خطبة بعنوان: (نهاية العام إشارة إلى نهاية الآجال) بتاريخ 29-12-1432هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق لعبادته،وأعطاهم من النعم ما يعينهم على طاعته، فمن استجاب فاز بالرحمة والرضوان، ومن أعرض واستكبر خسر الدنيا والآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}(البقرة:281)،وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، قدوتنا وأسوتنا وحبيبنا وشفيعنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: فالتقوى خير سلاح للمؤمن في الدنيا والآخرة.
عباد الله: تنقضي آجالنا يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، وإن في انقضائها عبرةً وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، حتى ينتهي الأجل بالخروج من هذه الدنيـــا، فتبدأ الحيـــاة البرزخيــة، وينتقل الإنسان إلى أول منازل الآخرة ألا وهو القبر، فإما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، ثم البعث يوم يقوم الناس لرب العالمين.
عباد الله: لقد مضت سنوات من أعمارنا، كتبت فيها صحائفنا، وحملت بين طياتها ما أودعناه فيها من عمل، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:30).
ومهما عشنا يا عباد الله وطالت بنا الأعمار، فنحن إلى زوال وانتقال.
فاتقوا الله أيها المؤمنون واستدركوا ما بقي من أعماركم، فرحم الله عبدا سمع قول ربه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران:185)، فاغتنم أيام قوته وشبابه، وأسرع بالتوبة والإنابة قبل طي كتابه، وأخذ نصيباً من الباقيات الصالحات يثقل بها ميزانه.
عباد الله: أين من رحلوا من آبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وأهلينا وذوينا، تركوا ديارهم ورحلوا إلى القبور، فتأملوا أحوالهم، واتعظوا بماضيهم، لعل القلوب القاسية تلين، واغتنموا حياتكم في صالح الأعمال، قبل أن تتحسروا ويقول كل منا لنفسه يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ:(كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)، وكان ابن عمر، يقول: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)(رواه البخاري). فعلى كل واحد منا أن يقف مع نفسه محاسبًا: ماذا أسلفتُ في عامِي الماضي؟ هل أسأت أم أحسنت، هل ظلمت، أم عدلت؟، هل وقعت فيما حرم الله، أم حرصت على طاعة الله، فإن كان خيرًا ازداد، وإن كان غير ذلك أقلع واستغفر وأناب، فإنما تمحَى السيئة بالحسنة، كما قال صلى الله عليه وسلم:( وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا)(رواه أحمد، والترمذي).
عباد الله: حاسبوا أنفسكم في ختام عامكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها. خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: (إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيِّب عنكم عِلمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}(الحاقة: 18).
وقال الحسن البصري رحمه الله: (ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ وَكُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ).
عباد الله: استدركوا ما بقي من أعماركم قبل أن تطوى صحائفكم، واغتنموا حياتكم قبل أن تختم أعمالكم، واستغلوا زمانكم قبل أن تنقضي آجالكم، وانتبهوا لقول نبيكم صلى الله عليه وسلم:(اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)(رواه النسائي، وابن أبي شيبة).
عباد الله: ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟! ألم يعلموا أن حياتها عناء ونعيمها ابتلاء، وأن جديدها يبلى وملكها يفنى، وودّها ينقطع وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل إما في نعم زائلة أو بلايا نازلة أو منايا قاضية؟! فالعمر قصير، والخطر المحدق كبير، والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}(غافر: 39، 40).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه وجوده وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن من نظر إلى أصحاب التجارات يراهم يتسابقون في تنامي أموالهم، وزيادة استثماراتهم، ويتنافسون في زيادة أرباحهم، فهل فكروا فيما يأخذونه وأنهم سيحاسبون عليه من أين اكتسبوه؟ وفيما أنفقوه، وذلك عند لقاءهم بربهم، وهل تزودوا بما ينفعهم في ميزان حسناتهم؟
فعلى من كان بصيراً بحقارة الدنيا أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار. ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، ومن صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
عباد الله: اعلموا أنما الأعمال بالخواتيم، فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، الموتى يتحسّرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته وبقيت تبِعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وميقاته. وتذكروا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم: (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ، حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً) (رواه البخاري). فاتقوا الله رحمكم الله، وتزودوا في دنياكم ما تقدمون لأنفسكم غدًا، فمن اتقى الله نصح نفسه وقدم توبته وقاوم شهوته.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت أن تكتب لنا حسن الختام، وقبول الأعمال، وأن تجعلنا من عبادك المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم أعنا على الموت وسكراته والقبر وظلماته، ويوم القيامة وكرباته، اللهم امنن علينا بتوبة نصوح قبل الموت، وبشهادة عند الموت، وبرحمة بعد الموت يا رب العالمين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه يا سميع الدعاء.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجز ولي أمرنا خير الجزاء على ما قدم لبلاد اليمن السعيد من صلح أجراه الله على يديه فحقن الدماء، وصلحت به أحوالهم، اللهم اجزه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وبارك في عمره وعمله، واجعله مباركاً أينما كان. اللهم إنه ختم عامه بهذا العمل الجليل، فاختم له بالجنة، اللهم حقق على يديه الخير والصلاح واجعله رحمة على شعبة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا..
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 29-12-1432هـ