خطبة بعنوان: (مشاهداتي في حج 1434هـ) بتاريخ 20-12-1434هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(النساء:1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(الأحزاب: 70، 71)، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل ضلالةٍ في النار.

عباد الله: لقد منَّ الله جل وعلا على عباده بموسم عظيم، تغفر فيه الذنوب، وتذوب فيه الألوان والأجناس، وتتجمع فيه القلوب والأبدان، ويلبي الجميع التوحيد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)..

ترى وفود الحجيج في المواقيت والطريق إلى مكة ملبية، قد خلع كل واحد منهم لباس الدنيا، تاركاً أهله وماله وأعماله، مُيمِّمين وجوهم قبل بيت الله العتيق، راغبين فيما عند الله، راجين موعودَ الله وجزيلَ ثوابه، مستقبلًين طاعةً من أجلّ العبادات وركناً من أركان هذا الدين العظيم.

إن حجّ بيت الله الحرام بابٌ من أعظم أبواب مغفرة الذنوب والآثام، قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: (أما علمتَ أنّ الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأنّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله؟!)(رواه مسلم)، وقال أيضاً:(من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجَع كيوم ولدته أمه)(متفق عليه)، ويترتب على هذا الحج أن يفوز العبد بجنات النعيم، قال صلى الله عليه وسلم: (الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)(رواه مسلم).

عباد الله: ومن خلال مشاهداتي لحج هذا العام 1434هـ رأيت مواقف وعبراً، ولتمام الفائدة يحسن ذكرها هنا، ومن ذلك:

1ـ مشهد الحجيج وقد أتوا من كل فج عميق على اختلاف أجناسهم، وأعمارهم وطبقاتهم، وألوانهم وبلدانهم، وقد بذلوا الغالي والنفيس، وقطعوا المسافات الشاسعة، وتجشموا عناء السفر الطويل، في سبيل الوصول لهذا المكان الطاهر لأداء تلك الشعيرة العظيمة وتحصيل الأجر والمثوبة المترتبة عليها.

2ـ مشهد أفواج الحجيج في المواقيت وهم يخلعون المخيط ويتجردون منه ويلبسون الرداء والإزار يتذكرون بذلك لباس الموتى بعد الرحيل، وفي ذلك إرشادٌ للعباد بالتواضع وترك الكبر وأن الإنسان لابد راحل عن هذه الدنيا فليقدم ما شاء فإنه مجزيٌ به.

3ـ الإخلاص شعار الحجّيج فالكل جاء ابتغاء وجه الله ملبين نداءه، مرددين (لبيك اللهم لبيك، لبّيك لا شريك لك لبيك،إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). وحري بمن كان هذا حاله أن يتقبله الله وأن يرده غانماً إلى أهله .

4ـ إن من أعظم ما يتمناه كل مسلم على وجه هذه الأرض أن يرى بيت الله الحرام، فهي أمنية غالية، وكم رأيت من المسلمين الذين جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها وهم ينظرون إلى البيت العتيق نظرة حب واشتياق غير مصدقين أنهم واقفون أمامه ويطوفون حوله، وقد ذرفت دموعهم شكراً لله أن مكنهم من زيارته ورؤيته.

5ـ حِرْصُ الكثير من المسلمين على التقيد بالسنة عند أدائهم لمناسكِ الحجّ، استجابة لأمر ربهم جل وعلا:{وَمَا آتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(الحشر: 7). وأمرِ نبيهم صلى الله عليه وسلم القائل في سنته:(خذوا عنِّي مناسككم).

6ـ يومُ عرفةَ يومٌ عظيم مشهود، ترى فيه من الإيمانيات والرحمات والبركات ما لا تراه في يومٍ غيره، يقف فيه المسلمون منيبين ذليلين خاشعين، فمنهم المصلي، ومنهم الذاكر، ومنهم المتضرع، ومنهم الباك، ومنهم الداع، كل هؤلاء يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.

7ـ إن ذكر الله وسيلةٌ لحياة القلوب وتزكية النفوس وتهذيبها، وهو مقصد من أعظم مقاصد الحج، قال الله جل وعلا:{لّيَشْهَدُواْ مَنَـافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ}(الحج:28)، وقال صلى الله عليه وسلم:(إنما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)(رواه الترمذي). ومن أعجب ما رأيت تلك الألسن الأعجمية التي لا تستطيع نطق العربية وهي تذكر الله مكبرة مهللة مسبحة مستغفرة، فرحة مسرورة مستبشرة لا تمل ولا تكل، فما أعظم حق الله على عباده، وما أجله في قلوب هؤلاء العباد الذين أتوه ملبين منيبين.

8ـ ومن المظاهر الرائعة مما شاهدناه في حج هذا العام ما قام به رجال الأمن والمرور والجوازات والدفاع المدني وسائر الجهات المعنية بشؤون الحج من جهد عظيم في تنظيمه وتسهيل تنقلات الحجاج وسلامتهم ووصولهم إلى مقاصدهم بيسر وسهولة.

9ـ وكذا ما رأيناه في يوم عرفة من يسر التصعيد وتفويج الحجاج، وترتيب أماكن السيارات والحافلات، ووضع العلامات والأسماء والاتجاهات وانتشار رجال الكشافة لتحقيق أكبر قدر من السهولة واليسر للحجاج، وهكذا الحال في النزول إلى مزدلفة.

10ـ وبعد المبيت بمزلفة وعند توجه الحجاج لرمي جمرة العقبة ترى عشرات الآلاف يسيرون على أقدامهم في يسر وسهولة في منظر مهيب، ودون عناء أو مشقة.

11ـ وبعد ذلك ترى تلك الجموع العظيمة تتجه إلى الحرم في يسر وسهولة لأداء طواف الإفاضة والسعي لمن لم يسع عند القدوم، وترى رجال الأمن في كل مكان ييسرون على الحجاج طريقهم، ويسهلون لهم الصعاب، ويدلونهم على الاتجاهات الصحيحة، بل رأيت بعيني رجال الأمن وهم يعينون الضعيف ويساعدون العاجز، ويدفعون العربات في الأماكن الصعبة مساعدة للناس، فجزاهم الله عنا خيرا.

12ـ ومما شد انتباهي أيضاً: انضباط مواعيد القطارات بين المناسك حيث لا تأخذ المسافة بين المناسك إلا بضع دقائق فقط، وذلك بحسب التفويج للحجاج الذي تقوم به الجهة المختصة.

13ـ ومن المشاهد الجميلة والرائعة ذلك التعامل الراقي من رجال الأمن ــ وفقهم الله وسددهم ــ حيث شاهدنا نماذج رائعة، فمنهم من يساعد الضعيف والمحتاج، ومنهم من يدل الحائر، ومنهم من يوسع الطريق للسائرين، وكل ذلك وهم يحملون على وجوههم ابتسامة الرضا والرحمة، بل ويعتذرون أحياناً إذا صدر منهم شيء بكل أدب وتواضع، فالحمد لله الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه.

14ـ ومن ذلك أيضاً المتابعة الجادة والحازمة لكافة الجهات المسئولة حيث تكررت زيارة المسئولين عن الحج لكثير من الحملات وإعداد التقارير اللازمة عن التزامها بالشروط والضوابط التي وضعت لها.

15ـ عامة الحجاج والزوار يلهجون بالثناء والدعاء لولاة أمر هذه البلاد على هذه التسهيلات العظيمة، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}(العنكبوت: 67).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، فمن أحسن فله الحسنى وزيادة، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه.

عباد الله: لقد سرنا كثيراً ما صرح به المتحدث الأمني بوزارة الداخلية بأنه عطفاً على ما يثار في شبكات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام من دعوات لتجمعات ومسيرات محظورة بدعوى قيادة المرأة للسيارة، وحيث أن الأنظمة المعمول بها في المملكة تمنع كل ما يخل بالسلم الاجتماعي ويفتح باب الفتنة ويستجيب لأوهام ذوي الأحلام المريضة من المغرضين والدخلاء والمتربصين،
لذا فإن وزارة الداخلية لتؤكد للجميع أن الجهات المختصة سوف تباشر تطبيق الأنظمة بحق المخالفين كافة بكل حزم وقوة وتقدر في الوقت ذاته ما عبَّر عنه كثير من المواطنين من أهمية المحافظة على الأمن والاستقرار والبعد عن كل ما يدعو إلى فرقة وتصنيف المجتمع.

أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وعلماءنا وولاة أمرنا واجتماع كلمتنا، وأن يكفينا شر الأشرار ومكر الفجار، وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56).

الجمعة: 20-12-1434هـ