خطبة بعنوان: (تعظيم الأشهر الحرم) بتاريخ 7-11-1434هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العظيم { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ..}(القصص: 68)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله اختاره ربه واصطفاه على كثير من العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
فيأيها المؤمنون والمؤمنات: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتزودوا ليوم لا ريب فيه وتمسكوا بالعروة الوثقى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}(آل عمران).
عباد الله: لقد خصّ اللّه جل وعلا من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حُرماً، وشرّفهنّ على سائر الشهور، وجعل الطاعة فيهن لها عظيم الأجر والثواب، وحذر من الذنوب والمعاصي وتوعد من يقع فيها بأليم الإثم والعقاب، قال الله جل وعلا:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة: 36).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن حول هذه الأشهر وأنها: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم: ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان)(واللفظ للبخاري).
وأكد حرمة شهر ذي الحجة فقال في حجة الوداع: (أي شهر هذا؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (شهر حرام)، قال: (فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)(رواه البخاري).
وذكر القرآن الكريم حرمة شهر ذي القعدة، وذلك في قوله تعالى:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}(البقرة)، وهذه الآية نزلت في حبس قريش للمسلمين عام الحديبية عن البيت في شهر ذي القعدة الحرام، فاعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء في السنة التالية في شهر ذي القعدة.
وسمي رجب بمضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الذي بين جمادى وشعبان) ليرفع ما وقع في اسمه من الاختلال.
وهذه الشهور الحرم كانت العرب تحرمها في الجاهلية، وسبب ذلك هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهراً ليتمكنوا من السير إلى الحج، ويسمونه ذو القعدة لقعودهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذا الحج وفيه أداء مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهراً ليعودوا إلى ديارهم، وحرموا شهر رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت وأداء العمرة، فيأمن قاصد البيت الغارة فيه.
والظاهر أنها سميت حُرُماً؛ لأن الله حرَّم فيها القتال بين الناس، كما قال الله جل وعلا:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ }، فدل ذلك على أنه محرّم فيها القتال، وذلك من رحمة الله لعباده حتى يسافروا فيها ويحجوا ويعتمروا.
عباد الله: ومن خصائص الأشهر الحُرُم:
* تحريم القتال فيهن: قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، فقد كان القتال في الأشهر الحُرُم محرماً في الجاهلية قبل الإسلام ، فكانت الجاهلية تعظمهن وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه أو أخيه تركه.
وقد اختلف العلماء هل حرمة القتال فيها باقية أو نسخت؟ والراجح أنها باقية ولم تنسخ وأن التحريم فيها باقٍ ولا يزال.
* تحريم الظلم فيهن: قال الله جل وعلا:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ }، فالظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يُعَظِّمُ من أمره ما يشاء.
* عظم العمل الصالح فيهن: ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “خصَّ الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حُرماً، وعظّم حرماتهن، وجعل الذنبَ فيهن عظيماً وللعمل الصالح الأجر العظيم” .
عباد الله: لقد اشتملت هذه الأشهر الحرم على فضائل وعبادات ليست في غيرها، ومن ذلك:
* أولاً: العشر من ذي الحجة: فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ــ يعني أيام العشر). والسبب في تميز هذه العشر لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج.
* ثانياً: فريضة الحج: قال الها جل وعلا:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}، قال ابن عمر رضي الله عنهما: هي: “شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة”.
* ثالثاً: يوم عرفة: ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً فهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران. وروى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
* رابعاً: يوم النحر : وهو أفضل أيام العام كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القَرِّ)(رواه أحمد وأبو داود)، لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره.
* خامساً: أيام التشريق: لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله).
* سادساً: شهر الله المحرم: لما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
* يوم عاشوراء: لما رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة: 36).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن كل واحد منا موقوف بين يدي الله، فمن اتقاه وعمل بما يرضيه نال رضاه وجنته، ومن أعرض عنه وعصاه نال سخطه وعقابه.
عباد الله: أيام أعمارنا تمر بنا وتمر معها تلك الأشهر الفاضلة، والتي ربما لا يشعر الكثير منا بمكانتها وقيمتها، فعلينا أن نعظم تلك الشهور وأن نجتهد فيها بالعمل الصالح الرشيد، وأن نستغل فرصة العمر من أجل التزود بالحسنات، فالموت يقطع الإنسان عن العمل، وإذا نزل بالمرء الموت وعاين أمور الآخرة تمنى لو أنه رجع ليعمل صالحاً.
عباد الله: احذروا من البدع التي يقع فيها بعض المسلمين في تلك الشهور وغيرها، ويأتون بما لم يرد في الكتاب والسنة، فأمر البدع عظيم وشرها مستطير، فقد قال الله جل وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}(الشورى:21). وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)، وفي رواية (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(متفق عليه).
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بقوله:(فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)(رواه أحمد، وابن ماجة، وأبو داود، والترمذي).
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يوفقنا وإياكم لكل ما يحب ويرضى.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 7-11-1434هـ