خطبة بعنوان: (الصبر على المصائب والمحن) بتاريخ 4-3-1433هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين، والسراج المنير، ورحمة الله للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}(الحشر).
أيها المؤمنون والمؤمنات: لقد جعل الله تعالى هذه الدنيا التي نعيش فيها دار بلاء وتمحيص، كما قال عز وجل{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً..}(الملك:2)، وقال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}(الأنبياء). ومن سنةُ الله تعالى في خلقه، أن يبتليهم بالخير والشر، والنافع والضار، ليرى صدق إيمان عباده، وشدة توكلهم عليه، وحسن ظنهم به، وتسليمهم الأمر له، وأن ما يقضيه لهم خير مما يتمنونه، وصدق الله العظيم:{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)}(البقرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)(رواه مسلم). فمن سلَّم أمره لربه، ورضي بقضائه وقدره، فتح الله له باب الإنابة والتضرع والدعاء فنال الأجر والثواب، وعجلت له الإجابة عاجلاً أو آجلاً. فكل ما يجري في ملكوته بدون استثناء فإنما هو صادر عن أمره، موافق لحكمته ومشيئته ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
عباد الله: إن الدنيا دار هم ونكد، وهي مليئة بالحوادث والكوارث والفواجع، فبينما الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينما الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدّر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع ماله أو وظيفته التي تذهب معها طموحاته وتفسد عليه آماله ورغباته.
إن دوام الحال في هذه الدنيا من المحال، ولابد أن يعقب الصفو كدر، والفرح ترح، والسعادة هم ونكد، وهيهات أنْ تجد من يضحك ولا يبكي، وأنْ ترى من يتنعّم ولم تنغَّصْ عيشته، أو ترى من يسعدَ ولم ينزل الحزنْ ساحته!. هكذا هي الدنيا وهذه هي أحوالها، فلا ترسو على أمر واحد أبدا، فعجيب والله أمرها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر على بلائها، فذلكم دواء مكدراتها.
ومهما بلغت المصائب بالمؤمن وإنْ أحزنته وآلمته فإنها لا يمكن أنْ تهزمه أو تنال من إيمانه شيئًا، ذلك أنّ إيمانه بالله عاصمُه من ذلك، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً معبرًا لهذا المؤمن، فقال:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ، لا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ)(رواه مسلم).
عباد الله: لقد أمرنا الله تعالى بالصبر، وجعله من أسباب نيل عونه ومعيته، فقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:153). وأكِّد أنّ هذه الحياة محل ابتلاء، {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ..}، وأخبر عن حال الصابرين عند المصائب، فقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وبشرهم بجزاءهم عنده، فقال:{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة: 155ـ 157). فالصبر يا عباد الله سبب عظيم لبقاء العزيمة عند العبد المؤمن، وسبب دوام بذله وعمله، وبه تُعالج مغاليق الأمور، وأفضل العُدَّة الصبر على الشدَّة.
عباد الله: وإن من الأمور التي ينبغي علينا أن نسلكها إذا أصيب أحدنا ببلاء وأن نطبقها في حياتنا ما يلي:
1ـ علينا أنْ نتذكّر دومًا وأبدًا قرب زوال الدنيا وسرعة فنائها، وأنه ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة ومُددًا منقضية، وقد مثَّل الرسول صلى الله عليه وسلم حالَه في الدنيا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها، فتهون علينا المصائب والمحن.
2ـ وعلينا أن نؤمن بقضاء الله وقدره، ونعلم أنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل، ونرضى بما يقدره لنا خالقنا، ونسلم أمرنا لمولانا، ونقوي يقيننا عندما نسمع كلام نبينا صلى الله عليه وسلم:(واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف)(رواه الترمذي). ونعلم بأنّ الآجال والأرزاق مقرَّرة مقدَّرة والمرء في بطن أمه، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم:(وكَّل الله بالرَّحِم مَلَكًا، فيقول: أيْ ربِّ نُطفةٌ؟ أيْ ربِّ عَلقةٌ؟ أيْ ربِّ مُضغَةٌ؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أيْ ربِّ أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتب كذلك في بطن أمه)(رواه البخاري).
3ـ وعلينا أن نتذكر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه عظة وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلُّها صبرًا وجهادًا، ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ثم مات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال وقد دمعت عيناه:(إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)(رواه البخاري). ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.
4ـ وعلينا أن نُحْسِن ظنَّنا بربنا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال:(أنا عند ظن عبدي بي). فنثق بسعة رحمة الله، وأنّ أقداره الواقعة علينا كلها خير في حقيقة أمرها وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(عجبًا للمؤمن! لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له)(رواه أحمد).
5ـ وعلينا أن نتأسي بغيرنا من أهل المصائب، ونتذكَّر ما هم فيه من البلاء، وننظر إلى من هو أشدّ منا مصيبة، فإنّ ذلك يُذهب الأسى ويخفف الألم، ونتذكَّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ومَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله).
6ـ وعلينا أن نتذكّر أنّ الابتلاءات والمحن والمصائب من دلائل الفضل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أشد الناس بلاءً؟ قال:(الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)(رواه الترمذي)، وأنها دليل على محبة الله تعالى، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)(رواه ابن ماجة والترمذي).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157)} (البقرة). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه وجوده وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن مما يعين أيضًا على الصبر عند المصائب والمحن ما يلي:
7ـ على من أصيب بمصيبة أنْ يكفَّ نفسه عن تذكُّرها وتردادها في ذهنه، وأنْ ينفيَ الخواطر والمهيِّجات إذا مرَّتْ به، لأنّ من مات لا يعود، وما قُضي لا يردّ.
8ـ وعليه أن يبتعد عن العزلة، فإنّ الشيطان ـ نعوذ بالله منه ـ يلقي الوساوس في قلبه ليوهن يقينه، ويضعف توكله، وعليه أن يشغل نفسه بما فيه النفع، من قراءة للقرآن والأوراد والأذكار، وأن يجعلها أنيساً له ورفيقاً، فإن الشيطان ينفر ممن يذكر الله تعالى.
9ـ وعليه أيضاً أن يتذكر حُسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه، فإنّ الأجر على قدر المشقة، والصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل، وإنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء. وأن ما أعدّه الله للمبتلَين الصابرين من الأجر والثواب وتكفير السيئات ورفعة الدرجات خير لهم من الدنيا وما فيها.
روى البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشَّف، فادْعُ الله لي، قال:(إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك)، فقالت: أصبر، وقالت: إني أتكشَّف، فادع الله لي أن لا أتكشّف، فدعا لها. (رواه البخاري). ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال عليه الصلاة والسلام:(إنّ الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة). أسأل الله تعالى أن يعافي كل مبتلى، ويشفي كل مريض، وأن يمن علينا وعليكم بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56).
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} (البقرة).
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، سحاً طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة : 4-3-1433هـ