خطبة بعنوان: (شهر رمضان والتجارة الرابحة) بتاريخ 29-8-1435هـ.
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، امتن على عباده بموسم عظيم كريم، كتب فيه الربح والغفران والفوز بجنات النعيم لمن استقام على أمره، وعمل بطاعته، وسعى في طلب مرضاته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كتب الصيام على عباده تربية لهم على محاسن الأخلاق وترك رذائلها، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله استجاب لأمر ربه فصام وقام، وكان من أحسن الناس جوداً في شهر رمضان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فبتقواه تنال المراتب العلا في الدنيا والآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب: 70، 71).
عباد الله: لقد اصطفى الله جل وعلا من شهور العام رمضان، واصطفى من رمضان العشر الأواخر منه، واصطفى من هذه العشر ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
فمن امتن الله عليه بالحياة وبلوغ هذا الشهر فقد نال خيراً عظيماً، لأنه أدرك ركناً من أركان الإسلام وهو الصيام، وهي نعمة من أجل النعم وأعظمها لما فيه من جزيل الخيرات والرحمات والبركات.
إن شهر رمضان من أفضل الشهور وأحسنها؛ لما فيه من الفضائل، والشمائل، فهو شهر الصيام، والعبادة، شهر الإنفاق والريادة، شهر تُربى فيه النفس على الصبر، وتسمو فيه الروح بالإيثار والبذل، شهر تكثر فيه الزفرات والعبرات والبكاء من خشية رب البريات، شهر يُقبل الناس فيه على تلاوة القرآن، وكثرة ذكر الرحمن، شهر يتغير فيه الخلق والكون استبشارا بقدومه، فتشعر فيه بنسمات الإيمان تهب على القلوب لترققها، وتوقظها من غفلتها.
إنه شهر يُرى فيه الجد والاجتهاد والحرص على مرضات رب العباد بأداء الصلاة، والصيام، والقيام، وإخراج الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، ويزداد فيه البر والإحسان، وصلة الأرحام.
فهل أعددنا يا عباد الله العدة لاستقباله؛ وهل بدأنا بمحاسبة أنفسنا لنفتح صفحة جديدة في حياتنا نستغلها في العمل الصالح الذي ينفعنا عند ربنا.
إن استقبال هذا الشهر المبارك لا يكون كما يظن بعض الناس بتعليق الزينات، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، والمنافسة في كل ما لذ وطاب من المآكل والمشارب، والاستكثار من ألوان الطعام والشراب، وتضييع الأوقات في اللهو واللعب وكثرة السهرات مع الأهل والأصحاب. لا والله.
إنما يكون استقباله بتقوية الإيمان في القلوب، واحتساب الأجر على الله، والحرص على سلامة الصوم مما يفسده، ومجاهدة النفس في القيام، ودفعها للإنفاق في وجوه البر والإحسان.
عباد الله: لقد أوجب الله جل وعلا صيام شهر رمضان على العباد تطهيرًا للنفوس من تعلقها بالملذات، وحفظاً للأجساد من طغيان الشهوات، والسمو بالأرواح لمعالي الأخلاق، ومجاهدة الأبدان في الإكثار من العبادات والقربات. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (رواه البخاري).
ورتب جل وعلا على صيام هذا الشهر مضاعفة الحسنات والأجور، قال صلى الله عليه وسلم:(كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلَّا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلى. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك)(رواه البخاري).
ووعد من صامه وقامه إيماناً واحتساباً بمغفرة الذنوب, قال صلى الله عليه وسلم:(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)(متفق عليه).
وأخبر بقبول الدعاء من الصائم إذا كان صادقاً مخلصاً: قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل, ودعوة الصائم حتى يفطر ــ وفي رواية ــ حين يفطر, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب عز وجل: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)(رواه أحمد, والترمذي, وابن ماجه).
وأخبر أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة, فيقول الصيام أي ربي منعته الطعام والشهوات فشفعني فيه, ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه)(رواه أحمد, والطبراني).
ويحصل الأجر والثواب لمن فطَّر فيه صائماً: قال صلى الله عليه وسلم:(من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص أجر الصائم شيء)(رواه أحمد,والترمذي)
ومن اعتمر فيه كمن أدى حجة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:(عمرة في رمضان كحجة معي)(متفق عليه).
واختص الصائمين في رمضان وغيره من صيام النفل بباب الريان يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم:(إن في الجنة باباً يقال له باب الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة, لا يدخل منه أحد غيرهم, يقال أين الصائمون؟ فيقومون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)(متفق عليه).
وتفتح فيه أبواب الجنان, وتغلق فيه أبواب النيران وتصفد فيه الشياطين: قال صلى الله عليه وسلم:(إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)(متفق عليه)
وكُرمت الأمة بنزول القرآن فيه؛ قال الله تعالى:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ..}(البقرة: 185).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن للصوم فوائد كثيرة منها:
أولاً: أن الصائم الغني عندما يشعر بألم الجوع والعطش يتذكر مرارة الحاجة عند الفقير المحروم، فَيذَكِّرهُ ذلك بنعمة الله عليه فيرق قلبه، وتزداد رحمته وشفقته.
ثانياً: أن الفقراء عند رؤيتهم لإخوانهم الأغنياء يصومون كما يصومون، تطييب نفوسهم بذلك، ويقل حسدهم لهم، وقديماً قيل: “أنفع عزاء للفقير وقوفه مع الغني موقف مساواة و لو ساعة من نهار”.
ثالثاً: أن الصوم يعين الإنسان على التحكم في زمام شهوات نفسه وملذاتها، ويمنعها من الوقوع في المعاصي والمحرمات، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
رابعاً: أنه يعود الإنسان على الصبر وتحمل المكاره، والصبر من أفضل الخصال، فهو نصف الإيمان، وهو العامل الأساس في تحمل المسلم لمشاق الصيام والقيام.
خامساً: أنه يذكر العبد بما هو عليه من الضعف والذلة والعبودية لله جل وعلا، فيحتقر نفسه، ويشعرها بضعفها وحاجتها إلى عظيم فضل الله ومنته.
سادساً: أن الإنسان يدرك بصومه فوائد الجوع الكثيرة، ومن أهمها منع الشيطان من التسلط عليه، ومساعدته في تحصيل رقة القلب واستشعار لذة الإيمان، وتحصيل السلامة من الأمراض التي تصيب الجسد.
سابعاً: أن الصوم يعود الإنسان على الإخلاص في العبادة لله جل وعلا، لأنه لا يطلع على صيامه أحد إلا الله جل وعلا .
ثامناً: أنه سبيل لتحصيل التقوى والخوف من الله جل وعلا، والتقوى من أعظم أسباب تحصيل السعادة في الدنيا والآخرة .
عباد الله: ينبغي للصائم أنَ يكون أثناء صومه هادئ النفس، طيب الخلق، يضع نصب عينه أنَّ الصيام جُنَّة له من الإثم، ومن سوء الخلق، ومِن المعاصي، ومن فحش القول والعمل، استجابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(.. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)(رواه البخاري).
وينبغي له أن ينقطع عن علائق الدنيا التي لا تنفعه، وأن يقبل على تلاوة القرآن فقد كان سلفنا الصالح يتركون شواغل الدنيا كلها حتى مدارسة العلم الذي هو من أجل الأعمال من أجل التفرغ لقراءة القرآن وتدبره.
وينبغي للصائم ألا يغفل عن الدعاء لنفسه عند فطره؛ ولوالديه، ولأهله وأولاده، وولاة الأمر والعلماء ورجال الحسبة وسائر إخوانه المسلمين والمسلمات.
وينبغي له أيضاً أن يجاهد نفسه ويلزمها بهجر المعاصي والذنوب؛ مثل مشاهدة وسماع ما حرم الله، وأن يتنزه عن السب والشتم واللعن.
عباد الله: اعلموا أن رمضان فرصة عظيمة امتن الله بها عليكم فاغتنموه فيما ينفعكم، وبادروا فيه بالأعمال الصالحة التي يسرها الله لكم ورتب عليها أجوراً عظيمة، ولا تستهينوا كما استهان غيركم بأوقاته، ولينظر كل واحد فيما ينفعه، وليغتنم شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وفراغه قبل شغله، وغناه قبل فقره، وحياته قبل موته، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل. أسأل الله جل وعلا أن يبلغنا هذا الشهر الكريم المبارك، وأن يعيننا وإياكم على صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 29-8-1435هـ