137 – بحوث ومقالات في التحذير من الإرهاب

الثلاثاء 25 رجب 1445هـ 6-2-2024م

137- بحوث ومقالات في التحذير من الإرهاب – pdf

 

 

بحوث ومقالات

في التحذير من الإرهاب

 

تأليف

أ. د/ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

مفوض الإفتاء في منطقة القصيم

 

 

الطبعة الأولى

1445هـ  ـــ 2023م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:

فإن ديننا الإسلامي الحنيف هو دين التسامح، ينبذ العنف والإرهاب، ويأمر بالرفق والإحسان والرحمة والعدل بين جميع الملل والطوائف ممن لا يدين به، بغض النظر عن الجنس، أو اللون، أو اللغة، أو الدِّين، أو غير ذلك.

هذه هي حقيقة دين الإسلام، الحقيقة النابعة من جوهره ومثله العليا، بل هي سمة لازمة لعقيدته وشريعته وأخلاقه ومبادئه وقيمه وهديه وتعاليمه وآدابه، التي انطلق منها حمَلة الإسلام في شتى مجالات الحياة على مر التاريخ، يدعون إلى الإسلام بأخلاقهم وأفعالهم وأقوالهم دون تشدد وعنف، بل بالرفق واللين والرحمة والعدل، ونتيجة لذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً من كل الفئات، والشرائح، والأجناس يقبلون عليه، ويعتنقونه ظاهراً وباطناً.

لكن سرعان ما بعُد الناس عن نور الوحيين، وتركوا ما كان عليه سلفهم الصالح من هذه الأخلاق الفاضلة، فأصيبت الأمة من قبل بعض المنتمين إليها، وذلك من خلال التشدد المذموم، والتضييق في المفهوم، بدعوى الحرص على سلامة الدين، والحفاظ عليه، فأفرز هذا المسلك ظاهرة (الإرهاب)، الظاهرة التي تقوض دعائم الأمن والاستقرار، وتعيق التنمية في كل مجالاتها المختلفة، فضلاً عن أنها تؤدي إلى إزهاق الأرواح البريئة، وإفساد مقدرات الأمة، وتدمير الممتلكات والمكتسبات، ونشر الشائعات، وإخافة الآمنين، وزعزعة الاستقرار.

ونتيجة لهذه الظاهرة المقيتة لابد من العمل الجاد والتصدي لها من جميع مكونات الدول، من حكومات، وشعوب، وأفراد، التصدي لها بكل الوسائل والسبل التي يمتلكها القادة، والمفكرون، والباحثون، فالتصدي لها واجب على الأمة، كل حسب قدرته، وإمكانياته.

 ومن هذا المنطلق ومنذ فترة بعيدة وأنا أكتب في هذه القضية – نظراً لما يترتب عليها من الفساد العريض على البلاد والعباد – لا سيما عند بوادر الفتن والأفكار المنحرفة وظهور نبتة التكفير، فاجتمع عندي مجموعة علمية بين بحث في مؤتمر، أو لقاء، أو مقال في صحيفة، أو خطبة جمعة حول قضايا الإرهاب، فاقترح عليَّ بعض الإخوة أن تُجمع هذه الأبحاث والمقالات والخطب في كتاب واحد ليسهل اقتناؤها نظراً لكثرة الحاجة إليها. فاستحسنت الفكرة وجمعت ما كتبته حول هذا الموضوع، وأعددته للطباعة بعد مراجعة موضوعاته وتعديل ما رأيت تعديله.

وأخيراً: أسأل الله سبحانه وتعالى أَن ينفع بهذا الكتاب؛ كما أسأله تعالى أن تكون أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون ذخراً لي عنده يوم ألقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

                                                                              الزلفي في:  1 /9 /1444هـ

 

 

 

 

أولاً: الأبحاث والرسائل

 

 

 

أثر العلماء والخطباء

في مواجهة فكر التطرف “الإرهاب”

بحث مقدم إلى مؤتمر “الإرهاب بين تطرف الفكر وفكر التطرف”

المقام بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1431 هـ

 

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: 

فمعلوم أن الحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا وافقت شريعة الله تعالى وعملت بها، فليس للبشر حول ولا قوة في تنظيم تلك الحياة عن طريق الأنظمة والأعراف التي ربما تكون ضارة أكثر من كونها نافعة؛ لأن رب البشر أعلم بعباده من حيث ما يصلحهم وما يفسدهم، فنظام الحياة البشرية إذا اختل حصل الإضرار بالضرورات الخمس التي لا غنى للبشر عنها وآلت أحوال الأمة إلى الفساد وحادت عن طريق الجادة الذي أراده لها المولى جل وعلا.

وقد جاء الحث على الاتباع والتمسك بالكتاب والسنة وعدم الزيغ عنهما، وعدم الغلو في الدين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ([1])، وقال ﷺ: (تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما: كتابَ اللهِ، وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوضَ.)([2])، وقال: ” فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ”([3])، وقال أيضاً:”إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ”([4]).

والاهتمام بإصلاح النفس البشرية أمر ضروري، فبصلاح النفوس يحصل الخير وبفسادها يحصل عكس ذلك، وبصلاح الفكر عند المسلمين يجتمع الشمل ويضعف التفرق، وتقل الفرق الخارجة عن الإسلام، فتوحد الكلمة لا يتأتى إلا بتوحد الأمة في عقيدتها وفكرها، وما حصل من التشتت والتفرق وحصول الشر من بعض الفرق والجماعات إنما كان بسبب البعد عن المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية، فوجب على المسلمين التمسك بالعقيدة الصحيحة الخالية من الشوائب، والتزام السنة في كل نواحي الحياة، ولا نجاة لهم جميعاً إلا بذلك.

وقد اخترت موضوع هذا البحث حول (أثر العلماء والخطباء في مواجهة فكر التطرف ـ الإرهاب ـ)؛ لأن تلك الفئة الهامة من العلماء والخطباء قد تحملوا أمانة التبليغ لشرع الله، وهم الموجهون لدفة الخير في سائر المجتمعات الإسلامية، السائرون على درب الأنبياء والمرسلين، وهم الذين لهم الأثر القوي في التوجيه المعنوي لفئات المجتمع، المستطيعون ـ بعد فضل الله وتوفيقه ـ إيضاح المبهم من أمور الشرع، ومعالجة التطرف والغلو والعنف والأفكار الشاذة والإرهاب بصوره المتعددة في كثير من بلدان العالم، والتنبيه على خطورة تلك الأفكار الدخيلة وسلبياتها وأضرارها على الأمة، وتنبيه المعرضين عن صراط الله المستقيم.

وهذا البحث الذي بين أيدينا أردت به إيضاح أهمية جهود تلك الفئة في إصلاح ما فسد من بعض أفرادها، والتوجيه بضرورة توحيد الكلمة والصف في مواجهة تلك الأفكار الدخيلة على الأمة من جهة أعدائها في الداخل والخارج.

وقد جاء البحث في مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة، وذيلته بالفهارس للمصادر والموضوعات، وتفصيل ذلك كالتالي:

المقدمة:

المبحث الأول: مصطلحات تحتاج إلى إيضاح حول الفكر المتطرف، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: معنى التطرف، وأسبابه وأدلته.

المطلب الثاني: معنى الغلو، وأسبابه وأدلته.     

المطلب الثالث: معنى الإرهاب، وأسبابه وأدلته.

المطلب الرابع: معنى العنف، وأسبابه وأدلته.

المبحث الثاني: الوسطية وأهميتها في الإسلام، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: معنى الوسطية وما يتعلق بها.                                      

المطلب الثاني: قيام كيان المملكة العربية السعودية على الوسطية.

المطلب الثالث: أثر الوسطية في محاربة فكر التطرف.

المبحث الثالث: الجهود المبذولة قديماً وحديثاً في محاربة فكر التطرف، وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: جهود السلف في محاربة فكر التطرف والغلو.          

المطلب الثاني: جهود أئمة الدعوة في محاربة فكر التطرف والغلو.

المطلب الثالث: جهود العلماء سابقاً ولاحقاً في محاربة فكر التطرف والغلو.

المطلب الرابع: جهود الخطباء في محاربة فكر التطرف والغلو.

المطلب الخامس: جهود وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في محاربة فكر التطرف.

الخاتمة.                  

فهرس المصادر والمراجع.                        

فهرس الموضوعات.

وأسأل الله جل وعلا الذي امتن عليَّ بكتابة هذا البحث أن يطرح البركة فيه، وأن ينفع به كاتبه، وقارئه، والمطلع عليه، وسائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما كان فيه من توفيق وصواب فمن الله وحده، وما كان فيه من تقصير وزلل فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان.

وأشكر الجامعة الإسلامية على عقد هذا المؤتمر الهام، وأسأل الله أن يخرج بثمرات عملية تساهم في محاربة هذا الفكر والوقوف في وجهه.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سورة آل عمران: الآية 103.

([2]) رواه الحاكم (319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2937).

([3]) رواه أبو داود (3991)، والترمذي (2600)، وابن ماجه (42)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/37).

([4]) رواه النسائي (3007)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (1283).

 

 

المبحث الأول

مصطلحات تحتاج إلى إيضاح حول الفكر المتطرف

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: معنى التطرف، وأسبابه وأدلته.

التطّرف: لغة: هو تفعَّل ـ بتشديد العين- من طرف يطرف طَرَفاً بالتحريك، وهو الأخذ بأحد الطرفين والميل لهما: إما الطرف الأدنى أو الأقصى([1])، ومنه أطلقوه على الناحية وطائفة الشيء. وقال ابن منظور: “تطرف الشيء صار طرفًا.. وتطرفت الشمس أي دنت للغروب” ([2]).

وفي الشرع: جاء في القرآن الكريم:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}([3]). قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:{وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ} أي من ساعاته فتهجد به. وحمله بعضهم على المغرب والعشاء، وأطراف النهار في مقابلة آناء الليل”([4]).

وفسَّر المراغي قوله تعالى:{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} بقول الرسول ﷺ: (‌لَنْ ‌يَلِجَ ‌النَّارَ ‌أَحَدٌ ‌صَلَّى ‌قَبْلَ ‌طُلُوعِ ‌الشَّمْسِ، وَلَا قَبْلَ غُرُوبِهَا) ([5]) ([6])، يعني صلاتي الفجر والعصر.

والتطرف يصدق على التسيب، كما يصدق على الغلو، وينتظم في سلكه الإفراط ومجاوزة الحد، والتفريط والتقصير على حد سواء؛ لأن في كل منهما جنوحاً إلى الطرف وبعداً عن الجادة والوسط.

فالتقصير في التكاليف الشرعية والتفريط فيها تطرف، كما أن الغلو والتشدد فيها تطرف؛ والإسلام دين الوسط والوسطية. قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين}([7])، وقال:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}([8]).

والمفهوم الدارج للتطرف في وقتنا الحاضر: هو الغلو في عقيدة، أو فكرة، أو مذهب، أو غيره يختص به فرد، أو جماعة، أو حزب.

والتطرف يُوصف به بعض الطوائف من المسلمين كالخوارج، وغيرهم من الفرق التي شذت عن وسطية الإسلام، وكذلك سائر طوائف اليهود والنصارى وغيرهم.

وقد وردت بعض المصطلحات المرادفة للتطرف كالغلو والتشدد والتنطع والتعسير فهي تحمل نفس دلالاته وترمي إلى نفس مفهومه.

ومن المعلوم أن التطرف بعيدٌ عن الوسطية ونقيضٌ لها، والقرآن الكريم أشار إلى الوسطية لكونها إحدى الخصائص العامة والهامة للإسلام والتي تعتبر أبرز معالمه الأساسية التي ميز الله تعالى بها أمة الإسلام عن غيرها من الأمم. قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}([9]).

فأمة الإسلام أمة العدل والاعتدال والوسطية، وهي التي يكون لها شرف السبق حيث تكون يوم القيامة شاهدة على سائر الأمم.

وقد ظهر على مستوى وسائل الإعلام العالمي في شرقه وغربه مصطلح (التطرف الديني)، فما المقصود به؟

هذه الكلمة قد أطلقتها بعض الجهات التي تواجه الإسلام وتحاربه من الخارج والداخل واستغلت تلك الجهات الأخطاء التي وقع فيها بعض أفراد الأمة من قتل وترويع وتفجير فقامت بتدبير مكائد ومؤامرات أخرى لكي يستطيعوا إيجاد حالة من الرعب والخوف والإرهاب الفكري المناقضة لتوجيهات الإسلام وجعلها سبيلاً للقدح في دين الله تعالى والعمل على ضرب الدعوة إلى الله والتشكيك فيها، حتى أصبح الملتزمون بدين الله والعاملون بأوامره ونواهيه يعدون متطرفين.

ومن شدة تلك الحرب ضد كل ما هو إسلامي تأثر الكثير من أبناء أمة الإسلام بغلبة الجهل عليهم وبالغزو الفكري الذي حمل بين طياته شتى صور التقاليد الغربية وأفكارها الشاذة فأصبحوا يرون المتمسكين بمظاهر الإسلام في سائر نواحيه أنهم هم المتطرفون والمتعصبون، حتى أصبح الرجل الذي يطلق لحيته، والمرأة التي تلتزم بحجابها الشرعي من المتطرفين في الدين.

ومن أسباب التطرف التي حصلت لكثير من الأفراد والجماعات والدول، ما يأتي:

أولاً: الخروج عن حيز الاعتدال والوسطية التي أمر بها الدين.

ثانياً: الجهل بقواعد الإسلام وآدابه وسلوكه، وقد ذكر النبي  ﷺ أن من علامات الساعة أن يتحدث الرويبضة في شأن العامة والقضايا المصيرية، فالجهل داء عظيم وشر مستطير تنبعث منه كل فتنة عمياء وشر وبلاء.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “كن عالماً أو متعلماً أو مجالساً ولاتكن الرابعة فتهلك، ومنه قوله  ﷺ: (أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ)([10]). وحديث: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)([11])“.

ثالثاً: الجهل بمقاصد الشريعة؛ وقد وقع في ذلك الخوارج، قال ﷺ حينما وصفهم بأنهم: (يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)([12]).

وقال ﷺ:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا)([13]).

رابعاً: القول في دين الله بغير علم؛ فبعض الناس يتقول على الله تعالى في بعض أحكامه الشرعية ظناً منه بصحة ما يقول فيسيء من حيث أراد الإحسان فيترتب على ذلك مفاسد عظيمة، كالذي يريد أن ينكر وجود الكفار في ديار الإسلام فيقوم بتفجير ديارهم ومساكنهم وفيهم من ليس منهم، وكل ذلك من الظلم والعدوان الذي حرمه الله جل وعلا.

خامساً: المغالاة في الحكم على الناس، وقد حذر النبي  ﷺ من ذلك بقوله: ( أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)([14]).

سادساً: تقصير بعض أهل العلم في القيام بواجب النصح والإرشاد والتوجيه مما أظهر تلك الأفكار الشاذة التي حادت بكثير من الشباب عن طريق الجادة.

إلى غير ذلك من الأسباب المتعددة التي أنبتت هذا الفكر، وذلك التطرف.

المطلب الثاني: معنى الغلو، وأسبابه وأدلته.

الغلو لغة: مجاوزة الحد وتعديه. قال الجوهري رحمه الله:”غلا في الأمر يغلو غلواً، أي جاوز فيه الحد” ([15])، وقال ابن منظور رحمه الله :”..وأصل الغلاء: الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء، وغَلا في الدِّينِ والأَمْر يَغْلُو غُلُوّاً جاوَزَ حَدَّه، وفي التنزيل:{لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} ([16]) ([17])، وقال الفيومي رحمه الله: «وغلا في الدين غُلواً من باب قعد وتصلب وتشدد حتى جاوز الحد، وفي التنزيل:{لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} » ([18]).

ومما سبق يتبين أن الغلو في سائر استعمالاته يدل على الارتفاع والزيادة ومجاوزة الأصل الطبيعي أو الحد المعتاد. ومنه ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي  ﷺ قال: (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)([19]).

ومما ورد عن العلماء في معنى الغلو:

ما قاله النووي رحمه الله: “الغلو هو الزيادة على ما يطلب شرعاً”([20]).

وقال ابن حجر رحمه الله: “هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق”([21]).

وقال المناوي رحمه الله: “الغلو تجاوز الحد”([22]). وعلى ذلك فيقال بأن معنى الغلو: تجاوز ما أمر الله تعالى من جهة التشديد.

ومن مظاهر الغلو تشدد الإنسان في تطبيق الأحكام، أو أنه يلتزم جانب الشدة والقسوة في عبادته وسلوكياته، ويزيد فيها على ما بينه الشرع الحكيم، ويخترع وسائل جديدة للعبادة لم يرد لها أصل في الكتاب والسنة.

كما جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَتْ فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا قَالَ: (مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)([23]).

فقد نهى النبي  ﷺ هذه المرأة عن الغلو في العبادة وأن تكلف نفسها عملاً لا تطيقه إذا استمرت عليه، وأمر بإتيان ما يطاق حتى لا يشدد الإنسان على نفسه فيذر العمل.

وأيضاً ما وقع فيه بعض الشباب من تكفير الناس وتفسيقهم، فيقع في الطعن والتضليل وسوء الظن بالمسلمين، ويحسن الظن بنفسه فيهلك، وهذا مصداق قوله ﷺ:(يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)([24]).

والغلو في الدين يعد من أشد أنواع التطرف الذي حاد ببعض الأفراد عن الطريق الذي كان عليه السلف الصالح، وخاصة فرقة الخوارج التي ضربت في صميم الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً، وقاموا بأعمال كثيرة مخالفة للدين وكان أعظمها قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما زالت تلك الفرقة وغيرها من الفرق الخارجة عن وسطية الإسلام تضرب بأطنابها في سائر أنحاء العالم فترى بعض الشباب المتحمس للدين يندفع نحو الغلو والتشدد في كل شيء فلا يصبر ولا يطيق ذلك التغالي والمبالغة فيتراجع وينقص أمر دينه، حتى أثر ذلك على الدعوة إلى الله بين أفراد الأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم الأخرى، وكان من أثر ذلك تصدي كثير من غير المسلمين للوقوف ضدها ووصفها بالإرهاب والتطرف.

والدليل على ذلك ما نراه ونسمعه في شتى وسائل الإعلام القريبة والبعيدة من القدح في كل ما هو إسلامي، حيث يعلنون أن الإسلام دين إرهاب وتطرف وغلو وتشديد.

ومن أدلة ذم الغلو: 

قوله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ}([25]). وقوله تعالى:{ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}([26]).

وقال  ﷺ:(إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ )([27]).

وقال أيضاً: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالهَا ثَلاثًا ([28])، والمتنطعون هم المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ([29]). وقال ﷺ:(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ([30]).(إن الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدْوة والرَّوْحة وشيءٍ من الدُّلْجةِ) ([31])

ومن أسباب الغلو:

أولاً: قلة الفقه في الدين حيث غلب على كثير ممن وقع في الغلو ضعف العلم الشرعي لديهم، أو أخذ العلم على غير نهج سليم، أو تلقيه من غير أهلية ولا جدارة.

ثانياً: الابتعاد عن العلماء الربانيين، وترك التلقي عنهم، وعدم الاقتداء بهم.

ثالثاً: التعالي على العلماء، واحتقار الآخرين وازدرائهم.

رابعاً: حداثة السن لمن وقع في الغلو مع قلة تجاربهم والغيرة عندهم غير المتزنة.

خامساً: انتشار نزعة العصبية واتباع الهوى والحزبيات.

سادساً: قلة الصبر وضعف الحكمة في الدعوة لدى كثير من الغيورين ولاسيما الشباب المتدين.

سابعاً: الحماس غير المنضبط مع ضعف الحكمة في التعامل مع المتغيرات.

ثامناً: تسلط الكافرين على المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية.

المطلب الثالث: معنى الإرهاب، وأسبابه وأدلته.

الإرهاب في اللغة: الإرهاب مصدر أرْهبْ يُرهِبْ، وأصله مأخوذ من الفعل الثلاثي: رَهَبَ يَرْهَبُ. ([32]).

وفي تاج العروس: أرْهَبَه: استَرهَبه حتى رهِبه الناس، والإرهاب بالكسر: الإزعاج والإخافة([33]).

وقد وردت لفظة (رهب وأرهب) في القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف في مواضع عديدة، ومن ذلك قوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون}([34]). فمعنى قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُون} أي خافون، والرُّهْبُ والرَّهْبةُ: الخوف، ويتضمن الأمر به معنى التهديد([35]).

وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون}([36]). فمعنى قوله تعالى تُرْهِبُون أي تخيفون([37]).

يقول ابن العربي رحمه الله في تفسير {تُرْهِبُونَ}: أي تخيفون بذلك أعداء الله وأعداءكم من اليهود والنصارى وكفار العرب([38]).

وقد أوضح الفخر الرازي رحمه الله أن الحكمة من إعداد القوة ورباط الخيل هي أن الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد، ومستعدون له، ويملكون جميع الأسلحة والأدوات خافوهم([39]).

ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن معنى (رَهَبَ وأرْهب) لا يخرج عن الخوف.

من أدلة الإرهاب في النصوص الشرعية ما يلي:

قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا..}([40])، وقوله:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} ([41])، وقوله:{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}([42])، وقوله:{قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيم}([43])، وقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ..}([44])، وقوله:{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} ([45]).

والإرهاب قسمان:

القسم الأول: الإرهاب المشروع: وهو ما استعمل في تخويف أعداء الله من الكافرين المعتدين، والمجرمين والعصاة الخارجين عن الطريق المستقيم. قال تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون}، وقال تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}([46]).

وهذا أمر مطلوب شرعاً، فحماية الدين والبلاد وبذل الوسع في الاستعداد لأعداء الله الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر مطلب ضروري يجب في حق الأمة، ومعلوم أن إرهاب العدو الكافر المعاند لدعوة الله وإخافته بالجهاد في سبيل الله وإرجافه بالعدة والقوة من مقاصد الشرع الإسلامي، ليكف شره، وينتهي عن ظلمه، ولعله أن يهتدي إلى دين الله عز وجل، وهذا الحكم خاص بالمحاربين من الكفار أو البغاة.

القسم الثاني: الإرهاب غير المشروع: وهو المحرم والممنوع:

القائم على تخويف الآمنين وإدخال الرعب والفزع عليهم، سواء كانـوا مسلمين أو غيرهـم من المسـتأمنين أو المعاهدين من أهل الذمة وغيرهم.

فالإرهاب يعد من أبشع جرائم العصر الحاضر، وأكثرها دموية ووحشية، لأنه قائم على التدمير، والترويع، وتقويض مكتسبات الأمم شرقها وغربها.

والإرهاب لا يقدر حقوق الإنسان، ولا يعبأ بالقيم والأخلاق التي حضت عليها الأديان السماوية، ولاسيما شريعة الإسلام الغراء، التي تقوم على المحبة والتسامح، ونبذ العنف بشتى صوره.

وهذا العمل المسمى بـ (الإرهاب) محرم بالقرآن والسنة وإجماع الأمة. قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون}([47]).

وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه يرفعه إلى النبي  ﷺ أنه قال: قال الله تبارك وتعالى: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظْلِمُوا الْعِبَادَ)([48]).

وهناك كثير من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة تدل على تحريم الظلم والاعتداء على الأنفس البشرية لا يتسع المقام لذكرها.

الفرق بين الإرهاب الممنوع والترهيب المشروع:

 الإرهاب الممنوع هو ما فيه اعتداء على الأنفس والأموال والأعراض والممتلكات وغير ذلك بغير حق، كاحتلال البلدان، والاعتداء عليها بالضرب والظلم مع القتل والتدمير ونشر الخوف والرعب، وكالاعتداء على الأنفس بالقتل والتعذيب، وكالاعتداء على الأعراض بانتهاك الأعراض واغتصاب النساء وبقر البطون، والاعتداء على الأموال والممتلكات بالتدمير والحرق والسرقة وغير ذلك. فكل هذا محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

والترهيب المشروع: هو الذي أمر الله جل وعلا به عباده المؤمنين في قوله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ..} ([49]).

وإعداد القوة من أجل تخويف أعـداء الله من محاولة الاعتـداء على المسلمين واحتلال أراضيهم، ومنع العدوان والظلم عنهم، ولحماية بيضة المسلمين وإظهار قوتهم، والاستعداد المستمر للدفاع عن الدين والبلاد والعباد عند الاقتضاء، والاستعداد من أهم الأسباب لدفع الحروب ومنع وقوعها.

وعلى ذلك فالترهيب المأمور به شرعاً إنما هو خاص يتعلق بالمعتدين الظالمين لصدهم عن عدوانهم متى حصل ذلك منهم.

بيان مجمع الفقه الإسلامي حول تعريف الإرهاب:

ورد بيان هام من مجمع الفقه الإسلامي عن تعريف الإرهاب وهو من أدق التعاريف وأقواها في بيان محاربة الإسلام للاعتداء والعنف وترويع الآمنين، وقد جاء فيه: (الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغياً على الإنسان في دينه، ودمه، وعقله، وماله، وعرضه، ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم، أو حريتهم، أو أمنهم، أو أقوالهم للخطر، ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريض أحد الموارد الوطنية، أو الطبيعية للخطر. فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله سبحانه تعالى المسلمين عنها قال تعالى:{وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} ([50])) ([51]).

أسباب الإرهاب:

أسباب الإرهاب كثيرة ومتنوعة وكلها تسهم في وجوده بنسب متفاوتة، ومن ذلك:

أولاً: الانحراف الفكري والقصور في العلم الشرعي:

وخاصة في منهج التلقي؛ حيث يأخذون العلم من الكتاب، أو من صغار السن، ويتركون الأخذ من العلماء الربانيين الراسخين فيحرمون العلم النافع المتلقى من مشكاة النبوة وأنوار الرسالة، فيقعون في ضروب الضلال والقول على الله بغير علم([52]).

والنصوص الشرعية دلت على لزوم العلماء، وسؤالهم، وتعظيمهم، والصدور عنهم، قال تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} ([53]).

وقال  ﷺ: (إنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)([54]).

ثانياً: الأخذ بظواهر النصوص:

فالبعض ممن سلكوا طريق الإرهاب والتطرف أخذوا بظواهر النصوص دون فقه ولا اعتبار لدلالة المفهوم، ولا قواعد الاستدلال، ولا الجمع بين الأدلة، ولا اعتبار لفهم العلماء، ولا نظر في أعذار الناس([55]).

وهذا منهج سبب كثيراً من الضلال والانحراف والوقوع في ظاهرة التكفير، مما سبب استباحة الدماء والأموال، والاعتداء على الأنفس والمصالح العامة والخاصة.

ثالثاً: الجهل بمقاصد الشريعة:

فهؤلاء أخذوا بجزيئات من النصوص، وأعملوا فيها عقولهم وتقولوا فيها برأيهم، فهدموا كليات وعطلوا مصالح عامة معتبرة.

وقد قال الشاطبي رحمه الله: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك” ([56]).

ومن الأمثلة في اعتبار المصالح والمفاسد ـ في هذا العصرـ دعوة بعض الجماعات أو التنظيمات إلى الاعتداء على مصالح بعض الدول المعتدية، وعلى رعاياها، في بلادهم أو في غيرها ووصف ذلك بالجهاد، والاعتقاد بأن في ذلك تحقيقًا لمصالح الأمة، وهذا فيه من المفاسد، والمخالفات الشرعية، والتعارض مع مقاصد الشريعة ما يوجب القطع بحرمته. وقد أدى ذلك إلى استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء المعصومة، والإفساد في الأرض، والتنفير من الإسلام، وتهييج الأمم الكافرة بالاعتداء على كل ما هو مسلم.

وقد ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله: “أن أي قتال للكفار لا يتحقق به نكاية بالعدو فإنه يجب تركه، لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين والنكاية بالمشركين، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال، لما فيه من فوات النفوس، وشفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة”([57]).

رابعاً: الموقف السلبي من ظاهرة التدين:

حيث شهدت البلاد الإسلامية في العقود الأخيرة عودة للدين، وتوجهًا للتمسك بتعاليمه، وامتد أثر ذلك إلى أرجاء العالم كله، ومما أسهم في هذه العودة المباركة حرص المملكة العربية السعودية على نشر الدعوة الإسلامية في شتى أقطار الأرض بعد تطبيقها شرع الله في كل شؤونها وتبني منهج الوسطية المعتدل. إلا أن ذلك قوبل بمزيد من القيود والضوابط على الأنشطة الإسلامية، والمشروعات الخيرية، وتم فرض صور جديدة من التغريب للمجتمع في سائر قضايا الأمة في كثير من البلاد الإسلامية، مما حدا بطوائف من الشباب في هذه البلاد إلى أن يسيئوا الظن بولاتهم، وأن يضمروا السوء لهم، ودفع ذلك بعضهم إلى اتخاذ العنف منهجًا، ولا شك أن هذا مسلك خاطئ ولا يؤيده شرع ولا عقل.

خامسًا: كيد الأعداء وتسلطهم على المسلمين:

فمؤامرات الأعداء ومكرهم وكيدهم لهذا الدين ولرسوله ﷺ وأتباعه ما زال يتتابع، وصدق الله إذا يقول:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} ([58]).

قال الشيخ السعدي رحمه الله:”هذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصًا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ألفوا الجمعيات، ونشروا الدعاة، وبثوا الأطباء، وبنوا المدارس لجذب الأمم إلى دينهم، وإدخالهم عليهم كل ما يمكنهم من الشبه التي تشككهم في دينهم”([59]).

وما حصل من بعض الدول الغربية من حصار واعتداء واحتلال لبعض الدول الإسلامية، ومباركتها لصور القهر والإذلال والقتل والتدمير الذي يمارسه اليهود تجاه شعب فلسطين المسلم إلى غير ذلك من صور التدخل جعله مسئولًا مسئولية مباشرة عن ظهور التطرف في العالم الإسلامي.

سادسًا: التأثير السلبي لبعض وسائل الإعلام:

فقد اتخذت غالب وسائل الإعلام المقروءة والمشاهدة والمسموعة وغيرها في البلاد الإسلامية من خلال ما يصدر عنها من مقالات صحفية، أو ندوات ثقافية، أو أفلام ومسلسلات ومسرحيات تهزأ بالدين وأهله، وتسخر بالقيم الإسلامية، ومن بعض الأحكام الشرعية، والمبادئ الإسلامية الثابتة([60])، ولم يجد الناس من يقف أمام هؤلاء ويأخذ على أيديهم مما أدى ذلك إلى إثارة مشاعرهم، وتأجيج بواعث الغضب في نفوسهم حمية لدينهم، وانتصارًا لقيمهم الإسلامية الحقة، مما حدا بالبعض منهم في الرد والمدافعة فخرجوا عن الحد المشروع، وسلكوا مسالك الشدة والعنف، وحصل بسبب ذلك مفاسد كثيرة.

سابعاً: تقصير بعض العلماء في بيان بعض المسائل الشرعية الملحة:

وخاصة ما استجد من وقائع معاصرة، كقضايا التكفير، والولاء والبراء، والجهاد، والتقصير في الرد على بعض دعاة التكفير الذين يلبسون على الناس ويثيرون بينهم الشبه، ويروجون لفكرهم وضلالاتهم.

ثامناً: عيش بعض الشباب في بيئة تحمل أفكار الغلو والتكفير والعنف:

كبعض البيئات الجهادية، فغالب هؤلاء الشباب الذين عاشوا في تلك البيئات ليس لديهم القدر الكافي من العلم الشرعي الذي يتمكنون به من دفع شبه أولئك المكفرين، فحملوا تلك الأفكار وتابعوهم في تبني تكفير الحكام والعلماء واتخذوا العنف والإرهاب منهجاً لهم.

تاسعاً: الشحن العاطفي غير المرشد:

كمن يتحدث عن الجهاد وفضله، وعن كثرة المنكرات والمظالم في مجتمعات المسلمين، وعما يفعله الأعداء من ظلم المسلمين بالاعتداء عليهم واستباحة أراضيهم وأعراضهم وأموالهم، ومع قلة العلم، وغياب الضوابط الشرعية، تسهل استجابة الشباب لدعاة الغلو والعنف والإرهاب.

عاشراً: معاناة الشباب من الفراغ بأبعاده المختلفة:

الروحي، والفكري، والزمني، على اختلاف درجاته في حياة الشباب، وهذا يوجد لديهم القابلية لجميع المؤثرات، إما إلى التفريط والانحلال، أو إلى الإفراط والغلو والعنف.

المطلب الرابع: معنى العنف، وأسبابه وأدلته.

قال ابن منظور رحمه الله العنف: “الخرق بالأمر، وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق. عَنُفَ به وعليه يَعْنُفُ عنفاً وعنافةً، وأعنفه، وعنّفه تعنيفاً، وهو عنيف، إذا لم يكن رفيقاً في أمره. واعتنف الأمر: أخذه بعنف، والتعنيف: التعبير واللوم”([61]).

وقال الفيروز آبادي رحمه الله: “العنف: مثلثة العين ضد الرفق، عنف ككرم عليه وبه، وأعنفته أنا وعنّفته تعنيفاً. والعنيف من لا رفق له بركوب الخيل، والشديد من القول”([62]).

والإسلام منهج يقوم على الرفق واللين، ويبغض العنف والشدة والغلظة.

وقد ذكر الله تعالى في كتابه آيات فيها الحض على الرفق وترك العنف، ومن ذلك قوله لموسى عليه السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}([63]).

وقوله تعالى لنبيه محمد  ﷺ:{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}([64])، وغير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بالرفق وترك العنف.

وكما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن يهوداً أتوا الرسول ﷺ فقالوا: السـام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله، وغضب الله عليكم، قال: ( مَهْلًا يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ). قَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لهم فيّ)([65]).

وعنها أن رسول الله ﷺ قال: (يَا عَائِشَةُ: إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) ([66]).

وبذلك يتبين أن أخذ الأمور بشدة والإقبال عليها بما يجاوز حد الوسط والاعتدال ومجانبة اليسر واللين والسماحة يعتبر من أشد صور التطرف البغيض الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله ﷺ .

والأدلة على العنف: هي الأدلة نفسها على الغلو والتطرف؛ لأنه يحوي نفس المعنى والمضمون.

ومن أسباب العنف:

أولاً: إعراض المسلمين عن دينهم عقيدة وشريعة وأخلاقاً.

ثانياً: الجهل بالعلم الشرعي مع قلة الفقه في الدين.

ثالثاً: وجود جفوة بين العلماء والشباب.

رابعاً: الخلل في مناهج بعض الدعوات المعاصرة التي تحض على العنف وتستعمله منهجاً لها.

خامساً: التشدد والتنطع في الدين.

سادساً: البعد عن هدي النبي  ﷺ.

سابعاً: شدة الغيرة وقوة العاطفة مع عدم الانضباط والنظر في المصالح والمفاسد.

ثامناً: التعصب للرأي مع عدم الاتزان الفكري.

تاسعاً: البعد عن العلماء وعدم التلقي عنهم.

عاشراً: التعلم على الكتب وعدم عرض ما يقرؤه الإنسان على أهل العلم.

الحادي عشر: القنوات المضللة التي تغذي أفكار الشباب وتحشو أدمغتهم بالغث والعفن من الأفكار.

الثاني عشر: الشبكة العنكبوتية التي يتلقى منها بعض الشباب دون تمييز أو تمحيص.

 


المبحث الثاني

الوسطية وأهميتها في الإسلام، وفيه ثلاثة مطالب

 

المطلب الأول: معنى الوسطية وما يتعلق بها.

الوسطية لغة: يقول ابن فارس رحمه الله: ” الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه “([67]).

ويقول ابن منظور رحمه الله: ” وسط الشيء وأوسطه: أعدله”([68]).

والأوسط: المعتدل من كل شيء، وأوسط الشيء: ما بين طرفيه. وهو من أوسط قومه: من خيارهم.

والوسَط: وسط الشيء: ما بين طرفيه، وهو منه. والمعتدل من كل شيء. يقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء، والعدل، والخير: يوصف به المفرد وغيره. وفي التنزيل العزيز:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ([69]) عدولاً أو خياراً.

فالوسطية تأتي بمعنى: التوسط بين شيئين، وبمعنى العدل، والخيار، والأجود، والأفضل، وما بين الجيد والرديء، والمعتدل، وبمعنى الحسب، والشرف.

وأهل السنة والجماعة قد تحققت فيهم تلك المعاني الفاضلة.

الوسطية في الشرع والاصطلاح: وردت الوسطية في القرآن: بمعنى العدل والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط، ومن ذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ([70])، أي عدلاً.

وبهذا المعنى فسرها النبي  ﷺ بقوله:(الوسط: العدل) ([71]). ومن ذلك قوله تعالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} ([72]).

والصلاة الوسطى صلاة العصر، وسميت الوسطى؛ لأن قبلها صلاتين، على اختلاف في تحديد أي الصلوات هي ([73]).

وتأتي الوسطية في السنة كذلك: بمعنى الأوسط والأعلى، كما وصف النبي  ﷺ الفردوس بأنه: (أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ) ([74]).

وقال ابن عباس رضي الله عنه: “كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا دُونًا، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللَّه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}([75]). الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ” ([76]).

ومن ذلك ما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ  رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ  ﷺ: (خَطَّ النَّبِيُّ   خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا)([77]).

فمنهج أهل السنة وسط بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة، وهم وسط بين جفاء الأعراب، وتقعر العجم، وهم وسط في العدل والإنصاف.

وعلى ذلك فالوسطية والاعتدال: معنيان مترادفان في المفهوم اللغوي، والشرعي الاصطلاحي، فهما: العدل والاستقامة والخيرية والاعتدال، والقصد والفضل والجودة.

فالاعتدال والوسطية منهج الحق ومنهج الأنبياء وأتباعهم، ويتمثل ذلك بالإسلام بعد مبعث النبي  ﷺ ، وبالسنة ومنهج السلف بعد ظهور الأهواء والافتراق، فأهل السنة والجماعة هم العدول الأخيار في العقيدة والعبادة والأخلاق والمواقف.

المطلب الثاني: قيام كيان المملكة العربية السعودية على الوسطية.

المملكة العربية السعودية تعتبر الامتداد التاريخي والحضاري لدولة الإسلام الأولى، فقد تأسست على هدي الكتاب والسنة منذ نشأتها الأولى، وقد ارتسمت في منهجها التزام النهج النبوي وهدي السلف الصالح، وقد توالى بعد ذلك على هذه الدولة الفتية الأمراء والملوك يأخذون على عاتقهم المحافظة على مبادئها والعمل على تحكيم شرع الله في كل شؤونها، وقد تبوأت هذه الدولة ـ بفضل الله أولاً ثم بجهد أولياء أمورها وعلمائها ومواطنيها- مكانة عالية مرموقة في أوساط العالم كله، فقد جمعت بين هدي الإسلام وتعاليمه وبين أسباب الحضارة والتقدم في جميع المجالات.  

وكانت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لها الأثر الإيجابي حيث إنها كانت تتمسك بمنهج الوسطية في تعليم الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وأخذت على عاتقها إخراج الجاهلين من مغبة الجهل والضلال إلى نور الحق والإيمان، وما كان ذلك إلا بفضل الله تعالى أولاً ثم بوقوف أولياء أمور هذه البلاد بجانبه والشد من أزره، وقد انتشرت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع وكبير مع انفتاح العالم بعضه على بعض، وكان العالم كله ينظر إلى هذه البقعة الطاهرة من أرض الله على أنها إشعاع النور والخير والعلم للناس كافة.

وقد كان منهج هذه الدولة التمسك بوسطية الإسلام في نشر الدعوة إلى الله تعالى، عن طريق بناء المراكز الإسلامية والمساجد ودور العلم والجامعات، وتوزيع الكتب الشرعية والمصاحف وغيرها على الجاليات المسلمة في الدول الغربية والشرقية، وبذل المساعدات الإنسانية لجميع المسلمين في سائر أنحاء العالم، ونالت الشرف الكبير الذي ذكره الله تعالى بقوله:{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..} ([78]).

وأصبحت هذه البلاد قبلة المسلمين ووجهتهم لأداء الفرائض الخمس، وزيارة المسجد الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة، وهكذا كانت مسيرتها التمسك بهدي الإسلام في جميع شؤونها وأحوالها، وكان لها أثر كبير في نشر العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة مما ساعد كثيراً في إسلام الكثيرين من غير المسلمين من شتى بقاع الأرض.

وهكذا سارت هذه الدولة المباركة ثابتة المبادئ، عزيزة قوية بدينها، مهابة الجانب من أعدائها، مطبقة ومحكمة لشرع الله في جميع شؤونها، مقيمة منفذة لحدود الله وأحكامه على جميع أفرادها بعدل وإنصاف لم يعرف التاريخ له مثيلاً.

المطلب الثالث: أثر الوسطية في محاربة فكر التطرف.

الوسطية منهج وسط بين الإفراط (وهو التشديد على النفس بما لا تطيقه)، والتفريط (بالركون إلى رحمة الله وترك العمل)، وجاء الإسلام ليرفع عن الناس الإصر والأغلال والشدة والتعسير ليضمن لهم حياة طيبة كريمة ملؤها السعادة والاستقرار النفسي والبدني.

ومن أبرز الآثار التي وضعتها وتبنتها وسطية الإسلام في محاربة الفكر المتطرف والتشدد والغلو، ما جاء من نصوص شرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ تحث على التوسط والسماحة والرفق في الأمور كلها، وأن الشريعة جاءت رحمة لهم، وليس فيها شدة ولا تعسير، ومن تلك النصوص:

قوله تعالى:{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ([79])، قيل في معنى هذه الآية: “يريد الله تعالى بكم اليسر والسهولة في شرائعه، ولا يريد بكم العسر والمشقة”([80]).

وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}([81])، قال الشنقيطي رحمه الله: “هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد ﷺ ، مبنية على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج. وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا”([82]).

وقوله:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([83]). قيل في معنى هذه الآية: “دين الله يسر لا مشقة فيه، فلا يطلب الله مِن عباده ما لا يطيقونه..” ([84]).

وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([85])، قال الشنقيطي رحمه الله:”يفهم منه أن التكليف في حدود الاستطاعة ويبينه قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ([86]).

وقوله تعالى:{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} ([87]).

وقوله تعالى:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}([88]).

والنبي  ﷺ:(مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا..)([89])، وقد كان يوجه أصحابه إلى الأمر بالتيسير وعدم التشديد على الناس، فقال  ﷺ:(يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)([90]).

وقال  ﷺ لمعاذ وأبي موسى ﭭحين بعثهما إلى اليمن: (يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)([91])، وقال أيضاً  ﷺ: (بُعِثّتُ بِالحَنِيفِيةِ السَّمْحَة) ([92]).

وكانت وصيته  ﷺ لمن أرادوا أن يشددوا على أنفسهم في العبادة ألا يخالفوا هديه، بل عليهم أن يتوسطوا في أمورهم كلها، كما جاء في الصحيحين: (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ  ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ   فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ   قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ   إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) ([93])، وقال أيضاً في حديث آخر: (..وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ([94]).

وقال ﷺ:(..عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) ([95]).

وكان خلفاؤه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يطبقون منهجه، ويسيرون على طريقه، فكان اليسر والسماحة صفتهم مع الخلق.

وهكذا من سار على طريقهم واستن بهديهم، فقام العلماء الربانيون قديماً وحديثاً من خلال استقرائهم لنصوص الشريعة وأحكامها على استنباط القواعد الفقهية التي تساهم في سعادة الناس بالتيسير وعدم التشديد عليهم وذلك بالعمل في وسطية واعتدال.

ومن القواعد التي وضعوها اعتماداً على الكتاب والسنة، واستناداً إلى النصوص الشرعية المحكمة قولهم:(المشقة تجلب التيسير)، (ولا ضرر ولا ضرار)، (والضرورات تبيح المحظورات)، (ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، وغير ذلك من القواعد العظيمة التي يسروا بها على المسلمين.

ثم جاءت هذه الدولة المباركة ـ المملكة العربية السعودية ـ سائرة على النهج نفسه، حاملة على عاتقها نشر دعوة الإسلام، وتوجيه الناس إلى التمسك بدين الله تعالى، والعمل على تطبيق هدي النبي ﷺ من جميع نواحيه من أخلاق ومعاملات وعبادات، وعدم التشديد عليهم في أمر دينهم، والتمسك بهدي السلف الصالح الذين هم خيار أمة الإسلام وعدولها.

فهذه بعضٌ من مرتكزات وأصول الوسطية في الإسلام أوردنا منها القليل وهناك نصوص كثيرة تدل على سماحة هذا الدين وتيسيره على الناس في كل زمان ومكان، وقد تجلت مظاهرها في سائر شؤون الحياة للمسلمين وغيرهم ممن يتعاملون معهم، فأين هذا الخير من منطق التشدد والتطرف الذي يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وينفرهم من الدين ويبعدهم عن صراط الله المستقيم.

وما حدث من بعض الأفراد ممن ينتسبون للإسلام وأهله من الأخطاء في الدعوة إلى الله والشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان له الأثر الكبير في تنفير بعض أفراد هذه الأمة وغيرهم من غير المسلمين من الدين وأهله، وهذه مفسدة عظيمة لا يعلم مداها إلا الله تعالى وحده، وقد رأينا أثر ذلك في سائر نواحي الحياة في بعض البلاد الإسلامية من التضييق على العلماء وإغلاق أبواب الخير من جمعيات خيرية ودعوية وإغاثية وغيرها، وخوف كثير من الناس من التمسك بمنهج الإسلام الظاهر لكي لا يكونوا عرضة للأذى والاضطهاد.

“ووسطية الإسلام تقتضي إيجاد شخصية مسلمة متزنة تقتدي بالسلف الصالح في شمول فهمهم واعتدال منهجهم وسلامة سلوكهم من الإفراط والتفريط، والتحذير من الشطط في أي جانب من جوانب الدين، والتأكيد على النظرة المعتدلة المنصفة والموقف المتزن من المؤسسات والأشخاص في الجرح والتعديل”([96]).

ووسطية الإسلام تلزم الأمة الإسلامية بمقاومة الغلو والتطرف في الدين، ورد الغلاة إلى منهج الاعتدال والحكمة، ورعاية حقوق نفسه وحقوق غيره.

ووسطية الإسلام تقف حائلاً دون الوقوع في الغلو والتشديد، ولها الأثر الطيب في الحد من تلك الظواهر الغريبة على الإسلام وأهله، وإذا طبقها المسلمون في حياتهم حازوا على السبق، وفازوا بخيري الدنيا والآخرة.

    

المبحث الثالث

الجهود المبذولة قديماً وحديثاً في محاربة فكر التطرف

وفيه أربعة مطالب

 

المطلب الأول: جهود السلف في محاربة فكر التطرف والغلو.

لقد عاش أصحاب النبي  ﷺ وهو بين أظهرهم يتعلمون منه، ويأخذون عنه، ويطبقون أوامر الشرع.

وبعد وفاة الرسول  ﷺ وتولي أبي بكر رضي الله عنه الخلافة وقف فيهم خطيباً فقال لهم: “إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته -إن شاء الله-، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق ـ إن شاء الله ـ” ([97]).

وفي أيام خلافته التي دامت سنتين وأشهرًا، وبعد مباشرته لها بدأت تظهر أحداث عنف وأهمها امتناع المرتدين عن أداء الزكاة، فما كان منه إلا أن قال: “والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله  ﷺ لقاتلتهم على منعها” ([98])، فقاتلهم  رضي الله عنه حتى أدوا الصدقة، وقتل الله مسيلمة الكذاب في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن، وغيرهم في عُمان والبحرين، وهكذا بدأت بوادر الفتن تظهر إلا أنه  رضي الله عنه تعامل معها بحكمة وقوة حتى مكنه الله من القضاء عليها.

ثم جاء من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتميز عهده بالحزم والعدل والشدة مع أهل الباطل والضلال حتى كانت خلافته سدًا منيعًا أمام الفتن.

وتولى عثمان بن عفان  رضي الله عنه الخلافة من بعده فبدأت تدب الفتن، ويظهر الخارجون عن المنهج الصحيح الذي تركه الرسول  ﷺ.

وقد حذر النبي ﷺ من تلك الفتن، وأوصى أصحابه بعدم التعرض لها، ومن ذلك قوله  ﷺ:(إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ قَالَ يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ)([99]).

وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على ما حدث بعد وفاة النبي  ﷺ وخلفائه من بعده من التفرق، والخروج عن جماعة المسلمين.

وقد أخبر الرسول  ﷺ عما سيكون لعثمان  رضي الله عنه من الخروج عليه وقتله، فقد روى الإمام أحمد عن كعب بن مرة البهزِي قال: بينما نحن عند رسول الله  ﷺ إذ مر عثمان بن عفان رضي الله عنه عليه مرجَّلاً فقال رسول الله  ﷺ: (لَتَخْرُجَنَ فِتْنَةٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ أَوْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْ هَذَا، هَذَا يَوْمَئِذٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ عَلَى الْهُدَى..)([100]).

وقد ظهر موقف عثمان  رضي الله عنه جلياً ممن خرجوا عليه، فقد روى البخاري عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان  وهو محصور فقال: “إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ”([101]).

ولما دخلوا عليه في بيته لقتله لم يستطع ردهم ولا منعهم مما أرادوا، بل منع الصحابة من الدفاع عنه لئلا يهرق دم من المسلمين، ومات رضي الله عنه صائماً صابراً محتسباً، وهو يقرأ القرآن.

وهذا الحدث المفجع الذي وقع من أولئك الغلاة الذين استحلوا دم خليفة المسلمين وقتلوه وهو يقرأ القرآن الكريم ظلماً وعدواناً كان موقفاً يدل على أن العنف لا ينتهي عند حد فقد كان هذا الانحراف الفكري لدى أولئك السبب الرئيس في إسالة دم الخليفة الراشد عثمان على الرغم من علمهم بفضله ومكانته، وكان هؤلاء الغلاة يظنون أنهم يفعلون ذلك قربة إلى الله، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.

وبعد مقتل عثمان  رضي الله عنه استمر نهج الخوارج في زعزعة صفوف المسلمين، وبث الفتن بينهم، وبعد أن تولى علي  رضي الله عنه الخلافة اجتهد في وأد الفتنة التي بدأت بوادرها تظهر بين المسلمين حينما طالب عدد من المسلمين من علي أن يقتص من قتلة عثمان، هنا خاف من العاقبة وشرَّها أن يكون الاقتصاص من هؤلاء سبباً في إشعال فتنة جديدة تضر بالمسلمين وتؤثر في وحدتهم، لكنه قدر الله الذي لا مرد له إلا هو فاشتعلت الفتنة من مجموعة من الخوارج الذين كانوا يظهرون الولاء لعلي  رضي الله عنه والغيرة على الدين والحمية للشريعة لكنهم في الواقع كانوا ينقمون في باطن أمرهم ولاية قريش.

فنتج عما بثه هؤلاء الخوارج من إشاعات وأباطيل وإثارة للاضطرابات أن وقعت بين المسلمين معارك منها وقعة الجمل وصفين والتي كانت بين كل من علي ومعاوية رضي الله عنه فلما رأى علي رضي الله عنه تأثير الخوارج على وحدة المسلمين حاربهم في عدة مواقع حتى أخمد شوكتهم وقضى على معظمهم بكل قوة وحزم ودون تردد.

إنَّ التاريخ حافل بمؤامرتهم وحروبهم وخروجهم على أئمة الإسلام ونزع يد الطاعة وتأليب الناس عليهم وإشاعة الفوضى وزعزعة الأمن وإثارة الفتن في الأمة الإسلامية، وهكذا كانوا وما زالت البقية منهم تسير على النهج نفسه الذي كان عليه السابقون منهم من سفك الدماء والاعتداء على الأموال والأعراض، وكان ابن عمر رضي الله عنه يراهم شرار خلق الله، وقال: (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين) ([102]).

وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله  ﷺ يقول: (يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَـاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُـمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)([103]).

وهكذا تتابعت الفتن على المسلمين، فلم يمر زمن من الأزمان بعد وفاة الخلفاء الراشدين إلا وتضرب الفتن بأطنابها في كل حدب وصوب([104]).

وروى البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي رحمه الله قال:”أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ  ﷺ “([105]).

وقد فسَّر ابن مسعود  رضي الله عنه الشرّية المطلقة في هذا الحديث بأنها قلة العلم بذهاب العلماء.

وذكر ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، لَسْتُ أَعْنِي رَخَاءً مِنْ الْعَيْشِ يُصِيبُهُ، وَلا مَالاً يُفِيدُهُ، وَلَكِنْ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْمٌ إِلا وَهُوَ أَقَلُّ عِلْمًا مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي مَضَى قَبْلَهُ، فَإِذَا ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ اِسْتَوَى النَّاسُ، فَلا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْلِكُونَ”([106]).

وجاء جماعة من المسلمين إلى الحسن البصري رحمه الله يستفتونه في الخروج على الحجاج، فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام، وفعل وفعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تك عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، وخرجوا من عند الحسن ولم يوافقوه، فخرجوا على الحجاج، فقتلوا جميعاً([107]).

وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحذرون من الغلو والابتداع في دين الله أشد التحذير، بل كانوا يعدون الابتداع أعظم فسادًا من المعصية، وأن الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم يقتلون.

وها هو الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه يبوب في كتاب (استتابة المرتدين) لهؤلاء الخوارج المارقين من الدين مروق السهم من الرمية، فيقول رحمه الله تعالى: “باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم”، وقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} ([108]).

فكان للسلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم مواقف عظيمة وقوية تجاه المخالفين، الذين حادوا عن هدي الإسلام ووسطيته وقد أنقذ السلف الأمة من كثير من المحن والابتلاءات، ووقفوا حجر عثرة في طريق كل من أراد الإضرار بالأمة الإسلامية.

المطلب الثاني: جهود أئمة الدعوة في محاربة فكر التطرف والغلو.

الناظر لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في شبه الجزيرة العربية يرى أثرها العظيم على القاصي والداني، وما كان ذلك إلا بفضل الله تعالى، ثم صدق هذا الداعية وتوفيقه الذي أحيا سنن الهدى في الأمة بعد اندثار الكثير منها وخاصة ما شاب حال الأمة من الوقوع في الشركيات والبدع الخطيرة التي كان لها الأثر القوي في إضعاف صف الأمة وبعدها عن المنهج الصحيح.

وقد سار الشيخ في منهجه على نهج الرسول ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم، فدعوة الشيخ ليست فرقة جاءت بزيادة في الدين، أو فرقة خارجة عن المنهج الصحيح، أو أنها دعوة جديدة كما يظن بعض الناس، بل إن دعوته ومنهجه رحمه الله تعتمد على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا تخالف في شيء، ويفهم النصوص الشرعية بحسب ما فهمها الصحابة رضوان الله عليهم، مما جعل دعوته لها الأثر الكبير في نصرتها وانتشارها ودوام قوتها إلى وقتنا الحاضر.

ولقد كان لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الأثر الكبير في محاربة الغلو والتطرف، وبذل أئمة الدعوة السلفية جهوداً كبيرة في الوقوف أمام تلك الأفكار بصرامة لا تقبل التجاوز، فأغلقت باباً من أبواب الفتن الذي لو فتح لكان باب شر عظيم على المسلمين.

هذا هو منهجه أئمة الدعوة السلفية في التصدي لأسباب العنف والفكر المتطرف والإرهاب، وهو يدل على بُعد نظرهم في معالجة مثل هذه الظواهر والتصدي لها، ويتضح بما لا يدع مجالا للشك سلامة فكرهم ومبادئهم وسيرهم على هدي السلف الصالح في معالجة هذه القضايا الخطيرة.

 

المطلب الثالث: جهود العلماء سابقاً ولاحقاً في محاربة فكر التطرف والغلو.

العلماء هُم الذين يحملون همَّ هذا الدين، ويؤمنون به، ويسيرون عليه، ويجتهدون لتحقيقه في حياتهم وحياة غيرهم، وهم الذين يعلمون طبيعة التحديات التي تواجه الإسلام، والآثار المدمرة المترتبة على هذه التحديات لو نجحت مهما كانت نسبة نجاحها.

فالعلماءُ هم الحافظون علم هذا المنهج الإلهي المستمد من مصدريه العظيمين كتاب الله عز وجل وسنة النبي  ﷺ ، ثم ينقلونه للأجيال وينشرونه بين الناس.

وهم الذين يردون الغوي إلى الرشاد، والضال إلى الهدى، والمنحرف إلى الصراط المستقيم.

وهم الذين يدفعون عن المنهج الإسلامي الرشيد تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وهم الذين يحفظون على المجتمعات الإسلامية عقلها مخافة أن تزل أو تزيغ أو تتيه في أودية الضلال وما أكثرها من أودية!

وهم الذين يحفظون على الأمة صراطها المستقيم حتى لا تتشعب بها السبل التي تبعدها عن صراط الله.

وبالجملة فهم الذين يحفظون على الأمة عزتها، وكرامتها وحريتها، وشرفها، وسائر قيمها المتمثلة في منهجها العظيم.

وكيف لا وهم ورثة الأنبياء والمرسلين، وقد فضّلهم الله تعالى، وشرّفهم، وكرّمهم، وأعزّهم، ويكفيهم شرفاً وفخراً وعزاً قول النبي  ﷺ عنهم:(وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)([109]).

لذا كان لزاماً عليهم أن يقفوا سداً منيعاً في وجه كل من حاد عن صراط الله المستقيم، ويبينوا له سبل الهداية والرشاد.

والناظر في مواقف العلماء سابقاً ولاحقاً تجاه الفتن والخارجين عن صراط الله المستقيم يرى أثرهم الكبير، وتوجيهاتهم السديدة، ونصائحهم الغالية، ويرى ثمرة دعوتهم وإخلاصهم في رد الكثير ممن ضلوا طريق الحق وتنكبوا عن الصراط المستقيم.

ومما لا شك فيه أن العالم الذي يتصف بالعلم والحكمة والصلاح والقدوة في نفسه وبين أهله والإخلاص في العمل والتواضع سيكون خير دليل لمجتمعه، وسوف يسهم ـ بإذن الله ـ في تربية جيل معافى من أمراض الغلو والتطرف التي تؤدي بنفسها إلى الإرهاب وما يتعلق به من إزهاق أرواح بريئة وضياع ممتلكات خاصة وعامة.

وواجب العلماء في هذه الأمة إذا ظهرت بوادر الفتنة أن يقفوا في طريقها، وينصحوا للأمة ويأمروها بالصبر، وأن يسعوا سعياً حثيثاً في معرفة نوعيات تلك الفئة وأحوالها لكي يتمكنوا من وصف العلاج الناجع لهم.

والعلماء الصادقون سلفاً وخلفاً يوجهون المسلمين إلى التمسك بالجماعة، وعدم الفرقة، وأن عليهم الصبر على ما يكرهون، وأن يطيعوا من ولاهم الله عليهم في العسر واليسر، والمنشط والمكره، ويوجهون الأمة لما فيه الخير للمجتمع، بحث المسلمين على الأخذ بما ورد في الكتاب والسنة لكي تحفظ للأمة مكانتها ولئلا تتشعب بها السبل فتتفرق وتضعف، ويوصون بالأخذ بوصايا النبي ﷺ في كيفية التعامل مع ولاة الأمر والحرص على الدعاء لهم ولزوم الجماعة.

والتحذير من مغبة الخروج على أولياء الأمر، وعدم طاعتهم، والوقوع في سبهم وغيبتهم والتشهير بهم، وعدم الخروج عن الجماعة، ويعتبرون ذلك من الفتن العظيمة التي يحصل بسببها شر عظيم.

فوصيتي للناس عامة، وللشباب خاصَّة أن يرجعوا إلى العلماء الموثوقين، وأن يحذروا ممن يلبس عليهم الأمور، أو يهيّج مشاعرهم بوجود بعض الأخطاء والتجاوزات، ويزج بهم في مثل هذه الأعمال الفاسدة، ويدّعي زوراً وبهتاناً أنها هي الطريق للصلاح والإصلاح.

المطلب الرابع: جهود الخطباء في محاربة فكر التطرف والغلو.

الخطباء فرع من العلماء، وهم الذين يواجهون عامة الناس بجميع مستوياتهم، وهم الذين يقفون على منبر الدعوة موجهين ومحذرين ومبشرين، وهم الذين يقومون بإرشاد الناس ونصحهم وتعليمهم سائر أمور الدين، ولهم التأثير الفعال في إيصال المنهج الصحيح لجميع فئات المجتمع.

والخطابة وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن على سننهم من العلماء العاملين، والهداة المرشدين، والعظماء الصادقين، فإن هؤلاء بعثوا لهداية العالم وسن طريق السعادة للناس في الدارين بتعليمهم عند الجهالة، وإيقاظهم من الغفلة، وإيقافهم عند حدود الأدب عند التمرد لينقذوهم من حضيض الجهل والرذيلة، إلى ذروة العلم والفضيلة.

والخطابة لها تأثير كبير في تهذيب النفوس، فهي تذكر الغافل، وتنبه العاصي، وتعلم الجاهل، وتوجه إلى التزود للآخرة، وعن طريقها تصح القلوب من أمراض المعاصي والغفلة، وهي التي ترشد العباد إلى صراط الله المستقيم.

والواعظ الماهر والخطيب الحكيم يستطيع بما وهبه الله تعالى من نور الحكمة، وقاطع الحجة، وساطع البرهان، وقوة البيان، ومتانة علمه أن يصحح القلوب من أمراضها، وينبه العقول من غفلتها، ويطهر النفوس من أدران النقائص والرذائل، وينير أمامها السبل الموصلة إلى الرشد حتى ترجع عن غيها، وتعود إلى حد الاعتدال، وتتحلى بالفضائل والكمال.

وما أرسل الله الرسل للعالمين إلا من أجل الأخذ بأيديهم لما فيه الخير والصلاح لهم، قال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ..} ([110])، فصبروا وتحملوا الأذى في سبيل إقامة الدين وإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم.

ثم ختم الله تعالى رسالة أنبيائه ورسله برسالة النبي الكريم محمد بن عبد الله ﷺ التي تقوم على الآيات البينات، والحجج المحكمات، فكان يوجه العقول إلى الحقائق الباهرة في الكون، وكان سبيله الخلق العالي الكريم، وكان قدوة صادقة في كل ما يوجه إليه فكان لذلك التأثير الكبير في حياة المسلمين ومن عايشهم من غير المسلمين.

ومنهج النبي ﷺ في الخطابة كان منهجاً نبوياً عظيماً يُرى معه أثر التوجيه للمستمعين، والناظر إلى خطبه وتوجيهاته للصحابة يجد فيها الرحمة بهم، والشفقة عليهم، وإرادة الخير لهم، وقد ورد عنه  ﷺ الكثير من الأمثلة على ذلك لتعليم أمته كيفية التعامل مع الناس في سائر أحوالهم وشؤونهم، وكان ﷺ يتخير الوقت المناسب والمكان المناسب، وكان ينتقي الكلمات النافعة، والتوجيهات السديدة بحسب كل موقف، فكان لذلك التأثير المباشر على كل من يسمع كلامه.

ولو نظرنا إلى بعض خطبه  ﷺ لوجدنا فيها الجمع بين النصح، والإرشاد، والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة المؤثرة، فكانت كلماته لها الموقع الصادق في القلوب، حتى أن بعض الصحابة يتذكر تلك الكلمات والتوجيهات في مواقف صعبة يحتاج فيها لمثل تلك التوجيهات.

وإن من كلماته وخطبه التي لا ينساها مسلم في مشارق الأرض ومغاربها خطبته في حجة الوداع، التي احتوت على الكثير من الأوامر والنواهي والعظات، وأكتفي بذكر جزء منها:

فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خطب الناس يوم النحر فقال:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ب فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)([111]).

فقد احتوت تلك الخطبة على مسلمات كثيرة أمر بها النبي  ﷺ لينتبه لها المسلمون ولا يقعوا في شيء منها، ومن ذلك حرمة البلد الحرام، والشهر الحرام، والدماء، والأموال، والأعراض.

وفي رواية أخرى حذر  ج من الاعتداء على المسلمين فقال:(.. فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ أَلَا نَعَمْ قَالَ وَيْحَكُمْ أَوْ وَيْلَكُمْ لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)([112]). فأين هؤلاء الذين يتساهلون في قتل الأبرياء، ويعتدون على الأموال والأعراض، ويسببون الأذى للمسلمين وغيرهم، ويلقون الرعب في قلوب الناس من هذا الزجر العظيم.

أين هؤلاء من قوله  ﷺ:(..فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا..).

فيجب على المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويقتدي بالرسول  ﷺ أن يطبق تلك التوجيهات، ويحذر من الوقوع في مغبة الدم الحرام، فالنبي  ﷺ قد حذر من ذلك بقوله: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)([113]).

المطلب الخامس: جهود وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في محاربة فكر التطرف.

لقد بذلت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية جهوداً كبيرة لاحتواء هذا الفكر ومحاربته، وتحذير الناس منه عن طريق توجيهاتها الهامة التي ترسل للخطباء على مستوى محافظات المملكة، حيث يصل عدد المساجد التي تصل إليها تلك التوجيهات إلى اثنين وسبعين ألف مسجد، تعتمد فيها الوزارة على خطة متكاملة تتضمن إبراز رسالة المسجد ودوره في المجتمع، ومدى التزام الخطباء وأئمة المساجد في تنفيذ تلك الخطة.

ولقد رصدت الوزارة من خلال الخطب التي تلقى على مستوى جوامع المملكة أكثر من مائتين وخمسين ألف خطبة جمعة تعلقت بإيضاح الفكر الضال وأثره في المجتمع، وضرورة تعاون المواطنين والمقيمين في محاربته والحد من انتشاره في صفوف العامة والنشء خاصة.

وقد تناولت تلك الخطب موضوعات كثيرة تتعلق بمحاربة فكر التطرف والإرهاب، ومن ذلك:

1- أهمية لزوم الجماعة والحذر من الفرقة.

2- منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أولياء الأمور.

3- أهمية الوسطية في الإسلام.

4- خطورة فكر التكفير والتفجير.

5- خطورة الغلو في الدين.

6- تعظيم حرمات الدماء المعصومة من المسلمين وغيرهم.

7- موقف المسلم من الفتن وكيفية التعامل معها.

8- مقومات المواطنة الصالحة في ضوء تعاليم الإسلام.

9- فضل العلم والعلماء وأثرهما في التربية والتوجيه.

10- وجوب التمسك بالكتاب والسنة.

11- أهمية اجتماع الكلمة ومنزلتها في الإسلام.

12- حقوق ولاة الأمر ووجوب طاعتهم في المعروف.

13- بيان دور الجهات التعليمية في تربية النشء وحفظ الأمن.

14- ضرورة الأمن وأثره في حياة الناس.

إلى غير ذلك من الخطب الكثيرة التي اشتملت على كثير من الموضوعات المرتبطة بتلك الأحداث التي مرت بها البلاد.

ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد إيماناً بواجبها الديني والوطني عملت على حماية الأمن الفكري للمجتمع، والتصدي لهذا الفكر الضال، وحث الخطباء والأئمة والدعاة على المساهمة في هذا الميدان عن طريق توجيه الناس وإرشادهم وحفظ ناشئتهم من تأثير شياطين الجن والإنس.

وبينت للمجتمع الأساليب التي ينتهجها المفسدون للعقول للتغرير بالشباب، وشدة ضررهم على البلاد والعباد.

وقامت الوزارة بتنبيه الرأي العام بمخاطر الإرهاب والتطرف بكافة أنواعه، والعمل على معالجته والتصدي له، والتحذير من آثار الفكر المنحرف على المجتمع ومقدراته ومكتسباته، واستثمرت الوزارة عدداً من الوسائل لتحقيق تلك الأهداف ومنها:

البرامج الدعوية من محاضـرات وكلمــات ونــدوات والإفــادة من خطبة الجمعة، واللقاءات المباشرة مع الأئمة والخطباء، وطباعة الكتيبات والمنشورات، واستخدام التقنية الحديثة، وبرامج إعلامية، ومن خلال المشاركة في المهرجانات والمخيمات، مثل مهرجان الجنادرية، والحملة الوطنية لمكافحة الإرهاب، ونفذت العديد من البرامج التوعوية والمجلات المتخصصة وخطب الجمع والمحاضرات والدروس وطباعة الكتب والمطويات والتسجيلات([114]).

إلى غير ذلك من الجهود التي بذلت وما زالت تبذل للوقوف ضد هذا الفكر المنحرف والتطرف والإرهاب، وهذا الأمر يحتاج من الجميع إلى كثير من الجهد لكي يأخذوا بأيدي هؤلاء الشباب إلى الطريق الصحيح الذي كان عليه السلف الصالح، وعلى المسلمين جميعاً أن يتعاونوا ويتعاضدوا ويتكاتفوا مع الخطباء من أجل توجيه دفة الناس إلى الحق، والعمل بما كان عليه السلف الصالح لحفظ المجتمع من الشرور والآثام، ليكون مجتمعاً كريماً يتعايش فيه الناس في ظل الأمن والأمان والسلامة والإسلام.

الخاتمة.

أحمد الله تعالى على فضله وعونه، وأصلي وأسلم على خير خلقه نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:

فموضوع: (أثر العلماء والخطباء في مواجهة الفكر المتطرف ـ الإرهاب) يحتاج إلى بسط كبير؛ لأنه موضوع هام يرتبط بأمن الأمة وفكر أبنائها، وعقيدتها ومكتسباتها، وكل مسلم على ظهر الأرض عليه مسؤولية بقدر استطاعته أن يقف في وجه هذا الفكر ويحول دون انتشاره وتأثيره على الناشئة، ولو أن كل واحد منا قام بدوره على أكمل وجه لما وجد هذا الفكر أرضاً خصبة يعيش فيها.

أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن ينفع بهذا البحث، وأن يجعله مقرباً إليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

فهرس المصادر والمراجع

1 الاستهزاء بالدين وأهله، لمحمد بن سعيد القحطاني.
2 أضواء البيان للشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، ت:1393هـ.
3 الأمالي للمحاملي، رواية ابن يحيى البيع، الحسين بن إسماعيل الضبي المحاملي أبو عبد الله، ت 330هـ، تحقيق د. إبراهيم القيسي، المكتبة الإسلامية, دار ابن القيم، 1412هـ، مكان النشر عمان، الأردن.
4 الأموال لابن زنجويه، أبو أحمد حميد بن قتيبة بن عبد الله ابن زنجويه الخرساني النسائي الأزدي251هـ، تحقيق: شارك ذيب فياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، ط1، 1406هـ.
5 الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإسلام، د.ناصر العقل.
6 البداية والنهاية لابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء، مكتبة المعارف، بيروت.
7 تاج العروس للزبيدي، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين، الناشر دار الهداية.
8 تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين، الناشر دار الهداية.
9 التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية للشيخ الفوزان، موقع صيد الفوائد.
10 تفسير ابن كثير، الجزء الثالث، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت: 774هـ، تحقيق: محمود حسن، دار الفكر.
11 التفسير الكبير لابن حيان، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي754هـ، مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض.
12 تفسير المراغي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
13 التفسير الميسر، لعدد من أساتذة التفسير تحت إشراف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي.
14 التمهيد لابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387هـ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي, ‏محمد عبد الكبير البكري.
15 التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي، دار الفكر المعاصر، بيروت, دمشق، ط1، 1410هـ.
16 تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي، عبد الرحمن بن ناصر السعدي1376هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط9، 1418هـ.
17 الجامع الفريد للأسئلة والأجوبة على كتاب التوحيد، عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله، دار طيبة، ط3، 1409هـ.
18 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر ب فرح الأنصاري671هـ، مراجعة أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1372هـ.
19 جامع معمر بن راشد، موقع جامع الحديث.
20 جهود وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في مكافحة الإرهاب والأفكار الضالة، للدكتور/ توفيق بن عبد العزيز السديري، ص57، 58.
21 حقيقة موقف الإسلام من التطرف والإرهاب، للدكتور الحقيل.
22 الحكمة في الدعوة إلى الله، د.سعيد بن على بن وهف القحطاني.
23 الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام، د.ناصر العقل، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1415 هـ.
24 الرائد دروس وعبر في التربية والدعوة، للشيخ مازن عبد الكريم الفريح، الجزء الثاني.
25 سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، محمد بن ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، عمان.
26 سنن ابن ماجه،محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، دار الفكر، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
27 السنة لابن أبي عاصم، عمرو بن أبي عاصم الضحاك الشيباني، ت:287، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1400هـ.
28 سنن ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390هـ – 1970م. تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي.
29 سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، دار الفكر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
30 سنن الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون.
31 سنن النسائي، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب ط2، 1406هـ.
32 السنن الكبرى وفي ذيله الجوهر النقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند ببلدة حيدر آباد، ط 1ـ 1344 هـ.
33 السنن الواردة في الفتن لأبي عمرو الداني، ط1، 1416هـ ـ دار العاصمة، الرياض.
34 الصحاح للجوهري، إسماعيل بن حماد الجوهري (ت393هـ)، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1990م.
35 صحيح ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ – 1993م. تحقيق: شعيب الأرنؤوط.
36 صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط الأولى 1422هـ.
37 صحيح الترغيب والترهيب للألباني، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط5.
38 صحيح الجامع للألباني، محمد ناصر الدين الألباني، برنامج منظومة التحقيقات الحديثية المجاني، إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.
39 صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
40 ضعيف الجامع للألباني، محمد ناصر الدين الألباني، برنامج منظومة التحقيقات الحديثية المجاني، إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.
41 فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمود بن أحمد الكناني852هـ، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، المكتبة السلفية، مصر.
42 الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني.
43 قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة لابن تيمية.
44 القرآن الكريم.
45 قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي 660 هـ، دراسة وتحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي، دار المعارف بيروت، لبنان.
46 لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر، بيروت، ط1.
47 مستدرك الحاكم، دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ الطبعة الأولى، 1411هـ – 1990م،  تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا.
48 مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل، المحقق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2 1420هـ.
49 مسند البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، مؤسسة علوم القرآن , مكتبة العلوم والحكم بالمدينة، 1409هـ، تحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله.
50 المصباح المنير، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت.
51 مظاهر الأخطاء في التكفير والتفسيق، د. صالح بن غانم السدلان.
52 معاني القرآن الكريم، لأبي جعفر النحاس، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1، 1409هـ، تحقيق: محمد علي الصابوني.
53 المعجم الكبير للطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ط 2، 1404هـ.
54 المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار، دار الدعوة.
55 معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، الطبعة 1399هـ.
56 الموافقات للشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي790هـ، دار المعرفة، بيروت.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  القاموس المحيط، وشرحه تاج العروس، لسان العرب، معجم مقاييس اللغة, الصحاح، المصباح المنير، مادة (طرف).

([2])  لسان العرب لابن منظور، مادة: طرف (8/146).

([3])  سورة طه: الآية130.

([4]) تفسير ابن كثير (3/166).

([5]) رواه مسلم (1003).

([6]) تفسير المراغي (6/162).

([7])  سورة الأعراف: الآية31.

([8])  سورة الإسراء: الآية 29.

([9]) سورة البقرة: الآية 143.

([10])  رواه أبو داود (284)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4362).

([11])  رواه البخاري (69)، ومسلم (1719).

([12])  رواه البخاري (3341)، ومسلم (1765).

([13])  رواه البخاري (98)، ومسلم (4828).

([14]) رواه البخاري (5639)، ومسلم (92).

([15]) الصحاح للجوهري (7/298).

([16]) سورة النساء: الآية171، وسورة المائدة: الآية 77.

([17]) لسان العرب (15/131).

([18]) المصباح المنير (1/234).

([19]) سبق تخريجه، ص12.

([20]) الفواكه الدواني (1/125).

([21]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (12/301).

([22]) التعاريف (1/540).

([23]) رواه البخاري (41)أدأ.

([24]) رواه البخاري (6418)، ومسلم (1771).

([25])  سورة النساء: الآية 171.

([26])  سورة طه: الآية 81.

([27])  رواه النسائي (3007)، وابن ماجه (3020)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2680).

([28])  رواه مسلم (4823).

([29])  شرح النووي على مسلم (16/220).

([30])  رواه أحمد (12579)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2246).

([31])  رواه البخاري (39)، ومسلم (2816) .

([32])  معجم مقاييس اللغة، مادة: رَهَب (2/447).

([33])  تاج العروس للزبيدي، مادة: رَهَب (2/538).

([34])  سورة البقرة: آية: 40.

([35])  الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/332).

([36])  سورة الأنفال: الآية 60.

([37])  معاني القرآن الكريم، لأبي جعفر النحاس (3/166).

([38])  أحكام القرآن (2/875).

([39])  التفسير الكبير، (15/186).

([40])  سورة المائدة: الآية 32.

([41])  سورة المائدة: الآية 33.

([42])  سورة الأعراف: الآية 56.

([43])  سورة الأعراف: الآية 116.

([44])  سورة الأنفال: الآية 60.

([45])  سورة الحشر: الآية 13.

([46])  سورة الأنفال: الآيتان 60-61.

([47])  سورة يونس: الآية 44.

([48])  رواه مسلم (4674).

([49])  سورة الأنفال: الآية 60.

([50])  سورة القصص: الآية 77.

([51]) الدورة السادسة عشرة التي عقدت في شوال عام 1423هـ بمجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.

([52])  انظر: الأهواء والفرق والبدع عبر تاريخ الإسلام، د. ناصر العقل  (2/104-106) بتصرف.

([53])  سورة الأنبياء: الآية 7.

([54])  رواه أبو داود (3157)، والترمذي (2606)، وابن ماجه (219)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6297).

([55])  انظر: الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام، د. ناصر العقل، ص22، بتصرف.

([56])  الموافقات للشاطبي (4/194-195).

([57])  قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/95).

([58])  سورة البقرة: الآية 217.

([59])  تيسير الكريم الرحمن (1/173).

([60])  انظر: الاستهزاء بالدين وأهله، لمحمد بن سعيد القحطاني، ص(40)، وما بعدها.

([61])  لسان العرب (9/257، 258).

([62])  القاموس المحيط (3/178)، المعجم الوسيط، ص(631).

([63])  سورة طه: الآيتان 43، 44.

([64])  سورة آل عمران: الآية 159.

([65])  رواه البخاري (5570)، ومسلم (4027).

([66])  رواه مسلم (4697).

([67]) معجم مقاييس اللغة (6/ 108).

([68]) لسان العرب (7/430)، وانظر: المعجم الوسيط (2/1031).

([69]) البقرة: الآية 143.

([70]) سورة البقرة: الآية 143.

([71]) رواه البخاري (4127).

([72]) سورة البقرة: الآية 238.

([73])  تفسير ابن كثير (1/291).

([74])  رواه البخاري (2581).

([75])  سورة المائدة: الآية 89.

([76])  تفسير الطبري (10/543).

([77])  رواه البخاري (5938).

([78])  سورة آل عمران: الآية110.

([79])  سورة البقرة: الآية 185.

([80])  التفسير الميسر (1/199).

([81])  سورة الحج: الآية 78.

([82])  أضواء البيان للشنقيطي (5/300).

([83])  سورة البقرة: الآية 286.

([84])  التفسير الميسر (1/299).

([85])  سورة التغابن: الآية16.

([86])  أضواء البيان (8/204).

([87])  سورة الأعراف: الآية31.

([88])  سورة الإسراء: الآية 29.

([89])  رواه البخاري (6288)، ومسلم (4295).

([90])  رواه البخاري (67).

([91])  رواه البخاري (2811)، ومسلم (3263).

([92])  رواه أحمد (22291)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (2924).

([93])  رواه البخاري (4675)، ومسلم (2487).

([94])  رواه البخاري (6744).

([95])  رواه البخاري (46)، ومسلم (1302).

([96])  “الرائد دروس وعبر في التربية والدعوة”، للشيخ مازن عبد الكريم الفريح (2/9، 10).

([97])  البداية والنهاية لابن كثير (5/248).

([98])  عناقًا: المراد به هو الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. انظر: لسان العرب (9/433).

([99])  رواه مسلم (5138).

([100])  رواه أحمد (18067)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (3119).

([101])  رواه البخاري (654).

([102])  فتح الباري ( 12/282 ).

([103])  رواه البخاري (3342).

([104])  انظر: قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة لابن تيمية، ص(12، 13) ، وانظر: مظاهر الأخطاء في التكفير والتفسيق، للدكتور الشيخ صالح بن غانم السدلان، ص(19-21).

([105])  رواه البخاري (6541).

([106])  فتح الباري شرح صحيح البخاري (7068).

([107])  الطبقات الكبرى لابن سعد (٧/١٦٣ – ١٦٥)، والبداية والنهاية لابن كثير (٩/١٣٥).

([108])  سورة التوبة: الآية 115.

([109])  رواه أبو داود (3641)، وابن ماجه (223)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم (3641).

([110])  سورة النحل: الآية 36.

([111]) رواه البخاري (1623).

([112]) رواه البخاري (6287).

([113]) رواه البخاري (6355).

([114]) جهود وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في مكافحة الإرهاب والأفكار الضالة، للدكتور/ توفيق بن عبد العزيز السديري، ص57، 58.

 

 

 

الإرهاب وأثره على البلاد والعباد

رسالة طبعتها ونشرتها

كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم 1429 هـ

 

 

 

الإرهاب وأثره على البلاد والعباد رسالة طبعتها ونشرتها

كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم 1429 هـ

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد: فهذه نبذة مختصرة عن موضوع الإرهاب وحكمه وبعض آثاره وسلبياته، نسأل الله الكريم أن يبصر المسلمين بأمور دينهم.

أولاً: تعريف الإرهاب:

في اللغة: مصدر أرهب، أي أخاف، ومرادفاتها أفزع وروَّع ونحو ذلك. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: الرَّهْبة والرُّهُب: مخافةٌ مع تحرزٍ واضطرابٍ، قال تعالى:{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}([1])، وقُرئ من الرُّهُبِ، أي الفزع.

وفي الاصطلاح: تعددت التعريفات حوله، ولكن التعريف الأقرب لهذه الكلمة: أن الإرهاب هو جميع الممارسات العدوانية بشتى صورها التي حرمها الإسلام وحذر منها ومنعها.

ثانياً: النصوص الشرعية حول كلمة الإرهاب:

قال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُون} ([2])، وقوله:{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} ([3]).

وقول النبي  ﷺ في دعاء النوم: (اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، ووَجَّهْتُ وجْهِي إلَيْكَ، وأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَا ولَا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، آمَنْتُ بكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ، وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ. فإنْ مُتَّ مُتَّ علَى الفِطْرَةِ)([4]).

فمسمى الإرهاب يطلق على جميع الأعمال العدوانية التي تُحدث الخوف في القلوب، والرهبة في النفوس، والاضطراب في الأمن، ولكن الذي لا يصح قوله أن يتخذ ذريعة ضد الإسلام وأهله، والدعوة إلى الخير، فالإرهاب صناعة غريبة على المسلمين، أتت من خارج بلدانهم، وهي من صنع أعداء الله الماكرين ليكون ذلك دافعاً لهم للوقوف أمام المد الإسلامي الجارف على مستوى العالم بأسره. وكلمة الإرهاب التي نقصدها هي قتل المؤمنين، وتخويف الآمنين، وهتك حرمة المعاهدين، واستهداف الأبرياء، وتدمير المنشآت، وتشويه سمعة الدين.

فكل أعمال العنف التي ترتكب باسم الإسلام، تجر المسلمين إلى متاهات معتمة، ومشاكل جمَّة، وتستعدي عليهم العالم بأسره، وتجلب لهم المشقة والعنت، وغير ذلك مما هو واضح البيان للقريب والبعيد.

لذا وجب علينا فهم هذا المسمى، وأثره على المسلمين، وأن من يتلبسون بسمت الإسلام، ويقعون في مثل هذا العمل هم بعيدون كل البعد عن نهج النبي الكريم ﷺ الذي كان يُؤْذَى في نفسه وأهله وأصحابه فكانت وصيته لهم بالصبر وتقوية الصلة بالله رب العالمين، ولم يأمرهم حينئذ برد العدوان على كفار قريش، أو القيام بأعمال عنف، أو قتل، أو نهب، أو غير ذلك، بل كان السبيل الأوحد عندهم هو الصبر والكف والصفح حتى على ما يصيبهم في دين الله. فما بال أقوام حديثة أسنانهم ليس عندهم علم يهتدون به، أو خبرة في الحياة تحميهم من مزالق الخطر، ينجرفون وراء كل ناعق وداع إلى نشر الخوف والفزع والدمار في ديار الإسلام، إن هذه الفئة تحتاج لمراجعة أمرها، وتحديد مسارها، والعودة إلى علماء الأمة العاملين.

ثالثاً: آثار الإرهاب:

إن لكل زرع حصاداً، والغراس الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا، ومن يحرث بمحاريث الطيش، ويبذر الفتنة، ويرويها بالعنف، سوف يتجرع غُصَّة الشَّوك في حلقه، وسوف يكتوي بناره.

وإن من آثار الإرهاب التي يراها القريب والبعيد ما يلي:

(1) حصد الأرواح.                   

(2) هلاك الأنفس.

(3) تدمير الممتلكات.                

(4) نشر الخوف والرعب.

(5) زرع الضغينة والبغضاء.     

(6) تحجير الخير.

(7) إضعاف الأمة، وتبديد مكاسبها.

(8)  تسلط أعداء الله وتمكنها من أمة الإسلام.

فمن ذا الذي يرضى لنفسه ولغيره تلك الأمور، فالله تعالى رفع عن أمة الإسلام العنت والحرج، وإن نصرة دين الله تعالى، وإعزاز شريعته لا تكون ببث الخوف والرعب، أو الإفساد في الأرض، أو بإلقاء الأنفس إلى التهلكة، أو التضحية بالنفس على غير بصيرة، فكل هذا مخالف لما جاء به دين الإسلام، وإنما جاء الإسلام ليحمي للناس ضروراتهم، ويعمل على حفظها، وينشر الأمن والعدل والسعادة في صفوف مجتمعاته.

رابعاً: أهم سلبيات الإرهاب:

سلبيات الإرهاب كثيرة منها:

(1) مخالفته لروح الدين ولبِّه: فكل عمل يخالف ما جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة نبذ لروح الدين، ومخالفة له، ومن وقع في مثل ذلك فهو المخالف حقاً.

(2) مخالفة ولي الأمر وشق عصا الطاعة: فالنصوص الشرعية دلت على وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف، والصبر على غير ذلك، وأن من شق عصا الطاعة فقد أوقع نفسه في معصية الله ورسوله لمخالفته أوامرهما، قال  ﷺ:( مَن رَأَى مِن أمِيرِهِ شيئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فإنَّه مَن فارَقَ الجَماعَةَ شِبْرًا، فَماتَ، فَمِيتَةٌ جاهِلِيَّةٌ)([5]).

(3) أن ذلك من مصلحة أعداء الإسلام: فالقيام بالأعمال الإرهابية داخل بلاد المسلمين، أو خارجها باسم الدين يفرح الأعداء، ويحقق مصالح كبرى لهم، بحيث تسوغ لهم هذه الأعمال التدخل في شؤون المسلمين، وكسر شوكتهم، والتسلط عليهم، واستنفاد قوتهم، عن طريق جني الأموال الطائلة، والتعويضات الهائلة، وتشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر العالم كله.

(4) عرقلة مسيرة الدعوة: فقد كانت الجمعيات الخيرية والهيئات الإغاثية تملأ أركان الأرض، لتنشر الخير، وتوصل يد العون للمسلمين، ثم وقفت هذه الأعمال في مسيرتها، فكم من جمعية أغلقت؟! وكم من هيئة إغاثية اتهمت؟! وكم من باب خير أوصد؟! فما أكبر الفرق بين من يبني ومن يهدم! ومن ينفع ومن يضر، ومن يشيد ومن يدمر، وبمن يعمر ومن يفجر، ومن يبشر ومن ينفر، ومن يصلح ومن يفسد، ومن يجمع ومن يفرق، ومن يرحم ومن يظلم، فشتان بين هذا وذاك.

(5) قتل المسلمين والمعاهدين: فمن وقع في ذلك فقد خالف قول الله تعالى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}   ([6])، وقول النبي  ﷺ: (مَن قَتَلَ نَفْسًا مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عامًا)([7]).

(6) الخيانة والغدر والجناية على الأبرياء وتخويف الآمنين: فالذي يقوم بهذه الأعمال يكون خائناً لأمته، غادراً لإخوانه، يجني على الأنفس المعصومة بغير وجه حق، ويدخل الرعب على المسلمين، وكل ذلك منافٍ لما أمر به الشرع الحنيف.

(7) تشويه صورة العلماء والصالحين: فالذي يقوم بهذه الأعمال ربما يكون متلبساً بزي أهل العلم والصلاح، وعندما يظهر للناس يكون تأثيره على إخوانه كبيراً وخطيراً، فالسَّمتُ الظاهر يورد الشكوك والشبه حول كل من تلبس به، فيعود أثر ذلك على العلماء والصالحين، فلا تقبل منهم نصيحة، ولا يؤخذ منهم علم، ولا يرفع لهم شأن.

(8) صرف الناس عن طاعة ربهم وتخويفهم بسلوك سبيل المؤمنين: فالناظر حوله الآن يجد أن بعض الناس ترك الالتزام بسمت الصالحين لما يسمع ويرى ما يقوم به بعض المنتسبين إليهم، فدب الخوف في النفوس، وتسبب ذلك في إضعاف وازع الإيمان في القلوب، ففرط الكثير في التزامهم بالسَّمت النبوي الكريم.

(9) فتح الباب للمتربصين ليلجوا إلى بلاد الإسلام: ومعلوم أن الخطط التي تحاك ضد كل ما هو إسلامي أصبحت تظهر علناً بعد أن كانت تعمل في الخفاء، وذلك أن بعضاً من أبناء المسلمين قد أظهروا العداء بصورة خاطئة، بالتعامل بالقتل والتخريب والتفجير، ففتحوا الباب الموصد بأيديهم ليلج أعداء الملة إلى بلاد المسلمين.

(10) حصول الفرقة والتنازع: وذلك ببث الأعمال المخالفة لشريعة الإسلام، فيكون ذلك عاملاً هاماً في بث الفرقة بين أفراد المجتمع المسلم.

(11) ضياع الأمن والأمان: إن التفريط في جانب الأمن جريمة كبرى، ومن ضاع منه الأمن عاش في خوف وقلق واضطراب، فبدون الأمن لا يمكن أن يعيش الناس حياتهم، والمعلوم أن انفلات زمام الأمن هو فتح لبوابة الفتن، والرعب، والهلاك، والأهواء، والعصبيات، والتناحر والتشاجر، وهي من أعظم أسباب الشر والفساد وكل ذلك من مسببات هلاك الأمة وضياعها.

خامساً: أسباب الإرهاب:

من المعلوم لدى غالب المسلمين أن أسباب الضلال والانحراف عن منهج الله تعالى قد تولدت من عهد النبي ﷺ فيمن كانوا يعترضون على حكمه، ويشككون في عدله، ويتهمونه في تعامله، وعانى بعده الخلفاء في القرون المفضلة ما ظهر عليهم من فرق الضلال، وأعمال العنف والإرهاب ما لا يحصى، وها هو هذا الداء يستمر إلى يومنا هذا بأشد ما نجد وما نرى. فعلى المسلمين تلمس أسباب هذا المرض العضال الذي دب في الأمة، وسبَّبَ لها الكثير من المشكلات والمحن.

وإن من أسباب وجود الإرهاب على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

(1) الإهمال من شتى جهات المجتمع: فمن ناحية إهمال الأسرة لأبنائها، بعدم تعليمهم الأخلاق الطيبة الكريمة، وبذل الخير للناس، وعدم الاعتداء على الآخرين وظلمهم، وتوجيههم التوجيه الطيب ليعيشوا لمجتمعهم وأمتهم. وأما من جهة المجتمع فبإهمالهم التعاليم الإلهية، والدروس النبوية، التي تحمي بنيانها، وتوطد أركانها. وأما الإهمال العلمي فبتقصير أهل العلم والفقه والمعرفة والتربية في بذل النصح والتوجيه، والتحذير من الوقوع في الردى، وتعليم الجهال، وتنبيه الغافلين، ونشر العلم، وحث الشباب على التمسك بسبل النجاة، وأيضاً الإهمال العام، عن طريق عدم تبصير الشباب بالاستفادة من طاقاتهم، وشغل أوقاتهم بما ينفعهم، وعدم تسهيل أمورهم المادية والمعيشية، وغير ذلك كثير.

(2) الفراغ والبطالة: وهما من أشد أسباب وجود هذا العمل الخطير، فالفراغ داء مهلك للأمة، يحتاج إلى سده بشتى الوسائل النافعة، وكذلك البطالة هي رفيق الفراغ، فهي السبيل لتفريخ الإجرام، والوقوع في الحرام، والسعي وراء أسباب الفساد.

(3) الدعوات الهدامة: التي أصبحت محل حرية لكل ناعق حتى أصبح هناك من يحارب الدين، ويعادي الدعوة باسم الحرية، وهناك من يتجرأ على أحكام الله تعالى ورسوله ﷺ ، وهناك من يطلق ألفاظاً كفرية خطيرة، وهؤلاء لا يحاسبهم أحد، فيكون ذلك سبباً في استفزاز المسلمين في أعز ما يملكون وهو دينهم.

(4) التوجيه الخاطئ: فحينما يتولى توجيه الناشئة بعض الأشخاص من أصحاب الفكر المنكوس، الذين يتلاعبون بعواطفهم، ويوجهونها التوجيه الخاطئ فيكون ذلك سبباً في تأثرهم بهذا الفكر، فيتبعونه دون وعي ولا إدراك.

(5) ظهور المنكرات وتفشيها: وهذه تختلف من بلد إلى آخر، وتفشي المنكرات من أكبر المؤثرات على الغيورين على دينهم في غياب الوعي الشرعي لديهم، فيدفعهم ذلك إلى ارتكاب أعمال عنف يظنون بها أن ذلك انتصار للدين، وقيام بواجب الإنكار.

(6) الفهم الخاطئ للنصوص: فبعض من وقعوا في العمل الإرهابي كان بسبب فهمهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية، وسماعهم لبعض المتعالمين الذين يلمون ببعض الثقافة الشرعية، فأدى الفهم المنحرف لبعض المصطلحات الشرعية كالجهاد، والتكفير، والشهادة، والولاء والبراء، والسمع والطاعة، إلى الانسياق وراء الحماس الذي أدى بدوره إلى الوقوع في مخاطر عظيمة وجرائم كبيرة.

(7) التغرير بصغار السن من الشباب: فالناظر في غالب الأعمال الإرهابية يجد أن من يقومون بها هم من صغار السن ممن لم تنضج عقولهم، أو يشتد عودهم، وهذا يوصل إلى التغرير بهم سريعاً، فيقعون فريسة في أيدي أصحاب الفكر المنحرف، فيؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة في رميهم لأنفسهم إلى الهلكة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

(8) عدم فهم روح الشريعة: فعدم فهم روح الشريعة، وحقيقة دين الإسلام، والاندفاع وراء العواطف دون ميزانها بالشرع، كل ذلك يوقع في حمأة التكفير، وعدم الإيمان بوجوب السمع والطاعة ولزوم الجماعة، وعدم التفكير في العواقب، والتأمل في شرعية تلك الأعمال، وأيضاً بسبب ذلك تنزع الثقة من العلماء الكبار، ويحصل الاندفاع وراء أصحاب الآراء المتهورة التي ليس لها زمام ولا خطام.

سادساً: الحكم الشرعي في الإرهاب:

الإرهاب محرم بإجماع المسلمين بشتى صوره، بل لعله لم توجد قضية معاصرة يكون عليها من الإجماع مثل الإجماع على حرمة أعمال الإرهاب.

وعلى ذلك فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، ويقتدي بأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم أن يغامر بنفسه ودينه إلى حافة الهاوية ومصير الهلاك.

سابعاً: كيف نواجه الإرهاب؟

سؤال طالما مرَّ بأذهاننا، نحتاج معه إلى كيفية مواجهة هذا العمل الخطير الذي يحتاج إلى جهد ليس بالهين، ويحتاج إلى تعاون الجميع، وهذا ليس محلاً لبسط سبل المواجهة كلها ولكن نكتفي بذكر أهم السبل، ومن ذلك:

(1) القيام بدور النصح والبيان عن طريق العلماء العاملين عبر جميع وسائل الإعلام الممكنة، وأن يكون ذلك مستمراً وعلى كل حال، فقيام العلماء الربانيين بدورهم الهام والضروري في توجيه هذه الفئة يكون له الأثر الإيجابي على المجتمع الإسلامي خاصة، والعالم الإسلامي عامة، حتى يستنير شباب الأمة بتوجيهات علمائهم.

(2) قيام منابر التوجيه بدورها على شتى الأصعدة، ومن أهمها: خطباء المساجد، وأساتذة كليات الشريعة، والمربون ومدرسو المواد الدينية والتربوية، وكذلك جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية كل بحسب حاله، فإذا قام الجميع بدورهم في التوجيه كان لذلك الأثر الإيجابي على الأجيال الناشئة.

(3) قيام الأسرة بدورها الفعال في تربية الأبناء، ولاسيما الأبوان، فالبيت هو المحضن والموجه الأول، وهو المدرسة المهمة في تنشئة أجيال الأمة، فمنه تستخرج ثمرات الأمة ليستفيد منها القاصي والداني.

(4) غرس المعتقد الحق في نفوس الناشئة: وذلك عن طريق دعم الهيئات الشرعية؛ كمكاتب الدعوة، والمراكز الإسلامية، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعتقد الحق هو الذي يوجه أفعال الناس وتصرفاتهم.

(5) فتح أبواب الحوار الهادف، وإقامة الندوات البناءة المثمرة، لتكون همزة وصل بين المجتمع وشبابه، فكل حوار نزيه صادق يحتكم إلى مسلمات الشريعة يكون سبباً أكبر من أسباب مواجهة الإرهاب.

(6) تشجيع الأفكار البناءة، من مشروعات خيرية، وغيرها لحض الشباب على البذل من أجل دين الله تعالى، وخدمة إخوانهم المسلمين.

(7) التمسك بدين الله تعالى، والذب عن شريعته، ونصرة أوليائه، والوقوف أمام المرجفين الذين يبثون سمومهم في قلوب المسلمين لتشكيكهم في معتقدهم، وإضعاف هممهم في خدمة دينهم.

(8) الاجتهاد في القضاء على مظاهر البطالة والفراغ لدى الشباب، وتأمين حياة كريمة، ومعيشة هادئة، والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم فيما يعود بالنفع على الجميع.

(9) الاستماع إلى أصوات الناصحين، الذين يريدون الخير لأمتهم، فإن الناصح والداعي للخير هو أولى الناس بالاستماع له، وقبول توجيهاته.

(10) وضع الخطط الهادفة، والمنظمة، والقيام بحملات واسعة للقضاء على مظاهر الفقر، والتوجيه إلى إعانة الشباب عن طريق فتح الطرق الميسرة للعمل والتجارة والقيام بمشاريع هادفة تمكن لهم عيشة كريمة طيبة.

(11) التركيز على رعاية الأسرة وحمايتها من الأخطار المحدقة من التفكك والخلاف، والتنازع والضياع.

(12) التعاون التام بين فئات المجتمع للوقوف صفاً واحداً ضد جميع التيارات الخاطئة، والأفكار الدخيلة، وإن واجب الجميع المحافظة على ثوابت الأمة، وحماية أمنها.

(13) وحدة الكلمة، والبعد عن الخلافات، والقضاء على الفرقة بين العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى، وأن يكون الجميع يداً واحدة في جمع الصف، ولم الشمل، وتكاتف الجهود، والوقوف صفاً واحداً ضد كل التيارات والأفكار المنحرفة عن شريعة الإسلام.

(14) التذكير بأهمية الأمن في حياة الناس، وأن المحافظة عليه مطلب شرعي كبير، وضرورة هامة للمجتمع، وأن ضياعه ضياع للدين، والعلم، والأنفس، والأعراض، والأرزاق.

أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يكفينا شر الأشرار ومكر الفجار، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر وفتنة، وأن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سورة القصص: الآية 32.

([2]) سورة النحل: الآية 51.

([3]) سورة الحشر: الآية 13.

([4]) رواه البخاري (6313).

([5]) رواه البخاري (7054)، ومسلم (380).

([6]) سورة النساء: الآية 93.

([7]) رواه البخاري (6914).

فقه الجهاد ومفهومه الخاطئ

مطوية مركز الدعوة بالزلفي عام 1439 هـ

فقه الجهاد ومفهومه الخاطئ

مطوية مركز الدعوة بالزلفي عام 1439 هـ

الحمد لله رب العالمين، مولى المتقين، وناصر المستضعفين، ومعلي راية الإسلام في العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعد الشهداء في الدنيا بالعز والفخر وأجاد عليهم يوم اللقاء بمزيد عطاءه وكرمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من جاهد في سبيل ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

فالجهاد سنَّة الله الماضية، وهو ذُروة سنام الإسلام، وطريق العزة والرفعة بين الأنام، كتبه الله على عباده المؤمنين لنشر دعوة الإسلام، وحماية بيضة المسلمين، وفي هذه النشرة التي بين أيديكم نبذة مختصرة عن الجهاد وبعض الأحكام المتعلقة به، نسأل الله الكريم أن ينفع بها، وأن يجعلها ذخراً لنا يوم لقائه، وأن يجعلها ثمرة مرجوة لمن كتبها وقرأها واطلع عليها.

أولاً: تعريف الجهاد:

في اللغة: الجهاد مصدر جَاهدَ، وهو من الجَهد، أو الجُهد، وقيل: الجَهد هو المشقة، والجُهد: الطاقة ([1]).

وفي الاصطلاح: قتال مسلم كافراً غير ذي عهدٍ بعد دعوته للإسلام وإبائه، إعلاء لكلمة الله ([2]).

ثانياً: فضل الجهاد والحكمة من مشروعيته:

قال تعالى:{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} ([3]). لقد أخبر سبحانه وتعالى عن صفقة رابحة بينه وبين عباده المؤمنين، وهو بيعهم أنفسهم وأموالهم لله، واشتروا ما عند الله وهو الجنة، وهي أعظم سلعة من أكرم بائع وهو الله تعالى وتقدس.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قِيلَ للنبيِّ  ﷺ: ما يَعْدِلُ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قالَ: لا تَسْتَطِيعُونَهُ، قالَ: فأعَادُوا عليه مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذلكَ يقولُ: لا تَسْتَطِيعُونَهُ، وَقالَ في الثَّالِثَةِ: مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ القَانِتِ بآيَاتِ اللهِ، لا يَفْتُرُ مِن صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حتَّى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سَبيلِ اللهِ تَعَالَى) ([4]).

قال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في المقصود من الجهاد:”الجهاد نوعان: جهاد طلب، وجهاد دفاع، والمقصود منهما جميعاً هو تبليغ دين الله، ودعوة الناس إليه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعلاء دين الله في أرضه، وأن يكون الدين كله لله وحده..”ا.هـ([5]).

ثالثاً: حكم الجهاد:

الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون}([6]).

قال شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فرضية الجهاد: “لابد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة، فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة؛ ولهذا لم يوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة، وكونوا الدولة الإسلامية، وصار لهم شوكة أمروا بالقتال، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة؛ لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}([7])، وقوله:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ([8]) ا.هـ” ([9]).

وقد كان الرسول  ﷺ يخرج تارة ويبعث غيره تارة أخرى.

رابعاً: متى يصير الجهاد فرض عين:

ذهب جمهور العلماء إلى أنه يصير فرض عين عند حالات، منها:

الأولى: إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان حَرُمَ على من حضر الانصراف، وتعيَّن عليه المقام لقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين} ([10]).

الثانية: إذا هجم العدو على قوم من المسلمين بغتة، فيتعين عليهم الدفع ولو كان امرأة أو صبياً، أو هجم على من بقربهم، وليس لهم قدرة على دفعه.

الثالثة: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير معه إلا من له عذر قاطع، لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل} ([11]).

خامساً: أقسام الجهاد:

(1) جهاد النفس: فمجاهدة النفس على طاعة الله، وعدم معصيته، وصد وسوسة الشيطان ونزغاته، والزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة، وصرفها عن الحرام إلى المباح من أفضل الجهاد الذي يثيب الله عليه الجنة، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ([12]).

(2) جهاد الشيطان: بدفع ما يلقيه من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، ودفع ما يلقيه من الشهوات والإرادات الفاسدة، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير}([13]).

(3) جهاد الكفار والمنافقين وغيرهم من الظلمة وأهل البدع: ويكون بالقلب، واللسان، والمال، واليد، وجهاد الكفار والظالمين أخص باليد، وجهاد المنافقين وأهل البدع أخص باللسان. قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} ([14]).

سادساً: شروط وجوب الجهاد:

(1) الإسلام: فلا يحل لكافر.                              

(2) العقل: فلا يجب على المجنون.

(3) البلوغ: فلا يجب على الصبي.                       

(4) الذكورة: فلا يجب على المرأة.

(5) القدرة على مؤونة الجهاد.                             

(6) السلامة من الضرر، فلا يجب على العاجز غير المستطيع.

سابعاً: الدعوة في الجهاد قبل القتال:

اتفق الفقهاء على أنه إذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصناً دعوا الكفار إلى الإسلام، لقول ابن عباس رضي الله عنه: “ما قاتل النبي ﷺ قوماً حتى دعاهم إلى الإسلام، فإن أجابوا كفوا عن قتالهم لحصول المقصود”، وقد قال  ﷺ: (أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ)([15]).

وإن امتنعوا دعوهم إلى الجزية، وهذا في حق من تقبل منه الجزية، وأما من لا تقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب فلا فائدة في دعوتهم إلى قبول الجزية.

فقد روى مسلم في صحيحه عن بريدة رضي الله عنه قال: (كانَ رَسولُ اللهِ  ﷺ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا علَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بتَقْوَى اللهِ، وَمَن معهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قالَ: اغْزُوا باسْمِ اللهِ في سَبيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ باللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وإذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إلى ثَلَاثِ خِصَالٍ، أَوْ خِلَالٍ، فأيَّتُهُنَّ ما أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، فإنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ مِن دَارِهِمْ إلى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذلكَ فَلَهُمْ ما لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعليهم ما علَى المُهَاجِرِينَ، فإنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا منها، فَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكونُونَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ، يَجْرِي عليهم حُكْمُ اللهِ الذي يَجْرِي علَى المُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكونُ لهمْ في الغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شيءٌ إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مع المُسْلِمِينَ، فإنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فإنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، فإنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فلا تَجْعَلْ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لهمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فإنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِن أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسولِهِ، وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، فلا تُنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فيهم أَمْ لَا )([16]).

ففي هذا الحديث بيان واضح من النبي  ﷺ لكيفية التعامل مع الكفار حال جهادهم، وكيفية التدرج في التعامل معهم، وحتى تحصل المنافع من وراء ذلك، وتدرأ المفاسد.

ثامناً: الاستئذان في الجهاد:

(1) إذن الوالدين: فلا يجوز الجهاد إلا بإذن الوالدين المسلمين، أو بإذن أحدهما إن كان الآخر كافراً أو ميتاً، إلا إذا تعين، كأن ينزل العدو بالمسلمين، ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثاً لهم، أذن الوالدان أم لم يأذنا، إلا أن يَضِيعَ أبواه، أو أحدهما بعده، فلا يحل له ترك من يضيع منهما. ورد في الصحيحين:(جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ  ﷺ ، فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَالَ: أحَيٌّ والِدَاكَ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ) ([17])، فدل على أن برُّ الوالدين مقدمٌ على الجهاد، وأن الجهاد في هذه الحالة فرض كفاية.

(2) إذن الدائن: اتفق الفقهاء على أنه لا يخرج المدين للجهاد إذا كان الدين حالاً، أما إن كان الدين مؤجلاً فالصحيح أنه لا يمنع. أما إذا تعين الجهاد فلا خلاف بين الفقهاء في أنه لا إذن لغريمه، لأنه تعلق بعينه، فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان.

قال ابن قدامة رحمه الله: “وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْغَزْوِ إلا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ، إلا أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً، أَوْ يُقِيمَ بِهِ كَفِيلا، أَوْ يُوَثِّقَهُ بِرَهْنٍ . وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. ودليل ذلك أَنَّ رَجُلا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قُتِلْت فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إلا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ولأَنَّ الْجِهَادَ تُقْصَدُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ الَّتِي تَفُوتُ بِهَا النَّفْسُ، فَيَفُوتُ الْحَقُّ بِفَوَاتِهَا.

وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، فَلا إذْنَ لِغَرِيمِهِ; لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ فُرُوضِ الأَعْيَانِ .

وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، أَوْ أَقَامَ كَفِيلا، فَلَهُ الْغَزْوُ بِغَيْرِ إذْنِ . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَنْ تَرَكَ وَفَاءً، لأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَرَامٍ أَبَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَرَجَ إلَى أُحُدٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ، فَاسْتُشْهِدَ، وَقَضَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ بِعِلْمِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَذُمَّهُ النَّبِيُّ  ﷺ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ، بَلْ مَدَحَهُ، وَقَالَ: (مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ). وَقَالَ لابْنِهِ جَابِرٌ: أَشَعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاك، وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا! ([18]) انتهى. بتصرف واختصار.

وأما إذا كان المدين معه من المال ما يفي بالدين، فهل يقدم الخروج للجهاد، أو وفاء الدين.

فجواب ذلك: إذا كان الجهاد فرض كفاية فإنه يقدم وفاء الدين.

وأما إذا كان الجهاد فرض عين فله حالان:

  1. إذا تعيّن الجهاد لكونه حضر الصف، أو حصر العدو بلده فإنه يقدم الجهاد.
  2. إذا تعين الجهاد لكون الإمام طلب منه الخروج للجهاد فإنه يقدم وفاء الدين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:” سُئِلْت عَمَّنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَا يُوفِيه وَقَدْ تَعَيَّنَ الْجِهَادُ، فَقُلْت: مِنْ الْوَاجِبَاتِ مَا يُقَدَّمُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ كَنَفَقَةِ النَّفْسِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الْفَقِيرِ، وَمِنْهَا مَا يُقَدَّمُ وَفَاءُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ كَالْعِبَادَاتِ مِنْ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَاتِ، وَمِنْهَا مَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلا إذَا طُولِبَ بِهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ الْمُتَعَيِّنُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَمَا إذَا حَضَرَهُ الْعَدُوُّ أَوْ حَضَرَ الصَّفَّ قُدِّمَ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ اسْتِنْفَارٌ ـ يعني طلب الخروج للجهاد من الإمام ـ فَقَضَاءُ الدَّيْنِ أَوْلَى، إذْ الإِمَامُ لا يَنْبَغِي لَهُ اسْتِنْفَارُ الْمَدِينِ مَعَ الاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قُلْت: لَوْ ضَاقَ الْمَالُ عَنْ إطْعَامِ جِيَاعٍ وَالْجِهَادِ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ قَدَّمْنَا الْجِهَادَ وَإِنْ مَاتَ الْجِيَاعُ، ….. وَقُلْت أَيْضًا: إذَا كَانَ الْغُرَمَاءُ يُجَاهِدُونَ بِالْمَالِ الَّذِي يَسْتَوْفُونَهُ فَالْوَاجِبُ وَفَاؤُهُمْ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَتَيْنِ: الْوَفَاءِ وَالْجِهَادِ. وَنُصُوصُ الإِمَامِ أَحْمَدَ تُوَافِقُ مَا كَتَبْتُهُ “([19]) اهـ.

 (3) إذن إمام المسلمين: وهذه المسألة زاغ فيها من زاغ عن جهل وبعد عن العلماء، والمسألة تحتاج إلى توضيح وبيان كي ينتبه شباب الأمة: فنقول وبالله التوفيق: يلزم الرعية طاعة ولي الأمر فيما يراه من ذلك؛ لقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ..} ([20])، ولقول النبي  ﷺ:(مَن أطاعَنِي فقَدْ أطاعَ اللَّهَ، ومَن عَصانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن أطاعَ أمِيرِي فقَدْ أطاعَنِي، ومَن عَصَى أمِيرِي فقَدْ عَصانِي)([21]).

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي  ﷺ أنه قال: (تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)([22]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق” ([23]).

ومن طاعة ولي الأمر عدم الجهاد إلا بإذنه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:(جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ  ﷺ ، فَاسْتَأْذَنَهُ في الجِهَادِ، فَقَالَ: أحَيٌّ والِدَاكَ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ) ([24])، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  ﷺ قال:(إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَلَ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ، وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ) ([25]).

قال ابن قدامة رحمه الله:”وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك” ([26]).

وذكر الإمام الخرقي وابن قدامة رحمهما الله أيضاً:”أنه لا يجوز حتى الخروج من العسكر إلا بإذن الأمير، ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه” ([27])، لقول الله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ..}([28])؛ ولأن الأمير أعرف بحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم، وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو فيأخذه..” ([29]).

وبناءً على ما تقدم فلا يجوز لأحد من أفراد رعية الإمام المسلم ـ وإن كان عاصياً ـ أن يخرج إلى الجهاد إلا بإذنه على حسب ما ذكرناه سابقاً، ولا يجوز لأحد من الرعية أن يدعو الناس إلى الجهاد بدون إذن الإمام؛ لما في ذلك من المفاسد، والأضرار، ومخالفة إمام المسلمين الذي أمرنا الله بطاعته.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، في الباطن الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا” ([30]).

تاسعاً: المفهوم الخاطئ للجهاد:

وهذه المسألة ـ أي الخروج إلى الجهاد بغير إذن الإمام ـ أخطأ فيها بعض من ينتسبون إلى أهل العلم، وبعض الشباب المتحمس حماساً مندفعاً دون علم وبصيرة بعواقب الأمور، فوجب إيضاحها لئلا يقع شباب المسلمين فريسة في أيدي ضعيفي الدين والعقل، وخاصة ممن يدفعون بهم إلى استباحة الدماء، وقتل الأبرياء، وترويع الآمنين، وتدمير المنشآت الحيوية للبلاد، والخروج على جماعة المسلمين باسم الدين.

ولو نظرنا في أحوال غالب المسلمين الآن لرأينا أثر الاندفاع المتهور في رفع علم الجهاد ضد مجتمعات المسلمين أنفسهم دون رجوع إلى أهل العلم الربانيين، فعاد ذلك بالسوء على أمة الإسلام والمسلمين.

ولو فقه شباب المسلمين الجهاد فقهاً واعياً لما وقعوا فريسة في أيدي من يريدون لأمة الإسلام الهلاك والدمار، ولكنهم أخطأوا في فهم معنى الجهاد، فجعلوا القتل، والترويع، وإتلاف الأموال، والممتلكات، والاستهانة بمقدرات البلاد نوعاً من الجهاد، كيف يوجه هؤلاء سلاحهم إلى أهليهم وبلادهم ورجالات الأمن الذين يحمون البلاد والعباد، ويسهرون لما فيه مصلحة ظاهرة. إن هذا الفهم الأهوج الأعوج على البلاد والعباد ما ظهرت آثاره للعيان.

أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا، وأن يوفق علماءنا وولاة أمورنا لما فيه خير وصلاح المسلمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) لسان العرب، مادة: جهد، والقاموس المحيط، مادة: جهد.

([2]) فتح القدير (4/277)، الفتاوى الهندية (2/188)، جواهر الإكليل (1/250).

([3]) سورة التوبة: الآية 111.

([4]) رواه مسلم (1878).

([5]) مجموع فتاوى ابن باز (18/70).

([6]) سورة التوبة: الآية 112.

([7]) سورة التغابن: الآية 16.

([8]) سورة البقرة: الآية 286.

([9]) الشرح الممتع على زاد المستقنع (8/9).

([10]) سورة الأنفال: الآيتان 45، 46.

([11]) سورة التوبة: الآية 38.

([12]) سورة النازعات: الآيتان 40، 41.

([13]) سورة فاطر: الآية 6.

([14]) سورة البقرة: الآية 193.

([15]) رواه البخاري (25)، ومسلم (21).

([16]) رواه مسلم (173).

([17]) رواه البخاري (3004)، ومسلم (2549).

([18]) ينظر: المغني (13/28).

([19]) الاختيارات: ص (308).

([20]) سورة النساء: الآية 59.

([21]) رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835).

([22]) رواه مسلم (1847).

([23]) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/16، 17).

([24]) رواه البخاري (3004)، ومسلم (2549).

([25]) رواه مسلم (1841).

([26]) المغني (13/16).

([27]) المغني (13/37).

([28]) سورة النور: الآية 62.

([29]) المغني (13/38).

([30]) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص(449).

رسالة من أحكام أهل الذمة

مع دراسة شرعية لحادثتي التفجير

في العليا والخبر

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وآله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فقد اطلعت على الكتاب الذي هو بعنوان: (من أحكام أهل الذمة مع دراسة شرعية لحادثتي التفجير في العليا والخبر) من تأليف: الدكتور الشيخ عبد الله الطيار، فوجدته كتاباً مفيداً، يوضح الحق في مسألة التبس أمرها على كثير من الجهال، ويلبس بها بعض ذوي الأغراض الدنيئة ودعاة الفتنة لزعزعة الأمن وتلويث الأفكار.

فجاء هذا الكتاب في وقت الحاجة يوضح الحق ويزيل الشبهة.

فجزى الله مؤلفه الشيخ عبد الله خيرا الجزاء، ونفع بعلمه إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

                                                                                         صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

                                                                                                       16/ 5/ 1418هـ

المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} ([1]).{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}([2]).{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا}([3]). أما بعد:

فإنه من رحمة الله سبحانه وتعالى وعظيم لطفه بعباده أن جعل الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسالات السماوية، وجعلها سبحانه وتعالى كاملة صافية نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، وكتب ـ تبارك اسمه وتعالى جده ـ السعادة في الدارين لأتباع هذه الرسالة الذين قدروها حق قدرها، وقاموا بها على وفق ما أراد الله، وعلى هدى نبي الله محمد  ﷺ وسماهم أولياء الله وحزبه.

وكتب جل وعلا الشقاء والذلة على من حاد عن هذه الشريعة وتنكب الصراط المستقيم، وسماهم أولياء الشيطان.

وجعل هذا الدين هو الدين الكامل وهو الدين الخالد إلى أن تقوم الساعة، وهو الدين الذي يصلح لكل زمان ومكان، فمن تمسك به نجا ومن سلك طريقه اهتدى، ومن عمل به وصل إلى الدرجات العلا، ولن يقبل الله من أحد ديناً غير الإسلام، لا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية ولا شيوعية ولا غيرها من المذاهب الهدامة، والفرق المنحلة والنحل المنحرفة عن الطريق السوي، وسوف يخسر أولئك أنفسهم ويخسرون ما أعد الله لأوليائه المؤمنين من الفوز بالكرامة والنعيم المقيم. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}([4])، وقال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} ([5]).

والمجتمع الإسلامي لم يخل قط من غير المسلمين في أي عصر من العصور ولا عجب في ذلك، فالإسلام لا يمنع المسلمين من العيش مع من يخالفونهم في العقيدة والدين، فهم جميعاً خلق الله وليس من لوازم الإيمان بهذا الدين أذية غير المسلمين، ورفض العيش المشترك معهم في ظل الإسلام، فإذا كان هذا هو الذي حدث، وما زال يحدث فإن الشارع قد نظم العلاقات بين المسلمين وغيرهم من ذوي الأديان الأخرى على نحو يكفل لغير المسلمين حقوقهم ويحميهم من أي اعتداء، بل ويعاملون معاملة حسنة؛ لأن الدين الإسلامي هو دين التسامح واللين والرفق، بل إن أساس هذا الدين المعاملة الحسنة وحسن الخلق في التعامل مع الغير كما جاء في الحديث: (مَا مِنْ شَيءٍ فِي الِميزانِ أَثْقَلُ مِن حُسْنَ الخُلُقِ)([6]).

لذلك لم يجد غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم معاملة مثل التي وجدوها من المسلمين في دار الإسلام.

لكن الذي آلمني أن بعض المتحمسين لهذا الدين اجترؤوا على التاريخ وقولوه ما لم يقل، واجترؤوا على النصوص فحرفوها عن موضعها محاولين بهذا أو ذاك أن يبرروا تصرفاتهم الخاطئة، ونزعتهم العدوانية، وهم بهذا يشوهون صورة التسامح الإسلامي الذي لم تعرف له البشرية نظيراً في معاملة غير المسلمين لا في القديم ولا في الحديث؛ لهذا رأيت أن أقدم هذا البحث لمن يبحث عن الحقيقة من المسلمين وغير المسلمين، وليعلم غير المسلمين هذا الجانب المشرق من الإسلام. وهو بحث ـ ولله الحمد والمنة ـ أساسه العلم والفكر، ومحوره الفقه والتاريخ، وهدفه البناء.

وقد بينت في هذه الرسالة حقوق غير المسلمين التي كفلها لهم الإسلام، وما عليهم من واجبات في مقابل هذه الحقوق، وما أثير حول هذه الواجبات من شبهات مع الرد عليها.

وها هي بلاد الحرمين الشريفين ـ المملكة العربية السعودية ـ ولله الحمد والمنة تعلن شرع الله وتتحاكم إليه، وتتعامل مع من يقيم على ثراها من غير المسلمين حسب النصوص الشرعية، وتلتزم بما يبرم معهم من العقود والعهود والمواثيق سواء كانت على المستوى العام، أو على مستوى الأفراد، ولا يضار أحدٌ منهم، بل يأخذ حقوقه كاملة بشرط أن يؤدي ما عليه من الحقوق.

فعسى أن يكون في هذا البحث ما يعين على تجلية الحق في هذه القضية، ويزيح عنها ضباب التشويه والتشكيك، ويعرضها صافية نقية بعيدة عن تحامل المتحاملين، أو تعصب المتعصبين الذين راح بعضهم يسعى في الأرض فساداً وتخريباً بسبب سوء الفهم للنصوص والجهل بروح الشريعة السمحاء.

والله أسأل أن يشرح صدورنا جميعاً للحق، وأن يفقهنا في ديننا، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويجنبنا الزلل، ويتقبل منا أعمالنا، ويجعلها في ميزان حسناتنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المبحث الأول

غير المسلم في المجتمع الإسلامي

النصوص الشرعية التي تنظم علاقة المجتمع الإسلامي بغير المسلمين عامة:

أولاً: نصوص الكتاب الكريم:

يقول الله تعالى:{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} ([7]) .

ويقول تعالى:{ وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..} ([8]).

ويقول تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} ([9]).

ويقول تعالى:{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}([10]).

ويقول تعالى:{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين} ([11]).

ويقول تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} ([12]).

ويقول تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون}  ([13]).

ويقول تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين} ([14]).

ويقول تعالى:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ([15]).

ويقول تعالى:{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} ([16]).

ويقول تعالى:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز}   ([17]).

ويقول تعالى:{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير}([18]).

ويقول تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} ([19]).

ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ..} ([20]).

ويقول تعالى:{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا} ([21]).

ويقول تعالى في الثناء على المؤمنين:{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} ([22]).

ويقول تعالى:{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين} ([23]).

ويقول تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين}([24]).

ويقول تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين}([25]).

ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} ([26]).

ويقول تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ..}([27]).

ويقول تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}([28]).

ويقول تعالى:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا}([29]).

ثانياً: نصوص من السنة النبوية:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  ﷺ: (فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)([30]).

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله  ﷺ: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) ([31]). وقال رسول الله  ﷺ: (إِنَّ دِيَةَ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ)([32]). وقال ﷺ: ( مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )([33]).

وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله  ﷺ قال: (وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ، وَلَا صَرْفٌ) ([34]).  

وقال  ﷺ: ( مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ) ([35]).

وقال  ﷺ: ( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ) ([36]).

وقال  ﷺ: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)([37]).

وعندنا أمر ﷺ بقتل فرات بن حيان وكان عيناً لأبي سفيان وكان حليفاً لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول إنني مسلم. فقال رسول الله  ﷺ: (إِنَّ مِنْكُمْ رِجَـالًا نَكِلُهُمْ إِلَى إِيمَانِهِمْ، مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ)([38]) .

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله  ﷺ: (إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفَعَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ)([39]).

عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله  : (أَعْطَى اليَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا)([40]).

وروي أن النبي ﷺ أتي بصدقات فجاءه يهودي فقال: “أعطني فقال النبي  ﷺ: (ليس لك من صدقة المسلمين شيء)، فذهب اليهودي غير بعيد، فنزل قول الله تعالى:{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون}([41])، فدعاه النبي  ﷺ فأعطاه”([42]).

وقال  ﷺ: ( إِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ ) ([43]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  ﷺ أنه قال: (ألا مَن قتلَ نفسًا معاهَدًا لَه ذمَّةُ اللَّهِ وذمَّةُ رسولِه، فقد أخفرَ بذمَّةِ اللَّهِ، فلا يرِح رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ ريحَها لتوجدُ من مسيرةِ سبعينَ خريفًا )([44]).

من أقول الصحابة والتابعين والسلف في أهل الذمة:

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي  ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل النبي  ﷺ ناصيته ثم فرق بعد ذلك ([45]).

وقال الأوزاعي  رحمه الله: “إن سلمت على أهل الكتاب فقد سلم الصالحون قبلك وإن تركت فقد ترك الصالحون”([46]).

وعن البصري رحمه الله أنه قال: “إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم”([47]).

وقال السرخسي رحمه الله: “أموالهم صارت مضمونة بحكم الأمان فلا يمكن أخذها بحكم الإباحة”([48]).

المبحث الثاني

حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي وواجباته

سبق أن ذكرنا أن لأهل الذمة في دار الإسلام حقوقاً مثل ما للمسلمين كما أن عليهم ما على المسلمين من واجبات إلا ما استثناه الشارع الحكيم، ونجمل ذلك فيما يأتي:

أولاً: حقوق أهل الذمة:

(1) حرية التدين:

من الحقوق الأساسية لأهل الذمة، حرية الدِّين والاعتقاد فلا يجبرون على ترك ما هم عليه من كفر ليدخلوا في الإسلام لقوله تعالى:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}([49]) ، {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} ([50]).

فهم مخيرون بعد البيان والبلاغ بين الإيمان والكفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}([51])، “جمهور السلف على أنها ليست منسوخة ولا مخصوصة وإنما النص عام، فلا نكره أحداً على الدين والقتال لمن حاربنا، فإن أسلم عصم ماله ودمه، وإذا كان لم يكن من أهل القتال لا نقتله، ولا يقدر أحد قط أن ينقل أن رسـول الله  ﷺ أكره أحداً على الإســلام لا ممتنعـــاً ولا مقــدوراً عليه، ولا فائــدة في إسلام مثل هذا، لكن من أسلم قُبل منه ظاهر الإسلام([52]).

 (2) حمايتهم من الاعتداء الخارجي:

من الحقوق المعتبرة لأهل الذمة في بلاد المسلمين حق الدفاع عنهم وحمايتهم من الاعتداءات الخارجية.

قال ابن قدامة رحمه الله: ” وإذا ‌عقد ‌الذمة، ‌فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة؛ لأنه التزم بالعهد حفظهم؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا.

وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده: “وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيراً، أن يوفي لهم بعهدهم، ويحاط من ورائهم “([53]).

(3) حماية أرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم:

مما يجب على الدولة الإسلامية تجاه أهل الذمة حماية أموالهم من التعدي عليها بالسرقة والغصب، وحماية أعراضهم من السب أو التهمة بباطل، أو الكذب عليهم، أو ذكرهم بما يكرهونه.

وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أرسل إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: “أن امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحلها”([54])، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: “إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا” ([55]).

وقال ابن عابدين رحمه الله: “إن بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا إن ظلم الذمي أشد”([56]).

(4) كفالة معيشتهم عند مرضهم وعند عجزهم عن النفقة:

ومن ذلك ما جاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ.}([57])“، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه([58]).

ومن ذلك أيضاً ما ورد أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عامله على البصرة: “أما بعد؛ انظر مَن قبلك من أهل الذمة من كَبِرَت سِنُّه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، فأَجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلحه”([59]).

(5) حرية العمل والكسب:

فقد كفلت الشريعة الإسلامية لأهل الذمة العمل في جميع الأعمال التي تكفل لهم أسباب الرزق كالبيع والشراء، والمضاربة، والإجارة وغيرها من المعاملات سواء كان ذلك بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.

قال ابن القيم رحمه الله: “فقد ثبت عن النبي  ﷺ أنه اشترى من يهودي سلعة إلى ميسرة، وثبت أنه رهن درعه عند يهودي في ثلاثين وسقاً من شعير، وثبت أنه  ﷺ زارعهم وساقاهم، وثبت أنه ﷺ أكل من طعامهم، وفي كل ذلك قبول قولهم أن ذلك الشيء ملكهم، وأنه شاركهم في زرع خيبر وثمرها . قال: وقال إسحاق بن إبراهيم رحمه الله: سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يشارك اليهود والنصارى فقال: يشاركهم، ولكن يلي هو البيع والشراء، ذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال”([60]) .

(6) العدل بينهم وبين غيرهم:

من الحقوق المشتركة بين المسلم وغيره العدل في جميع شؤون الحياة قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}([61])، فهو يشمل الجميع المسلمين وغيرهم، قال تعالى:{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}([62])، فهذا أمر من الله تعالى بالبر والقسط بالمشركين الذين لم يعادوا المسلمين، وهم بطبيعة الحال ليس لهم عهد ولا ذمة، فكيف بأهل العهد والذمة، لا شك أنهم أولى بالعدل والبر والقسط .

وقد سبق بيان ما جاء في السنة من النهي عن التعرض لهم بما يكون فيه ظلم لهم كما في قوله  ﷺ: ” مَن ظلم معاهدًا، أو انتقَصه حقًا، أو كلَّفه فوقَ طاقتِه، أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نَفسٍ منه، فأنا حَجيجُه يوم َالقيامةِ”([63]).

وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخليفته من بعده، قال: “وأوصيه بأهل الذمة خيرًا ألَّا يُكلِّفهم إلا طاقتهم، وأن يُقاتل من ورائهم، وأن يُوفِّي لهم بعهدهم، ويُحاطوا من ورائهم، ويجب فداء أسراهم سواء كانوا في معونتنا أم لم يكونوا”([64]).

 

المبحث الثالث

ما يجب على أهل الذمة

أولاً: أن يعطوا الجزية في كل عام عن يد وهم صاغرون: وهي ضريبة سنوية على الرؤوس، تؤخذ من الرجال البالغين لقوله ﷺ: (خذ من كل حالم ديناراً) ([65])، ولا تؤخذ الجزية من امرأة وخنثى وصبي ومجنون وقن وزمن وأعمى وشيخ فانٍ وراهبٍ في صومعته، ويمنع منها الفقراء، قال تعالى:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}([66])،{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}([67]).

والجزية ليس لها حد معين والمرجع فيها إلى الإمام كما فعل عمر رضي الله عنه فقد جعل على الموسرين في الجزية ثمانٍ وأربعين درهماً، وعلى المتوسطين في اليسار أربعة وعشرين درهماً، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين اثني عشر درهماً.

ثانياً: أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بالخير، فيجب أن يمتنعوا عما فيه غضاضة على المسلمين كذكر الله ـ سبحانه وتعالى، أو كتابه، أو رسوله  ﷺ، أو دينه بسوء، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها.

ثالثاً: الامتناع عن إظهار المنكر كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والفطر في رمضان في أمصار المسلمين. فيراعوا هيبة الدولة الإسلامية التي تظلهم بحمايتها ورعايتها.

فعن عرفة بن الحارث أنه دعا نصرانياً إلى الإسلام فذكر النصراني النبي  ﷺ فتناوله ـ أي: بسوء القول ـ فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه. فقال عمرو: قد أعطيناهم العهد، فقال عرفة: معاذ الله أن نكون أعطيناهم العهود والمواثيق على أن يؤذوننا في الله ورسوله إنما أعطيناهم على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وألا نحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن نقاتل من ورائهم، وأن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتوننا فنحكم بينهم بما أنزل الله. فقال عمرو: صدقت([68]).

رابعاً: التزام أحكام المسلمين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات، وذلك في النفس والمال والعرض، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه؛ كالزنا والسرقة والقذف، أما ما يعتقدون حلّه كالخمر ولحم الخنزير فلا يعاقبون عليه؛ لأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم جرماً، ولكنهم كما سبق يمنعون من إظهار ذلك بين المسلمين.

خامساً: الامتناع من إحداث الكنائس والبيع، وكذا الجهر بكتبهم، وإظهار شعارهم، وأعيادهم في الدار؛ لأن فيه استخفافاً بالمسلمين، وهذا ما عاهدهم عليه عمر رضي الله عنه في كتاب عبد الرحمن بن غـُنم الذي اشتهر بالشروط العمرية.

قال ابن القيم رحمه الله: “وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها”([69]).

  

المبحث الرابع

الفرق بين الحربي والذمي والمعاهد والمستأمن

تعريف الحربي لغة: الحرب ضد السلم، ودار الحرب بلاد المشركين الذين لا صلح بيننا وبينهم، ورجل حرب، ومحراب شديد، وعدو محارب ([70]).

تعريف الحربي اصطلاحاً: هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية بينها وبين المسلمين حرب ([71]).

تعريف الذمي لغةً: الذمة هي العهد، وأهل الذمة هم أهل العقد. وقيل: الذمة الكفالة والضمان، وسمي ذمياً لأنه يدخل في أمان المسلمين؛ فالذمة هي الأمان ([72]).

تعريف الذمي اصطلاحاً: هو من استوطن دار الإسلام بتسليم الجزية بموجب عقد الذمة الذي بينه وبين المسلمين ([73]).

تعريف المعاهد لغة: العهد: كل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من مواثيق وأمان، وسمي اليهود والنصارى أهل العهد للذمة التي أعطوها، والعهدة المشترطة عليهم ولهم، ولا ذو عهد في عهده، أي: المحافظ على العهد الذي عوهد عليه من المسلمين([74]).

تعريف المعاهد اصطلاحاً: هو الذي أخذ عليه العهد من الكفار، بأن يبايع المسلمين على أن يعطي الجزية مقابل أن يكفوا عنه، وقد يطلق هذا المصطلح على من صولحوا على ترك الحرب مدة ما ([75]).

تعريف المستأمن لغةً: استأمن إليه أي دخل في أمانه ([76]):{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين}([77])، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ..} ([78]).

تعريف المستأمن اصطلاحاً: هو من دخل دار الإسلام بأمان مؤقت لمدة طويلة ([79]).

من التعاريف السابقة لغة واصطلاحاً يتضح الفرق جلياً بين كل من المعاهد، والمستأمن، والذمي، والحربي.

ولكننا نورد فرقاً هاما جداً بين الذمي والمستأمن، وهو أن الذمي مقيم في دار الإسلام بصفة دائمة، بينما المستأمن مقيم فيها لمدة معلومة بأمان مؤقت.

وقد بين ابن قدامة رحمه الله: أنه لا يجوز عقد الذمة المؤبد إلا بشرطين:

1) الالتزام بإعطاء الجزية في كل حول ([80]).

2) الالتزام بأحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء أو ترك محرم، لقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون}([81]).

كيف يعاقب غير المسلم إذا أخل بواجباته ومن يتولى معاقبته:

إن الكتابي إذا أخل بواجب من الواجبات المتضمنة عقد الذمة والتي اشترطها عليه الإمام فإنه يطبق عليه أحكام الإسلام لأنه قد أقر ووافق على هذه الواجبات المتضمنة العقد، والتي منها تطبيق أحكام الإسلام على أهل الذمة فيما يعتقدون تحريمه.

فلو تنصَّر يهودي أو تهود نصراني لم يقر على ذلك لأنه انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه، فأشبه المرتد ولم يقبل منه إلا الإسلام أو دينه، فإن أباهما هُدد وحبس وضُرب.

وسئل الإمام أحمد رحمه الله: هل يقتل؟ فقال: لا للشبهة في قتله. أما إن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أُقر على ذلك ([82]).

فإن أبى الذمي بذل الجزية، أو الصغار، أو التزام أحكام الإسلام، أو قاتلنا، أو تعدى على مسلم بقتل، أو زنا بمسلمة، وكذلك لو فعل اللواط، أو تعدى بقطع الطريق، أو تجسس على المسلمين، أو آوى جاسوساً، أو ذكر الله، أو رسوله، أو كتابه، أو دينه بسوء انتقض عهده دون عهد نسائه وأولاده، فلا ينتقض عهدهم تبعاً له، ويحل بعد ذلك دمه وماله([83]).

والذي يقوم بمعاقبته هو الإمام كما نص على ذلك أهل العلم، فالذمي إذا قال: إنه تاب من ذنب فعله من الذنوب السابق ذكرها فللإمام أن يعامله كأسير حرب، وهو مخير بين قتله ورقّه، والمنِّ عليه بإطلاق سراحه، أو يفتدي نفسه بالمال، أو مقابل بأسير مسلم، ومال الذي يفعل ذلك يكون فيئاً، وإن أسلم هذا الذمي المخل بواجبات عقد الذمة يحرم قتله ([84]).

وقد ذكرنا سابقاً أنه عند إخلالهم بالواجبات فإنه يطبق عليهم أحكام الإسلام اقتداءً بفعل النبي ﷺ ، والصحابة من بعده رضوان الله عليهم أجمعين.

وها هي بعض النماذج التي توضح ذلك:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أتي بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله ﷺ حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا: نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال: (فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين)، فجاؤوا بها فقرؤوها. فقال له عبد الله بن سلام وكان مع رسول الله  ﷺ مُرّه فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله  ﷺ فرجما. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه ([85]).

قال النووي رحمه الله: “في هذا دليل لوجوب حد الزنا على الكافر، وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع وهو الصحيح…، وفيه أن الكفار إذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا”([86]).

وعن سويد بن غفلة أن رجلاً من أهل الذمة من نبط الشاك نخس بامرأة على دابة فلم تقع فدفعها فصرعها، فانكشفت عنها ثيابها، فجلس فجامعها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب  رضي الله عنه فأمر به فصلب وقال: ليس على هذا عاهدناكم ([87]).

وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه دخل على أبي موسى رضي الله عنه وعنده يهودي فقال: ما هذا؟ قال: يهودي أسلم، ثم ارتد وقد استتبناه منذ شهرين فلم يتب، فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه قضاء الله وقضاء رسوله([88]).

ومن ذلك أنه قد رفع إلى المهاجر بن أمية: أن امرأتين مغنيتين غنت إحداهما بشتم النبي  ﷺ فقطع يدها ونزع ثنيتها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتها فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي غنت وزمزمت بشتم النبي  ﷺ ، فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر ([89]).

المبحث الخامس

نصيب الضوابط الشرعية في التعامل مع أهل الكتاب

من التطبيق العملي بدءً من العهد النبوي إلى يومنا هذا

لقد عامل النبي ﷺ أهل الكتاب معاملة حسنة حسبما يتفق مع سماحة وعدل ورحمة الإسلام، فكان يراسلهم بكتبه يدعوهم إلى الإسلام بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة، وكان يعقد لهم عقود الذمة حسبما يقتضيه العدل الإلهي، فها هو ﷺ يرسل كتاباً إلى هرقل ملك الروم يقول فيه:  (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ. وَ{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون}[آل عمران: الآية 64] ([90]). والله سبحانه وتعالى ينهى نبيه ﷺ أن يجادل عن الخائن حتى ولو كان مسلماً ضد يهودي.

ذكر القرطبي رحمه الله بسنده عن السدي: “قال في قوله تعالى:{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} ([91]). نزلت في طعمة بن أبيرق حين استودعه رجل من اليهود درعاً فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ثم دفنها، فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه جحدها، فانطلق اليهودي إلى ناس من اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف موضوع الدرع، فلما عرف بهم طعمة أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليل الأنصاري، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها ووقع طعمة وأناس من قومه باليهودي فسبوه، وقال لهم طعمة: أتخونوني؟ فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على بيت أبي مليل فإذا هم بالدرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليل وجادلت الأنصار دون طعمة وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله ﷺ فقولوا له: ينضح عني ويكذب حجة اليهود فإني أن أكذب كذب على أهل المدينة اليهودي، فأتى ناس من الأنصار رسول الله  ﷺ وقالوا: يا رسول الله جادل عن طعمة وأكذب اليهودي فهمَّ رسول الله  ﷺ يفعل فنزلت الآية” ([92]).

وكتب رسول الله ﷺ لأهل الكتاب عقداً من عقود الذمة قال فيها لأساقفة نجران: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله لا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك جوار الله ورسوله أبداً ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين) ([93]).

وها هو  ﷺ يجري المعاهدات مع اليهود على جانب من التسامح العظيم في الإسلام فيبرم عقداً معهم فيه بهم الأمن والأمان وكان مما جاء فيه: (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم… وإن بينهم النصر على من حاربهم وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم… وإن من خرج أمن ومن قعد أمن إلا من ظلم أو أثم) ([94]).

لكن التسامح الذي كان يتعامل به النبي ﷺ مع أهل الذمة وغيرهم كان تسامحاً غير ذليل ليس فيه استسلام للشر أو تمكين للأشرار، وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يدفعوا العداوة بالتي هي أحسن وبين أن هذا الدافع الكريم هو الذي يجلب المحبة، فقال تعالى:{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} ([95]).

كما أمر الله جل وعلا نبيه الأمين أن يصفح الصفح الجميل عمن يعاديه، قال تعالى:{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل}([96])، ويقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}([97]).

فالتسامح والحلم والأناة والرفق من أبرز دعائم العلاقات الإنسانية في الإسلام، وقد طبق النبي ﷺ هذا المبدأ في علاقاته مع أعدائه في معاهداته وحروبه.

ومن ذلك صلح الحديبية الذي عقده مع مشركي مكة عندما منعوه من العمرة وأبوا أن يدخل البيت الحرام ليطوف بالكعبة، لقد كان أساس هذا الصلح ظلماً وشططاً من جانب المشركين من قريش ولكنه سماحة ورفق من جانب النبي  ﷺ ، فقد أصروا على منعه في صلحهم من دخول مكة في هذا العام فقبل رسول الله ﷺ هذا الشرط مع أن معه جيشاً يستطيع به أن يدك عليهم ديارهم.

واشترطوا عليه أيضاً أن من خرج من مكة مسلماً ملتحقاً بالرسول  ﷺ والمؤمنين بالمدينة يرده الرسول  ﷺ إليهم إن لم يكن خروجه برضا أهله.

وأن من يخرج من عند رسول الله  ﷺ مرتداً إلى مكة يقبلونه ولا يردونه إلى رسول الله ﷺ والمؤمنين. فقبل رسول الله ﷺ هذا الشرط حتى ضج بعض المؤمنين من قبول الرسول ﷺ لهذا الشرط، لكن الرسالة الإلهية والحكمة النبوية آثرت الصبر والسماحة وحقن الدماء، ولم يكن هذا قبولاً للدنية أو خنوعاً أو ذلاً أو ضعفاً، ولكنه الهدى الإسلامي الذي حث على الصبر بدل القتل والقتال،  وحث على الرفق بدل العنف، وتأجيل فيه رفق خير من تعجيل فيه عنف، وقد حث النبي ﷺ على الرفق في الأمر كله، فقال: (يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ )([98]).

ويظهر علو التسامح مع أهل الكتاب من النبي ﷺ حين أتاه وفد نجران وهم من النصارى وهو بالمدينة فدخلوا عليه مسجده بعد العصر فكانت صلاتهم فقاموا يصلون في المسجد فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله ﷺ :(دعُوهم، فاستقبَلوا المشرِقَ، فصلَّوْا صلاتَهم) ([99]).

وها هو ﷺ يعود غلامه اليهودي الذي كان يخدمه ويعرض عليه الإسلام فيسلم، فيخرج رسول الله ﷺ وهو يقول: ( الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ ) ([100]).

وقد أصيب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين بطعنات رجل من أهل الذمة هو أبو لؤلؤة المجوسي، وأدت الطعنات إلى موت عمر رضي الله عنه فلم يمنعه ذلك من أن يتعامل معهم بسماحة، بل ويوصي خيراً بعد موته فيقول وهو في فراش الموت: “أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً أن يوفي بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألا يكلفهم فوق طاقتهم” ([101]).

ويظهر عدل الإسلام في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل فلسطين بعد أن دخلوا في حوزة المسلمين وذمتهم، وقد جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل اللد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين أعطاهم أماناً لأنفسهم ولأموالهم ولكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وسليمهم وسائر ملتهم، وأنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صلبهم ولا من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، وعلى أهل اللد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل مدائن الشام([102]).

وقريب من هذا ما عهد به عمرو بن العاص رضي الله عنه أهل مصر حين تم له فتحها، وما عهد به خالد بن الوليد  رضي الله عنه لصلويا ابن نسطونا حين دخل العراق وبسط يده عليها.

إن الجزية كما رأينا في عهد عمر بن الخطاب  رضي الله عنه لأهل فلسطين السابق هو في مقابل حماية أهل الذمة وحراسة أنفسهم وأموالهم وديارهم ومعابدهم، فإذا لم يقم المسلمون بهذا فلا جزية لهم.

والإسلام يضع الجزية عن أهل الذمة إذا كانوا في سنة مجدبة وأكثر من هذا أن الإسلام يفرض لمن عجز عن الكسب من أهل الكتاب لكبر أو شيخوخة أو مرض نفقة من بيت مال المسلمين، كما وضح ذلك جلياً من موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فرض للشيخ اليهودي الذي رآه يسأل الناس الصدقة، ففرض له نفقة من بيت مال المسلمين.

فهل بعد هذا عدل وإحسان؟ وهل بعد ذلك بر وإكرام؟ وهل نَعِمَ أهل الذمة في ظل دين غير دين الإسلام بمثل هذا العدل والكرم؟

مع هذا التسامح العظيم الذي كان يتعامل به عمر بن الخطاب مع أهل الذمة إلا أنه كان يحتاط منهم حيطة المسلم الواعي الفطن الذي يعرف حقيقة الأمور معرفة صحيحة، ويفهم الإسلام فهماً منضبطاً بعيداً عن الغلو والتطرف والتعصب، وبعيداً أيضاً عن الرخاوة والضعف والاستكانة.

فهو يأخذ الموقف الوسط الذي يأمرنا به الإسلام، ففي الوقت نفسه الذي يعطف فيه على فقراء أهل الكتاب ويجزل لهم العطايا يحفظ في الوقت نفسه للإسلام والمسلمين العزة والرفعة والعلو.

ويتضح ذلك فيما رواه سفيان الثوري عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً، ولاكنيسة، ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤووا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سراجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليباً، ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طريق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين، فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق([103]).

وقد عقب ابن القيم رحمه الله على اختلاف الروايات التي جاءت فيها هذه الشروط العمرية بقوله: “وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها من بعد الخلفاء”([104]).

لقد اشترط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الشروط على أهل الكتاب من باب الحذر والحيطة حتى لا تسنح لهم الفرصة فيغدروا بالمسلمين، وقد فعل عمر رضي الله عنه ذلك واشترط هذه الشروط والمسلمون في عصره في أوج كمالهم عقيدة وأخلاقاً وسلوكاً ومراقبة وتحكيماً لشرع الله في جوانب الحياة كلها.

ولا يحق للمسلم أن يقتل ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً ما دمنا أعطيناهم المواثيق والعهود، وأصبحوا يدفعون الجزية. فالغدر والخيانة ونقض العهود وعدم الوفاء بالوعد من صفات المنافقين، وليست من صفات المؤمنين؛ فنبينا ﷺ تبرأ من الذي يقتل واحداً من هؤلاء بعد ما أعطاه الأمان، يقول رسول الله  ﷺ: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الْقَاتِلِ ذِمَّةُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا)([105]).

وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه لم يفعل ما حدثته به نفسه حين أراد أن يرمي أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه بسهم من ظهره لما أرسله الرسول ليعرف أخبار القوم في غزوة الأحزاب تنفيذاً لوصية رسول الله ﷺ رسول الإسلام ورسول الرحمة الذي أوصى حذيفة قائلاً: (لا تحدث أمراً حتى ترجع إليَّ) ([106]).

ولم يحدث أن النبي ﷺ أمر باغتيال أحد من الكفار في مكة أو ضرب أحدهم من ظهره وهم جلوس عند البيت لأن الإسلام انتشر بالرحمة واللين والحكمة والموعظة الحسنة، وأن ذلك لا يتفق وشجاعة المؤمن ونبينا محمد ﷺ هو سيد المؤمنين.

فهؤلاء الذين يقومون بقتل الأبرياء وترويع الآمنين من المعاهدين أو غيرهم ناسبين مسلكهم هذا إلى الإسلام، هؤلاء قد خرجوا عن الطريق القويم والنهج السديد الذي جاء به الرسول  ﷺ وحادوا عن الفهم الحق للقرآن الكريم والسنة المطهرة، وما ذلك منهم إلا لأن لدى الكثير من هؤلاء فراغاً كبيراً ولا يملك أحدهم عملاً يقوم به ينفع به نفسه ومجتمعه، فتوجه النفس إلى الجريمة هو من آثار البطالة في بلاد العالم أجمع.

وفي نظري لو أن هؤلاء وفرت لهم فرص عمل يستطيعون العيش منها ويمارسون منها حياتهم الطبيعية لنفعوا أنفسهم، ونفعوا مجتمعاتهم بعد أن يوجههم العلماء الربانيون التوجيه الصحيح، ويوضحوا لهم العقيدة السليمة التي يجب أن يكون عليها المؤمن لاتقينا شر هؤلاء. والمؤمن يجب عليه أن يبرأ في قلبه من هذه الأعمال الفاسدة التي لا ترضي الله عز وجل، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين}([107]).

وها هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية ويكرر الوصية مرة بعد أخرى حتى دهش الغلام وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي، فقال ابن عمر رضي الله عنه لقد قال رسول الله  ﷺ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُهُ أَنَّهُ يُوَرِّثُهُ ) ([108]).

وعندما فتح المسلمون مصر أمر عمر بن الخطاب عمرو بن العاص رضي الله عنه باستقبال البطريق بنيامين عندما قدم من الإسكندرية أحسن استقبال وكتب له أماناً ورده إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاثة عشر سنة([109]).

وقد صالح خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على: “وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابه آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت عنه جزيته وعيل من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الهجرة والإسلام”([110]).

ومن صور العدل المشرقة أنه يقضي لغير المسلم على أحد الخلفاء الراشدين لأن هذا الخليفة لم تكن له بينة تثبت دعواه وأحد الشاهدين اللذين أحضرهما هذا الخليفة لا تصلح شهادته في هذه الخصومة بذاتها، والواقعة بتفاصيلها كما يلي:

يروى أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعاً له كانت أثيرة عنده، غالية عليه، ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل من أهل الذمة يبيعها في سوق الكوفة، فلما رآها عرفها وقال: هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا… وفي مكان كذا… فقال الذمي: بل هي درعي وفي يدي يا أمير المؤمنين، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنما هي درعي لم أبعها من أحد، ولم أهبها لأحد حتى تصير إليك. فقال الذمي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه  أنصفت، فهلم إليه، فذهبا إلى شريح القاضي، فلما صار عنده في مجلس القضاء قال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال: لقد وجدت درعي هذه مع هذا الرجل، وقد سقطت مني في مكان كذا وفي ليلة كذا، وهي لم تصل إليه ببيع ولا هبة، فقال شريح للذمي: وما تقول أنت أيها الرجل؟ فقال الذمي: الدرع درعي، وهي في يدي ولا أتهم أمير المؤمنين بالكذب، فالتفت شريح إلى علي رضي الله عنه وقال: لا ريب عندي في أنك صادق يا أمير المؤمنين فيما تقوله، وأن الدرع درعك، ولكن لابد لك من شاهدين يشهدان على صحة ما ادعيت، فقال عليرضي الله عنه: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي، فقال شريح: لكني لا أجيز شهادة الابن لأبيه. فقال علي رضي الله عنه : يا سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، أما سمعت رسول الله ﷺ قال: (الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ([111]).

فقال شريح: بلى يا أمير المؤمنين، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده، عند ذلك التفت علي رضي الله عنه إلى الذمي وقال: خذها فليس عندي شاهد غيرهما، فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع لك يا أمير المؤمنين، ثم أردف قائلاً: يا الله أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه، وقاضيه يقضي لي عليه، أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

اعلم أيها القاضي أن الدرع درع أمير المؤمنين، وأنني اتبعت الجيش وهو منطلق إلى صفين، فسقطت الدرع عن جمله الأورق فأخذتها، فقال له علي رضي الله عنه : أما وإنك قد أسلمت فإني وهبتها لك، ووهبت لك معها هذا الفرس أيضاً، ولم يمض على هذه الواقعة زمن طويل حتى شوهد الرجل يقاتل الخوارج تحت راية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه  في يوم النهروان ويمعن في القتال حتى كتبت له الشهادة في سبيل الله ([112]).

ومن الصور المضيئة أيضاً التي تظهر عدل الإسلام أن أحد القضاة المسلمين حكم لصالح غير المسلمين وأمر خليفة المسلمين وقتئذ بتنفيذ حكم القاضي مما كان له أثره في نفوس غير المسلمين.

والواقعة هي أن سعيد بن عثمان فتح سمرقند صلحاً على مال يؤدونه للخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي، فلما مات سعيد بن عثمان وتولى من بعده قتيبة بن مسلم قيادة الجيوش الفاتحة لأرض خراسان فاستقل قتيبة بن مسلم هذا المال الذي يدفعونه، وفتح بلادهم عنوة دون أن يخطرهم بنقض العهد السابق وإيذانهم بالحرب، ومعنى ذلك أنهم يرون أنه فتحها غدراً، وهذا أمر تأباه تعاليم الإسلام، ذلك أن الله تعالى يقول مخاطباً نبيه ﷺ في شؤون الحرب والمعاهدات:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين}([113]).

وما فعله قتيبة في نظر أهل سمرقند هو من قبيل الغدر الذي قبلوه على مضض خشية أن ينكل بهم، فلما مات وآلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وبلغ أهل سمرقند عنه ما ملأ أطراف الدولة وجوانبها من الحديث عن عدله ونصرته للحق ووفائه وبغضه للظلم أنابوا عنهم وفداً يقابل الخليفة يشكو له ما كان من قتيبة معهم، ولقي الخليفة وفدهم، فعرضت الأمر عليه، وكان مما قالوه: أن قتيبة غدر بنا وأخذ بلادنا ظلماً، والأمر إليك لترفع عنا ما نزل بنا على يديه.

فتناول الخليفة قرطاساً وقلماً، وكتب إلى سليمان بن أبي السرح عامله على سمرقند كتاباً قال فيه: إن أهل سمرقند شكوا ظلماً أصابهم وتحاملاً من قتيبة عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فأجلس لهم قاضياً يقضي بالحق في هذه المظلمة، وعاد وفدهم بكتاب الخليفة إلى عامله، فأحال قضيتهم إلى القاضي “جميع بن حاضر الناجي”، قاضي سمرقند، فاستمع إلى ظلامتهم، واستدعى شهودهم عليها، ثم استدعى شهوداً من الجيش الذي حضر الموقعة مع قتيبة فشهدوا بالحق، شهدوا أن قتيبة لم ينبذ إليهم عهدهـم، بل فاجــأهـم بفتـح بلادهـم عنـوة، وعندمـا وضح هذا أمام القاضي أصدر حكماً قوياً مجلجلاً صريحاً لا غموض فيه، ناطقاً بعدالة الإسلام وسماحته.

قال القاضي: على الجيش الإسلامي الذي فتح سمرقند بقيادة قتيبة أن يتأهب للخروج منها فوراً، وكذلك يخرج منها المسلمون الذين دخلوها بعد الفتح، ثم بعد ذلك ينابذ الجيش أهل سمرقند على سواء، فإما صلح إن أرادوا، وإما حرب إذا لم يختاروا الصلح([114]).

هذا هو الحكم الذي أصدره القاضي، وقد كان له صداه في أنحاء سمرقند كلها إذ ما كان يتصور أحد من أهلها أن تعاليم الإسلام تمضي على هذا النحو وتعطي الحق للقاضي أن يأمر الجيش بالخروج من بلد فتحه واستقر فيه.

فأسرع الوالي يخبر الخليفة عمر بن العزيز رحمه الله بالحكم، ويطلب مشورته فجاء الرد من الخليفة بأن ينفذ حكم القاضي كما أصدره، وعندئذ أصدر أمره إلى الجيش بالتأهب للرحيل، وأمر كذلك المسلمين المدنيين بمغادرة سمرقند ويحزمون أمتعتهم، ويعلنون بيع أملاكهم فيها، وإذا بمفاجأة لم تكن في الحسبان، فقد جاء وفد يمثل أهل سمرقند إلى الوالي وأبلغوه أنهم تشاوروا فيما بينهم بعد الحكم الذي ما دار بخلدهم لحظة واحدة أن تعاليم الإسلام لا تضيق بمثله. وأنهم ما كانوا يتوقعون أن هناك قاضياً يجرؤ على مطالبة الجيش الفاتح بالجلاء عن بلد فتحه واستقر فيه.

أمام هذا وأمام حسن المعاملة التي وجدوها من إخوانهم المسلمين المقيمين بالبلد حال إقامتهم فيها، لا يسعهم إلا أن يعلنوا تنازلهم عن حقهم، ويطالبون ببقاء الحال على ما هو عليه لأنهم لن يخشوا بعد اليوم غدراً أو ضراً ينالهم.

وإزاء هذه الرغبة الصادقة من أهل سمرقند أمر الجيش بالبقاء وأمر المسلمين بالبقاء، وعدم الخروج وكانت فرحة مزدوجة من الجانبين، وكانت هذه القضية سبباً في إسلام كثير من أهل سمرقند، ودخلوا تحت راية الإسلام والإخلاص لتعاليمه السمحة، والعمل على نشرها حتى غدت سمرقند بعد ذلك مركزاً هاماً من المراكز الإسلامية المرموقة يأتيها القاصي والداني للتزود بزاد المعرفة من علمائها([115]).

هذا هو الإسلام في أروع صوره، وتلك هي مبادئه التي لن يحيد عنها، وهؤلاء هم جنده المنفذون لشرائعه على علم وبصيرة نافذة؛ لأنهم كانوا طرازاً من نوع لم يعرفه العالم قديماً أو حديثاً، فهل يعي الناس حقيقة الإسلام لينهجوا طريقته ويستنيروا بمبادئه المثلى وشرائعه الخالدة ونظمه العالية وكتابه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

لعل الناس يفيقون من غفلتهم ويدركون عظمة الإسلام ومدى حرصه على الوفاء بالعهود والمواثيق والتزامه بالعدل كما أمر الله جل وعلا.

ويذكر أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي، فقام له القاضي ورحب به فرأى إنكار الشهود لذلك، فلما خرج الوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}([116])، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر([117]).

ويظهر العدل في معاملة أهل الكتاب أثناء الحرب جلياً في موقف سليمان الفارسي رضي الله عنه عندما غزا المشركين من أهل فارس فقال: كفوا حتى أدعوهم كما كنت أسمع رسول الله ﷺ يدعوهم، فأتاهم فقال: إنا ندعوكم إلى الإسلام فإن أسلمتم فلكم مثل ما لنا وعليكم مثل ما علينا وإن أبيتم فأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإن أبيتم قاتلناكم ولم يقاتلهم إلا بعد أن دعاهم ثلاثاً فأبوا([118]).

وعندما تمكن القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من دحر الصليبيين بعد تسعين سنة من مجازر الغدر والخيانة والفساد في الأرض لم يعاملهم بالمثل، إذ أنه لما أسلمت له الحماية النصرانية أمنهم على حياتهم. وكانوا أكثر من مائة ألف، وسمح لهم بالخروج في أمان الإسلام وأعطاهم مهلة أربعين يوماً للخروج وقام بمداواة جرحاهم وتمريض مرضاهم وسمح لهم بحمل ما يحملون من أموالهم المنقولة ([119]).

ويصل أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه إلى قمة العدل في معاملة أهل الكتاب حين أبلغه نوابه عن مدن الشام بتجمع جحافل الروم فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوا بهذا البلاغ: “إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم أي نحميكم، وإنا لا نقدر على ذلك الآن وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشروط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم ([120]).

واستمرت الحال في معاملة أهل الكتاب بالرفق واللين، وعاشوا في المجتمع المسلم وهم آمنون على أنفسهم وحرماتهم لأن الإسلام ضمن لهم ذلك.

بل إن كثيراً منهم يحس بالأمان والطمأنينة في بقائه بين المسلمين أكثر مما يحس به لو كان عند بني قومه وتلك أحد السمات البارزة والخصائص السامية للمجتمع المسلم الذي يحكم شريعة الله في شؤون الحياة.

المبحث السادس

حكمة الله من إبقاء أهل الكتاب بين أظهرنا

هذه الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عبدة الأوثان فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكر النبوات والمعاد والتوحيد.

يقول الله تعالى لمنكري ذلك:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}([121])، وقد ذكر الله تعالى ذلك عقب قوله جل وعلا:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ..}([122]). يعني: سلوا أهل الكتاب هل أرسلنا قبل محمد رجالاً يوحى إليهم أم كان محمد بدعاً من الرسل لم يتقدمه رسول حتى يكون إرساله أمراً منكراً لم يطرق العالم رسول قبله؟

قال الله تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون}([123]). والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به هل فيه أن الله شرع لهم أن يعبدوا من دونه إلهاً غيره؟

قال ابن القيم رحمه الله: ” الفراء: المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل فيخبرونهم عن كتبهم وأنبيائهم.

وقال ابن قتيبة رحمه الله: واسأل من أرسلنا إليهم رسلاً من قبلك وهم أهل الكتاب، وقال الأنباري رحمه الله: التقدير: وسل من أرسلنا من قبلك.

وعلى كل تقدير، فالمراد التقرير لمشركي قريش وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد، وأن الله أرسل رسولاً أو أنزل كتاباً أو حرم عبادة الأوثان.

فشهادة أهل الكتاب بهذا حجة عليهم وهي من أعلام صحة رسالته  ﷺ إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدموه من رسل الله جل وعلا. ولم يكن بدعاً من الرسل ولم يأت بضد ما جاؤوا به، بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهد ولا اقتران في الزمان، وهذه من أعظم آيات صدقه”([124]).

المبحث السابع

بيان لبعض النصوص التي وردت في أهل الذمة

من الناس من يستند إلى بعض النصوص من الآيات والأحاديث النبوية ويفهمها فهماً سطحياً متعجلاً ويستدل بها على تعصب الإسلام ضد المخالفين له من اليهود والنصارى وغيرهم.

ومن الأمثلة البارزة لهذه النصوص ما يأتي:

قول الله تعالى:{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير}([125]).

وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا}([126]).

وقوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا}([127]).

وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}([128]).

وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ..} ([129]).

وقوله تعالى:{لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..}([130]).

وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ..} ([131]).

وقوله تعالى:{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ..} ([132]).

فهم البعض أن هذه الآيات وأمثالها تدعو إلى القطيعة والجفوة والكراهية لغير المسلمين وإن كانوا من أهل دار الإسلام الموالين للمسلمين المخلصين لجماعتهم، والحق أن الذي يتأمل الآيات المذكورة تأملاً فاحصاً ويدرس تواريخ نزولها وأسبابه، وملابساته يتبين له ما يأتي:

1ـ أن النهي إنما هو عن اتخاذ المخالفين أولياء بوصفهم جماعة متميزة بديانتها وعقائدها وشعائرها؛ أي: بوصفهم يهوداً أو نصارى أو نحو ذلك.

والمفروض أن يكون ولاء المسلم للأمة المسلمة وحدها، ومن هنا جاء التحذير في عدد من الآيات من اتخاذهم أولياء، والتقرب إليهم على حساب جماعة المؤمنين.

2ـ المودة التي نهت عنها الآيات هي مودة من آذى المسلمين وحاد الله ورسوله كما وضح ذلك جلياً في قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..} ([133]). ومحاداة الله ورسوله ليست مجرد الكفر بهما، بل محاربة دعوتهما، والوقوف في وجهها، وإيذاء أهلها.

وفي مستهل سورة الممتحنة يقول الله تعالى:{..تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ..}([134]).

فالآية تعلل تحريم هذه الموالاة لأمرين هما:

أ ـ كفر هؤلاء بالإسلام.

ب ـ إخراجهم للرسول ﷺ والمؤمنين من ديارهم بغير حق.

وفي قوله تعالى:{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}([135]).

فقسم المخالفين إلى فريقين:

فريق كان سلماً للمسلمين لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، فهؤلاء لهم حق البر والإقساط إليهم. وفريق اتخذ مواقف العداوة والمحادة للمسلمين بالقتل أو الإخراج من الديار أو المظاهرة والمعاونة على ذلك فهؤلاء يحرم موالاتهم مثل مشركي مكة الذين ذاق المسلمون على أيديهم أصناف العذاب أشكالاً وألواناً.

3ـ أن الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج الكتابية، يقول الله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}([136]).

والحياة الزوجية يجب أن تقوم على السكون النفسي والمودة والرحمة، كما دل عليه القرآن في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..} ([137]).

وهذا يدل على أن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها وكيف لا يود الرجل زوجته لو كانت كتابية؟ وكيف لا تود البنت أمها لو كانت غير مسلمة؟

لقد سمح النبي ﷺ لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن تصل أمها وكانت مشركة ([138])، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالت: “قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفاصلها؟ قال:(نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ)([139]).

وبعض الشباب المتحمس الذي يفهم النصوص على غير وجهها الصحيح يقولون: إن أهل الذمة المقيمين بيننا محاربون ويجب قتالهم ولا يحق لهم الإقامة في هذه البلاد، مستدلين بحديث النبي ﷺ الذي يقول فيه: (لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا) ([140]). إلا أننا نقول: إن أهل الذمة دخلوا بلادنا بعقد أمان بيننا وبينهم، لكن الممنوع أن لا يقام في هذه البلاد دينان، كما صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: (لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ)([141]).

وما دامت ليست لهم قوة وأنهم يلتزمون بالعقد بيننا وبينهم فحقوقهم محفوظة، والمحافظة على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم مسؤولية هذه البلاد، ومن تعدى عليهم، أو نالهم بأذى فلا بد أن تنفذ فيه أحكام الله حسب ما يراه ولي الأمر.

ووصيتي لهؤلاء المتعجلين ممن يفهمون النصوص على غير وجهها أن يرجعوا للعلماء، ويأخذوا عنهم، وألا يعتمدوا على فهمهم الخاطئ، فكم أردى هذا الفهم من أقوام ضلت في تفكيرها وبالتالي تخبطت في تصرفاتها فأحدثت الضرر للبلاد والعباد ـ نعوذ بالله من سوء الفهم-.

المبحث الثامن

دعوة أهل الذمة للإسلام والرفق في ذلك

إن عدم موالاة الذميين لا تعني حجب دعوة الإسلام عنهم وتركهم وشأنهم، وتركهم وما هم فيه من ضلال.

بل يحتم الإسلام على أهله دعوة الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والحرص على هدايتهم، والرغبة الأكيدة في تحولهم إلى الإسلام، ولما كان هذا لا يأتي إلا بالدخول إلى النفس من مداخلها واستجلاب رضاها وراحتها فإن الإسلام جعل سبيل الدعوة الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى، كما قال تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} ([142]).

وها هو إمام الدعاة إلى الله عز وجل نبينا محمد ﷺ يبين لنا كيف تكون الدعوة إلى الله بحكمة وموعظة حسنة بدون جرح للمشاعر، وكيف يكون الرفق بالجاهل عند تعليمه، وهذا ما فعله النبي ﷺ مع الأعرابي الذي بال في المسجد وقام عليه الصحابة لينهروه ويضربوه، فيقول لهم الصادق الأمين النعمة المهداة والرحمة المسداة ﷺ: (دَعُوهُ، وهَرِيقُوا على بوله ‌سَجْلًا ‌من ماء ـ أو ذَنُوبًا من ماء ـ فإنما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولم تبعثوا مُعَسِّرينَ) ([143]).

ثم يشرع النبي  ﷺ في تعليمه ويبين له أن المسجد بني للعبادة ولم يبن لما فعله الأعرابي، فإذا بالأعرابي يقول عندما يجد معاملة طيبة من الرسول ﷺ: “اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لهؤلاء”، يقصد من قاموا وراءه لينهروه، ويضرب لنا النبي ﷺ مثلاً رائعاً في الدعوة إلى الله بحكمة وموعظة حسنة، وكيف تكون معالجة الأخطاء بدون جرح للمشاعر أمام الآخرين.

ويتضح ذلك في موقفه صلاة الله وسلامه عليه مع خوات بن جبير كما يحدث زيد بن أسلم أن خوات بن جبير قال: نزلنا مع رسول الله ﷺ مرَّ الظهران قال: فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبني فرجعت فاستخرجت حلة فلبستها وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله ﷺ من قبة، فلما رأيت رسول الله ﷺ هبته واختلطت، وقلت: يا رسول الله جملٌ لي شرد فأنا أبتغي له قيداً ومضى فتبعته، فألقى إلي رداءه ودخل الأراك فقضى حاجته، وتوضأ، فأقبل والماء يسيل على صدره من لحيته فقال: (أبا عبد الله ما فعل ذلك الجمل؟)، وارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: (السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟ )، فلما رأيت ذلك تغيبت إلى المدينة واجتنبت المسجد، والمجالسة مع النبي ﷺ ، فلما طال ذلك عليَّ أتيت المسجد فقمت أصلي فخرج رسول الله ﷺ من بعض حجره، فجاء فصلى ركعتين فطولت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال: (أبا عبد الله طول ما شئت أن تكون فلست بمنصرف حتى تنصرف)، فقلت في نفسي: والله لأعتذرن إلى رسول الله ﷺ ولأبرئن صدره فلما انصرفت قال: (السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟)، قلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: (يرحمك الله)، ثلاثاً، ثم لم يعد لشيء مما كان([144]).

وهكذا تعلم خوات من رسول الله ﷺ كيف تكون الدعوة إلى الله جلا وعلا بحكمة وموعظة حسنة، ومعالجة الأخطاء بدون جرح لشعور المخطئ أمام الآخرين.

وطلب أحد الأمراء نصيحة من أحد العلماء فأغلظ العالم للأمير في القول، فقال له الأمير: يا هذا لقد أرسل الله جل وعلا من هو أفضل منك إلى من هو أطغى مني ومع ذلك قال الله لهذا الرسول:{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}([145]).

ويكون المقصود إذًا بمن هو أفضل من هذا العالم كليم الله ونبيه موسى عليه السلام، ومن هو أطغى من هذا الأمير فرعون.

نقول: إذا كانت تلك هي المعاملة الواجبة مع المسلم في الدعوة إلى الله، فلابد أن تكون المعاملة أفضل وأحسن مع غير المسلمين حين دعوتهم إلى دين الله جل وعلا، لأن النفوس الشاردة والقلوب القاسية لا تعود إلى الإسلام ولا تلين إلا بالملاينة والملاطفة وإظهار العطف والشفقة والحرص.

لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يؤثرون الأسرى بالطعام الجيد على أنفسهم يقول الله تعالى في ملاطفة الأسرى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} ([146]).

وهذا غاية الملاطفة والملاينة في دعوتهم إلى الإسلام وأن الله سيعوضهم عن الفدية التي أخذت منهم إن هم أذعنوا للإسلام وآبوا إلى الله ورسوله.

المبحث التاسع

حادثتا التفجير في العليا والخبر

لقد حدث على ثرى هذا البلد الآمن حادثان غريبان هما حادث التفجير في العليا: 20/6/1416هـ، وحادث التفجير في الخبر بتاريخ: 9/2/1417هـ، وهذان الحادثان عمل منكر لا يقره كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح وسليم ولا عرف ولا فطرة([147]).

أما الدين فإن هذا العمل مناف له لما تضافرت حوله النصوص من تحريم قتل النفس بغير حق، وتحريم إتلاف الأموال ظلماً وعدواناً، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ..} ([148]).

وقال تعالى:{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}([149])، وقال تعالى:{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} ([150]).

وأما السنة: فقد أعلن رسول الله  ﷺ في حجة الوداع ميثاقاً بموجبه كفل حقوق الإنسان في الإسلام، فقال ﷺ:(فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)([151]).

وأما منافاة هذا العمل الإجرامي للعقل، فهذا أمر معلوم، فالعقول السليمة تمنع من الاعتداء والظلم، فبأي حق تزهق النفوس البريئة؟ وبأي ذنب يخاف الآمنون؟ وبأي منطق يروع الأبرياء؟ وبأي حق تتلف الأموال وتهدم المباني ويزرع الرعب في قلوب الناس؟

وأما منافاة هذا العمل للعرف فإن بلاد الحرمين قاصيها ودانيها، صغيرها وكبيرها، يستنكرون هذا العمل الشنيع، ويمقتونه، لأن هذا الأمر ضرره ظاهر على الفرد والمجتمع، بل على مكتسبات الأمة وثرواتها.

والمجرم بعمله هذا أخاف الآمنين، وروع الساكنين، ودمَّر الممتلكات لا شيء إلا لخلق البلبلة وزعزعة الأمن ولم يحقق إلا الخزي والعار.

وإننا بحاجة ماسة أن نميز بين الإسلام والجريمة، فكثيراً ما يمتطي الإسلام ضعاف النفوس ويحققون من خلاله شهوات عدوانية باسم الانتصار للحق، وأي حق بزعمهم إنه الجريمة، إنه القتل العمد، إنه انتهاك الحرمات.

إن من فعلوا ذلك تعدوا حدود الله، وقتلوا الأنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وهؤلاء الشباب وأمثالهم إنما حصل لهم ما حصل من تأثير خارجي وانحراف في التفكير بسبب بعدهم عن العلماء المخلصين الصادقين وعدم استفادتهم منهم، بل سمعنا منهم أنهم يكفرون العلماء الصادقين والعياذ بالله، وهذا ليس بغريب على من يتلقى أفكاراً شاذة وغريبة بعيدة عن الكتاب والسنة.

وهذه النبتة الغريبة عن مجتمعنا، بل والشاذة نتيجة حتمية للولاء لغير الله، واتباع غير سبيل المؤمنين، وهذه بذور الحزبيات والانتماءات التي تتقمص لباس الإسلام والواقع أن لها أطماعاً خاصة وأهدافاً مريبة فلينتبه الشباب لذلك.

ولابد من التعاون الصادق بين فئات المجتمع كله والضرب بيد من حديد في وجه من تسول له نفسه العبث بأمن هذه البلاد. وإذا أردنا أن نجنب أبناءنا هذه الأفكار فلابد أن توجد القدوة الحسنة في البيت والمدرسة، ليقتدي الابن بهذه القدوة الحسنة، ويسير على النهج المستقيم، وأن تكرس المناهج الدراسية، وتكثف لكي تربط بين الشباب وأسرته ومجتمعه وعلمائه وولاة أمره، وتنمي فيه روح التعاون على البر والتقوى، وتحذره من أذية الآخرين أو التعرض لهم بسوء.

ولابد أن نربط الشباب بكبار علماء هذه البلاد، وأن يتلقى التوجيه والتسديد من هؤلاء لطول باعهم في العلم، وطول تجاربهم في الحياة، وخبرتهم بأساليب الأعداء وكيدهم.

وعلينا أن نقطع الطريق على قرناء السوء، والتأثيرات الشريرة التي تفد من الخارج والوقوف في وجهها بحزم وقوة.

وأن نكثف التوجيه والتوعية ممن هم محل الثقة والاطمئنان من العلماء وأساتذة الجامعات والخطباء لمقابلة الفكر الدخيل بالحجة والبرهان من الكتاب والسنة.

وعلى الشباب الملتزم أن يدرك أن الالتزام ليس مظاهر فقط، بل سلوك عملي واقعي وتعامل بالحسنى اقتداءً بالرسول ﷺ الذي مدح الله أخلاقه فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} ([152]).

وبالنسبة للوصول إلى المجرمين فإننا على ثقة بأن الله سيفضح هؤلاء ـ إن شاء الله ـ لأننا ننطلق من سنة عرفناها فيما سبق، وهي أن هذه البلاد موفقة ولله الحمد في الوصول إلى المجرمين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ونكاد نجزم أن كثيراً من الدول المتقدمة لا تستطيع الوصول إلى المجرمين بالسرعة والدقة التي تصل إليهم فيها هذه البلاد وذلك بفضل الله ثم بفضل التمسك بشرعه القويم وسلامة المنهج الذي تسير عليه هذه البلاد وصحة توجه المجتمع وأثر العلماء العاملين فيها، أولئك العلماء الذين تعاهدوا مع ولاة الأمر وسائر الشعب على المضي قدماً في هذا السبيل، ولذا فهذه البلاد بما حباها الله من النعم يحسدها الكثيرون حتى وللأسف الشديد من يعيشون على ثراها وذلك نكران للجميل وجحدان للنعمة، ولن يثنيها نعيق الغربان أو نباح الكلاب ومكر الماكرين وحقد الحاقدين، وصدق الله إذ يقول: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون} ([153]).

ما قاله فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله

عن حادث الخبر في خطبة الجمعة بعد الحادث.

إن الحادث الذي وقع بالخبر يوم العاشر من شهر صفر عام 1417هـ لحادث مؤلم ومفزع لقلوب المسلمين جميعاً، فما ذنب هؤلاء الأبرياء وما ذنب هؤلاء الأطفال، وما ذنب هؤلاء النساء؟ إن هؤلاء الشباب وهم قلة لم يقع منهم ذلك إلا عندما ابتعدوا عن العلماء الأثبات الذين لهم قدم راسخة في العلم والذين يستقون الأحكام من الكتاب والسنة.

فيجب على الشباب أن يلتفوا حول العلماء ليأخذوا عنهم العلم الصحيح الذي يعينهم على تخبطات هذه الحياة. وإن هذا الحادث كانت له مفاسد عظيمة منها:

1- أن هذه الفعلة وهي القتل والتخريب والتدمير الذي نتج عنه خسائر فادحة في الأرواح والأموال لمعصية لله ورسوله وانتهاك لحرمة الله جل وعلا واستحقاق للعنة الله ورسوله والناس أجمعين، وإن من فعل ذلك لا يقبل منه صرف ولا عدل.

2- تشويه سمعة الإسلام وخاصة أن الأعداء سيأخذون هذا الحادث فرصة لضرب الإسلام في عقر داره، فالإسلام دين العدل والرحمة والوفاء بالعهد، وإنه دين البر والإحسان، والإسلام يحذر من عدم الوفاء بالعهد.

3- أن الأصابع في الداخل والخارج سوف تشير إلى أن هذا من صنع الملتزمين بالإســلام مع أننـا نعلـم أن الملتزميـن بالشـريعـة حقيقــة لا يمكـن أن يرضــوا ذلـك ولا يقرونه أبداً ولا يفعلونه أبداً.

لذا وجب عليهم أن يتبرؤوا منه وينكروه أعظم إنكار، فالملتزمون بدين الله حقيقة لا يمكن أن يرضوا ذلك ولا يقرونه أبداً لأنهم يلتزمون بأوامر هذا الدين حسبما يرضي الله جل وعلا، وإن هذا الفعل مما لا يرضي الله.

4- كثيراً من العامة الجاهلين بحقيقة الالتزام بدين الله جل وعلا سوف ينظرون إلى الملتزمين بالإسلام نظرة خوف وحذر وتحذير كما سمعنا أن بعض العامة من الجهلاء قد حذروا أبناءهم من الابتعاد عن الملتزمين وطريق العلم الشرعي الصحيح.

5- انتشار الفوضى والاضطرابات والقلاقل والخوف والهلع وإن ذلك يسيء إلى ديننا أولاً وآخراً.

6- التلف للنفوس والأموال والخسائر التي حدثت وإن ذلك من أعظم الكبائر التي حرمها الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم}([154]).

وإن بلادنا ولله الحمد والمنة لتتميز على جميع بلاد المسلمين بأنها البلد الوحيد الذي يطبق شرع الله جل وعلا.

وثقتنا كبيرة في هيبة القضاء التي تحكم بما أمر الله وثقتنا كبيرة وعظيمة في ولاة أمورنا الذين ينفذون الشرع الحكيم وليس ببلادنا ولله الحمد والمنة البدعيات الشركية الموجودة في كثير من بلاد المسلمين كالمساجد التي بها قبور أو كنائس واضحة ظاهرة للنصارى أو أضرحة أو غير ذلك من هذه الأمور الشركية.

 

بيان هيئة كبار العلماء عن حادث الخبر.

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه. وبعد:

فإن مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في جلسته الاستثنائية العاشرة المنعقدة في مدينة الطائف يوم السبت: 13/2/1417هـ استعرض حادث التفجير الواقع في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية مساء الثلاثاء: 9/2/1417هـ.

وما حصل بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من المسلمين وغيرهم وإن المجلس بعد النظر والدراسة والتأمل قرر بالإجماع ما يلي:

أولاً: أن هذا التفجير عمل إجرامي محرم شرعاً بإجماع المسلمين وذلك للأسباب التالية:

1- في هذا التفجير هتك لحرمات الإسلام المعلومة منه بالضرورة هتك لحرمة الأنفس المعصومة وهتك لحرمة الأموال وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم وغدوهم ورواحهم وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها، وما أبشع وأعظم جريمة من تجرأ على حرمات الله وظلم عباده وأخاف المسلمين والمقيمين بينهم، فويل له ثم ويل له من عذاب الله ونقمته ودعوة تحبط به. نسأل الله أن يكشف ستره وأن يفضح أمره.

ب – أن النفس المعصومة في حكم شريعة الإسلام هي كل مسلم وكل من بينه وبين المسلمين أمانٌ، كما قال الله تعالى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}([155]).

وقال تعالى في حق الكافر الذي له ذمة في حكم القتل الخطأ:{وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ..}([156]).

فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمداً، فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر، وقد صح عن الرسول  ﷺ أنه قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) ([157]).

فلا يجوز التعرض لمستأمن بأذى فضلاً عن قتله في مثل هذه الجريمة الكبيرة النكراء، وهذا وعيد شديد لمن قتل معاهداً وأنه كبيرة من الكبائر المتوعد عليها بعدم دخول القاتل الجنة نعوذ بالله من الخذلان.

ج- أن هذا العمل الإجرامي يتضمن أنواعاً من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة من بغي وخيانة وغدر وعدوان وإجرام وإثم وترويع للمسلمين وغيرهم، وكل هذه قبائح منكرة يأباها ويبغضها الله ورسوله والمؤمنون.

ثانياً: إن المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي كما جاء في الشرع المطهر فإنه يعلن للعالم كله أن الإسلام بريء من هذا العمل، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة فهو يحمل إثمه وجرمه فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المقتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا لا يريدون إلا الفساد في الأرض. قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}([158]).

وقال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم}([159]).

 

ثانياً: المقالات

 

المقال الأول

الفكر المنكوس لا يثمر إلا الخطر

مقال بجريدة عكاظ عام 1416 هـ

من نعم الله على بلادنا المباركة أن جعلها مهوى أفئدة المسلمين ومحط رحالهم ملتقى جموع المؤمنين تتوجه إلى البيت العتيق القلوب، وتفد إليه الوفود من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، وما برح هذا البيت المشرف ـ بحفظ الله سبحانه ـ يطاول الزمن، شامخ الأركان، وطيد البنيان، يتمتع الناس بالأمن والأمان والطمأنينة والسلام في ظل حكم الإسلام، وهذه حال بلاد الحرمين ولله الحمد.

ولكن هذا الأمر أقلق الأعداء فراحوا يخططون لهذا البلد، ويكيدون له بكل ما أوتوا من وسائل وأساليب؛ هدفهم التدمير، ومقصدهم التخريب، وأمنيتهم تفريق الصف.

وقد سلكوا لذلك مسالك شتى وطرقاً متعددة، يهدفون إلى خلخلة بناء هذا الكيان الشامخ وهم في عمى عن وعيد الله لمن أراد بهذه البلاد سوءًا أو يخطط لها مكراً ومكيدة، قال تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون} [سورة القصص: الآية 57]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ..}[سورة العنكبوت: الآية 67]

لقد جمع الله لهذه البلاد التي حول هذا البيت وقاصدي هذا البيت ميزتين بهما تحصل السعادة والطمأنينة وهما ضمان الرزق والأمان من الخوف، قال تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف}[سورة قريش: الآيات 1 ـ 3].

وهاتان الميزتان ولله الحمد تعيشهما بلاد الحرمين واقعاً ملموساً، فنحن ننعم بوافر من الخيرات والأرزاق، ونقطف ثمار أمن لا مثيل له في سائر بلاد الدنيا، وهذا ما جعل الأعداء يشرقون بكيدهم وشرهم، فعملوا على تسريب بعض الأفكار والأمراض التي تفتك في المجتمع وتخلخل بناءه وتضعف لبناته فتكثر الثغرات فيه، والرسول ﷺ حذرنا من ذلك أبلغ التحذير، وحثنا على التعاون والترابط والتلاحم فقال: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، وقال  ﷺ:(إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ـ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585).

وإن ما حدث على ثرى هذه البلاد الطاهرة من تفجير آثم في مدينة الرياض وما تبعه من قبض على مرتكبي ذلك وما أدلوا به من اعترافات خطيرة تحتاج إلى وقفات ومراجعة لحساباتنا وقراءة لأفكار شبابنا فهم بين كمّاشتين، بين الإفراط والتفريط، بين الغلو في التدين والتنطع فيه وارتكاب العظائم باسم الدين من قتل وتكفير وتدمير للممتلكات وترويع للآمنين، وبين جنوح وفساد وتعاط للمخدرات وضياع وعقوق، وهذا ما جعلني أقف عند هذا الحديث بدراسة أسبابه وأضراره ونتائجه وآثاره، ومحاولة العلاج بقدر المستطاع، فأقول:

أولاً: إن الدور الأساسي للأسرة في تربية وتحصين النشء تجاه مختلف التيارات الهدامة المحيطة بالمجتمع وعلى قدر وعي القائمين على الأسرة ومتابعتهم ورعايتهم يتحدد مستقبل الأبناء وبالتالي يسلمون بإذن الله من أن ينحرفوا أو ينجرفوا وراء مبادئ تسيء إليهم بالدرجة الأولى، ومن ثمّ تسيء إلى مجتمعهم الذي يعيشون فيه.

والشباب أحياناً يعانون من فراغ عاطفي ونفسي بسبب عدم مخاطبتهم بالأسلوب الأمثل الذي يجذبهم للأسرة ويحببهم إليها ويقوي ارتباطهم بها، بل أحيانًا يقسو الأب أو ولي الأمر فينفر الأبناء ثم يبحثون عن حضن آخر يجدون فيه الدفء والحنان ولو كان فيه هلاكهم، وهذا ما يجعل التأثير من الآخرين عليهم سهلاً، فهم كالعجينة في اليد إن استطاع ولي الأمر عجنها بيسر وسهولة وإلا فإنها تيبس ويصعب الاستفادة منها.

يقول ابن القيم رحمه الله  في تحفة المودود بأحكام المولود، ص (146ـ 147).

: “وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد بالأولاد رأيت عامته من قبل الآباء”.

ثانياً: القدوة عامل كبير في صلاح الولد أو فساده، فإن كان المربي صادقاً أميناً خلوقاً كريماً شجاعاً عفيفاً نشأ الولد على الصدق والأمانة والخلق والكرم والشجاعة والعفة، وإن كان المربي كاذباً خائناً بخيلاً جباناً نشأ الولد على الكذب والخيانة والتحلل والجبن والبخل.

إن تلقي الناشئة معلومات هامة عن أساسيات الدين والتعامل أمر مهم لكن الأهم هو أن يروا من يتمثل ذلك سلوكاً واقعياً، ولهذا متى وجد الأبناء معلمهم يناقض بسلوكياته ما يلقنهم من معلومات فهيهات أن يستجيبوا له لأنهم يجزمون أن فعله أهم وأولى من قوله وتوجيهه.

ثالثاً: المناهج الدراسية لابد من الاستفادة منها لتكون متوائمة مع قدرات الأبناء وإمكاناتهم واستعدادهم لأنه من الخطورة بمكان أن يدرسوا أشياء لا يفهمونها أو لا يستوعبونها أو يفهمونها على غير وجهها الصحيح، وهذا ما يسبب لهم الحيرة والقلق بين واقعهم الذي يعيشونه وبين ما يتلقونه من معلومات يعز عليهم استيعابها والانطلاق منها إلى حياة سعيدة.

رابعاً: الجامعات لها دور بارز في صياغة عقول الأبناء في أخطر مراحل حياتهم، فعلى أساتذة الجامعات أن يركزوا على قضية الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وولاة الأمر والعلماء، وعليهم أن يحاربوا هذه الأفكار الوافدة بكل وسيلة، فلو كانت لنا تأثيرات جلية على أبنائنا لسددنا الطريق على هؤلاء العابثين الذين يريدون لنا ولعلمائنا ومقدساتنا شراً.

وعلى أساتذة الجامعات أن يركزوا في أبحاثهم وما يعطونه لطلابهم من أبحاث على مثل هذه الأمور ليرسخ في أذهان الطلبة عظم خطرها، وليحصنوا من شرها، ويكونوا جنوداً أوفياء في الدفاع عن بلادهم ومقدراتهم مهما كلفهم ذلك من جهود وتضحيات.

خامساً: العلماء والدعاة والخطباء لهم دور بارز في تحصين الناشئة، وغرس القيم الفاضلة والأخلاق الإسلامية الرفيعة في نفوس الأبناء، وإذا كان الأبناء يتلقون عن العلماء والخطباء المخلصين الذين يتميزون بالعقل والموضوعية فإن التأثير السلبي عليهم من الأعداء يضعف أو ينعدم، وإني لأعجب من خطيب ينصت له الناس بحكم الشرع ومع ذلك يحضرون وينصرفون ولا يستفيدون شيئاً أحياناً، ولو كان الخطباء يعالجون قضايا حيّة يحتاجها الناس مثل تربية الأبناء وتحصينهم ضد الأفكار الوافدة، وربطهم بأسرهم وعلمائهم، وحثهم على الجد والتحصيل في الدراسة، وكذلك معالجة قضايا المرأة والعنوسة والعلاقة مع الزوج والطلاق وشكر النعم وقضايا الجوار والعلاقات الاجتماعية، لو كان الخطباء يعالجون مثل هذه القضايا بأسلوب علمي مركز وموجز لكان لها آثار ايجابية كبيرة بإذن الله تعالى.

سادساً: أما وسائل الإعلام فلها تأثير كبير لاتساع المساحة التي تؤثر فيها وخصوصاً الصحافة والتلفاز، فينبغي التركيز على الجنوح ومعالجته عن طريق المختصين سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وكم ينفع الله بمقال يكتب عبر جريدة سيارة يقرؤها مئات الآلاف من الناس؟ بل كم يستفيد الآلاف الذين يشاهدون التلفاز من برنامج مركز يعالج مثل هذه الظواهر الغريبة عن مجتمعنا؟ والمهم الذي ننشده هو طريقة العرض للمادة وكيفية ذلك، فمتى كان العرض شيّقاً والمادة المعروضة مرغبة كانت الاستفادة أكثر، أما أن يكون العرض باهتاً أو مملاً للمشاهد أو القارئ أو السامع فهنا تكون الفائدة قليلة.

سابعاً: هناك تأثيرات خارجية لا بد أن نحمي شبابنا منها لأنها بعيدة عن بلادنا ونابتة في غيرها وقد وضعها أقوام لأهداف معينة يستميتون في الوصول إليها مهما كلفهم ذلك من تضحيات وأذى للآخرين، فلا يهمهم القتل ولا النهب ولا الترويع ولا التشريد ولا قتل المروءات والأخلاقيات ما داموا يحققون شيئاً من أهدافهم ومطامعهم، بل إن المجتمع كله بأسره عند هؤلاء خارج عن ربقة الإسلام فهو حلال الدم والمال، وهذه أفكار الخوارج ومن لف لفهم ـ نعوذ بالله من مضلات الفتن ـ  وشبابنا فلذات الأكباد الذين نشأوا على ثرى هذا البلد الطيب ينبغي أن نحميهم من هذه المؤثرات ونبين لهم خطرها وأهدافها ووسائلها التي تنتجها، وقد يساهم فيها شبابنا جهلاً منهم لأنه يغرر بهم.

فمثلاً الحزبيات والانتماءات والجمعيات والجماعات التي نشأت في ظروف خاصة وفي بلاد لا تحكم بشرع الله ولها مبادئها وأهدافها الواسعة كيف تنسل إلى بلادنا ويخدع بها شبابنا المتمسك بعقيدته الذي يعيش في بلاد تحكم بشرع الله وتعلن ذلك على الملأ، بل وتفخر وتفاخر به الدنيا كلها، كيف يطيب لشاب أن يعطي ولاءه لأقوام يريدون بهذه البلاد سوءًا بأمنها ومقدساتها وولاة أمرها بل بكل مواطن على ثراها.

كيف يسمح الأب أن يلغي تأثيره على أولاده ويسلمهم لمن لا يرقب فيهم إلاً ولا ذمّة، إن ما جنته الحزبيات والانتماءات والولاءات غير الشرعية على شبابنا أمر يستحق الوقوف والمعالجة قبل أن يستفحل الشر ويصبح أبناؤنا أدوات تحركهم أياد خفية خارج هذه البلاد.

إن الفكر المنكوس الذي عشعشت فيه أفكار الحاقدين على هذا البلد وأهله لا يمكن أن تثمر إلا هذه الظواهر الخطيرة التفجير؛ والقتل والاغتيال وتدمير الأموال والممتلكات هل يرجى الخير من شخص يقول: إنه من حق النصارى والبوذيين وغيرهم أن يقيموا كنائسهم ومعابدهم على أرض هذه الجزيرة المباركة، كيف يرجى الخير ممن يصـم ولاة أمـر هذه البــلاد وعلماءهـــا بالعظـــائم ويتهمهــم بما ليس فيهم ولا لشيء إلا إرضاء لسدنته وتوسيعاً لقاعدته الغوغائية ممن لا زالوا في جهلهم سادرين.

إن المتأمل في حال الأمة الإسلامية اليوم يرى أن البدن الإسلامي مثخن بمحنة الأحزاب حيث لا يهضمها ولا يرضاها لبوساً فهو بها يعايش علة انتحار داخلي في الأمة لأنها قضت على حرية الرأي والإبداع في الأمة، وقد تساقطت الفرق في الماضي الوحدة تلو الأخرى، ومن نهج نهجاً سيقتفي أثرها في السقوط مهما كانت جذور حزبيته ضاربة في الأرض لأن هذه سنّة الله في خلقه.

والحزبية كانت وما تزال حجاباً عن معرفة الحق لداء التعصب المقيت الذي يلازمها، وهي كذلك من أسباب ضعف الغيرة على التوحيد الخالص لأن المنتمي لهذه الأحزاب وتلك الجماعات يسكت عن أخطاء أصحابه مهما كانت مخالفتها للشرع وهدفهم ـ كما يزعمون ـ تأليف القلوب ولم الصفوف وبئس ما زعموا، والحزبيون لا يهمهم إلا أنفسهم ومن على شاكلتهم أما غيرهم فمهما كان صلاحه وتقاه وعلمه فهو عقبة في طريقهم، فإما أن يكون معهم أو يصنف بأنه ضدهم. ولذا لا يستغرب على الحزبي الموغل في الانتساب أن يؤذي غيره بمختلف أنواع الأذى لأنه يريد الوصول إلى أهدافه مهما كلفه ذلك من نتائج.

ثامناً: إذا كان التأثير من الخارج بهذا الحجم الذي عرف من خلال الحزبيات والانتماءات والولاءات لشياطين الجن والإنس والتلقي من المنشورات التي تأتي من الخارج ممن هبّ ودبّ وتجتمع على هدف واحد وهو خلخلة بنائنا المتماسك وكياننا الشامخ في هذا البلد الطيب.

أقول إذا كان هذا هو حجم التأثير الخارجي فأين التأثير الداخلي الذي يستطيع التصدي لهذه المؤثرات ويحمي شبابنا بإذن الله منها؟

أين دور الأجهزة المختلفة التي تستطيع بناء عقول الناشئة وتوظيفها لتكون أدوات بناء وعطاء في مجتمعها بدل أن تكون أدوات هدم وتخريب؟

أين دور المؤسسات الاجتماعية ودور الرعاية ومحاضن الناشئة؟

أين دور الموجهين والأساتذة والخطباء؟

إن الحاجة ماسة لمراجعة الحسابات لنستفيد من التجارب وننطلق منها لرسم غد مشرق وضاء.

تاسعاً: يحاول الأعداء التأثير على شبابنا وذلك عن طريق النفخ فيهم وإعطائهم أكبر من حجمهم، وإشعارهم بأنهم قادرون أن يفعلوا أشياء كثيرة وخصوصاً إذا كان هؤلاء الأعداء يلبسون لباس الخير والدعوة ويعتنقون أفكاراً خطيرة تدمر حاملها وغيره من حيث شعر أو لم يشعر، والشاب في العشرينات إذا نفخ فيه وترك له الحبل على الغارب فقد يضر نفسه وأسرته ومجتمعه ويكون أداة سهلة بأيدي الحاقدين يوجهونه كيفما شاءوا.

عاشراً: كثيراً ما يصل الأعداء إلى أهدافهم عن طريق النقد وهدم ما يبنيه الآخرون وهنا ينخدع الشاب إذا رأى أشخاصاً صغاراً في أعمارهم ـ وهم صغار في عقولهم ـ لكنه يخيل إليه أنهم عقلاء ومفكرون، فإذا رأى هؤلاء ينتقدون القمم من العلماء وولاة الأمر ويشوهون صورتهم فيظن هذا المسكين أن هؤلاء ـ الأعداء ـ على صواب وأن نقدهم للعلماء والحكام في محله وبالتالي ينجرف وراءهم.

ولذا لا غرابة أن يصل الحال بهؤلاء الشباب أن يكفروا خيرة علمائنا، بل خيرة علماء الأمة من كبار العلماء في بلاد الحرمين، ولا غرابة أن ينخدع الشباب بهذا التشويش وتلك الفتنة العمياء التي قاد أوراها من أعمى الله بصيرتهم فحقدوا على هذه البلاد ومن يعيش على ثراها.

ما أسهل النقد وتوهين جهود الآخرين وتقليلها وهذا لا يفعله إلا العاجزون والكسالى، أما البناء فهو صعب ولذا يتهيبه أمثال هؤلاء الأقزام.

فعلى شبابنا أن ينتبهوا لهذه الحملات المسعورة من نقد وتشويه صورة علمائنا وولاة أمرنا فمن يسعى بها أو يرضى بها أو يسكت في المجلس الذي تثار فيه فليعلم أن في قلبه مرضاً والعياذ بالله.

حادي عشر: مما يلاحظ في قضية التفجير تنمية نوازع الشر في هؤلاء الشباب عن طريق الأعداء، وقد بلغ الشر قمته في استغلالهم لحماس هؤلاء الشباب في مرحلة حرجة مستثمرين في ما يكون عندهم من الحماس والعاطفة ولذا استطاع الأعداء أن يوظفوا هؤلاء الشباب للاتجاه المعاكس للتدمير والتخريب والقتل والترويع، بل سمعنا أن لهم مخططات أخرى وهذه بوادر تنذر بالخطر.

اثنا عشر: وأخيراً أقول لا بد أن نحصن شبابنا تحصيناً علمياً مدروساً لئلا تلعب بهم التيارات ذات اليمين وذات الشمال، ولئلا يكونوا نهباً بأيدي الأعداء يوجهونهم حيث يريدون.

ويكون ذلك التحصين بما يأتي:

1- وجود القدوة الحسنة في البيت والمدرسة.

2- تكريس المناهج الدراسية وتكثيفها التي تربط الشاب بأسرته ومجتمعه وعلمائه وولاة أمره وتنمي فيه روح التعاون على البر والتقوى وتحذره من أذية الآخرين والتعرض لهم بسوء.

3- ربط الشباب بكبار علماء هذه البلاد، وأن يتلقى التوجيه والتسديد من هؤلاء لطول باعهم في العلم وطول تجاربهم في الحياة وخبرتهم بأساليب الأعداء وكيدهم.

4- قطع الطريق على قرناء السوء والتأثيرات الشريرة التي تفد من الخارج والوقوف في وجهها بحزم وقوة.

5- تكثيف التوعية والتوجيه ممن هم محل الثقة والاطمئنان من العلماء وأساتذة الجامعات والخطباء لمقابلة الفكر الدخيل بالحجّة والبرهان من الكتاب والسنة.

6- ينبغي أن يدرك الشباب ـ الملتزم ـ أن الالتزام ليس مظاهر فقط بل سلوك عملي واقعي وتعامل بالحسنى، ولذا وصف الله رسوله بهذه الصفة العظيمة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}([160])، فليحرص الشاب أن يكون عضواً فاعلاً في مجتمعه، يبني ويعطي وليحذر أن يكون أداة هدم وتخريب يحركها العدو المتربص بهذه البلاد الدوائر حسداً وحقداً على ما ننعم به من أمن وطمأنينة ورغد عيش.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يحمي هذه البــلاد من كيد الكائديــن وعبث العابثيـن وتخطيط المجرمين، وأن يعين ولاة أمرنا على كل خير، وأن يوفقهم للأخذ على أيدي السفهاء والعابثين بيد من حديد ليستمر بناء هذا الكيان شامخاً بإذن الله.

كما أسأله سبحانه أن يحمي شبابنا من مضلات الفتن، وأن يعصمهم من التأثر بأعدائهم وأعداء بلادهم. كما أسأله سبحانه وتعالى أن يزيد هذا المجتمع تماسكاً وترابطاً وأن يديم علينا نعمة الأمن والاستقرار وتحكيم شرع الله إنه ولي والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

   

المقال الثاني

عام 1416هـ وأهم حدثين في بلاد الحرمين

نشر بجريدة الرياض عام 1417 هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

خلق الله الخلق لعبادته فقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[سورة الذاريات: الآية 56]، وكل ما في هذا الكون مسخّر للإنسان تكريماً وإنعاماً له ليؤدي عبادة ربه على الوجه المطلوب، والذين ينعمون بنعمة الإسلام ويتفيؤون ظلال الأمن في الأوطان هم الذين يتلذذون بهذه النعمة الكبرى، ونحن في بلاد الحرمين الشريفين ننعم بهذه النعم الظاهرة للعيان، وهناك حدثان حدثا خلال العام المنصرم أحسبهما أهم حدثين في بلادنا وهما:

 أولاً: حادث التفجير في العليا وما تبعه ولله الحمد من قبض على من نفذوا هذا العمل الإجرامي المروع، ورغم ما كتب حول هذا الأمر من تحليل لأبعاده إلا أنه يحتاج لمزيد من البسط وتسليط الأضواء؛ لأن هذه البلاد المباركة التي ترفع شعار الإسلام وتعلن تحكيم شرع الله لم تخل من الحاسدين والحاقدين الذين لبسوا كل لبوس وتقمصوا شخصيات شتى.

فهذه البلاد المباركة رغم ما تبذله من جهود خيِّرة للقاصي والداني، ورغم ما تنفق من أموال على المشروعات الإسلامية في الداخل والخارج، ورغم ما تمتد به يدها من مساعدات للمسلمين في كل مكان، ورغم قوافل الإغاثة التي تنطلق من عاصمة الحب والسلام ـ الرياض ـ، ورغم عمارة المساجد والمراكز الإسلامية في كثير من البلدان في أوروبا وأمريكا وغيرهما، إلا أن يد السوء تمتد إلى هذا القلب النابض بالحب والمودة فتناله بالسوء، وأحيانًا هذه اليد تكون من الداخل، وهذا أوجع وأقسى لأن من يلمس هذه النعم في بلادنا غير من يسمع بها.

إننا بحاجة ماسة لتحصين الجبهة الداخلية بحماية شبابنا وناشئتنا من تأثير الأعداء والجهلاء والأغرار الذين لم يرق لهم أمن الأوطان وسلامة المعتقد واستقرار الحياة فراحوا يعكرون الصفو بمثل هذه الأعمال الإجرامية الشنيعة.

ومما يزيد الأمر سوءاً أن ينبري من الجهلاء الذين أعمى الحقد قلوبهم فيبرروا هذه الأعمال ويزعموا أنها ضرب من الجهاد، ومتى كان العبث بالأمن جهاداً، بل متى كان قتل الأبرياء جهاداً، ومتى كان ترويع الآمنين جهاداً، بل متى كان تدمير الممتلكات جهاداً، إن أخطر ما يواجهه ناشئتنا انحراف المفاهيم الذي يتبعه انحراف السلوك.

إن بلاد الحرمين الشريفين وهي تحظى بقيادة مؤمنة واعية تحرص على الخير وتزرعه في طول البلاد وعرضها، وترفع شعار الإسلام والحفاظ على العقيدة وتفاخر فيه في كل المنتديات والمؤتمرات، إن هذه القيادة الواعية الحكيمة بحاجة إلى الدعاء، إلى المساندة، إلى التعاون معها في حماية هذه البلاد من مزالق الشياطين ومن عبث العابثين.

أما أن تقابل بعدم الشكر والحديث في المجالس فهذا من كفران النعم ومن العقوق لهذه الدولة التي فتحت قلبها لكل مسلم ويسّرت الطريق أمامه ومدت له يداً حانية تمسح عنه غوائل الدهر وفواجع الزمان.

ثانياً: نجاح الحج هذا العام: الحج رحلة كريمة ينتقل فيها المسلم ببدنه وقلبه إلى مكة البلد الأمين الذي طهره الله ورفع منزلته وأوجب استقباله في الصلوات كلها وكأن المسلم وهو يؤدي مناسك الحج يردد مع شوقي قوله:

لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم

*** لبيت طهور الساح والعرصات
أرى الناس أصنافاً ومن كل بقعة *** إليك انتهـوا من غربة وشتات
تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت *** لديك ولا الأقدار مختلفــات

وحج هذا العام 1416هـ كان حجاً ناجحاً بكل المقاييس ولله الحمد والمنة.

فقد تمتع الحجاج برحلة مباركة سعدوا فيها بالأمن الوارف في بلاد الحرمين الشريفين ينتقلون من مكان إلى مكان في طمأنينة وسكينة، يتتبعون هدي المصطفى ﷺ ، يرفرف عليهم الأمن ويستفيدون من الخدمات الكبيرة التي تقدمها الدولة لحجاج بيت الله الحرام.

أما إن سألت أخي القارئ عن الحرمين وعمارتهما فقد شهدا في هذا العهد الزاهر توسعة عظيمة بهرت الحجاج ووقفوا أمامها إعجاباً وإكباراً لقيادة هذه البلاد ولهجوا بالدعاء أن يحفظ الله قيادة هذه البلاد وأن يديم عليها نعمة الأمن والاستقرار وأن يُمتعها بالصحة والعافية لتواصل هذه المشروعات العملاقة التي تنفع المسلمين جميعاً ويلمسها القريب والبعيد وكل من وطئت قدماه ثرى هذه البلاد المباركة.

وأما عن المرور وحركتـــه خــلال حـج هذا العــام فقد كانت متميـــزة جداً، وقد حججت خلال أعوام مضت ولم تكن الدقة في التنظيم والانسيابية في الحركة مثل هذا العام، بل إن الكثيرين من الحجاج وصلوا إلى عرفات خلال ربع ساعة، ومن مزدلفة إلى منى خلال نصف ساعة، وهذا لم يتحقق خلال السنوات الماضية.

ولا ننسى الجمرات وما حدث فيها من توسعة وتنظيم لحركة السير بحيث لا يتقابل الناس، وهذا يسَّر حركة الناس وجعلهم يسيرون في اتجاه واحد، ومهما كانت كثرتهم فإن ذلك لا يسبب الزحام، إنما الذي يسبب الزحام هو تقابلهم في السير ودفع بعضهم لبعض.

هذه نماذج يسيرة من مظاهر التسهيل والتيسير في حج هذا العام وإني آمل من المسؤولين عن الحج وخصوصاً وزارة الحج أن تضاعف من جهودها خلال المواسم القادمة إن شاء الله حيث لمس الناس آثار التوجيهات السامية في الحرص على راحة الحجيج وسلامتهم.

إن بعض الدول تتغنى إذا نظمت دورة من الدورات التي يحضرها مئات الألوف وتظهر في وسائل إعلامها ما تبذله من جهود جبَّارة خلال تنظيم مثل هذه الدورات، وبلادنا ولله الحمد تستقبل الملايين الذين ينتقلون في مواقع محددة وبصورة جماعية ومع ذلك تعمل هذه البلاد بصمت وتخدم المسلمين دون منّة ودون مقابل وإنما طمعاً في مرضات الله وحرصاً على ما عنده.

إن في عنق كل من زار هذه البقاع الطاهرة حاجاً أو معتمراً ديناً لهذه البلاد وقيادتها بدوام نعمة الإسلام والاستقرار في الأوطان، والأمن والأمان ورغد العيش وازدهار الاقتصاد.

اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وولاة أمرنا من كل سوء ومكروه وأن تديم على هذه البلاد نعمك الظاهرة والباطنة، وأن تحفظها من عبث العابثين وكيد الكائدين، وأن تدفع عنها شرور المفسدين، وأن تزيدها تمسكاً بشرعك القويم وثباتاً عليه، وأن تتقبل من الحجاج حجّهم يا سميع الدعاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 المقال الثالث

التكفير – أسبابه وأخطاره

نشر بجريدة الرياض  عام 1417هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

طلب العلم واجب على كل مسلم وذلك بالقدر الذي يتعلم به أمور دينه من عبادات ومعاملات وسلوك وغيرها، وقد أكد الله هذا الأمر في كتابه، وأكده رسوله ﷺ فيما صح من سنته، قال تعالى:{.. فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}[ سورة النحل: الآية 43].

وهذه الآية بعمومها فيها مدح أهل العلم، وأنه يجب الرجوع إليهم في جميع الحوادث، وسؤالهم ليخرج الناس من التبعية.

وفي ضمنها تزكية لأهل العلم وتعديل لهم لأنهم الذين يوجهون المجتمع ويمنعونه ـ بإذن الله ـ من الغرق في الضلالات والجهل.

وقال  ﷺ: ( طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ) رواه ابن ماجه (224)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم (184)، وقال  ﷺ: (فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السؤالُ) رواه أبو داود (336)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (336).

وهذا الحديث يؤكد ما دلت عليه الآية من أن طلب العلم فيه الشفاء من الجهل، وأنه يجب على الجاهل سؤال العلماء ليعبد الله على بصيرة، وإذا نكص الجاهل عن هذا المنهج أو رأى في نفسه الكفاءة والقدرة فإن ذلك بدء الانحراف عن الجادة، لأن الجهل من أعظم أسباب الفرقة، وهو الذي يحرف صاحبه عن الطريق الصحيح، ويأخذه بيده لطرق ملتوية معوجة، فيسير خلف كل ناعق ويتبع كل صاحب بدعة إذ لا حصانة عنده ولا بصيرة بالطريق الشرعي.

ومن أعظم البدع وأخطرها على الفرد والمجتمع بدعة التكفير التي نخرت في جسم الأمة الإسلامية منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا.

والبدعة في أصلها ما استحدث بعد النبي ﷺ من الأهواء والأعمال، فكل ما أحدث على خلاف الحق المبين عن رسول الله  ﷺ ، وجُعل ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً، فهو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ولهذا حثَّ صحابة رسول الله ﷺ على لزوم السنة وحذروا من البدعة ونفروا منها غاية التنفير، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ” خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّه  ﷺ خَطًّا فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ تَلَا “{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا..} رواه النسائي (11174)، وحسنه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح برقم (165).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه “اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ” رواه الدارمي (205).

وظاهرة التكفير مزلق خطير وقع فيه البعض جهلاً منهم أو محاكاة لأصحاب الأهواء الذين اندسوا في صفوف الأمة وأظهروا أنهم من أهل الصلاح والعلم والدعوة وهم في حقيقة الأمر من أهل البدعة.

وتبدأ هذه الظاهرة في الشخص نفسه حين يشدد على نفسه، ويحرمها من الطيبات التي أباحها الشارع سبحانه وتعالى، وقد نهى الباري جل وعلا الإنسان أن يشدد على نفسه، فقال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل}[ سورة المائدة: الآية 77.].

كما نهى رسول الله ﷺ عن ذلك فعن أنس رضي الله عنه قال: دَخَلَ النبيُّ  ﷺ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقالَ: (ما هذا الحَبْلُ؟) قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقالَ النبيُّ  ﷺ: (لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) رواه البخاري (1150)، ومسلم (784).

ولما علم النبي  ﷺ أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعًا نهاه عن ذلك وبيَّن السبب بقوله: (فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذلكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، ونَفِهَتْ نَفْسُكَ، وإنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وأَفْطِرْ، وقُمْ ونَمْ) رواه البخاري (1153).

وقد نهى الله المؤمنين عن تحريم الطيبات فقال:{لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}[سورة المائدة: الآية 81]. 

وقد أنكر الله على من حرم زينة الله التي جعلها لعباده، يقول تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون}[سورة الأعراف: الآية 32].

ولعل من أخطر المصائب التي ابتلي بها المجتمع المسلم مسألة التكفير والتساهل فيه، وإصدار الأحكام على الآخرين دون دليل وبرهان يعتمد عليه من يصدر الحكم، وإنما الجهل والتسرع والتأثر بمناهج فكرية بعيدة عن المنهج المستقيم الذي سار عليه السلف الصالح من هذه الأمة ومن تبعهم ممن سار على دربهم إلى يومنا هذا.

إن الحكم على شخص ـ ما ـ بالكفر حكم خطير وجريرة عظيمة لها آثارها الوخيمة، فلا يجوز لمسلمٍ يقدم عليه أو ينساق خلف من يصدرون الأحكام وكأن حظيرة الإسلام ملك لهم يدخلون فيها من شاءوا ويخرجون منها من شاءوا.

إن إصدار حكم الكفر على شخص معين معناه ردة هذا الشخص وخروجه من ربقة الإسلام وزوال أهليته عن من تحته وطلاق زوجته منه وعدم إرثه، وهذه أمور من العظائم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  ﷺ قال: ( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) رواه مسلم (61).

وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ( وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ ) رواه البخاري (6075)، ومسلم (107)، واللفظ له.

وهذا وعيد عظيم لمن كفّر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي فتنة عظيمة وقع فيها أقوال بتأويلات باطلة تدل على جهلهم وعدم فهمهم للنصوص الشرعية.

لقد ظهر في حقل الدعوة الإسلامية في العصور المتأخرة نوع من الشباب أصيبوا بردة فعل خطيرة فصدرت منهم أقوال وأحكام على الآخرين تدل على خلل عقدي، وشرخ سلوكي، وسطحية في التفكير، وعشوائية في التصرفات، وهؤلاء النابتة معظم تصرفاتهم فردية، وهم حسب ـ ظني ـ يريدون جني الثمرة قبل نضجها، لكن متى سبرت حالهم وجدتهم لا علم لهم بكتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ ولا بسيرة سلف الأمة ومسلكهم في الدعوة إلى الله.

بل يقف هؤلاء على بعض النصوص ويفهمونها فهماً خاصاً ويتمسكون بها، ويرفضون غيرها مهما كان محل اتفاق بين علماء الأمة في سلفها وخلفها، ولذا ترتب على هذا الجهل الفكري أمور خطيرة من أهمها:

التساهل في التكفير وإطلاقه على الولاة والعلماء، بل وعلى سائر الناس لا لشيء إلا لمخالفتهم لهم في المنهج.

ومنها استخدام أسلوب القوة والتخريب والتدمير ومصادرة الأموال والممتلكات بحجة أن أفراد المجتمع كفار والكافر حلال الدم والمال ـ وساء ما يزعمون ـ وهذا المسلك سعد به الأعداء وتلقوه بكل فرح وسرور، بل وغذوه ونموه وأحيوه في نفوس الشباب وأثنت وسائل إعلامهم على هذا المنهج وهذه النوعية لأنهم يرون أن هؤلاء الشباب أفتك في مجتمعاتهم من أي سلاح، وقد تحقق للأعداء ما أرادوا حين بدأ هؤلاء الشباب ينخرون في مجتمعاتهم ترويعاً وتخريباً وتقتيلاً، والمصيبة أنهم ينطلقون ـ حسب فهمهم ـ من منطلقات شرعية وأنى لهم ذلك، فالإسلام يحرم ترويع المؤمنين ويشدد في تحريم أموالهم وأرواحهم وأعراضهم، وقد أعلن هذا الأمر رسولنا ﷺ في حجة الوداع أمام الملأ فقال: ” إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا.” رواه البخاري (67)، ومسلم (1679).

وقد أكد علماء الإسلام سلفاً وخلفاً على خطورة فتنة التكفير، وأنه لا يجوز لأي مسلم أن يخرج أحداً من الإسلام إلا إذا ثبت أنه ارتكب ما يخرجه من الإسلام وأقيمت الحجة عليه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (3/151).: “من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية…. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق

المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي”.

اللهم احفظ شبابنا من مزالق الخطر، وردهم إلى حظيرة الإيمان، وأنبتهم نباتاً حسنًا.

اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه. اللهم أدم علينا نعمة الإسلام والأمن في الأوطان، والسلامة في الأبدان، وأصلحنا وأصلح بنا يا كريم.

اللهم احفظ ولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، اللهم أصلح بهم البلاد والعباد، اللهم وفق علماءنا لكل خير واجمعهم على الهدى واحفظهم من كيد الكائدين وطيش الطائشين يا رحمن يا رحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

  

 

المقال الرابع

عظائم التفجير ومخاطره

نشربجريدة الرياض  عام 1417هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه البلاد المباركة ـ المملكة العربية السعودية ـ بلاد الحرمين الشريفين، منطلق الرسالة، ومأرز الإيمان، ومعقل الدعوة كانت وما زالت ولن تزال بحول الله تنطلق منها جحافل الخير تحمل النور والخير والهداية للبشرية جمعاء، فهي المؤهلة لهذا العمل العظيم.

فكتاب الله تنزل في أراضيها، والرسول بعث من بطاحها، والحرَمَانِ هما قلبها النابض. لكنها ـ كغيرها ـ ابتليت بالحقد والحسد، وقد أخذت نصيباً وافراً من الكيد والمكر من قبل الأعداء لأنهم يريدون لها أن تقف في وسط الطريق.

أذهلهم تماسكها، وخنقهم أمنها، وأقلق مضاجعهم الخير المتدفق منها، فاجتهدوا في التأثير عليها عبر قنوات فاسدة، وأفكار مضللة، وشبهات واهية يحاول الأعداء تضليل أبناء هذه البلاد بتفريق الصف وخلخلة البناء، وقد وجدوا من يعينهم ويخدمهم دون وعي، أو بصيرة، أو إدراك لمخاطر الأمور.

هذه التفجيرات الخطيرة التي وقعت في جنح الظلام تروع الآمنين، وتسفك الدماء الطاهرة من المسلمين، تعتدي على الحرمات والممتلكات، نساء وأطفال وعجزة وعجائز لا ذنب لهم إطلاقاً.

ماذا سيقول الفاعلون إذا وقفوا أمام ربهم وجاء من قتلوه تثعب جراحهم يخاصمونهم، هل سيحتجون بشبهة واهية أو فكر مضلل دخيل.

كيف تتضافر جهودنا جميعاً إذا حُكم على شخص بالقصاص ونتعاون لإعتاقه مع أنه أقدم على القتل، كل ذلك حرصاً على حياة نفس معصومة، وهؤلاء يقتلون العشرات دون ذنب أو جريرة.

أليس قتل المسلم من أعظم الذنوب التي يقابل بها العبد ربه يوم القيامة {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].

رسولنا  ﷺ حذر من الظلم وأعلن في حجة الوداع ميثاقاً عجزت المنظمات والهيئات أن تصل إلى ما يدانيه: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) رواه البخاري (67)، ومسلم (1679) .

ها نحن إذا اعتدى شخص أو أشخاص على سرقة مال من بيت أو محل تجاري نعاقبه بقطع اليد رادعاً وزاجراً له، وهذا من الرحمة به لأن هذا هو الجزاء المناسب له.

إن أمننا في بلادنا المباركة أصبح مضرب المثل وهذا ما جعل جهات كثيرة تظهر مكرها وكيدها لخلخلة هذا الأمن الضارب في هذه البلاد، لكن هؤلاء لا يعلمون المصدر الحقيقي لهذا الأمن ولذا مهما خططوا ومكروا فلن يصلوا إلى مرادهم.

إن مصدر الأمن في بلادنا هو التمسك بشرع الله ولذا مهما حاول الأعداء الكيد والتآمر فلن يصلوا إلى مطلوبهم ما دامت هذه البلاد تتمسك بشرع الله المطهر.

إن هذه التفجيرات فيها من الأضرار والمفاسد الشيء الكثير ومن ذلك:

1- في هذه التفجيرات هتك لحرمات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة؛ هتك لحرمة الأمن والاستقرار، واعتداء على حياة الآمنين في مساكنهم ومعاشهم، بل هتك لمصالح الناس التي لابد لهم منها.

2- هذا العمل يتضمن أنواعاً من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة مثل: الغدر، والخيانة، والبغي، والعدوان.

3- هذا المجتمع في سفينة واحدة والذي يخرق هذه السفينة يغرق المجتمع بأكمله.

ولعلاج مثل هذه الظواهر في المجتمع يلزم كل مسلم قادر أن يدلي بدلوه بالحوار الهادئ الرزين من العالم والداعية، وبالمتابعة الجادة والحراسة الواعية من قبل رجال الأمن ورجال الحسبة، والتوجيه الصادق من قبل المعلمين والخطباء وأئمة المساجد، والقدوة الصالحة من قبل الآباء والأمهات والمتابعة الدقيقة لأبنائهم وجلسائهم في حلِّهم وترحالهم.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يحمي بلادنا، وأن يحفظ عليها أمنها وأمانها، وأن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار وما يخطط له الكفار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

 

المقال الخامس

ماذا يريد هؤلاء الإرهابيون ببلاد الحرمين الشريفين؟

نشر بجريدة الرياض عام 1417 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

عجباً من هؤلاء النفر الذين ألبس عليهم الشيطان أمرهم، وزين لهم طريق الزيغ والضلال، وأوقعهم في كبائر الذنوب والمعاصي، من سفك للدماء، وترويع للآمنين، وقتل لرجال الأمن الذين يقومون على حراسة بلاد الحرمين الشريفين.

إن تلك الأعمال العدوانية التي تحدث الخوف في القلوب، والرهبة في النفوس، والاضطراب في الأمن لا يرتضيها الله جل وعلا.

وما قامت به هذه الفئة الباغية من الاعتداء على إحدى دوريات حرس الحدود بمركز سويف بالمنطقة الشمالية والذي أدى إلى استشهاد قائد القوات، ورجلي أمن آخرين، وإصابة اثنين آخرين يعتبر جريمة كبرى حرمها الشارع الحكيم، وجرمت فاعلها.

أليس قتل المسلم من أعظم الذنوب التي يقابل بها العبد ربه يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[ سورة النساء: الآية 93].

إن بلادنا كغيرها من بلاد المسلمين لم تسلم من الحقد والحسد والضغينة فأعداء الدين والملة أذهلهم تماسك هذه البلاد، وأعمى أبصارهم هذا الخير المتدفق منها في كل اتجاه، فاجتهدوا في بث الأفكار المنحرفة لتضليل شبابنا وتفريق صفهم، وخلخلة بنائهم، فوقع البعض منهم في ترويع الآمنين، وسفك لدماء المسلمين، واعتداء على الحرمات والممتلكات، فماذا يقول هؤلاء عند الوقوف بيد يدي رب العالمين يخاصمهم في هذه الدماء التي سفكت بغير حق.

إن هذا الفكر الضال، وما ترتب عليه من عمليات إرهابية حصلت بسببه مفاسد كثيرة من حصد للأرواح، وهلاك للأنفس، وتدمير للممتلكات، ونشر الخوف والرعب في قلوب المستأمنين، وإضعاف الأمة، وتبديد مكاسبها، والتسبب في تسلط الأعداء عليها.

فمن ذا الذي يرضى ببث الخوف والرعب، أو الإفساد في الأرض، أو بإلقاء الأنفس إلى التهلكة، أو التضحية بالنفس على غير بصيرة.

إن ما تقوم به الدولة ـ حرسها الله ـ من جهود في تتبع لهؤلاء الإرهابيين والمجرمين والكشف عنهم والقبض عليهم ومحاكمتهم، ومحاربة هذا الفكر الضال والقضاء عليه هو واجب وطني ينبغي أن تتضافر حوله جهود الجميع، من خطباء، ودعاة، ومفكرين، وغيرهم كل حسب استطاعته، وهو من التعاون على البر والتقوى، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[ سورة المائدة: الآية 2].

والناظر إلى ما أصاب بعض البلاد من حولنا يجد الشقاق، والدمار، والخراب، والقتل، واستباحة أعراض الناس وأموالهم، وانتشار الخوف والهلع قد حل في أرجائها، فمن يتمنى أن يصيبنا مثل ما أصاب هؤلاء ـ نسأل الله السلامة والعافيةـ.

إن رجال أمننا البواسل الذين يدافعون عن البلاد والعباد ويتصدون لكل عدو في الداخل والخارج بكل شجاعة وبسالة، ويؤدون ما أوجب الله عليهم من حفظ سفينة المجتمع ومتابعة الأعمال الإجرامية، يستحقون الإشادة والدعاء لهم بالتوفيق والإعانة والصلاح والفلاح في العاجل والآجل، فنحن ننام ويسهرون، ونرتاح ويتعبون، فنسأل الله لهم الثبات، وإحسان النية والعمل. 

فالله أسأل أن يحفظ علينا ديننا، وولاة أمرنا، وعلمائنا، وبلادنا من شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يحفظ رجال أمننا بحفظه وأن يمدهم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل شهدائهم، ويشفي جرحاهم، وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والاستقرار إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المقال السادس

المظاهرات إثارة للفتنة وكفر بالنعمة

نشر بجريدة الجزيرة عام 1432هـ

فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد الطيار.. وفقه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فآمل التكرم بالإجابة على سؤالي لأهمية الأمر ووجود بعض الخلافات بين بعض الشباب في بعض مجالسهم ومناقشاتهم، وسؤالي:

  • ما هو حكم المظاهرات السلمية وغيرها؟
  • وهل تختلف بعض البلاد الإسلامية عن غيرها؟
  • وهل للمملكة العربية السعودية خصوصية في ذلك؟
  • وهل المظاهرات خروج على الحاكم وخروج على الجماعة؟
  • وهل لها أضرار بعيدة المدى؟

آمل التفصيل في الإجابة لأهمية الموضوع، وحاجتنا الماسة لمعرفة رأيكم في هذا الأمر.

شكر الله لكم وبارك في علمكم وعملكم، وأصلح نيتكم وذريتكم، وتقبلوا تحياتي.

محبكم: عبد الله بن عبد الرحمن

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فاعلم أخي الكريم أن الله جل وعلا يقول:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}([161]).

ويقول تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ([162]).

ورسولنا محمد ﷺ يقول: (إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإضاعَةِ المالِ. وفي رواية: مِثْلَهُ، غيرَ أنَّه قالَ: ويَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، ولَمْ يَذْكُرْ: ولا تَفَرَّقُوا)([163]).

فالعلاج لعلل المسلمين وأدوائهم هو الاجتماع على الحق والخير، والانتصار للسنة، ومحاربة البدعة وقمعها، والاجتماع المنشود والمأمور به ليس مجرد الاجتماع فقط بل الاجتماع على منهج واحد، وطريق واحد هو طريق أهل السنة، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، ولن يتحقق ذلك إلا بنشر العلم المستمد من الكتاب والسنة، والصدور عن العلماء الكبار الموثوق بهم، السائرين على طريق سلف الأمة في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وغيرها، وهذا المسلك هو طوق النجاة بإذن الله لأمة الإسلام التي لم تصب ـ حسب علمي ـ بعلة أخطر من علة التفرق والاختلاف.

ولزوم الجماعة واجب، وهو من مسلمات الدين، وقد تقرر عند أهل السنة والجماعة في معتقدهم أن الجماعة حق، وصواب، والفرقة زيغ، وعذاب.

وأن الطاعة لولي الأمر واجبة، وأن الخروج عليه أمر محرم، وهو من أخطر الأشياء لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة التي تلحق الأفراد والمجتمع، فالسمع والطاعة لولاة الأمر أصل من أصول العقيدة عند المسلمين؛ إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معاً، وبالافتيات عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا، وقد عُلم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.

يقول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: “وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله”([164]).

وقد تضافرت النصوص الصحيحة الصريحة في تقرير هذا الأمر، ومن هذه النصوص: قول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ..}([165]).

وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:(على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)([166]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (عليْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعةُ في عُسْرِكَ ويُسْرِكَ، وَمنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ، وأَثَرَةٍ عَلَيْك) ([167]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (مَن أطاعَنِي فقَدْ أطاعَ اللَّهَ، ومَن عَصانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن أطاعَ أمِيرِي فقَدْ أطاعَنِي، ومَن عَصَى أمِيرِي فقَدْ عَصانِي)([168]).

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مَن خَلَعَ يَدًا مِن طَاعَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيَامَةِ لا حُجَّةَ له، وَمَن مَاتَ وَليسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)([169]).

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (مَن كَرِهَ مِن أمِيرِهِ شيئًا فَلْيَصْبِرْ، فإنَّه مَن خَرَجَ مِنَ السُّلْطانِ شِبْرًا ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً)([170]).

وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ) ([171]).

هذه النصوص الصحيحة الصريحة وغيرها تفيد بمجموعها وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله، وعدم إثارة الفتن مهما كان الدافع لها، وتوجب هذه النصوص لزوم الجماعة، والنهي عن الفرقة لأن فيها خذلان الأمة وضعفها، وهذا المنهج  الواضح البين هو الذي سار عليه سلف هذه الأمة، وأكدوا عليه  فيما نقل عنهم من كلام حول هذه النصوص، ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولابد لهم عند الاجتماع من الحاجة إلى رأس“([172]).

وقال أيضاً: “…. ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان”([173]).

وقال ابن القيم رحمه الله : “… وقوله ولزوم جماعتهم هذا أيضاً مما يطهر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها ويسوؤه ما يسوؤهم ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم لهم” ([174]).

إن منهج أهل السنة والجماعة مع ولاة أمرهم منهج وسط عدل يقوم على أساس الاتباع وعدم الابتداع والطاعة بالمعروف، وهذا مقتضى الأثر الذي تضافرت حوله النصوص الشرعية التي أشرنا إلى طرف منها، وقد أكد ذلك سلف هذه الأمة تطبيقاً عملياً لهذا المنهج.

وبلادنا تنهج هذا النهج وتسير عليه حيث قامت على التوحيد وبنت دستورها على شريعة الإسلام ورايتها الخفاقة تحمل “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ولا تنكس بحال من الأحوال.

وما نعيشه اليوم في بلادنا الغالية من نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام مرده إلى تحكيم شرع الله، ولذا فمحبة ولاة الأمر والنصح لهم عقيدة ودين، وهو دليل الصدق والإخلاص، وهذا ديدن العلماء الصادقين في كل زمان مع ولاتهم الذين يحكمون بالكتاب والسنة، وإذا كانت الأمة مطالبة في كل وقت أن تكون يداً واحدة، وأن تتعاون كل فئات المجتمع على الخير والبر، فإنها مطالبة في هذا الوقت أكثر لعظم الأخطار المحيطة بها، وصدق الحبيب المصطفى ﷺ القائل: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا – وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ-) ([175]).

وقال ﷺ:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)([176]).

ومن التعاون على الخير والبر النصيحة الصادقة المخلصة التي تكون في مكانها دون تشهير أو إظهار للمعايب، ودون مبالغة أو تحجيم للأخطاء ولا سيما إذا كان المنصوح من أهل الفضل وأصحاب الحقوق كالعلماء والولاة والوالدين ورجال الحسبة وغيرهم، فهؤلاء تتأكد النصيحة لهم ولكن حسب ما يناسبهم وتكون سرية سواء كانت مشافهة أو بالكتابة، المهم أن يؤدي المسلم ما يجب عليه تجاههم بأسلوب شرعي يؤلف ولا ينفر، ويقرب ولا يبعد، وتتحقق معه المصلحة من النصيحة، ولا تتحول إلى فضيحة أو تعيير، قال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله: “وأما النصيحة لأئمة المسلمين فهو صدق الولاء لهم وإرشادهم لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها، ومساعدتهم في إقامة ذلك، والسمع والطاعة لأوامرهم ما لم يأمروا بمعصية لله، واعتقاد أنهم أئمة متبوعون لما أمروا به لأن ضد ذلك هو الغش والعناد لأوامرهم والتفرق والفوضى التي لا نهاية لها.

 ولأنه لو جاز لكل واحد أن يركب رأسه، وأن يغتر برأيه، ويعتقد أنه هو المسدد للصواب، وهو الذي لا يدانيه أحد لزم من ذلك الفوضى والتفرق والتشتت” ([177]).

وبهذا يتبين لك أخي الكريم خطورة المظاهرات وآثارها على البلاد والعباد إذ يحصل بسببها التعدي على الأنفس والأموال والممتلكات وما يصاحبها من الاختلاط والتبرج والسب والسخرية والغيبة، وفيها هجر للمساجد حتى الجمعة لا تقام فيها، وأخطر من ذلك وأعظم أن فيها خروجاً على ولي الأمر، وافتياتاً عليه، وإثارة للعوام، وإشعالاً لنار الفتنة، وفيها إخلال بالأمن وهدم لاقتصاد البلاد، وتعطيل للمصالح الخاصة والعامة وفيها فتح لباب الفساد وتسلل المجرمين والمغرضين الذين يسرهم الإخلال بالأمن وتطيب نفوسهم بزرع الفتنة.

ولذا لا يساورني شك أن المظاهرات بكل أشكالها وأنواعها محرمة ونصوص الكتاب والسنة تمنعها ولا سيما في بلادنا التي تحكم بشرع الله وتتحاكم إليه ويأمن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.

فحذار حذار أيها الشباب من دعوات المغرضين، وتشويش الحاقدين، والزموا غرز العلماء، واصدروا عن رأيهم، واحذروا من إثارة الفتن، وكونوا يداً واحدة، وحصنا قوياً مع علمائكم وولاة أمركم، واصفعوا بالوحدة فيما بينكم ولزوم الجماعة، هؤلاء المجرمين الذين سخّروا إعلامهم وأقلامهم وقنواتهم ومنتدياتهم للنيل من بلاد التوحيد معقل الإسلام ومنطلق الرسالة ومأرز الإيمان.

واعلم أخي الكريم أن بلاد الحرمين تختص بخصائص لا يشاركها فيها بلاد غيرها ومن هذه الخصائص والميزات:

1) وجود البيت العتيق فيها قبلة المسلمين في صلاتهم ومحط رحالهم في حجهم وعمرتهم.

2) انطلاق رسالة التوحيد منها إلى الثقلين في كل زمان ومكان فمنها بُعث خاتم الأنبياء والمرسلين ومنها انطلقت جحافل الإيمان تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

3) الحكم بتطهيرها من الشرك وأهله فلا يجتمع فيها دينان.

4) قيام دولتها على الدعوة إلى التوحيد ونبذ ما سواه.

5) تحكيم شرع الله وإقامة حدوده.

6) شعارها في رايتها الشهادتان وعدم تنكيس رايتها مهما كانت الظروف والأحوال.

7) خلو أرضها ولله الحمد من التماثيل والأوثان والأضرحة والمقامات التي تنتشر في سائر البلاد الإسلامية.

8) خلو المساجد في هذه البلاد المباركة من البدع التي تعج بها المساجد في غيرها من البلاد.

9) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار معلن تفتخر به هذه البلاد وتتميز به على غيرها وله جهازه الرسمي كسائر أجهزة الدولة ويؤدي دوره على أكمل وجه وأتمه.

10) الأذان للصلاة شعار يرفع يومياً.

11) فصل الرجال عن النساء في قاعات الدراسة ومنع الاختلاط في المؤسسات العامة والخاصة.

12) فرض الحجاب الشرعي على النساء في الأماكن العامة والخاصة.

13) لا تمنح جنسية هذه البلاد إلا لمسلم وهذا أمر تفخر به هذه البلاد وشعبها وتتميز به على سائر بلاد الدنيا.

هذه كلها خصائص وميزات لبلادنا المباركة وهذا ما يجعلنا نقرر وبكل وضوح لا لبس فيه حرمة المظاهرات فيها ورفع الشعارات الزائفة وإحداث الفتن والخروج على الجماعة فما دامت الشريعة هي المهيمنة وما دام الحكم بالكتاب والسنة وشعائر الإسلام ظاهرة معلنة والمسلم على ثرى بلادنا يأمن على نفسه وماله وعرضه فماذا يريد هؤلاء أيريدون أن يكونوا حاكمين على شرع الله أيريدون أن يغيروا دستور هذه البلاد أيريدون خلخلة الصف فيها فحسبنا الله ونعم الوكيل ونسأله أن يكفينا شرهم ويرد كيدهم إلى نحورهم.

حمى الله بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين ورد الله كيد الأعداء إلى نحورهم وجنبنا الله الفتن ما ظهر منها وما بطن وزاد الله بلادنا تمسكاً بشرعه المطهر، وأسبغ علينا نعمة الأمن والإيمان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المقال السابع

أهمية الأمن الفكري

نشر في موقع الألوكة عام 1428هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

إن بلادنا الغالية تسير بخطى ثابتة نحو التقدم والازدهار، حاملة على عاتقها إعلاء دين الله تعالى ورفع مكانته بين الناس كافة في جميع أنحاء العالم، ويكفينا فخراً وعزاً أن يكون منهجها على السير حسب شريعة الإسلام، فهي محكمة لكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، معلية شأن العلماء والدعاة في أرجائها المتباعدة.

وعلى الرغم من ذلك كله إلا أن هناك نابتة من أبناء هذه البلاد نبتت على غير هدى بسبب ما تلبست به أفكارهم من شوائب، وسارت به عقولهم لما فيه الضرر لهم ولغيرهم، فوقعوا صرعى بيد غيرهم ممن يتمنون الدمار والخراب لهذه البلاد، ويحرصون على إيقاد الفتن لينتشر الظلم ويضيع الأمان.

وإن هذه الفتنة التي حلّت بديارنا ـ فتنة التكفير والتفجير ـ تحتاج منا للوقوف في وجهها ليمكن معالجتها بحكمة وتعقل وحزم، والأخذ بأيدي شبابنا إلى طريق الجادة قبل أن تتخطفهم الأيدي الآثمة التي تمتد في الخفاء لتأخذهم للهاوية.

وعلينا تبصير شباب هذه البلاد وغيرهم بما يدور حولهم من الفتن المهلكة التي باتت تأكل الحرث والنسل.

والناظر في أحوال البلاد من حولنا يرى العجب من قتل وتدمير وتشريد وظلم واعتداءات، وكل ذلك بسبب غياب الوعي الفكري لدى من يقع في مثل هذه الجرائم العظيمة، وتعلقهم بشبهات زرعها في عقولهم أصحاب المطامع السيئة.

ويكفي المسلم فخراً في هذه البلاد أنه يعيش آمناً مطمئناً على نفسه وأهله وأولاده وماله، وهذه النعمة لا يمكن الحصول عليها أبداً في أي بلد من بلاد العالم أجمع، ألا ينتبه شبابنا لمثل هذه الأمثلة التي يرونها ويسمعونها عبر وسائل الإعلام المختلفة، ألا يتعظون بما يدور في أرجاء المعمورة بسبب البعد عن المنهج الصحيح للسلف الصالح، والسير وراء من يرفعون الشعارات البراقة الخداعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

إن الشباب هم عماد الأمة، وحصنها المنيع ـ بعد الله تعالى ـ في حفظ هذه البلاد من التيارات الهدامة، والشعارات الكاذبة، لذلك فهم يحتاجون إلى فهم الأمور بتبصر وتعقل عن طريق العلماء العاملين الذين يوضحون لهم الطريق، ويحذرونهم من مغبة الانسياق وراء الهوى والحماسة غير المنضبطة بالشرع الحنيف.

وإن مما يؤكد أهمية الأمن الفكري هو حماية النشء من الوقوع فيما وقع فيه من سبقهم من الشباب، ويكون ذلك بالتوجيه الهادف عن طريق المؤسسات الدينية والاجتماعية في المجتمع، والتي تقوم بدور كبير في وقاية المجتمع والذود عن حياضه.

ومن أهم المؤسسات التي تقوم بهذا الشأن ولها دور وقائي في معالجة مثل هذا الفكر المسجد، والمدرسة، والأندية الثقافية والرياضية، والإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة، فالخدمات التي تقوم بها مثل هذه الجهات ضرورية كالوعظ والإرشاد، والتوجيه النفسي والسلوكي والاجتماعي والتربوي والتعليمي، والنشاط الرياضي والثقافي، واستغلال أوقات الفراغ عند الشباب وشغلها بما يفيد من أنشطة نافعة للفرد والمجتمع.

وهذا لا يكون له تأثير إلا إذا كان القائمون على هذه المؤسسات لهم قدرة وكفاءة على التصدي لمثل هذه الأفكار وتوجيهها التوجيه السليم والذي يعود بالفائدة على الشباب والمجتمع.

فالوسائل المتاحة من هذه الجهات وغيرها، وأيضاً وسائل الإعلام المختلفة والتي تخاطب هذه الفئة الهامة في المجتمع من أجل الوصول لحفظ فكرهم من الانحراف والوقوع في مغبة المخالفة لولاة أمورهم ولعلمائهم، والسعي الحثيث في توجيههم التوجيه السوي الذي يحفظ عليهم دينهم وأمنهم.

وإن مما يؤكد أهمية هذا الأمر هو ربط الشباب بولاة أمورهم وعلمائهم، والحث الدائم على لم الشمل وعدم الوقوع في الفرقة التي يبغضها الله تعالى ورسوله ﷺ، قال تعالى:{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..}([178])، وقول النبي ﷺ: (لا تَباغَضُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا) ([179]).

أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحفظ شبابنا من الأفكار الهدامة المضللة، وأن يهديهم إلى الحق وإلى صراط الله المستقيم، وأن يديم على بلادنا الغالية نعمة الأمن والأمان والطمأنينة والسلام، وأن يرد كيد الأشرار إلى نحورهم، والحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المقال الثامن

شبابنا ومواطن الفتن

نشر في صحيفة تواصل بالمجمعة عام 1434هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

شباب الإسلام هم قوة الأمة، وعماد نهضتها، ورأس مالها، وعدة مستقبلها، ومبعث عزتها وكرامتها، وهم ذخرها الثمين وأساسها المتين، فعزهم عزنا، وضعفهم ضعفنا، وخسارتهم خسارتنا.

إنهم صِمام الأمان- بعد الله – لهذه الأمة من أعدائها, وهم صُنَّاعُ الحضارة والتاريخ, وهم عنوانُ المستقبل, لأنهم يملكون في أيديهم الطاقةَ والقوةَ والحماسة والبذل والعطاء.

إنهم معقِدُ الأمل – بعد الله – في النهوضِ ببلادنا وأمتنا، والمضي بها إلى الرقيِّ والتقدم متى قمنا بواجبنا تجاههم بالتربيةِ الصحيحةِ على الإيمانِ الصادقِ، والعمل الصالح، والخلق السامي النبيل، وتلك التربية تكون سبباً – بعد فضل الله تعالى – في الأخذ بأيديهم إلى العزة والرفعة، وحمايةِ الدينِ والعرض، والاجتهاد في استخراجِ كنوزِ الأرضِ، والاستفادة من مواردِها، وخيراتِها، وإقامة المشروعات المفيدة، والعمل على استرداد المجد والكرامة, والسيادة لبلادهم وأمتهم.

وهذه المرحلة العمرية من عمر الشباب هي أخصب مراحل العمر ففيها يبني الشاب شخصيته، ويجاهد نفسه، ويصلح شأنه، ويسلك طريقه التي توصله إلى أفضل وأعلى المراتب.

ولقد كان النبي ﷺ حريصاً على هذه الفئة وخصَّها بمزيد من العناية والرعاية، فخرج بين يديه جيل عظيم تمسكوا بدينهم ونصروه وعزَّرُوه، وأصبحوا مفاتيح خير لمجتمعهم، وشامة نور في تأريخ أمتهم.

عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال يوم بدر: (مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَلَهُ مِنَ النَّفَلِ كَذَا وَكَذَا”. قَالَ: فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ فَلَمْ يَبرَحُوهَا)([180]).

وعنه رضي الله عنه قال: “ما آتى الله عز وجل عبدًا علمًا إلا شابًّا، والخيرُ كلُّه في الشباب”، ثم تلا قوله عز وجل:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم}([181])، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}([182]).

إن عظمة شبابنا وقيمتهم تظهر في مواطن الفتن وعند حلول النوازل؛ فإذا جاءت النازلة وادلهمت المصيبة نظر الناس إليهم وأصغوا إلى حديثهم بعد علمائهم، فكونوا أيها الشباب حريصين على المنهج العلمي الموافق لفهم سلف الأمة، وإياكم والعجلة المذمومة فإنها مهلكة، وابتعدوا عن كل تصرف يجعلكم موضع شماتة فهي توهن نفوسكم، وتضعف عزائمكم، وقد كان نبيكم ﷺ يقول: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ)([183]).

لقد علم أعداء الإسلام أهمية دور الشباب في بناء الأمة؛ فحرصوا حرصاً عظيماً على تبديد هذه الثروة الغالية، وتعطيل طاقتها، وإفساد قوتها وعلى إبعادهم عن دينهم، وإشغالهم بما لا ينفعهم، فأدخلوا إلى عقولهم الأفكار المنحرفة، وزينوا لهم الفتن، وجروهم لمعاداة أهليهم وذويهم وولاة أمورهم، وأعانوهم على الوقوع في شَركِ السفر إلى خارج بلادهم، وأوهموهم أن ذلك من الجهاد في سبيل الله، وكذبوا والله، فإن معرفة مواطن الجهاد لا يتم إلا بعد الرجوع إلى العلماء الربانيين، والصدور عن رأيهم، وبعد ذلك لابد من استئذان الوالدين، وولي الأمر لئلا تختلط الأمور ويقع الناس في الفتن وهم لا يشعرون.

إن العلم الشرعي والفهم الدقيق للواقع، والإحاطة التامة بأحوال البلاد لا غنى عنها في فهم هذا الأمر العظيم؛ فكثيراً ما تختلط الأمور ويأخذ الحماس شباباً فيبالغون ويحملون أنفسهم ما لا طاقة لهم به، وبالتالي ينتج عن ذلك كثير من المفاسد والمصائب العظيمة، ولو فكَّر هؤلاء الشباب في نتائج ما أقدموا عليه لعلموا أن الله جل وعلا لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج، وأنه يريد لهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وهذا دليل على وسطية دين الإسلام العظيم.

لقد نهى الله المسلمين عن القتال أول الإسلام لأنهم غير قادرين، ولأن مفسدته أعظم من مصلحته، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ..}([184])، وكان ﷺ وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين حتى أصبحت لهم قوة وشوكة ومنعة.

إنّ تصدر بعض الناس ممن لم يُعرفوا في العلم فضلاً عن التضلع فيه لمجالس الفتيا وإصدار الفتاوى المجردة عن الدليل الشرعي قد أضاع كثيراً من الجهود، وكان سبباً في إغلاق أبواب خير كثيرة، وفتح أبواب شر أكثر.

فعلى كل شاب أن يتريث إذا التبست عليه الأمور، ويرجع إلى أهل العلم المعروفين بالصدق والإخلاص، والحذر الحذر من الأخذ بكل ما يسمع، ومن الفتوى بغير علم لئلا يورد نفسه وغيره موارد الزلل والهلاك، وقد أمرنا الله أن نرجع إلى أهل العلم فيما لا علم لنا به، قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}([185])، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون* بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}([186]).

وإن مما يعتصر له القلب أن بعض الشباب نتيجة لبعدهم عن العلماء الربانيين، وجهلهم بمآلات الأمور، وتغليب عاطفتهم على الشرع أصبحوا ضحية سهلة لأطراف مشبوهة، وأيدٍ خفية تطيح بهم في رحى الصراعات السياسية والأحزاب الضالة باسم الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام مما أوقعهم في كثير من المحاذير الشرعية كمعصية ولي الأمر، والخروج عن طاعته، وعقوق الوالدين، والقتال دون تبصر بحقيقة الحال والمآل، والقتال تحت رايات عميَّة، وربما كان عُرضة لأن يكون أداة هدم لبلاده ومجتمعه لأنهم يجعلونه أداة يتلاعبون به كيفما شاءوا، بل أصبحوا يبيعون بعض الشباب لجهات مشبوهة ليتخلصوا منهم، ونحن نعلم يقيناً أن الجهاد في سبيل الله من أجل الأعمال وأفضل الطاعات، لكنه كغيره من العبادات له شروط وضوابط يجب مراعاتها ومن أهمها الرجوع فيه لأهل العلم الربانيين.

وعلينا جميعاً وخصوصاً الشباب التحصن بالعلم الشرعي على أيدي العلماء الراسخين، وتعظيم السنة، والسير على نهج السلف الصالح، ولزوم جماعة المسلمين، وطاعة مَنْ وَلاَّه الله أمرنا في المنشط والمكره، والعسر واليسر كما أوصانا حبيبنا رسول الله ﷺ.

وعلينا أن نحرص على الاجتماع، وعدم التفرق، فالأمة لا تكون قوية متماسكة إلا باجتماعها في عقيدتها، ومنهجها، وطريقتها، ودعوتها، وأن نحذر من التعصب للأهواء والآراء، وأن نبتعد عن دعاة الشر والضلالة، ممن قلَّ علمه، وقصر فهمه، وساءت نيته.

وأقول لشبابنا: أنتم قدوة للمجتمع، والمجتمع يؤمل عليكم الخير الكثير، فكونوا عند حسن الظن، ودعوا عنكم المرجفين والمتهورين، والزموا غرز علماءكم فهذا خير لكم في العاجل والآجل. أسأل الله جل وعلا أن يحفظ شبابنا من كل سوء ومكروه، وأن ينير بصائرهم بنور العلم والإيمان، وأن ينفع بهم أمة الإسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

وختاماً

فبعد هذا التطواف في ثنايا هذه المجموعة أقول.

لقد أصبح الإرهاب هاجسا يؤرق الدول ويخيف العالم، ولقد سعت العديد من الدول وعلى رأسها المملكة العربية السعودية إلى اتخاذ التدابير والاحترازات لمواجهة هذا الفكر الدخيل.

أسأل الله تعالى أن يبارك في تلك الجهود وأن يحمي بلادنا من شر الأشرار وكيد الفجار.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

فهرس الكتاب

الموضــــوع
مقدمة الكتاب
أولاً: الأبحاث والرسائل
بحث بعنوان: (أثر العلماء والخطباء في مواجهة فكر التطرف ـ الإرهاب ـ)
المقدمة
المبحث الأول: مصطلحات تحتاج إلى إيضاح حول الفكر المتطرف
المطلب الأول: معنى التطرف، وأسبابه وأدلته
التطرف لغة واصطلاحاً
المفهوم الدارج للتطرف في وقتنا الحاضر
أسباب التطرف
المطلب الثاني: معنى الغلو، وأسبابه وأدلته
ما ورد عن العلماء في الغلو
من أدلة الغلو
المطلب الثالث: معنى الإرهاب، وأسبابه وأدلته
الإرهاب لغة واصطلاحاً
من أدلة الإرهاب
الإرهاب قسمان
القسم الأول: الإرهاب المشروع
القسم الثاني: إرهاب غير مشروع: وهو المحرم والممنوع.
الفرق بين الإرهاب الممنوع والترهيب المشروع
بيان مجمع الفقه الإسلامي حول تعريف الإرهاب
أسباب الإرهاب
المطلب الرابع: معنى العنف، وأسبابه وأدلته:
العنف لغةً واصطلاحاً.
من أسباب العنف.
المبحث الثاني: الوسطية وأهميتها في الإسلام
المطلب الأول: معنى الوسطية وما يتعلق بها
الوسطية: لغة واصطلاحاً
المطلب الثاني: قيام كيان المملكة العربية السعودية على الوسطية
المطلب الثالث: أثر الوسطية في محاربة فكر التطرف
المبحث الثالث: الجهود المبذولة قديماً وحديثاً في محاربة فكر التطرف
المطلب الأول: جهود السلف في محاربة فكر التطرف والغلو
المطلب الثاني: جهود أئمة الدعوة في محاربة فكر التطرف والغلو
المطلب الثالث: جهود العلماء سابقاً ولاحقاً في محاربة فكر التطرف والغلو
المطلب الرابع: جهود الخطباء في محاربة فكر التطرف والغلو
المطلب الخامس: جهود وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في محاربة فكر التطرف
الخاتمة
المصادر والمراجع
 
رسالة بعنوان: (الإرهاب وأثره على البلاد والعباد)
المقدمة
أولاً: تعريف الإرهاب
ثانياً: بعض النصوص الشرعية حول كلمة الإرهاب
ثالثاُ: آثار الإرهاب التي يراها القريب والبعيد
رابعاً: أهم سلبيات الإرهاب
(1) مخالفته لروح الدين ولبِّه
(2) مخالفة ولي الأمر وشق عصا الطاعة
(3) أن ذلك من مصلحة أعداء الإسلام
(4) عرقلة مسيرة الدعوة
(5) قتل المسلمين والمعاهدين
(6) الخيانة والغدر والجناية على الأبرياء وتخويف الآمنين
(7) تشويه صورة العلماء والصالحين
(8) صرف الناس عن طاعة ربهم وتخويفهم بسلوك سبيل المؤمنين
(9) فتح الباب للمتربصين ليلجوا إلى بلاد الإسلام
(10) حصول الفرقة والتنازع
(11) ضياع الأمن والأمان
خامساً: أسباب الإرهاب
(1) الإهمال من شتى جهات المجتمع
(2) الفراغ والبطالة
(3) الدعوات الهدامة
(4) التوجيه الخاطئ
(5) ظهور المنكرات وتفشيها
(6) الفهم الخاطئ للنصوص
(7) التغرير بصغار السن من الشباب
(8) عدم فهم روح الشريعة
سادساً: الحكم الشرعي في الإرهاب
سابعاً: كيف نواجه الإرهاب؟
 
رسالة بعنوان: (فقه الجهاد ومفهومه الخاطىء)
المقدمة
أولاً: تعريف الجهاد
ثانياً: فضل الجهاد والحكمة من مشروعيته
ثالثاً: حكم الجهاد
رابعاً: متى يصير الجهاد فرض عين؟
خامساً: أقسام الجهاد
(1) جهاد النفس
(2) جهاد الشيطان
(3) جهاد الكفار والمنافقين وغيرهم من الظلمة وأهل البدع
سادساً: شروط وجوب الجهاد
سابعاً: الدعوة في الجهاد قبل القتال
ثامناً: الاستئذان في الجهاد
(1) إذن الوالدين
(2) إذن الدائن
(3) إذن إمام المسلمين
تاسعاً: المفهوم الخاطئ للجهاد
 
رسالة بعنوان: من أحكام أهل الذمة مع دراسة شرعية لحادثتي التفجير في العليا والخبر
تقديم: معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
مقدمة الكتاب
المبحث الأول: غير المسلم في المجتمع الإسلامي
النصوص الشرعية التي تنظم علاقة المجتمع الإسلامي بغير المسلمين عامة
أولاً: نصوص من الكتاب الكريم
ثانياً: نصوص من السنة النبوية
المبحث الثاني: حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي وواجباته
أولاً: حقوق أهل الذمة
(1) حرية التدين
(2) حمايتهم من الاعتداء الخارجي
(3) حماية أرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم
(4) كفالة معيشتهم عند مرضهم وعند عجزهم عن النفقة
(5) حرية العمل والكسب
(6) العدل بينهم وبين غيرهم
المبحث الثالث: ما يجب على أهل الذمة
المبحث الرابع: الفرق بين الحربي والذمي والمعاهد والمستأمن
كيف يعاقب غير المسلم إذا أخل بواجباته ومن يتولى معاقبته؟
المبحث الخامس: نصيب الضوابط الشرعية في التعامل مع أهل الكتاب من التطبيق العملي بدءًا من العهد النبوي إلى يومنا هذا
المبحث السادس: حكمة الله من إبقاء أهل الكتاب بين أظهرنا
المبحث السابع: بيان لبعض النصوص التي وردت في أهل الذمة
المبحث الثامن: دعوة أهل الذمة للإسلام والرفق في ذلك
المبحث التاسع: حادثتا التفجير في العليا والخبر
ثانياً: المقالات:
المقال الأول: الفكر المنكوس لا يثمر إلا الخطر
المقال الثاني: عام 1416هـ وأهم حدثين في بلاد الحرمين
المقال الثالث: التكفير ـ أسبابه وأخطاره
المقال الرابع: عظائم التفجير ومخاطره
المقال الخامس: ماذا يريد هؤلاء الإرهابيون ببلاد الحرمين الشريفين ؟
المقال السادس: المظاهرات إثارة للفتنة وكفران للنعمة
المقال السابع: أهمية الأمن الفكري
المقال الثامن: شبابنا ومواطن الفتن
فهرس الموضوعات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سورة آل عمران: الآية 102.

([2]) سورة النساء: الآية 1.

([3]) سورة الأحزاب: الآية 70.

([4]) سورة آل عمران: 19.

([5]) سورة آل عمران: 85.

([6]) رواه أبو داود (4799)، والترمذي (2002)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (4799).

([7]) سورة المائدة: الآية 5.

([8]) سورة العنكبوت: الآية 46.

([9]) سورة الأعراف: الآية157.

([10]) سورة الممتحنة: الآيتان8، 9.

([11]) سورة القصص: الآيتان 52، 53.

([12]) سورة المائدة: الآية 44.

([13]) سورة آل عمران: الآية 64.

([14]) سورة آل عمران: الآية 93.

([15]) سورة البقرة: الآية 156.

([16]) سورة المائدة: الآية 8.

([17]) سورة الحج: الآيتان 39، 40.

([18]) سورة الشورى: الآية 15.

([19]) سورة التوبة: الآية 6.

([20]) سورة المائدة: الآية 1.

([21]) سورة الإسراء: الآية 34.

([22]) سورة المؤمنون: الآية 8.

([23]) سورة الأنفال: الآية 58.

([24]) سورة التوبة: الآية 4.

([25]) سورة التوبة: الآية 7.

([26]) سورة الأنفال: الآية 27.

([27]) سورة الأنفال: الآية 61.

([28]) سورة المائدة: الآية 45.

([29]) سورة النساء: الآية 91.

([30]) رواه مسلم (1791).

([31]) رواه مسلم (1837).

([32]) رواه أبو داود (4583)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (4583).

([33]) رواه أبو داود (3052)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (3052).

([34]) رواه مسلم (1371).

([35]) رواه أبو داود (2759)، والترمذي (1580)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2759).

([36]) رواه البخاري (3166).

([37]) رواه أبو داود (2760)، والنسائي (4747)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (2760).

([38]) رواه أبو داود (2652) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2652).

([39]) رواه مسلم (1735).

([40]) رواه البخاري (4248).

([41]) سورة البقرة الآية 272.

([42]) انظر: تفسير القرطبي (3/337) .

([43]) رواه الحاكم في المستدرك (40)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2056).

([44]) رواه الترمذي (1403)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (1403).

([45]) رواه البخاري (5917).

([46]) فتح الباري (11/45).

([47]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (11/112).

([48]) كتاب الأموال لأبي عبيد (4/227).

([49]) سورة البقرة: الآية 256.

([50]) سورة يونس: الآية 99.

([51]) سورة البقرة: الآية 256.

([52]) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص( 144، 146).

([53]) المغني (9/٣٦٢).

([54]) كتاب الخراج لأبي يوسف، ص (79، 80).

([55]) نصب الراية (3 /381).

([56]) حاشية رد المحتار (3/344ـ 346).

([57]) سورة التوبة: الآية 60.

([58]) ذكره أبو يوسف في الخراج، ص (106)، وأبو عبيد في الأموال، ص(46).

([59]) أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (48).

([60]) أحكام أهل الذمة (1/377).

([61]) سورة النحل: الآية90.

([62]) سورة الممتحنة: الآية 8.

([63]) رواه أبو داود (3052)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2655).

([64]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/109) رقم (20058).

([65]) رواه الشافعي في الأم (4/ 189)، وصححه الألباني في الإرواء برقم (1254).

([66]) سورة البقرة: الآية 286.

([67]) سورة الطلاق: الآية 7.

([68]) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/13)، قال: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال عبد الملك بن سعيد بن الليث ثقة مأمون، وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات.

([69]) أحكام أهل الذمة (2/663، 664).

([70]) القاموس المحيط ( 1/53) باب الباء، فصل الحاء، مادة: حرب.

([71]) الفقه الإسلامي وأدلته (8/59).

([72]) تاج العروس 16/264، 265، باب الميم فصل الذال مادة ذمم.

([73]) حاشية الروض المربع لابن قاسم (4/302).

([74]) لسان العرب (3/311، 312)، باب الدال، فصل العين، مادة: عهد.

([75]) حاشية الروض المربع لابن قاسم (4/302).

([76]) مختار الصحاح، ص (27).

([77]) سورة التين: الآية3.

([78]) سورة التوبة: الآية 6.

([79]) الفقه الإسلامي وأدلته (8/39).

([80]) المغنى (8/500).

([81]) سورة التوبة: الآية29.

([82]) حاشية الروض المربع لابن قاسم (4/319، 320).

([83]) السلسبيل في معرفة الدليل (2/414، 415).

([84]) حاشية الروض المربع لابن قاسم (4/322، 424).

([85]) رواه مسلم (1699) .

([86]) صحيح مسلم بشرح النووي (11/208).

([87]) الخراج لأبي يوسف، ص (194).

([88]) الخراج لأبي يوسف، ص(195) .

([89]) الصارم المسلول، ص(200).

([90]) رواه البخاري (7)، ومسلم (1773).

([91]) سورة النساء: الآية 105.

([92]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (5/375).

([93]) البداية والنهاية (5/55)، حياة الصحابة (1/123).

([94]) البداية والنهاية (3/224، 225)، تهذيب السيرة، ص (140، 143).

([95]) سورة فصلت: الآية 34.

([96]) سورة الحجر: الآية 85.

([97]) سورة آل عمران: الآية 134.

([98]) رواه البخاري (6927)، ومسلم (2593)

([99]) سيرة ابن هشام (1/573، 584)، زاد المعاد (3/329).

([100]) رواه البخاري (1356).

([101]) رواه البخاري (3052).

([102]) الحرب والسلام في الإسلام، ص(96)، عبد الكريم الخطيب.

([103]) أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/659ـ663)، وفتاوى ابن تيمية (28/651ـ656).

([104]) أحكام أهل الذمة (2/639ـ 664).

([105]) أخرجه الهيثمي في جمع الزوائد (6/285)، وقال رجاله ثقات، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3007).

([106]) سيرة ابن هشام (3/243ـ 244).

([107]) سورة القصص: الآية 77.

([108]) رواه مسلم (2624).

([109]) تاريخ الإسلام السياسي (1/240).

([110]) الخراج لأبي يوسف (ص144).

([111]) رواه الترمذي (3768)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (3768).

([112]) صفة الصفوة (3/38)، شذرات الذهب (1/85ـ86)، فوات الوفيات (2/167ـ 169).

([113]) سورة الأنفال: الآية 58.

([114]) الكامل لابن الأثير (4/126، 127).

([115]) شريعة القتال في الإسلام، عثمان الشرقاوي، ص (52).

([116]) سورة الممتحنة: الآية 8.

([117]) ترتيب المدارك (3/174).

([118]) الخراج لأبي يوسف، ص (207).

([119]) العلاقات الدولية في الإسلام، ص (334)، د. كامل سلامة.

([120]) الخراج لأبي يوسف، ص (150).

([121]) سورة الأنبياء: الآية 7.

([122]) سورة الأنبياء: الآية 7.

([123]) سورة الزخرف: الآية 45.

([124]) أحكام أهل الذمة (1/18).

([125]) سورة آل عمران: الآية 28.

([126]) سورة النساء: الآية 144.

([127]) سورة النساء: الآيات 138، 139.

([128]) سورة التوبة: الآية 23.

([129]) سورة المائدة: الآيتان 51، 52.

([130]) سورة المجادلة: الآية 22.

([131]) سورة الممتحنة: الآية 1.

([132]) سورة الممتحنة: الآية 9.

([133]) سورة المجادلة: الآية 22.

([134]) سورة الممتحنة: الآية 1.

([135]) سورة الممتحنة: الآيتان 8، 9.

([136]) سورة المائدة: الآية 5.

([137]) سورة الروم: الآية 21.

([138]) تفسير ابن كثير (4/349).

([139]) رواه البخاري (2620)، ومسلم (1003) .

([140]) رواه مسلم (1767).

([141]) رواه أحمد (26352)، والطبراني في الأوسط (1066)، ونقل صاحب نصب الراية (3/454) عن الدار قطني قوله : هذا حديث صحيح.

([142]) سورة النحل: الآية 125.

([143]) رواه البخاري (6128).

([144]) أسد الغابة (2/149) ترجمة رقم (1489).

([145]) سورة طه: الآية 44.

([146]) سورة الأنفال: الآية 70.

([147]) انظر: تفصيلات عن الحادثين في مقالات نشرت لي منها:

– بلاد الحرمين الشريفين ونعمة الأمن، جريدة الوطن، الثلاثاء: 16/12/1417هـ وهو في قسم المقالات من هذا المجموع.

– نبض الكلمة، جريدة عكاظ، الخميس: 7/12/1416هـ. وهو في قسم المقالات من هذا المجموع.

– كل ذي نعمة محسود، جريدة الجزيرة، الاثنين: 17/6/1416هـ. وهو في قسم المقالات من هذا المجموع.

– الفكر المنكوس لا يثمر إلا الخطر، جريدة عكاظ، الثلاثاء: 12/12/1416هـ. وهو في قسم المقالات من هذا المجموع.

([148]) سورة الأعراف: الآية 33.

([149]) سورة الفرقان: الآيتان 68، 69.

([150]) سورة الإسراء: الآية 33.

([151]) رواه مسلم (1679).

([152]) سورة القلم: الآية 4.

([153]) سورة القصص: الآية 57.

([154]) سورة المائدة: الآية 33.

([155]) سورة النساء: الآية 93.

([156]) سورة المائدة: الآية 33.

([157]) رواه البخاري (3166).

([158]) سورة البقرة: الآيتان 204، 205.

([159]) سورة المائدة: الآية 33.

([160]) سورة القلم: الآية 4.

([161]) سورة آل عمران: الآية 105.

([162]) سورة آل عمران: الآية 103.

([163]) رواه مسلم (1715).

([164]) مجموعة مؤلفات الشيخ (5/11) .

([165]) سورة النساء: الآية 59.

([166]) رواه مسلم (1839).

([167]) رواه مسلم (1836).

([168]) رواه البخاري ( 6718)، ومسلم (1835).

([169]) رواه مسلم (1851).

([170]) رواه البخاري (7053)، ومسلم (1849).

([171]) رواه مسلم (55).

([172]) السياسة الشرعية، ص (184).

([173]) المرجع السابق، ص (186).

([174]) مفتاح دار السعادة (1/72).

([175]) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585).

([176]) رواه البخاري (5665)، ومسلم (2586).

([177]) حقوق الراعي والرعية، ص(6، 7، 8)

([178]) سورة آل عمران: الآية 103.

([179]) رواه البخاري (6065)، ومسلم (2563).

([180]) رواه أبو داود (2737)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2737).

([181]) سورة الأنبياء: الآية 60.

([182]) سورة الكهف: الآية 13.

([183]) رواه البخاري (6616)، ومسلم (2707).

([184]) سورة النساء: الآية 77.

([185]) سورة فاطر: الآية 28.

([186]) سورة النحل: الآية 43، 44.