خطبة بعنوان: (وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم) بتاريخ 11-3-1433هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ}(الأنبياء:34)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حي قيوم لا يفنى ولا يموت، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الكريم، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح أمته، وتركها على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب:70، 71).
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن من أعظم المصائب التي ابتلي بها المسلمون هي مصيبة فقد النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، وهي من أكبر المحن والمدلهمات، حيث كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة.
لقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم موقوتة بإتمام رسالته، فلما بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ورأى بشائر نشر دينه قد فاضت على كثير من بقاع الأرض، نزل قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}(المائدة: 1). فكانت هذه الآية دليلاً على أن حياته صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا توشك أن تغرب شمسها.
ولما أنزل الله جل وعلا قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}(النصر:1ـ 3) علم صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله. قالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول قبل موته:(سبحان الله وبحمده، أستغفره وأتوب إليه). وقالت أم سلمة رضي الله عنها: (كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده، فذكرت ذلك له فقال: إني أمرت بذلك وتلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}(النصر:1).
وقد أحس رسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فجلس على المنبر في أخريات أيامه وقال لأصحابه: (إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، إِلَّا خُلَّةَ الإِسْلاَمِ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ»(رواه مسلم).
فأصيب صلى الله عليه وسلم بالمرض، وأخذ يتنقل بين بيوت أزواجه، فلما اشتد عليه المرض وبدأت بوادر الرحيل، استأذن منهن أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، فأذِنَّ له.
ولما دخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها واشتد عليه الوجع قال لمن حضر من زوجاته: (هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ) وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا:(أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ)(رواه البخاري). وقد استمر مرضه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يومًا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: (أَجَلْ، كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ) قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا)(رواه البخاري ومسلم).
وفي أحد الأيام وكان المسلمون يؤدون صلاة الفجر، إذا بهم يفاجئون برسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليهم وهم يصلون، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ المُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي لَهُمْ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ «كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُفُوفِ الصَّلاَةِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ»، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَالَ أَنَسٌ: وَهَمَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ، فَرَحًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ)(رواه البخاري ).
عباد الله: ثم بدأت لحظات الوداع الأخيرة في حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم فتتحدث عائشة رضي الله عنها عن هذه اللحظات العصيبة في حياتها، فتقول: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: «أَنْ نَعَمْ» فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: «أَنْ نَعَمْ» فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ ــ يَشُكُّ عُمَرُ ــ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى) حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ (رواه البخاري).
قالت عائشة رضي الله عنها: لما خرجت نفسه لم أجد ريحاً أطيب منها، وقالت أم سلمة رضي الله عنها: وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات فمرت لي جمع آكل وأتوضأ وما يذهب ريح المسك من يدي.
لقد اشتد كرب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر أنينه، وتغير لونه، وعرق جبينه، واضطربت مفاصلة، وبكى من حضره، تقول: عائشة، وخرج ملك الموت بعدما اسـتأذن على رسول الله صلى الله أن يقبض روحه، ثم جاء جبريل عليه السلام وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض طوي الوحي، وطويت الدنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك.
فلما أشيع خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب الصحابة جميعاً لهول الكارثة، وزلزلت المدينة زلزالها، وطاشت عقول الكثير، فمنهم من عقل لسانه، ومنهم من أقعد عن الحركة، حتى كذَّب بعضهم هذا النبأ، وصمت البعض عن الكلام فكان يذهب ويجيء ولسانه معقود، وخلط البعض في كلامهم فكانوا يهرفون بما لا يعرفون. وكان عمر رضي الله عنه فيمن كذّب بموت الرسول صلى الله عليه وسلم فخرج على الناس وقال: إنَّ رِجَالاً مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تُوُفِّيَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَقَدْ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ قِيلَ قد مَاتَ، وو الله لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَجَعَ مُوسَى، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتُ(سيرة ابن هشام).
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة، وكانت وفاته في ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول للعام الحادي عشر من الهجرة. وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى نَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى شَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَجًّى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، عَلَيْهِ بُرْدٌ حِبَرَةٌ، فَأَقْبَلَ حَتَّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتهَا، ثُمَّ لَنْ تُصِيبَكَ بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا. قَالَ: ثُمَّ رَدَّ الْبُرْدَ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ يَا عُمَرُ، أَنْصِتْ، فَأَبَى إلا أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لا يَنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ كَلامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. قَالَ: ثُمَّ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَما مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران: 144). قَالَ: فو الله لَكَأَنَّ النَّاسُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمئِذٍ، قَالَ: وَأَخَذَهَا النَّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّمَا هِيَ فِي أَفْوَاهِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتُ إلَى الْأَرْضِ مَا تَحْمِلُنِي رِجْلَايَ، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ(رواه البخاري).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 34، 35).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي كتب الفناء على كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالحياة، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن من اشتدت مصيبته أو عظمت، فليتذكر أعظم مصيبة فُجعت بها أمة الإسلام، بموت نبيها صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: والذي تولى غَسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب وابناه الفضل وقثم، وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة. ولما فرغوا من تجهيزه وضع على سريره في بيته، ودخل الناس عليه أرسالاً متتابعين يصلون عليه، ولم يؤمهم أحد.
ثم حُفر له لحد في حجرة عائشة حيث كانت وفاته، وأنزله القبر: علي، والعباس وولداه الفضل، وقثم، ورش بلال قبره بالماء ورفع القبر عن الأرض بمقدار شبر. وقد دفن صلى الله عليه وسلم في ليلة الأربعاء الرابع عشر من ربيع الأول في العام الحادي عشر من الهجرة.
عباد الله: إن العاقل البصير ليعتبر بهذا الحادث العظيم كل اعتبار، فمن عبره أنه لن يفلت من الموت أحد مهما كان شرفه وعلا قدره وذاع أمره فما مشى على ظهر الأرض أبر ولا أطهر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومع ذلك مات، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}(الزمر:30). فليتقى الله أولئك السادرون في غيهم المنهمكون في معاصيهم وليستعدوا للموت وليأخذوا له أهبته فإنهم ميتون.
وعلى كل مسلم أن يعتبر بموته صلى الله عليه وسلم، وأن يتمسك بهديه، وأن يسلك سبيله، وأن يطيع أمره، وينتهي عما نهاه عنه وزجر، وأن يقتفي أثره، فإن الخير كل الخير في التمسك بطريقه المستقيم.
وليحذر الغافلون عن لقاء الله تعالى فأن الموت قريب، وإن القبر هو أول منازل الآخرة، وإن يوم العرض على الله يوم عظيم رهيب، وان الحساب عسير، والموقف عصيب، وأن الجنة والنار هي المستقر للمؤمنين والفجار.
فليتخير كل مسلم ما يريد، وليعمل له، ومن تعلق قلبه بربه، وأحسن الظن به بذل مهجته في سبيل مرضاته والحصول على جناته، ومن تعلق بغير الله، وأساء الظن بربه، ولم يبذل الجهد في تحصيل مرضاته، باء بالخسران العظيم، وبالعقاب الأليم، وبسكنى دار الهوان المبين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجازي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن أمته خير الجزاء، وأن تسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن تسقينا من يديه الكريمتين شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن ترزقنا شفاعته، وتحشرنا في زمرته إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم ارحم المظلومين والمستضعفين، اللهم كن لإخواننا الذين ابتلوا في دينهم فاشتد كربهم وعظمت مصيبتهم، اللهم سلط على من آذاهم واعتدى على حرماتهم وأهليهم يا جبار يا منتقم.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} (البقرة).
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، سحاً طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة:11-3-1433هـ