خطبة بعنوان: (الحسد وخطورته على الفرد والمجتمع -1-) بتاريخ 30-3-1435هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء: 1).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب: 70، 71)
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لقد حث الله جل وعلا عباده على محاسن الأخلاق، ونهاهم عن مساوئها، حتى تستقيم لهم حياتهم، وتسعد أيامهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا ــ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ــ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)(رواه مسلم).
ولقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لإتمام صالح الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)(رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد).
والناس على اختلاف عقائدهم ومشاربهم وجنسياتهم يحبون محاسن الأخلاق، ويألفون أهلها، ويبغضون مساوئ الأخلاق، وينفرون من أهلها.
وعلى الرغم من ذلك إلا أن بعض المسلمين ــ هداهم الله ــ قد فرطوا كثيرا في هذا الجانب، فساءت أخلاقهم، وكثرت المشاكل والخلافات بينهم، فظهرت العداوة والبغضاء في حياتهم، وشاعت مظاهر الحقد والحسد بين صفوفهم. فأصبحوا في المجتمع الواحد متنافرين، متباغضين .
عباد الله: ومن مظاهر سوء الخلق التي نهى الشارع الحكيم عنها صفة الحسد، وهو تمني زوال النعمة عن الغير. كأن يرى الرجل لأخيه نعمة أو فضلاً فيتمنى أن تزول عنه وأن تكون له دون أخيه، وهو مرض عظيم، وخلق ذميم، من النادر أن يسلم منه أحد ــ إلا من رحم الله ــ، وذلك لأن الإنسان يكره أن يفوقه أحد في شيء.
وهو داء خبيث حذر منه الله جل وعلا في كتابه في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..}(النساء: 54).
ومن السنة أيضاً ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)(رواه البخاري ومسلم، واللفظ له).
الحسد داء عضال، وسم قاتل، وخلق ذميم يُفسد الدين، ويضر بالبدن، وهو من أعظم الأسباب الموجبة للاختلاف والفرقة. ولا يسلم منه إلا من سلَّمه الله جل وعلا. ولهذا قيل: ” ما خَلا جَسدٌ مِنْ حَسد، ولكنَّ اللئيمَ يُبدِيهِ والكَريمَ يُخْفِيهِ”.
وقد أمر الله تعالى عباده بالاستعاذة منه، كما في قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(الفلق: 5).
فهو بالنفسِ مُضرٌ، وعلى كثرةِ الهمِّ مُصر، وربما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدو ولا إضرار بمحسود.
ولو نظر كل واحد منا عما يحدث بين الأقارب، أو بين العاملين في مكان واحد، أو إدارة واحدة، أو مهنة واحدة، أو بين الجيران وأمثالهم من الخصام والهجر، والنزاع والشقاق، ومن الغيبة والنميمة، ومن الشماتة عند المصيبة، والفرحة عند نزول البلاء، لوجدت أن السبب الأعظم الذي يكمن وراء ذلك كله هو الحسد.
وها هو إبليس، قد حسد آدم لما رأى أن الله جل وعلا خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه أسماء كل شيء، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أُخرج منها.
والحسد هو الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه ظلمًا وعدواناً، لما رأى أن الله تعالى فضَّله عليه وتقبل قربانه.
والحسد صفة ذميمة من صفات اليهود كما ذكر الله في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوة والمنزلة العظيمة، فكفروا به مع علمهم بصدقه وتيقنهم أنه نبي الله. وحسدوا هذه الأمة على ما منَّ الله به عليها من الهداية والإيمان.
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(دبَّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين..)(رواه الترمذي).
قال عمر رضي الله عنه:”ما كانت نعمة الله على أحد إلا وجَّه لها حاسداً”.
وقال معاوية رضي الله عنه:”ليس في خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود”.
وقال أيضاً: “كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها”.
وقال الحسن رحمه الله:”يا ابن آدم لم تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه، فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار”.
وقال ابن سيرين رحمه الله:”ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده وهي حفيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار”.
والحسد يا عباد الله نوعان؛ حسد مذموم وحسد محمود:
فأما الحسد المذموم: فالمقصود به أن يرى الإنسان نعمة على إنسان آخر فيكره ذلك ويتمنى زوالها عنه وانتقالها إليه. وهذا النوع من الحسد ذَمَّه اللَّه وحَرَّمه في كتابه، وحذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة كما ذكرنا ذلك آنفاً.
والحسد له مراتب في قلب من يحسدون الناس، ومن ذلك:
1ــ يتمني زوال النعمة عن الغير .
2ــ يتمنى زوال النعمة ويحب ذلك وإن كانت لا تنتقل إليه .
3ــ أن يتمنى زوال النعمة عن الغير بغضاً لذلك الشخص لسبب شرعي كأن يكون ظالماً .
4ــ ألا يتمنى زوال النعمة عن المحسود ولكن يتمنى لنفسه مثلها ، وإن لم يحصل له مثلها تمنى زوالها عن المحسود حتى يتساويا ولا يفضله صاحبه .
وأما الحسد المحمود: فالمقصود به أن يرى الإنسان نعمة على غيره، فيتمنى أن يكون له مثلها دون أن يكرهها أو يتمنى زوالها عن ذلك الغير. وهذا ما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتى فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل أتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل)(البخاري).
وهذا النوع من الحسد المحمود يسمى بالغبطة أو المنافسة، وقد حث الله تعالى عباده على ذلك فقال:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الحديد:21).
وقال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين:26).
وقد أثنى الله جل وعلا على الأنصار لأنهم لا يحسدون أحداً على نعمة أنعم الله بها عليه، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر: 9 ).
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي أولاكم إياها، وتذكروا حكمته في الإعطاء والمنع، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. عسى الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً }(النساء: 54).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: اعلموا أن من الأسباب التي تؤدي إلى الحسد، ما يلي:
1ـ قلة التقوى، فهو السبب الرئيس في حصول الحسد: لأن العبد المؤمن التقي يعلمُ أن الله تعالى قسم الأرزاق بين عباده كيفما شاء، فيعطي مَنْ يشاء ويمنع عمن يشاء برحمته وحكمته البالغة، فيحصل له بذلك الرضا التام والقناعة الكاملة بما قسم الله له، ويعلم أن حسده لأخيه المسلم من الأعمال المحرمة فيكفّ نفسه عن الحسد، أما غيره من ضعاف الإيمان فهؤلاء عرضة لأن يقعوا في هذا الذنب العظيم.
2 ــ الغيرة من الأقارب والإخوان والأصحاب ونحوهم، وهي غيرة مذمومة توقع المسلم في الحسد، كما هو الحاصل بين كثير من الناس لبعضهم لبعض.
3ــ الحقد على بعض الناس، كمن يكره رجلاً ما ، سواء كان قريباً أو جاراً أو نحو ذلك، فبسبب هذه الكراهية يحسده على ما آتاه الله من النعمة، لاسيما إذا كان هو محروماً منها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى في النفس، فيحمله ذلك الهوى على أن يعتدي عليه ويرد ما يقول بكل طريق وهو في قلبه يعلم أن الحق معه”(مجموع الفتاوى 3/19).
4ــ الكبر والعُجْبُ: فبسببهما يقع الحسد بين الناس، وها هو إبليس لما استكبر عن السجود لآدم كان منشأ ذلك أنه حسد آدم وزوجه على هذه المنزلة العظيمة التي وهبهما الله إياها، فاستكبر عن السجود حسداً لآدم عليه السلام.
5ــ التنازع والتنافس على مقصود واحد: فإذا تحقق المقصود لأحد المتنازعين حسده الآخرون كما في قصة إخوة يوسف حال تنازعهم على حب أبيهم. قال تعالى عنهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 7).
6ــ التعزز والترفع: كحسد كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا عنه: يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي. وها هو أبو جهل يقول للأخنس بن شريق: “تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطو فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان: قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ فوالله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه” .
7ــ حب النفس وتمني الخير لها دون الآخرين.
فاحذروا بارك الله فيكم من أن يكون في قلب أحد منا شيء مما ذكر كي يسلم قلبه، وتطمئن سريرته، وترتاح نفسه. وسوف يكون لنا حديث آخر في الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى عن آثاره وأضراره وكيفية علاجه، وفقنا الله وإياكم لكل خير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة:30-3-1435هـ