خطبة بعنوان” كفالة اليتيم سبيل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة) 18-10-1432هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله أجزل العطاء للمحسنين، ووعدهم بالمزيد في الدنيا ويوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أودع الرحمة في قلوب عباده المتقين، ونزعها من قلوب الطغاة والمتكبرين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله أرحم الناس أجمعين، القائل في سنته (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاء)(متفق عليه)، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله تعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأن من تزود في الدنيا بالأعمال الصالحة وجد الثواب الكبير والعطاء الجزيل عند رب العالمين.

عباد الله: لقد رغَّب الله جلَّ وعلا في الإنفاق في سبيله، وأعظَّم الأجر والمثوبة لمن بذل ماله ابتغاء مرضاته وطلباً لثوابه، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261).

وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}(البقرة:245).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: (هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ــ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ـ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)(رواه البخاري ومسلم)

عباد الله: تفكروا وأنتم تدخلون بيوتكم فيستقبلكم أولادكم بالبشر والسرور وهم يرددون (بابا بابا) فيلتفون حول آبائهم، ويلقون أنفسهم في أحضانهم، فيحاطون بالأيدي، ويضمون إلى الصدور، ويقبلون على الجباه والرؤوس.

تذكروا كم من طفل يتيم حرم من أمه وأبيه، يقف لسانه عاجزاً عن قولها لحرمانه منهما أو من أحدهما،لم يسمع هذا الطفل يوماً كلمة (يا ولدي)، ولم يستشعر في يوم من الأيام معاني العطف والرعاية والرحمة والحنان، تذكروا ذلك اليتيم الذي لم يجد طعاماً وشراباً يتلذذ به كما يتلذذ أولادنا، انظروا لذلك اليتيم وقد حرم أعظم حنان وأجل حب، حرم ممن يدخل عليه السعادة والسرور، حرم ممن يدخل عليه باللباس وغيره لكي يفرح مع أطفال الأقارب والجيران.

عباد الله: ألم نفكر يوماً من الأيام في حال هؤلاء الأطفال المساكين وحاجتهم لتعويض هذا الحرمان؟ ألم ننظر لحالهم وهم يجلسون وقد ملأ الحزن نفوسهم، والأسى يقطع قلوبهم؟. ألا نتفكر في حالنا ونتأمل كلام ربنا، القائل في كتابه:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (النساء:9).

فكم من يتيم ينشد من يقوم برعايته، ويسعى في مصلحته، ويمسح على وجهه ورأسه، ويخفف عنه بؤسه وحزنه، يتطلع إلى من يرعى شؤونه وحاجاته، لذلك جاء الإسلام دين الرحمة والعطف والحنان ليمسح عن هذا اليتيم دمعة عينه، وأسى قلبه، فجاءت النصوص الشرعية تحث المسلمين على كفالتهم، والحرص على رعايتهم والإنفاق عليهم، قال تعالى في كتابه أمراً بالإحسان إليهم وإصلاح شؤونهم وأحوالهم:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}(النساء:36)،وقال تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}(البقرة:220)

وأمر أيضاً بالإقساط إليهم وعدم ظلمهم {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} (النساء)، وأشار سبحانه إلى أن من أجل الأعمال التي تكون سبباً في الجزاء العظيم عند الله تعالى هو إكرام اليتيم.

عباد الله: لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة بكفالة اليتيم ووجه إلى الحرص عليها، وأشار إلى أنها من أفضل الأعمال التي تكون سبباً في مرافقته في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:(أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً)(رواه البخاري).

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:(مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إِلَّا لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَى يَتِيمَةٍ أَوْ يَتِيمٍ عِنْدَهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى)(رواه أحمد). وقال:(اللهم إني أُحَرِّجُ حق الضعيفين اليتيم والمرأة) (رواه أحمد، وابن ماجة).

عباد الله: ومن توجيهات السلف في كفالة اليتيم قول ابن بطال:(حق على من سمع هذا الحديث ـ يعني قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(أنا وكافل اليتيم…)الحديث ـ أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك).

وكفالة اليتيم لها فضائل كثيرة ومن ذلك: أنها صدقة يضاعف لها الأجر إن كانت على الأقرباء، وكفالة اليتيم والمسح على رأسه وتطييب خاطره يرقق القلب ويزيل عنه القسوة، وكفالة اليتيم تعود على الكافل بالخير العميم في الدنيا والآخرة، وكفالة اليتيم تساهم في بناء مجتمع سليم خال من الحقد والكراهية، وتسوده روح المحبة والودِّ، وكفالة اليتيم تزكي المال وتطهره وتجعله نعم الصاحب للمسلم، وكفالة اليتيم من الأخلاق العالية التي أقرها الإسلام وامتدح أهلها، وكفالة الأيتام من أفضل الأعمال وأجلها، وأحبها إلى رب العزة جل وعلا، ودليل محبة الله لها أنه جعل ثمنها مرافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في مكانته العالية في أعلى منازل الجنة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته واقتدى بأثره إلى يوم الدين، أما بعد:

فاعلموا بارك الله فيكم أن من صور كفالة اليتيم ما يلي:

* رعايته بالولاية عليه وعلى أمواله إن كان له مال.

* رعايته بالإنفاق عليه وإطعامه وكسوته، وتوفير السكن والمأوى له.

* رعايته حال المناسبات، كرمضان، والأعياد، والإجازات، ونحو ذلك.

* القيام على رعايته وتربيته، والعناية بتعليمه وتقويم أخلاقه وسلوكه.

فاحرصوا أيها المؤمنون المحسنون على كفالة الأيتام، واعلموا أن كل ريال ينفق عليهم يعود أولاً عليكم بالخير والنماء والمزيد، قال تعالى {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(سبأ:39)، ويعود عليهم بالسعادة والفرح والسرور ويخرجون ـ بإذن الله تعالى ـ نبتة صالحة طيبة ينتفع بها المجتمع كله.

عباد الله: وإن من فضل الله علينا في بلادنا المباركة ــ المملكة العربية السعودية ــ أن هيأ لهذه البلاد قيادة ترعى هذه الفئة وتحوطها وتبذل الأسباب لسعادتها وتهيئة العيش الرغيد لها وتعويضها عن فقد والديها، ولدينا في بلادنا جمعيات خيرية كثيرة تعني بهذه الفئة وتحوطها وفي محافظتنا الغالية فرع لجمعية ــ إنسان ــ التي تعني بشؤون اليتيم وترعاه وتهيأ له الجو المناسب، فكم مسحوا دمعة يتيم؟ وكم أدخلوا السرور على بيت مهموم؟ وكم فرجوا كربة امرأة أضناها فقد ولي أمرها.

فشدوا بارك الله فيكم على أيدي هؤلاء وأعينوهم وتعاونوا معهم في كل اتجاه لصالح هذه الفئة الغالية علينا جميعاً.

أسأل الله جلت قدرته أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وان يحشرنا في زمرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطيبين الطاهرين.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وخليلك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.

اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ
بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وتقبل صالح أعمالهم، واستجب دعاءهم يا كريم.
اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان، واخصص إخواننا في سوريا وفلسطين يا أرحم الراحمين.

اللهم أنج المستضعفين والمظلومين يا جبار السموات والأراضين.
اللهم انتقم من الطغاة الجبابرة، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا متين. [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

عباد الله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90)، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة:18-10-1432هـ