خطبة بعنوان: (تنافس المسلمين في حب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم) بتاريخ 12-11-1433هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل محبة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان، وجعل هديه وسنته طريقاً إلى دخول الجنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بمحبة نبيه الكريم، وربط محبته بمحبته فقال {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير العباد، وقدوة الأنام، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان ، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).

عباد الله: تتعرض أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة لكثير من الظلم والاضطهاد والسخرية والاستهزاء من أعدائها، فأحياناً بالقدح في القرآن والتشكيك فيه، وأحياناً بسب رسول الله صلى الله عليه وسلموالسخرية والاستهزاء به، وأحياناً بإلقاء التهم على المسلمين بالتطرف والإرهاب والقتل والتدمير، وما علم هؤلاء أن أمتنا هي خير الأمم، وأن كتابنا العظيم هو خير الكتب، وأن رسولنا وحبيبنا وقدوتنا هو أفضل الرسل، ولكن هؤلاء لا يفقهون.

لقد ضرب العمى بأطنابه على قلوبهم وأبصارهم، فلا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
ويجب علينا رداً عليهم أن نعظم الله في قلوبنا، وأن نعتز بديننا وأن نتمسك به، وأن يكون القرآن العظيم نبراس حياتنا، وأن يكون محمد صلى الله عليه وسلمهو قدوتنا وأسوتنا.

أيها المسلمون: الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى طرفي نقيض بين غال وجاف، وأهل السنة وسط في هذا الباب، يظهر ذلك جلياً في مواقفهم حول هذه المحبة.
إن ما يتعرض له رسولنا صلى الله عليه وسلمفي هذا الوقت من أعداء الدين يوجب علينا أن نثبت لهؤلاء الأعداء أنه أعزّ علينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين، ولا يكون ذلك إلا بإظهار محبته، والاقتداء بسنته، وإعلاء دينه في شتى بقاع الأرض، وأن محبتنا له صلى الله عليه وسلمليست ادعاءًا ندعيه، ولكن محبته تكون بإظهار دينه، والدعوة إليه بالقول والعمل، ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلمالأسوة الحسنة في ذلك.

لقد ضربوا لنا أروع الأمثلة على صدق محبتهم له، وقدموا من أجله الغالي والنفيس، فلم يهن عليهم شيء مقابل حبه صلى الله عليه وسلم، ولا عجب في ذلك، فمحبته صلى الله عليه وسلمقد خالطت شغاف قلوبهم وسرت في عروقهم، وجرت في شرايينهم، وتشبعت بها أرواحهم، وسيطرت على أفكارهم، فمحمد صلى الله عليه وسلمهو أغلى شيء في حياتهم كما قال أبو سفيان لقومه:”ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا”، وقال عروة بن مسعود حين وجهته قريش إلى رسول الله  يوم صلح الحديبية ورأى من تعظيم أصحاب رسول الله ومحبتهم له ما رأى: (أنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكادوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً، ولا يتنخم نخامة إلا تلقوه بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعره إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدِّون إليه النظر تعظيماً له صلى الله عليه وسلم).

ومن الأمثلة على محبة أصحاب رسول الله وتعظيمهم لنبيهم ما يأتي :
* يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: “لأنت أحبَّ إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه). فقال عمر: ” والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي”. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(الآن يا عمر).
* وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: “ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه”.
* وهذه إحدى الصحابيات من الأنصار قُتلَ أبوهَا وأخوهَا وزوجَها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلمفقالت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا خيراً هو بحمد الله كما تحبين، قالت أرنيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: “كل مصيبة بعدك جلل”.
* وهذا عبد الله بن زيد رضي الله عنه كان يعمل في حديقة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبي
صلى الله عليه وسلم قد توفي فقال: “اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد أحداً فكفَّ بصره واستجاب الله دعاءه”. * وهذا بلال الحبشي رضي الله عنه مؤذن رسول الله  يقول حين حضرته الوفاة: غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه، قال تقول امرأته: وَابِلالاهُ، قال يقول هو: وَافَرَحَاهُ”. * وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إذا ذُكر عنده النبي  بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.

عباد الله: إن كثيراً من الناس يزعمون محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عملهم يخالف قولهم، فمن كان صادقاً في محبته للرسول صلى الله عليه وسلمفلابد أن يقدمه على كل أحد، وإن من علامات صدق محبتنا للنبي صلى الله عليه وسلمما يلي:
* الاقتداء به صلى الله عليه وسلموالتمسك بسنته، واتباع أقواله وأفعاله، وطاعته، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21).
* ومنها الإكثار من ذكره، والصلاة عليه، والتشوق لرؤيته ومرافقته، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره وأحب لقائه.
* ومنها: التحاكم إلى سنته صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا:{فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } (النساء:65).
* ومنها: الذَّبُّ والدفاع عن سنته صلى الله عليه وسلموذلك بحمايتها من انتحال المبطلين، وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة والطاغين وبيان أكاذيبهم.
* ومنها محبة من أحب النبي صلى الله عليه وسلممن آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار ، وعداوة من عاداهم ، وبغض من أبغضهم وسبهم، والدفاع عنهم، والاهتداء بهديهم والاقتداء بسنتهم .
* ومنها نشر سنته صلى الله عليه وسلموتبليغُها وتعليمُها للناس، قال صلى الله عليه وسلم:(بلغوا عني ولو آية)(رواه البخاري ومسلم).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح:29). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن خير الزاد التقوى.

عباد الله: إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلملها ثمرات يجدها المسلم في حياته وبعد مماته، ومن ذلك:
1ـ الفوز بمحبة الله تعالى: قال جل وعلا:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران: 31).
2ـ نيل حلاوة الإيمان: يقول صلى الله عليه وسلم:(ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا…)(رواه البخاري ومسلم).
3ـ ذهاب الهموم ومغفرة الذنوب: فعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمإذا ذهب ثلثا الليل قام فقال:( يا أيها الناس أذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه)، قال أبي قلت يا رسول الله: إني أُكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال:(ما شئت) قال قلت: الربع، قال:(ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قلت: النصف، قال: (ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قال قلت: فالثلثين، قال:(ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال:(إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك)(رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
4ـ مرافقة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء: قال تعالى:{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}(النساء: 69).
5ـ نيل شفاعته: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال:(مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا
الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ)(رواه البخاري).

6ـ ورود حوضه صلى الله عليه وسلم: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ)(رواه البخاري).

أسأل الله جل وعلا بمنه و كرمه و جوده و إحسانه أن يرزقنا محبة رسوله صلى الله عليه وسلمواتباع سنته دون غلو أو جفاء، وأن يحشرنا في زمرته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن تمن علينا وعلى المسلمين بعز الإسلام ونصر المسلمين.

اللهم إنا نعوذ بك من الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم عاجلاً غير آجل، وفرج عنهم ما هم فيه من الضيق والهم والغم، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم أطبق عليهم قبضتك وبطشك، ورجزك وعذابك، اللهم عليك بالظالمين المعتدين على بلاد المسلمين، فإنهم قد بغوا وطغوا، وأكثروا الفساد، اللهم صبَّ عليهم سوط عذابك، اللهم خالف بين رأيهم وكلمتهم، اللهم شتت شملهم، وفرق صفهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بوعدك ونصرك المبين، فإننا على ثقة ويقين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا في كل يوم نستودعك ودائع هم رهائن في قبورهم، وها نحن اليوم نستودعك وديعتين رجل وامرأة، اللهم اغفر لهما وارحمهما، وبوأهما الفردوس الأعلى من الجنة، وضيفهما رحمتك، واجعل هذه الليلة أفضل ليالي عمرهما التي مرت عليهما يا غفور يا رحيم.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح شبابنَا وبناتِنا، وأزواجَنا وذرياتِنا. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً يا كريم.
اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة).
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 12-11-1433هـ