خطبة بعنوان: (ختام الشهر وزكاة الفطر) بتاريخ 24-9-1434هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فيأيها الصائمون والصائمات أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها سبيل المؤمنين، وزاد الصالحين، وبها النجاة والفوز يوم الدين، فاتقوه جل وعلا في كل وقتٍ وحين، وفي كل زمان ومكان، واتقوه في كل ما تأتون وتذرون لعلكم تفلحون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(الحشر).

عباد الله: إن الله جل وعلا اختص شهر رمضان بخصائص عظيمة دون غيره من الشهور، فهو شهر الصيام والقيام والقرآن ، وشهر الجهاد والانتصارات ، شهر الجود والخيرات والبركات والنفحات، ولله فيه كل ليلة عتقاء من النار .

وهو شهرٌ من صامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليله إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، كما صح بذلك الخبر عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

فاحمدوه واشكروه جل وعلا أن منّ عليكم ببلوغ هذا الشهر الكريم وأعانكم على صيامه وقيامه، فهو سبحانه وتعالى فضَّله على سواه من الشهور، واختصّه بخصائص عظيمة، وفضائل كبيرة، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ..}(البقرة:185).

وها هو شهركم قد أزف على الرحيل, ولم يبق منه إلا القليل, وها هي أيامه تتوالى وعما قريب تودعكم، وها هي قلوب المؤمنين المحبين لربهم الموقنين بلقائه تتقطع لفراقه، وتدمع عيونهم حزناً على رحيله، فقد عاشوا أياماً سعيدة بين الصيام والقيام والقرآن والصدقة والدعاء وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

فإذا كان هذا حال من ربح فيه, فكيف حال من خسر أيامه ولياليه؟ وماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجلّ عزاؤه؟ وقد ضيع لياليه في اللهو واللعب، والتسكع في الأسواق, والجلوس مع الخلان والأصحاب بعيدًا عن ذكر الله تعالى, قال جل وعلا عن النادمين المفرطين يوم القيامة{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ}(الزمر: 56ــ 58).

فيا من استقمتم في هذا الشهر المبارك، واعتدتم عمارة بيوت الله بالطاعة وأداء صلاة الجمعة والجماعة والتراويح والقيام، ولازمتم تلاوة القرآن، وتصدقتم من مالكم، داوموا على طاعة ربكم في بقية حياتكم ولا تهدموا ما بنيتم بعودتكم إلى التفريط والمعاصي.

لقد أوشك شهرُكم على الرحيلِ بما أودَعَ فيه العبادُ من أفعالٍ، واللّبيبُ من ختَم شهرَه بتوبةٍ صادِقَة بالبُعد عن المعاصِي والآثام، والمفلِسُ من أغرَقَ نفسَه في السيّئاتِ ولقِيَ ربَّه وهو عَلَى العِصيَان، فأكثِر يا من أسأت وفرطت من الاستغفارِ في خِتام شهرِك يكن لك ذخراً عند ربك، وماحيًا لقبيحِ زلاّتِك وسوءاتك.

وتذكَّر أنّ اللهَ يبسُط يَدَه بالليل ليتوبَ مسِيء النّهار، ويبسُط يدَه بالنّهار ليتوبَ مُسيء اللّيل حتّى تطلعَ الشمس من مغرِبها، وإيّاك والتّسويفَ بالتّوبة؛ فإنّ الموتَ يأتي بغتَة.

ومن كان محسناً فعليه بالتمام؛ ومن كان مفرطاً فليختمه بالحسنى؛ وتزودوا فيما بقي من الليالي, واستودعوه عملاً صالحًا يشهد لكم به عند ربكم، واعلموا أنما الأعمال بالخواتيم.

عباد الله: هذه العشر المباركات الفاضلات علينا أن نحرص عليها، ولا نفرط في دقائقها ولا ساعاتها، فقد أوشَكَت على الرّحيلِ، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجتهد فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها، تقول عائشةُ رضي الله عنها “كانَ رَسول الله يجتَهِد في رَمَضانَ ما لاَ يجتهِد في غيرِه، وفي العَشرِ الأواخِرِ منه ما لا يجتَهِد في غَيره”(رواه مسلم).
وكان يخصُّها صلى الله عليه وسلم بمزيد من العبادة، ويضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع من القرب والطاعات ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ” (رواه البخاري ومسلم).

وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف فيها لزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة، قالت عائشة رضي الله عنها:(كان النبي يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده)(متفق عليه)، وكان ذلك تحرياً لليلة القدر التي عظَّم سبحانه قدرها، وأعلى شأنها، وشرفها بإنزال الوحي المبين على سيد المرسلين ، وفيها يُفرق كل أمر حكيم، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات، كثيرة الخيرات، لِما يتنزل فيها على العباد من عظيم المنح الربانية، وجليل النفحات الإلهية، قليلُ العمَلِ الصالح فيها كَثير، والكثيرُ منه مضَاعَف، فهي خير من عبادة ألف شهر، أي حوالي ثلاثة وثمانين عاماً وأربعة أشهر، قال تعالى: {لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر:3) من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

وإن من صدق إيمان العبد، ودلائل توفيق الله له أن يغتنم ما تبقى من هذه الليالي المباركة، بجلائل الأعمال الصالحة، وأنواع العبادة والطاعة، والتذلل بين يدي الله عز وجل، والإنابة إليه، أملا في إحراز فضل ليلة القدر، ونيل بركاتها، فلقد بلغ من عظيم فضلها وجليل ثوابها أن من قامها بنية خالصة وعبودية صادقة كفّر الله عنه ما سلف من ذنوبه وخطاياه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري ومسلم).

وقد ندب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أمته إلى التماس ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر، أو السبع البواقي من هذا الشهر الكريم، فقد روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)، وفي لفظ آخر له:(فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر).

ولفضل هذه الليلة سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عما تدعو به ليلة القدر إن هي علمتها، فأرشدها أن تقول:(اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني)(رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وصححه الألباني).
بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(القدر: 1 ــ 5).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فاتقوا الله واعلموا أن المواسم الفاضلة هبة ومنحة من الله امتن بها على عباده، فبادروا باستغلالها، واجتهدوا في تحصيل فضلها.
عباد الله: لقد شرع الله جل وعلا في نهاية هذا الشهر صدقة الفطر التي هي فريضة على الكبير والصغير, والذكر والأنثى, والحر والعبد, قال ابن عمر رضي الله عنهما: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ)(رواه البخاري ومسلم)، وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ)(رواه أبو داود وابن ماجة بسند حسن) وهي شكرٌ لله على إتمام الصيام والأعمال الصالحة.

ويجب على المسلم إذا كان يجد ما يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته أن يخرجها عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجة وأولاد وسائر من ينفق عليهم, ويستحب إخراجها عن الجنين الذي نفخت فيه الروح.
ووقت إخراجها من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد, ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين، والمستحب إخراجها بعد صلاة الفجر يوم العيد وقبل صلاة العيد, ولا يجوز تأخيرها بعد العيد ولا يجوز إخراج القيمة بدلاً عنها.
أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الأعمال، وأن يجعلنا ممن أعتق الله رقابهم من النار، وأن يمن علينا وعليكم بسكنى جنات النعيم.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 24-9-1434هـ