خطبة بعنوان: (شرح حديث “الثلاثة نفر الذين آواهم الغار” -2-) بتاريخ 16 /10 /1434هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فيأيها المنؤمنون والمؤمنات {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
عباد الله: سبق أن أشرنا في الخطبة السابقة إلى القسم الأول من حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وهو الرجل الذي جلس طول الليل باللبن على رأس والديه حتى قاما فسقاهما وسقى صبيته.
ونكمل هذا اليوم القسمين الباقيين فنقول:
وقال الثاني: (اللَّهُمّ! إِنِّي كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِئَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تَفُضَ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرِجْ لَنَا مِنْهُ فُرْجَةً، فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً،..).
فهذا الرجل تعرض لأشد فتنة في حياته، فهو يحب ابنة عمه، ويريدها لنفسه، وقد راودها ومنّاها بما تريد، وهي تأبي خوفاً من الله تعالى، ولكن المصائب إذا حلّت تغيرت معها الأحوال، فأصابتها فاقة، فلما علم بحاجتها أتاها بما تريد، ولما قعد منها مقعد الرجل من امرأته تذكرت عظمة الله، وانتابها الخوف منه، فنطقت بأعظم كلمات من امرأة مؤمنة مذكرة له بالله، وقالت (اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه)، فقام عنها، وترك لها الذي أعطاها إياه.. ووقف إيمانه ومخافته من الله دافعاً إلى ترك تلك الفاحشة العظيمة.. فتذكر هذا الموقف وهو في تلك الشدة والمحنة التي أصابته هو ومن معه في الغار، فدعى ربه متيقناً بأنه لا يضيع عباده أبداً.. فاستجاب له، وتحركت تلك الصخرة شيئاً قليلاً لا يستطيعون الخروج منه..
فأين هذا من هؤلاء الذين يسعون بأقدامهم وأموالهم إلى تلك الفاحشة النكراء، وأولئك الذين يفاخرون بتلك المعصية، ويجاهرون بها ألا يخافون من ربهم العظيم القادر على سلبهم نعمة العافية ونعمة المال، بل نعمة الحياة.
إخوة الإيمان: وقال الثالث فيقولُ: (اللَّهُمَّ! إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلُهُ، قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ، فَتَرَكَهُ، وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، فَجَاءَنِي، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تَظْلِمْنِي، أَعْطِنِي حَقِّي، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَخُذْهَا، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، لا تَهْزَأْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لا أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، فَأَخَذَهَا، فَذَهَبَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْهَا! فَفَرَجَهَا عَنْهُمْ).
لقد توسل هذا الرجل بما قام به مع هذا العامل الذي استأجره وحدد له ما يعطيه أجرة على عمله، ولكن العامل ذهب وترك حقه، فقام بحفظ حقه، وثمَّره له حتى أصبح مالاً عظيماً، فلما جاءه الأجير بعد غيبة طويلة ليطالب بهذا الأجر القليل، أراه ثمرة أجره، وادٍ بين جبلين فيه من أنواع الإبل والبقر والغنم، وعليهما راع يقوم عليهما، فلم يصدق العامل نفسه، وظن أنه يسخر منه، ولكنه أخبره أنه قام على حقه حتى أصبح كما يرى، فأخذ هذا الأجير كل هذا المال الذي نتج عن حقه، ولم يترك منه شيئاً.. فكان من ثمرة صدقه أن استجاب الله دعائه، فأين هذا الرجل ممن يغمطون حقوق الأجراء، بل ويفرحون بأخذهم لهذا المال، ويحسبون أن ذلك من الفطنة والحذاقة، ألا يعلمون أنهم يخسرون حسناتهم، ويستعجلون عقوبة الله تعالى وأنهم سيقفون مع هؤلاء العمال يوم العرض على الله وسيقتص للمظلوم من الظالم قليلاً أو كثيراً.
هذا هو حال هؤلاء النفر الثلاثة يخرجون من هذه المحنة بعدما لجئوا إلى ربهم ودعوه بصالح أعمالهم، فلم يخزهم، ولم يضيعهم، ولم يتركهم إلى ما هم فيه من الهم والحزن، ولكنه تولاهم، ورعاهم، وفرج عنهم، وتحركت الصخرة بإذنه وقدرته، حتى فُتح لهم باب الغار، فخرجوا منه يمشون سالمين. وصدق الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}(النحل: 128).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات اتقوا الله تعالى: واعلموا أن تقواه طوق النجاة من النار، والفوز بدار النعيم.
عباد الله: ومن الدروس المستفادة من هذا الحديث غير ما ذكرناه في الجمعة الماضية ما يأتي:
1ـ مخافة الله عبادةٌ عظيمة تدفع النقم وتقي الفواحش، لقد كان خوف الرجل من الله هو الذي منعه من الفاحشة فكان ذلك سبباً في انفراج الصخرة.
2ـ ليس كل من سعى للذنب وقعت عليه العقوبة، فقد يحجز الإنسان ورعه وتقواه وخوفه، وحتى لو وقع ثم تاب وندم وصدق مع ربه، فالله جل وعلا وعد بقبول التوبة وتبديل السيئات حسنات.
3ـ قد تلجئ الحاجة الإنسان للوقوع في المحرم ولكن صلة العبد بربه وصدقُ إنابته كفيلٌ بأن يحدث الله في قلبه توبة تكون عاصمة له من الوقوع في المحرم وكفيلةٌ بسد حاجته.
4ـ وجوب محافظة المرء على حقوق الآخرين، وهذا ما صنعه هذا المستأجر حيث حافظ على مال الأجير ونماه له ودفعه له كاملاً.
5ـ الفقر سبب رئيسي لوقوع الفواحش ولهذا حق على أرباب الأموال علاج هذا المرض بأداء ما أوجب الله عليهم من الزكاة ودفع شيء من فضول أموالهم صدقات للمحتاجين.
6ـ في قصص السابقين عظات ودروس، ولذا ينبغي للجيل الحاضر الاطلاع على سيرهم والاستفادة منها للسير في طريقهم ومحاولة اللحاق بهم.
فاحرصوا بارك الله فيكم على الخوف من الله في السر والعلن، وصدقِ الإنابةِ إليه في كل نائبة، وأداءِ حقوق الناس والبعدِ عن المظالم.
أسأل الله تعالى أن يعيننا على كل عمل صالح يرضيه عنا، وأن يتقبل ذلك منا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).
الجمعة: 16 /10 /1434هـ