خطبة بعنوان: (الحج المبرور ونجاح خدمات حج عام 1432هـ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: فإنَّ تقواه أربحُ بضاعة وأغلاها، واحذروا معصيتَه فقد خاب من فرَّط في حقها وأضاعَها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).
عباد الله: لقد مرت في الأيام الماضية رحلة من أروع رحلاتِ العمر، وسياحة من أجمل سياحات الإيمان، قضى فيها الحجيج عبادة من أعظم عبادات الإسلام، عاشوا أياماً جميلة رائعة يتقلبون فيها بين نعيم المناجاة، والذكر، والمجاهدة للنفس، وتذوق عبادة الانقياد لأوامر الخالق العظيم، أدوا خلالها مناسكهم، وقدموا قرباتهم، وفرحوا ببشارة مولاهم.
فهنيئا للحجاج حجّهم وعبادتهم واجتهادهم، هنيئًا لهم وقوفهم بتلك المشاهد والمشاعر، وتنقلهم بين تلك الساحات والعرصات، وهنيئًا لهم قول الرسول:(مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (رواه البخاري).
فإلى كل من حج بيت الله الحرام ووقف في تلك المواقف العظام، إِلى مَن بسط في تلك المشاهد كفيه داعياً راجياً، وحسر رأسه خاضعاً خاشعاً، وتجرد لله في لِباس العبودية ذليلاً منكسراً، إليكم يا من طفتم وسعيتم ووقفتم وبتم، وذبحتم وحلقتم ورميتم وودعتم، وفعلتم ما ترجون به رحمة الله، نقول لكم: أبشروا وأمِّلوا ما يسركم وافرحوا، فبشرى رسول الله صدقٌ ووعد الله حق، قال صلى الله عليه وسلم:(والحَجُّ المبرُورُ لَيسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةُ)(رواه البخاري ومسلم)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أيها الحجيج العائدون من رحلة الحج: لقد دعوتم رباً عظيماً كريماً، وسألتم إلهاً برًّا رحيمًا، ولذتم برءوفٍ ودودٍ، لا يتعاظمه أن يغفر ذنباً وإن كبُر، ولا أن يعطي فضلاً وإن كثر، فأحسنوا ظنكم بربكم، فإنه سبحانه عند ظنّ عبده به، قال جل وعلا وتقدس في الحديث القدسي:(أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإِن ذَكَرَني في نَفسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفسِي، وَإِن ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرتُهُ في ملأٍ خَيرٍ مِنهُم، وَإِن تَقَرَّبَ إِليَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا، وَإِن تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ بَاعًا، وَإِن أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً)(رواه البخاري ومسلم).
يا من حججتم البيت العتيق، ها أنتم وقد كمل حجكم وتمّ تفثكم، بعد أن وقفتم على تلك المشاعر وأديتم تلك الشعائر، ها أنتم وقد رجعتم إلى دياركم وأبنائكم، فاحذروا العودة إلى المعاصي والمحرمات، {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}(النحل: 92).
لقد عرفتم فالزموا، وآمنتم بِالله فاستقيموا ولا تحيدوا، وفتحتم في حياتكم صفحة بيضاء نقيّة فحذار من العودة إلى الأفعال المخزية والمسالك المردية، وأوفوا بما عاهدتم الله عليه من التوبة ينجز لكم ما وعدكم من الأجر العظيم، {فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفسِهِ وَمَن أَوفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيهُ اللهَ فَسَيُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا}(الفتح: 10).
إن الحاج منذ أن يلبي وحتى يقضي حجّه كل أعمال حجِّه ومناسكه تُعرِّفه بعظيم حق الله عليه، وتقرره بخصائص ألوهيّته، وتذكره أنّه لا يستحق العبادة سواه، وأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي تُسْلم النفسُ إليه ويوجَّه الوجهُ إليه، ومنه وحده تطلب الحاجات، وبه يستعاذ من المكروهات، فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقا من حقوق الله لغيره؟!
أين أثر الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعاً للصلاة متبعاً للشهوات مانعاً للزكاة ممسكاً عن الإنفاق في الخيرات آكلاً للربا متعاملاً بالغش متناولاً للسحت والرشوة متعاطياً للمخدرات والمسكرات.
أين أثر الحج على من ظل قاطعاً للقرابات والأرحام والغاً في الموبقات والآثام ظالماً لعباد الله باخساً حقوقهم؟! أين دروس الحج وفوائده لمن تخلى عن السُّنة ونكص عن اتباعها وحاد عن طريقها مؤذياً لبعاد الله المؤمنين منتهكاً لحرمات الله ليل نهار.
فيا من امتنعتم في الحج عن محظورات الإحرام طاعة لربكم، اعلموا أن هناك محظورات وممنوعات على الدوام، وحدوداً يجب الوقوف عليها وعدم تجاوزها مدى العمر، فاحذروا إتيانها أو قربانها، فإن ربكم واحد، وهو على أعمالكم في كل زمان ومكان رقيب مشاهد، يقول جل وعلا: {تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(البقرة: 229).
لقد أوصاكم ربكم جل وعلا بعد قضاء مناسككم بوصية عظيمة فقال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءَكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا} (البقرة: 200)، وإنما أمركم بِهذا بعد الحج لتظلوا على عهد الاستقامة وتستمروا في طريق الصلاح، ولتواصلوا المسيرة في صراط التقوى ودرب الفلاح، فسلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا بهِ من الحور بعد الكور؛ فإن الاستقامة هي الطريق إلى حسن الخاتمة ومن ثم إلى الجنة.
عباد الله: إن للحج المبرور أثراً على العبد، فقد سئل الحسن البصري رحمه الله: ما الحج المبرور؟ فقال: (أَن تَعُودَ زَاهِدًا في الدُّنيا رَاغِبًا في الآخِرَةِ). فليكن حجكم باعثاً لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلموا أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل، قال سبحانه: {وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ}(الحجر: 99).
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وأكثروا من الأعمال الصالحة وداوموا عليها، فإن من علامات قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، {فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاَقٍ وِمِنهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وفق حجاج بيت الله الحرام فأدوا مناسك حجهم بكل يسر وسهولة والصلاة والسلام على الحبيب المجتبى والنبي المصطفى القائل في سنته (خذوا عنى مناسككم لعلى لا أراكم بعد عامي هذا)(رواه البيهقي)، صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عباد الله، من كان عمل صالحاً وقدم خيراً فليحمد الله، وليواصل العمل الصالح، وليداوم عليه بقية عمره وفي مستقبل أيامه، وأما من فرط في تلك الأيام وأهمل وتجاهل الفضائل وضيع الفرص فليستغفر الله وليتب إليه، وليحفظ بقية عمره وليصلح مستقبله، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والتوبة تجب ما قبلها وتقطعه.
أيها المؤمنون: لقد تجلت الروح الإسلامية والأخلاق النبيلة والتطلعات الإيمانية من خلال مشاهد الحج العظيمة، حيث أجتمع المسلمون من كل مكان يعلنون التوحيد الخالص، ويرددون نداء التوحيد الخالد ـــ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ـــ ويتمتعون بما قدمته وتقدمه هذه البلاد من تسهيلات فاقت التصورات، ونحن نحمد الله ونشكره أن جعل الإشراف على الحرمين الشريفين بأيد أمينة ترعاهما وتنفق عليهما بسخاء لا تطلب من أحد منًّا ولا ثمناً، تبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة.
وإن ما لمسناه وشاهدناه من مشاريع عملاقة، كمشروع قطار الحرمين الشريفين والتوسعة في الجهة الشمالية الشرقية وما تمتعنا به من تنظيم في حركة السير وتحركات الحجيج كل ذلك كان له الأثر البارز على راحة الحجيج حيث أدوا حجّهم دون عناء وتعب، فنحمد الله تعالى على ما لمسناه خلال حج هذا العام من تيسير وتسهيل ووفرة خدمات.
عباد الله إن الحج في هذا العام يختلف اختلافاً كثيراً عن سابقه من المواسم السابقة، فقد نجح هذا الموسم نجاحاً باهراً بفضل الله ومنته وعونه، فلم نر ولله الحمد والمنة ما يكدر على الناس حجهم، وإني لأرجو أن يكون لولاة أمرنا أجر كل حاج ومعتمر أدى حجه وعمرته بيسر وسهوله.
فنسأل الله أن يبارك في الجهود، وأن يكتب جزيل الأجر والثواب لخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وكل من ساهم في نجاح حج هذا العام من جميع الأجهزة الحكومية والشعبية ونخص رجال الأمن الذين سهروا على راحة الحجاج وكانوا عيناً ساهرة، فجزاهم الله عنا خير الجزاء وحفظهم من كل سوء ومكروه.
اللهمَّ تقبَّل من الحجّاج حجَّهم، وسعيَهم، اللهمّ اجعل حجَّهم مبرورًا،
وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهمّ تقبّل مساعيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم بلّغهم من الآمال منتهاها، ومِنَ الخيرات أقصاها.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:56). اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وخليلك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعبث العابثين، واصرف عنا وعن
المسلمين جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات. اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وتقبل صالح أعمالهم، واستجب دعاءهم يا كريم. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان.
اللهم أنج المستضعفين والمظلومين يا جبار السموات والأراضين.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90). فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 15-12-1432هـ