خطبة بعنوان: (المبادرة في قسمة المواريث) بتاريخ 26 / 4 /1434هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه سبيل الرشاد في الآخرة والأولى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب:70، 71)
عباد الله: من جوانب عظمة الإسلام اهتمامه بأحكام الميراث بعد موت الميت فقد جاءت أحكامه دقيقة وعادلة تولى الله تقسيم التركات وتفصيلها بدقة بالغة، وبيان بليغ، وحساب دقيق، ولم يترك ذلك لأحد من البشر. فلا مجال في ذلك للمجاملة ولا للواسطة ولا للرأي ولا للهوى منعا للنفوس الضعيفة المفتونة بالمال أن تتلاعب بمال الورثة، ولكي تضفي على المؤمن الطمأنينة والرضا والتسليم لما يقضي به.

والواجب على الوصي المبادرة إلى توزيع تركة الميت بعد إحصائها، وتسديد الديون التي عليه، والنظر إلى الأموال التي له في ذمم الناس، فيجمعها ويحصيها فإذا تم جمع وإحصاء كل ماله، يتم إخبار الورثة، ويبادر بتنفيذ وصيته إن كانت هناك وصية، ثم يقوم بتوزيع الميراث على المستحقين له ولا يؤخر ذلك لأنه يؤدّي إلى وقوع المشاكل والخلافات والشحناء.
عباد الله:
وعلى الوصي أن يتقي الله في الوصية ويقوم بإعطاء كل وارثٍ حقّه سواء أكان ذكراً أو أنثى، لاسيما إذا طالب المستحقون للميراث بحقهم فلا يجوز تأخيره مهما كانت الأحوال والأعذار والمبررات إذا كان الورثة بالغين راشدين.
وأما إذا رضي الورثة ببقاء التركة على ما هي عليه وترك نصيبهم بأيدي الوصي فلا حرج عليهم في ذلك، لكن على الوصي حصر إرث كل شخص من المستحقين للميراث ومعرفة مقداره وإعلامه به لئلا تختلط الحقوق وتضيع، ولا بد من الحذر من الوقوع في الظلم فالأعمار منقضية والآجال محتومة. قال صلى الله عليه وسلم:(لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)(رواه مسلم).

وما تركه الميت من عقار وغيره لورثته الشرعيين بعد تسديد دينه إن وجد وتنفيذ وصيته الشرعية، فلهم حق التصرف فيما آل إليهم من مورثهم بالبيع أو الإجارة أو غير ذلك من وجوه التصرفات المسموح بها شرعاً.
ولا بد من المبادرة بتقويمها وبيعها وتقسيمها بينهم حسب الميراث الشرعي بواسطة أهل الخبرة بالتقويم، وإن تراضوا بينهم في القسمة وهم راشدون فلا بأس، وإن تنازعوا فمرد النزاع إلى الصلح بينهم أو عن طريق المحكمة الشرعية‏ وما يتعذر به بعض الأوصياء من وجود عقار يرغبون في ارتفاع سعره فهذا غير مناسب لاسيما مع حاجة الورثة.

عباد الله وبعض الورثة يعترض على توزيع التركة مع انتفاعه ببعضها، وهذا أمر محرم شرعاً، لأن هذا من التعدي على حقوق بقية الورثة، وحينئذ يكون انتفاع الوارث ببعض التركة كالعقارات والأراضي والمزارع وغيرها من باب الغصب، وهو من الظلم المحرم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق.

وإذا أخذ هذا الوارث ــ الذي يمنع قسمة التركة ــ مالاً من الميراث دون موافقة بقية الورثة، فما يأخذه كسب محرم وإذا أصر بعض الورثة على المنع من توزيع التركة فإن للورثة الآخرين رفع الأمر إلى القضاء لإجبار الممتنع عن القسمة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}(النساء: 11، 12).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا بارك الله فيكم أنه قد برزت في الآونة الأخيرة بعض المشاكل التي تتعلق بالميراث وتثير الكثير من العداوة والبغضاء بين الورثة، ومن ذلك:

1ـ أن بعض الناس يؤخرون قسمة التركة، فتمضي الأشهر والسنوات والتركة لم تقسم وقد يوجد قُصَّر يعيشون فقراً ويتكففون الناس ويأخذون من أموال الزكوات والصدقات، وهذا لا يجوز، بل يجب إعطاء القُصَّر حقَّهم ويحرم أكل شيء من أموالهم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}{النساء:10}. ويتولى ولي القصَّر إدارة أموالهم بالمعروف ووصيهم بعد وفاة أبيهم وصيه، فإن لم يكن فالحاكم.

2ـ يجب على الوكيل والولي أن يتقي الله فيمن ولاه الله من هؤلاء القصَّر، وأن يعمل على تنمية أموالهم بالطرق الشرعية التي يستطيعها، إما بشراء عقار لهم يؤجر وينفعهم، وإما بجعله في يد ثقة ينميه ويتجر فيه، وإما أن يساهم به في شيء مأمون كالأراضي أو غير ذلك حتى تحصل لهم الفائدة، وعليه أن يحذر من المتاجرة بأموالهم فيما يعود عليهم بالضرر، وخاصة في المعاملات التي يغلب على ظنه الخسارة فيها.

3ـ بعض الأوصياء يتصرفون في التركة ويقسمونها بناء على وجهة نظرهم الشخصية التي قد يخالفه فيها كثير من الورثة لا من حيث التساوي ولكن من حيث نوعية الموروث كأن يعطي هذا مزرعة وهذا أرضاً وهذا محلاً تجارياً وهذا سيولة مالية وهكذا. والواجب هو تحري العدل وما أشكل فيرجع فيه إلى الصلح عن طريق أهل العلم فإن لم يكن فإلى القاضي.
4ـ بعض الأوصياء لا يعلنون عن قيمة التركة للورثة فيعطى كلاً نصيبه دون أن يعلموا كم ميراث ميتهم، وهنا تحدث الشكوك والظنون السيئة وتبدأ القطيعة بين الأقارب.
5ـ يتصرف بعض الأوصياء في العقارات خاصة دون إذن الورثة ومثل هذا التصرف الأصل بطلانه لأن بقية الملاك لم يأذنوا بالبيع، ويزداد الأمر سوءا إذا تصرف في التركة مع وجود قصَّر فالواجب هنا المبادرة في تحديد الولي على القصَّر قبل أي تصرف في التركة.
6ـ أحيانًا لا يتم تدوين حسابات المشاريع الموروثة بعد وفاة المورث ويترتب على ذلك مشاكل بين الورثة وإساءة الظن بالوصي، والأولى بالوصي أن يقوم بعد وفاة مورثهم مباشرة بإجراء جرد دقيق للمشاريع ذات الدخل وتدوين الإيرادات والمصروفات، والأفضل إذا كانت المشاريع كبيرة أن تسلم لمحاسب قانوني إلى حين قسمتها.
7ـ قيام بعض الأوصياء بإخفاء الصكوك والمستندات فترة طويلة عن بعض الورثة لكسب مزيد من الوقت لاستغلال بعض العقارات وخاصة المؤجرة.

وإني أوصي كل وكيل بأن يبادر بقسمة الميراث، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأن
يبادر بتنفيذ وصية الميت، وألا يتساهل في مال القصر، وأن يعمل على تنميتها على الوجه المطلوب، فهو مأجور إن أحسن، ومأزور إن أساء، وأن يكون واضحاً مع بقية الورثة يطلعهم على كل شيء، ويرتبط بأحد طلاب العلم ويستشيره، وعند الخلاف مع إخوته يرجعون إليه لأنه إن لم ينفع ذلك فلا بد من الرجوع إلى المحكمة الشرعية.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).

الجمعة: 26 / 4 /1434هـ