اللهم أنزل علينا الغيث، اللهم أنزل علينا الغيث، اللهم أنزل علينا الغيث اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وأغث الديار بالأمطار اللهم أنزل على أرضنا زينتها اللهم يا حي يا قيوم بادرنا بالخيرات بمنك وجودك وفضلك وعم به أوطان المسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الجمعة : 20-12-1431هـ