خطبة بعنوان: (الأمل وأثره في حياة المسلم) بتاريخ 20-10-1433هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي فتح باب الأمل لعباده، ويسر لهم الطريق إلى جنته ورضوانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير من تعلق قلبه بربه فجعل له من كل أمر يسرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فقد أمركم الله تعالى بذلك في كتابه فقال{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ..}(النساء:131).

عباد الله: لقد مرت بأمة الإسلام فترات عصيبة، ومحن وبلايا شديدة، بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى أيامنا هذه، وما زالت تلك المحن والابتلاءات تتوالى على المسلمين. والمتأمل فيما تمر به أمة الإسلام من حرب على العقيدة، واستهزاء بالنبي الكريم، وسخرية بالقرآن العظيم، ومحاربة لكل مظهر من مظاهر الدين واضطهاد للمؤمنين الصادقين يعلم علم اليقين أن هذه سنّة الله تعالى في الأولين والآخرين، وما ذاك إلا ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.

لقد تجبر أقوام، وتعالى أشخاص، وتسلطت بلاد على بلاد، وانتشر الظلم والفساد، في بعض البلاد، وعمت جميع صور الاعتداء على الأنفس والأعراض وخصوصاً على المسلمين، وظنّ هؤلاء الظالمون أنهم تحكِّموا في الأرض وملكوا نفوس العباد.. ولكن هيهات هيهات.. فرب الأرباب ومصرف الأمور ومسبب الأسباب أخبر عباده أن هذه آمال السابقين من الأمم الغابرة ممن كفروا بربهم وأكثروا في الأرض الفساد، فما هي إلا سنوات تلي سنوات وإذا بهذه الأمم الغابرة ترى رؤيا العيان ما وعدهم الله به من سوء العذاب، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب.

وأما المؤمنون فيحدوهم الأمل في أن الله ناصرٌ دينَه ومعزٌ أولياءه، وأنَّ من تمسك بهذا الدين لابد له من النصر والتمكين، وصدق الله العظيم القائل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(النور:55).

عباد الله: إن ما تمر به أمة الإسلام من أحداث في شتى بقاع الأرض مع ما يترتب عليها من قتل للأنفس، وإزهاق للأرواح، وإخلال بالأمن شيء عظيم وكبير لكننا مع ذلك نرى من خلال هذه العظائم شعاعاً يبث في النفوس روحاً من الأمل الصادق بنصر الله للدين الحق، وظهوره على الدين كله ولو كره المشركون. إنه أملٌ يشحذ همم المؤمنين للعمل على نصرة دينهم، ويدعو الصادقين إلى التمسك به مهما اشتدت الفتن وادلهمت الخطوب، ويدفعهم للذّبّ عن حياضه مهما عمل الأعداء على حربه واستماتوا في إطفاء نوره.

لقد وعد الله تعالى أولياءه بالنصر والتمكين فقال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}، وقال سبحانه: {كَتَبَ اللهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، وقال جل وعلا: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهَادُ}. وإنه مهما تمالأت قوى الغرب والشرق على حرب الإسلام، ومهما خطط الأعداء في الخارج بمكر وكيد ودهاء، ونفذوا مخططاتهم باحتراف ودقة وتبعية إلا أن أمل المؤمنين بربهم وثقتهم بنصره إياهم ما زالت ولن تزال قوية متصلة، يقويها حرصهم على ما ينفعهم واستعانتهم بالله وحسن ظنهم به، قال صلى الله عليه وسلم:(بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالدِّينِ وَالرِّفعَةِ وَالنَّصرِ وَالتَّمكِينِ في الأَرضِ)( رواه أحمد وغيره وصححه الألباني).

عباد الله: إن القلوب إذا تعلقت بخالقها وبارئها وعلمت أن كل شيء مقدر عنده ، وأنه لا يقضي لعباده إلا الخير فلابد أن تستسلم لأقداره، ويحدوها الأمل أن يأتي بعد كل هم وغم ونكد وشدة وكرب فرح وسرور وسعادة ويسر. إنَّ على المسلم أن يبدأ يومه بالتفاؤل والأمل وأن يطرح الحزن وراءه ويدع الهم جانباً، فمهما طال الطريق, وأنهك التعب, وتسلل السأم, فليس لنا سوى ربِّنا نناجيه ونرجوه ونلهج بذكره ليتجدد عندنا الأمل في قُرْب الفرج.

والأمل يا عباد الله هو انشراح النفس في وقت الضيق والأزمات؛ بحيث ينتظر المرء الفرج واليسر بعد ما أصابه، والأمل يدفع الإنسان إلى إنجاز ما فشل فـيه من قبل، ولا يمل حتى ينجح في تحقيقه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية قومه، ولم ييأس يومًا من تحقيق ذلك، وكان أمله عظيماً في أن يراهم وقد دخلوا في دين الله أفواجا، ولما جاءه جبريل عليه السلام عند عودته من رحلة الطائف الشاقة، وقال له: لقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبيْن، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يُخْرِجَ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)(متفق عليه)، فاستجاب الله له، ونال الأمل الذي تمناه لهم.

فالأمل يدفع الإنسان دائمًا إلى العمل، ولولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة الحياة ومجابهة مصائبها وشدائدها، ولولاه لسيطر اليأس على قلبه، وأصبح يحرص على الموت، ولذلك قيل: اليأس سلم القبر، والأمل نور الحياة.

والمسلم لا ييأس من رحمة الله؛ لأن الأمل في عفوه هو الذي يدفعه إلى التوبة مهما بلغت ذنوبه، لأن الله عز وجل نهاه عن اليأس والقنوط من رحمته ومغفرته، فقال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر: 53).

والأمل طاقة يودعها الله في قلوب البشر؛ لتحثهم على تعمير الكون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا)(رواه البخاري في الأدب المفرد).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف:87),

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون حق التقوى: فهي خير زاد لمن أراد النجاة يوم المعاد.
عباد الله: إن الأمل فيما عند الله هو الأمل الصادق لكل عبد مؤمن, والرجاء في الله وحده هو سفينة النجاة من هذه الدنيا الفانية، وكل ما يتمناه المسلم من دنياه أن يخرج منها وقد رضي ربَّه عنه، ورحمه، وغفر ذنوبه وأدخله جنته، وهذه هي أعظم الآمال، فيا ليت كل واحد منا يأمل ذلك ويرجوه فليس بعد الدنيا إلا دار سعادة أو شقاء، فليحرص المسلم على الأمل في كل جوانب حياته، ولْيتمسك به تمسكه بالحياة، ولا يستسلم لليأس والقنوط أبدًا.
أخي المسلم عندما تشعر بوحدتك, وتتقلب الدنيا بك, وتشعر أنك غريق بين سكراتها، علق قلبك بربك، وجدد الأمل فيه، وقل وأنت موقن بالفرج {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء:87)، فيأتيك الفرج عاجلاً أو آجلاً.
وحينما ينصرف عنك الإخوان والخلان, وينساك القريب والحبيب , ويتخلى عنك الصديق والجار , تذكر قول أيوب عليه السلام { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}(الأنبياء:83، 84)، فيحدوك الأمل أن يذهب الله عنك الوحشة والوحدة، وأن يملأ قلبك أُنْساً ولذة.

وعندما يضيق بك الرزق ولا تقدر علي الإنفاق, فتذكر قول الله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(الذاريات:58)، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)(رواه أحمد وابن ماجة), فيتجدد عندك الأمل أن يأتيك الرزق من الله.

وحينما تتذكر العناء في تربية الأولاد وتراهم يكبرون وتخاف عليهم من الفتن والشهوات والشبهات، فعلق قلبك بالله، وألح عليه بالدعاء، فعندها يتجدد في قلبك الأمل أن تراهم وقد قرت عينك بهدايتهم وصلاحهم.
وعندما يصيبك مرض أو داء, ويظل ملازما لك لفترة من الزمان، وترى أنه قد تمكن منك وأضرك في حياتك وعبادتك، فتذكر قرب ربك منك، وأنه يسمع دعائك، فقوي أملك في الله، وارفع يديك إلى السماء بالدعاء والبكاء والرجاء, وعندها يحدوك الأمل في الشفاء مهما طال الزمان واشتدت الأوجاع.

عباد الله: إن الأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة على جده، كما أنه يدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح، ويحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه، والإيمان يبعث في النفس الأمل ويدفع عنها اليأس والأسى، والمؤمن الصادق يرى أن الأمور كلِّها بيد الله تعالى فيحسن ظنه بربه ويرجو ما عنده من خير، فما أضيق العيش في الدنيا لولا فسحةُ الأمل.
فاحذروا يا عباد الله من ضياع العمر في غير طاعة، وخافوا من التسويف، فهو بئس البضاعة، فكم من مؤملٍ لم يبلغ ما أمَّله، وحيل بينه وبين ما كان يرجو عمله. أسأل الله تعالى أن يمن علينا بالأمل الذي يوصلنا إلى العمل الصالح الرشيد، والفوز بجنة الخلد عند رب كريم عظيم.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن تمن علينا وعلى المسلمين بعز الإسلام ونصر المسلمين.

اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم عاجلاً غير آجل، وفرج عنهم ما هم فيه من الضيق والهم والغم، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم أطبق عليهم قبضتك وبطشك، ورجزك وعذابك، اللهم عليك بالظالمين المعتدين على بلاد المسلمين، فإنهم قد بغوا وطغوا، وأكثروا الفساد، اللهم صبَّ عليهم سوط عذابك، اللهم خالف بين رأيهم وكلمتهم، اللهم شتت شملهم، وفرق صفهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بوعدك ونصرك المبين، فإننا على ثقة ويقين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، اللهم أصلح شبابنَا وبناتِنا، وأزواجَنا وذرياتِنا.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة).
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 20-10-1433هـ