خطبة بعنوان: (نعمة الأمطار) بتاريخ 23-6-1434هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

الخطبة الأولى :
الحمد لله العظيم الجليل، الغني الكريم، رحمان الدنيا والآخرة، القائل في كتابه العظيم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ)(الزمر:21)، فسبحان الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، رحمة الله للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فيأيها المؤمنون والمؤمنات: اتقوا الله حق التقوى، فهو المستحق وحده للمحبة والخشية والعبادة، وتوبوا إليه فهو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، واستغفروه فهو القائل في كتابه { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}(نوح: 10ـ 12)، فسبحان من تفرد بالرزق والرحمة والمغفرة.

عباد الله: يقول الله جل وعلا:{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأنعام: 99).
ففي هذه الآية يبين الله جل وعلا أن من أعظم مننه، التي يضطر إليها الخلق، من الآدميين وغيرهم، إنزال المطر من السماء متتابعاً وقت حاجة الناس إليه، فينبت لهم به كل شيء، مما يأكل الناس والأنعام، فينبسطون برزقه، ويفرحون بإحسانه، ويزول عنهم الجدب واليأس والقحط، وتفرح قلوبهم، وتسفر وجوههم، ويحصل لهم من رحمة الكريم، ما به يتمتعون وبه يرتعون، مما يوجب لهم، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى هذه النعمة وغيرها من النعم الأخرى، وذلك بالقيام بعبادته ومحبته والإنابة إليه. فنزول المطر، من النعم العظيمة، التي يمن الله بها على عباده ، فبعد أن نَضَبت الآبار، ويبِست الأشجار، وذبلت الأزهار، وقلت الثمار، وجف الضرع، وهزلت المواشي، فإذا برحمة الرحيم الرحمن تنزل على عباده، فَتروى الأرض، وتجري الوديان، وتمتلىء العيون والآبار، وتسيل الأنهار، وتفيض السدود، ويفرح بهذه النعمة الناس والدواب والطيور والأرض، فترى كل من نزل عليه المطر يظهر عليهم الفرح والبهجة والسرور استبشاراً برحمة الكريم الحليم، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} (الفرقان: 48 ـ 50).

فالماء يا عباد الله سببٌ لحياة الخلق أجمعين، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء: 30)، ومن خلال الأمطار تتوفر المياه، وهو سبب لنبات الزرع، وإدرار الضرع، وحياة المخلوقات، وبسببه تقوم المشروعات، وتتولد الكهرباء، وتبنى المنازل والجسور والمصانع والشركات. فوالله ثم واللهِ، لولا اللهُ ما سُقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا، فله الحمد دائماً وأبداً حتى نلقاه.
لقد ذكَّر الله تعالى عباده بهذه النعمة، كي يعرفوا قيمتها ويحافظوا عليها، ويشكروها، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}(الواقعة: 68ـ 70)، لا يسرفون، ولا يفرطون فيها، بل يستغلونها على الوجه المأمور به شرعاً، فتجمع في الأماكن المخصصة لها، ويستفاد منها في سقي البهائم والأراضي، وإنبات الزرع.

لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رأى غيماً تغير وجهه، فقد روى البخاري ومسلم أن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ، فَقَالَ:(يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا). وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا نزل المطر:(اللهم صيباً نافعاً)(رواه البخاري)، وكان يقول:(مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ)(رواه مسلم)، وإذا كثر المطر وخشي منه الضرر كان يقول:( اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)(رواه البخاري).

ومن المستحب عند نزول المطر، أن يحسر الإنسان شيئاً من ملابسه حتى يصيبه المطر، تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال:(لأنه حديث عهد بربه)(رواه مسلم).
ويستحب الدعاء أيضاً عند نزول المطر، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر)(رواه الحاكم وحسنه الألباني).

عباد الله: علينا أن نتذكر عند نزول هذا المطر أن الله تعالى هو وحده القادر على إنزاله، ولا يجوز لأحد من البشرٍ أن ينسِب إنزال المطر إلى غير الخالق سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم:(أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)(رواه مسلم)، فلينتبه المسلم لذلك. حيث كثر الخلط عند بعض الناس لا سيما مع اتساع نطاق التواصل وكثرة من يتكلم في هذا الباب من الفلكيين من المسلمين وغيرهم.

وعلينا أن نتذكر أيضاً، أن في إنزال المطر وإحياء الأرض عبرةً وآية لقدرة الله جل وعلا على إحياء الموتى يوم القيامة، قال سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(فصلت: 39).

وعلينا أن نتذكر أن إنزاله في بعض الأحيان قد يكون نقمة، فهذا المطر الذي ينزل بغزارة في بعض البلدان تتولد عنه الفيضانات العاتية، التي تسبب الدمار والخراب والهلاك، فهو من جنود الله يرسله على من يشاء من خلقه عذاباً وهلاكاً، قال الله جل وعلا:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}(سبأ: 16، 17).

والمطر قد ينزل أيضاً رحمة بالبهائم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:( وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)(رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني)، وقد يكون تنبيهًا للمؤمنين المقصّرين ليشكروه ويحمدوه ويرجعوا إليه، وقد يكون استدراجًا من الله جل وعلا لبعض خلقه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}(النور: 43، 44).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلموا أن من الوصايا والتنبيهات ، لمن أراد ارتياد أماكن السيول والمتنزهات، ما يلي:
(1) الابتعاد عن أماكن تجمع السيول، وعدم الاقتراب منها، أو السباحة فيها خاصة إذا كان لا يستطيع السباحة.

(2) على أولياء الأمور إذا خرجوا للنزهة بأطفالهم وهم لا يدركون حجم الأخطار والأضرار، ألا يتركوهم دون متابعة ورقابة، فربما يسبحون وقد يغرقون ولا يشعر بهم أولياؤهم، وقد سمعنا عن حوادث كثيرة من هذا النوع .

(3) يجب على المسلم عند خروجه للبر أو المتنزهات أن يحافظ على الصلوات المكتوبة هو ومن معه، سواء كانوا من الأهل أو الأصدقاء، ويشرع لهم أن يؤذنوا لكل صلاة.

(4) ينبغي ألا يترتب على الترويح عن النفس الوقوع في المعاصي والذنوب، فبعض الشباب ـ هداهم الله ـ، يعبثون بالسيارات، ويقومون بالتفحيط والتطعيس وغير ذلك من الحركات المهلكة للأنفس، وربما يقومون برفع أصوات الموسيقى الصاخبة والمؤذية لأنفسهم وللآخرين.

(5) الحذر من تبرج النساء، وخروجهن بزينتهن، أو كشف الوجه أمام السيارات المارة والمتنزهين الآخرين.

(6) جميل أن يشرك المسلم أهله ووالديه في الاستمتاع بمشاهدة هذه السيول والمتنزهات، وأن لا يقصر ذلك على زملاءه وأصدقاءه فقط، فإن لهم عليه حقاً، لقوله صلى الله عليه وسلم(وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)(رواه البخاري).

(7) عدم غفلة أولياء الأمور عن أبناءهم في ذهابهم مع من يشاءون من الأصدقاء بحجة الاستمتاع بهذه الأجواء، فقد يستغلّ ذلك ضعاف النفوس في أمور لا تحمد عواقبها.

(8) القيام بالاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن عند الحاجة إلى ذلك .
وأهمس في آذان بعض الشباب ممن يسيرون في الطرقات بسرعة جنونية بسياراتهم في وجود مياه الأمطار أن يبتعدوا عن أذية المارة في الطرقات، فكم من مسلم أوذي بسببهم فرفع يديه بالدعاء عليهم، ألا فليتقوا الله تعالى، وأن يعاملوا الناس بمثل ما يحبون أن يعاملوا به، وأن يحذروا كل الحذر من أذيتهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم)(رواه الطبراني بسند حسن).

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).
الجمعة:23-6-1434هـ