مسائل كثر السؤال عنها بعد الحج -خطبة الجمعة بتاريخ 24-12-1433هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى طريق الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب)..

عباد الله: إن من أعظم ما امتن الله به على عباده في الأيام الماضية فريضة الحج التي مرت أيامها أسرع ما يكون، والتي قُبل فيها من قُبل، ورُد فيها من رُد، وفاز فيها من فاز، والذي فاز فيها هو من اتبع أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في سنته(من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(متفق عليه)، وهذا الفائز هو من بادر بتلبية أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأخلص في حجته، وطهرها من الرفث والفسوق فنال رحمة الله ورضوانه، والخاسر هو الذي راءى بعمله وفرط وأساء وضيع فرجع وقد حُرم الأجر والثواب، بل ربما حمل على عاتقيه الكثير من الذنوب والخطايا بسبب تفريطه وتقصيره وإساءته. فسبحان من قسَّم الأجور بين خلقه على حسب طاعتهم له، فرفع من رفع وخفض من خفض، وإني لأسأل الله أن يتقبل منا جميعاً عملنا وطاعتنا، وأن يغفر لنا تقصيرنا وزللنا، وأن يمن علينا بالهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.

عباد الله: في حج هذا العام رأيت جهلاً كثيراً من بعض الحجاج مع أن كل شيء ميسر للحصول على العلم، والعلماء يبذلون وسعهم في التعليم والتوجيه، ولذا فإني أنصح كل مسلم ومسلمة أن يبذل قصارى جهده في تحصيل العلم النافع الذي ينير له الطريق للوصول إلى سلامة العقيدة وصحيح العبادة، وصدق الله تعالى إذ يقول {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(الزمر: 9)، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُّ فِي الدِّينِ) (متفق عليه).

عباد الله: ومما رأيت أثناء رحلة حج هذا العام كثرة أسئلة الحجاج عن كثير من المسائل التي تتعلق بالحج، وهذا ينبني عليه أمران، أحدهما إيجابي والآخر سلبي:

فأما الإيجابي: فهو حرص أغلب الحجاج على تحري صفة الحج الصحيحة حتى يؤدوها على الوجه المطلوب.
وأما السلبي: فهو كثرة الجهل بمناسك الحج، والذي يؤدي بدوره إلى استفتاء الجهلة من المسلمين، وقد رأيت وسمعت بعض الناس الذين يفتون الحجاج بغير علم يستندون إليه إلا أنهم سمعوا الشيخ فلاناً يقول كذا، والشيخ فلاناً يقول كذا، ثم ينزل كلام الشيخ على فتاوى متنوعة على سؤال السائل حسب فهمه هو، وهنا يخطئ في حق نفسه وفي حق السائل، وفي حق الشيخ الذي نقل عنه، فيوقع نفسه وغيره في الحرج عند تبين الحكم له وللسائل، والفتوى بغير علم أمر محرم شرعاً لقول الله تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}(النحل: 116).
فعلى كل مسلم أن يتقي الله وألا يتعرض لما لا يحسن ولا سيما ما يتعلق بأمر الفتوى لما يترتب على ذلك من الآثار الخطيرة على الأفراد والمجتمعات.

عباد الله: ومن المسائل الفقهية التي وقع فيها بعض الحجاج جهلاً منهم أو تفريطاً ما يلي:

* يسأل كثير من الحجاج عن حكم المبيت خارج منى في أيام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، إذا ذهبوا مع حملات يكون سكنهم في مزدلفة أو بالعزيزية، أو غيرها من ضواحي مكة. وهنا نقول: إذا لم يجد الحاج مكاناً في منى فيبيت في أقرب مكان إليها، ولا ينبغي أن يفترش الطريق، أو يعتدي على مخيمات الآخرين، وهنا هو معذور ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

* بعض الحجاج ينزل قريباً من عرفة ولا يدخلها ولا يتثبت من حدودها وهذا لا يجوز ويترتب على ذلك أنه لم يقف بعرفة ويؤدي إلى فساد حجه، والبعض الآخر يترك الدعاء ويضيع وقته في غير فائدة من ذكر أو صلاة أو تلاوة قرآن أثناء الوقوف بعرفة وهذا قد حرم نفسه من خير عظيم، والبعض يخرج من عرفة قبل غروب الشمس وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى الحاج هنا أن يحتاط ويتثبت من مكانه وموعد خروجه لئلا يقع في المحذور شرعاً.

* بعض الحجاج لا يبادر إلى أداء صلاتي المغرب والعشاء فور نزوله لمزدلفة بل ينشغل بجمع الحصى وهذا خلاف السنة، والبعض الآخر لا يبيت بمزدلفة حيث يجلس بعض الحجاج خارج حدودها، وهذا خطأ كبير يقع فيه بعض الحجاج على الرغم من أن الجهات المختصة قد وضعت اللوحات الإرشادية التي توضح بداية ونهاية المزدلفة، وهذا تقصير من هؤلاء الحجاج، ومن وقع في ذلك فهو آثم لأنه ترك واجباً ويجبر تركه بدم، وبعض الحجاج يخرج من مزدلفة قبل منتصف الليل، والبعض الآخر يصلي صلاة الفجر قبل دخول وقتها.

* من رمى قبل الزوال بناء على فتوى عالم معتبر فلا ينبغي أن يشكك في عبادته لأن المسألة محل خلاف، وما دام أخذ بقول عالم معتبر فلا حرج عليه.

* لا ينبغي التوكيل في الرمي من غير ضرورة لا سيما في حج الفرض، وعلى الحاج أن لا يوكل أحداً إلا إذا كان يشق عليه الرمي، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

* لا حرج على المسلم أن يتولى ذبح هديه بنفسه أو يوكل غيره في ذلك، وإذا وكل الجهات المختصة في ذبح الهدي برئت ذمته.

* بعض الحجاج يترك طواف الإفاضة لما يراه من شدة الزحام والخوف من فوات الرفقة، أو ربما كانت المرأة حائضاً، وهؤلاء لم يتحللوا التحلل الأكبر، ويجب عليهم أن يرجعوا إلى مكة، والأولى أن يحرموا بعمرة، ويأتوا بها كاملة، ثم يطوفون بعدها طواف الإفاضة.

* بعض الحجاج يتركون طواف الوداع لما يرونه من شدة الزحام، وهذا خطأ وعلى من فعله أن يتوب إلى الله من تفريطه في الإتيان به لأنه واجب من واجبات الحج، أما من تركه لعذر من خوف أو مرض أو عدم استطاعة من شدة الزحام فلا إثم عليه لأنه معذور، وعليه أن يذبح دماً يوزع في مكة على فقراء الحرم، أما المرأة الحائض والنفساء، وأهل مكة، ومن استقر بها من غير أهلها فليس عليهم طواف وداع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب: 36) .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله: لقد فجعت بلادنا ــ المملكة العربية السعودية ــ بحادثتين مأساوتين هزتا أرجاء البلاد:

فالأولى: وقعت في طريق خريص بمدينة الرياض صباح يوم الخميس الموافق: 17/12/1433هـ بمأساة انفجار محتوى ناقلة غاز أحدث دماراً مرعباً وخلّف 24 قتيلاً و131 جريحاً حالات 39 منهم وصفت بالحرجة، وأحدث الانفجار الناجم عن احتراق غاز تسرب من صهريج الناقلة المنكوبة دوياً هائلاً، وقد شوهدت بعد الانفجار أكثر من 15 سيارة متفحمة. وتصدع الجسر الذي وقعت فيه حادثة انفجار الصهريج وتطاير زجاج نوافذ المنازل والشركات القريبة من موقع الحادثة، مما أثار مزيداً من الهلع في نفوس السكان. وامتد الدمار ليغطي دائرة قطرها نحو نصف كيلو متر. وقد وجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بعلاج كافة المصابين وتوفير الرعاية الطبية لهم على نفقة الدولة.

وأما الحادثة الأخرى فقد وقعت بعد مرور أقل من 24 ساعة على فاجعة حادثة ناقلة الغاز بطريق خريص، حيث قتل 25 شخصاً، غالبيتهم نساء وأطفالهن، صعقاً بالكهرباء في خيمة عرس قرب مدينة بقيق، شرق المملكة في وقت متأخر من يوم الجمعة ليلة السبت الموافق: 18/12/1433هـ، وقد خلفت الحادثة أيضاً عشرة مصابين، بينهم ستة في وضع «خطر»، والبقية خرجوا من المستشفيات بعد تلقيهم العلاج، وجميع المتوفين والمصابين ينتمون إلى عائلة واحدة.

وهنا نذكر بنعمة الصبر والرضا بالقضاء والقدر، ونؤكد على عمل الاحتياطات اللازمة، والبعد عن المنكرات، والاستعداد للقاء الله لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت.

أسأل الله تعالى أن يرحم هؤلاء الموتى، وأن ينزل الصبر على ذويهم وأن يجبر مصابهم وأن يعظم لهم المثوبة والأجر وأن يشفي المصابين وأن يتم عليه العافية، إنه جواد كريم.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:56). اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وخليلك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.