خطبة بعنوان: (من أحكام الوصية) بتاريخ 3 / 5 /1434هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الذي شرع لعباده ما يعود عليهم بالنفع في العاجل والآجل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالحكم والتشريع، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الخاتم الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن التقوى خير زاد ليوم المعاد:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: 18).
عباد الله: يعيش المسلم في الحياة الدنيا مدة محددة، ثم ينتقل منها إلى الدار الآخرة، وهذه سُنَّة الله في خلقه، فما من حيٍّ إلا وسيموت، قال جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(آل عمران: 185)، وقد أمر الله جلَّ وعلا عباده بالإكثار من العمل الصالح الذي ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، وأوصاهم بالتزود منه، ونهاهم عن كل ما يعود عليهم بالخسران في آخرتهم.
وقد شرع الله جل وعلا للمسلم الوصية بما له وما عليه من الحقوق، لأنه لو أَهمل ذلك لضاع ما له وما عليه من الحقوق، وترتب على ذلك ضياع حق الورثة، وهنا يكون الوزر والإثم عليه لأنه أهمل وفرَّط وضيع، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}(البقرة:180)،وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ..}(المائدة:106).
عباد الله: وتجب الوصية في حق من له تعامل مع الناس بالبيع والشراء وغير ذلك، وكذا من توضَع عنده أمانات للناس، ويُعهَد إليه بحفظها، فلا بد لهؤلاء من وصية مكتوبة مسجَّلٌ فيها ما لهم وما عليهم، ضبطاً للحقوق وحفظاً للأموال من الضياع. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته لذلك، بقوله: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)، قال ابن عمر راوي الحديث: فوالله ما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله(رواه البخاري ومسلم)
والأفضل في حق الموصي أن ينفق في حال حياته وصحته وغناه رغبة وحباً في الخير، وطلباً للأجر والثواب من الله، قال صلى الله عليه وسلم:(يتبع الميت ثلاث: أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل)(رواه البخاري ومسلم)، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال:(أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تُمهِل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وقد كان لفلان)(متفق عليه).
عباد الله: وأما الوصايا المستحبَّة، فهي أن يوصي المسلم بما ينفعه وما يجري عليه أجره بعد موته، كالوصية للمحتاجين من الأقارب وغيرهم من اليتامى والأرامل، والوصية بعمارة المساجد وبناء المدارس ودور تحفيظ القرآن الكريم، وطباعة المصاحف والكتب العلمية النافعة، ومساعدة طلاب العلم والدعاة، وبناء المستشفيات الخيرية لعلاج المحتاجين، وحفر آبار الماء، والمساهمة في إنشاء مساكن للأيتام، وسداد الديون عن المدينين والمعسرين. قال صلى الله عليه وسلم:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(رواه مسلم).
وروى البزار عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(سبع يجري للعبد أجرُهن، وهو في قبره بعد موته: من علَّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورَّث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته).
وتجوز الوصية بالثلث فما دونه، ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عامر بن سعد، أن أباه، قال: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» قُلْتُ: أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ..).
والأولى لمن كان ورثته قليلين وماله كثير أن يوصي بثلث ماله، وإن كان المال قليلاً والورثة كثيرون أن يوصي بربع أو خمس ماله حتى ينتفع الورثة بالمال وله الأجر في ذلك.
وينبغي للمسلم أن يعرض وصيته على ذي علم وبصيرة حتى تكون موافقة لقواعد الشريعة، ولئلا يكون فيها ظلم أو إجحاف لأحد الورثة دون غيره ولئلا تكون سبباً في وقوع الخلاف والخصام بين الورثة.
عباد الله: ومما يتأكد في حق الموصي أن تكون الوصية واضحة عامة لئلا يقع الوصي في الحرج، فيقول مثلاً: “أوصي بثلث مالي في أعمال البر على نظر الوصي فيما يناسب الزمان والمكان والأحوال والأشخاص دون تحديد مصرف معين”، وينص على تقديم المحتاج من الورثة، ولا يحدد شيئاً معيناً تصرف فيه الوصية، وهنا لا حرج من وضع الثلث أو ريعه كاملاً أو جزءاً منه تبرعاً في أعمال الخير.
وإذا كان الموصي قيّد في وصيته فقال مثلاً : “يُصرف ثلث مالي في أضاحي، وعلى الفقراء، وحفر الآبار، وتعليم القرآن، وغير ذلك” فهنا لا يجوز أن يصرف إلا بما قيّده به الموصي.
وإذا كان الموصي أطلق وقيّد فقال مثلاً: “يصرف ثلث مالي في أعمال البرّ ويقدم منها أضحية والمحتاج من الذرية وغير ذلك من أوجه البرّ “، فهنا لا حرج أن يصرف من ريع الثلث على أي عمل من أعمال البرّ يراه الوصي بعد استكمال ما نص عليه الموصي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}(الأحزاب: 36). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي
ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن من الأخطاء التي يقع فيها الوصي أو الورثة بعد موت الموصي ما يلي:
1ـ تقصير الوصي أو الورثة في إخراج زكاة المال الموروث، فقد يمر عليه أكثر من سنة بعد وفاة الموصي ويؤخرون قسمة التركة، وهنا تجب الزكاة في نصيب الورثة، وأما الثلث فلا زكاة فيه مهما بلغ.
2ـ يجب على الوصي أن يتقي الله وألا يخاطر بمال الورثة إلا أذنوا له بذلك، ويكون ذلك بالطرق الشرعية التي يستطيعها، وفي الأوجه التي يراها مأمونة وفي مصلحة الورثة، كالمساهمة في بيع وشراء الأراضي والعقارات أو غير ذلك مما يحصل به الفائدة، ويحذر من المتاجرة بأموالهم في المعاملات التي يغلب على ظنه الخسارة فيها أو يكون فيها شبهة.
3ـ لا تصح الوصية للوارث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)(رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني)، وزاد في آخره:(إلا أن يشاء الورثة).
4ـ لا تصح الوصية لغير وارث بأكثر من الثلث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الثلث والثلث كثير)(رواه البخاري وغيره)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)(رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدار قطني)، وزاد في آخره: (إلا أن يشاء الورثة).
5ـ مبادرة الوصي بسداد دين الموصي وعدم تأخير ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه)(رواه أهل السنن).
6ـ إذا لم يوص الشخص ورغب الورثة أن يتنازلوا عن شيء من نصيبهم لمورثهم فينبغي حفظ حق القاصرين كاملاً وعدم التنازل عن شيء منه لأنهم أحوج من الميت، وهنا يكثر الخطأ، ويتحمل من يأخذ من حق القاصرين شيئاً إلا إذا كان يضمن حقهم إذا بلغوا.
أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يوفقنا وإياكم لكل خير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).
الجمعة: 3 / 5 /1434هـ