خطبة بعنوان: (توجيهات حول استغلال العشر الأخيرة من رمضان) بتاريخ 20-9-1435هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً}(الأحزاب: 70، 71).
عباد الله: أكرمنا الله جل وعلا بشهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي كثر خيره وبركته، وعظم بره وإحسانه، وتعددت نفحاته ورحماته، فهو شهر الأوبة والتوبة، وشهر الصيام والقرآن، وشهر الصدقة والقيام، وشهر رفع الدرجات وزيادة الإيمان.
وقد قارب هذا الضيف الكريم أن يرحل عنا بعد أن جعل أرواحنا تخفق محبة لربنا، وإيمانا واحتساباً لما عنده من الفضل والعطاء.
فالموفق من نال من خيراته النصيب الأزكى، وكال من بركاته الكيل الأوفى، ليكتب في سجل أهل الفلاح والتقوى، ويكون من ذوي القربى، الذين نالوا رحمته وشملتهم مغفرته، وحازوا على جائزة العتق من النار.
أيها المؤمنون: ما زالت الفرصة متاحة والأبواب مشرعة، لنستدرك ما فات، ونغتنم ما بقى منه، فها هي العشر الأواخر قد دخلت بما تحمله من مفاخر، لا يذوق طعمها إلا صاحب الحظ الوافر، فهل من مشمّر عن ساعد الجد والاجتهاد ليستثمر ما بقي من هذا الموسم الفاضل.
أعطوا هذه العشر حظها من الجد، وقابلوا فضل ربكم بشدة الإقبال وبذل الجهد، حتى تجعلوها خير محصّلة لما سبق وأحسن خاتمة لما أينع وأورق.
عباد الله: ولقد كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يهتمون بهذه العشر غاية الاهتمام، وكانوا أشد ما يكونون حرصاً فيها على الطاعة والعبادة، وهم قدوتنا وأسوتنا، وعلى طريقتهم نسير إلى ربنا جل وعلا .
ومن الأعمال التي كان يحرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم في العشر الأخيرة من رمضان ما يأتي:
(1) قيام الليل، وإحياؤه بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره(رواه البخاري ومسلم).
وكان يوقظ أهله شفقة عليهم ورحمة بهم حتى لا يفوتهم هذا الخير العظيم.
فيستحب مضاعفة الاجتهاد في هذه الليالي، بالإكثار من الصلاة، وتلاوة القرآن والدعاء والاستغفار، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها (رواه مسلم).
(2) تحري ليلة القدر في هذه العشر: فقد قال الله تعالى عنها:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر:3)، وهي تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر تقريباً. فالعمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر.
قال عنها صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه) (متفق عليه). فقوله صلى الله عليه وسلم (إيماناً)، أي إيماناً بالله وتصديقاً بما رتب على قيامها من الثواب. و(احتساباً) للأجر.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتحراها في العشر الأخيرة لعظم قدرها ومكانتها، ولما يتنزل فيها من الخير، قال عنها صلى الله عليه وسلم:(تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)(متفق عليه).
وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع ، لقوله صلى الله عليه وسلم:(تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)(رواه البخاري).
وهي في السبع الأواخر أقرب لقوله صلى الله عليه وسلم:(التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)(رواه مسلم).
وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين)(رواه مسلم). وهذه الليلة لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته.
فاتركوا لذيذ النوم، واطرحوا عنكم الكسل، وانصبوا أقدامكم بين يدي ربكم، وبادروا بتحصيل هذا الخير قبل أن يمر وينقضي.
(3) الإكثار من قراءة القرآن الكريم: فهي عبادةٌ عظيمة، غَفَلَ عنها بعض المسلمين؛ لعدم استشعارهم الفوائد العظيمة، والأجور الكثيرة التي تترتّب عليها، قال صلى الله عليه وسلم:(من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول:{آلم}حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف)(رواه الترمذي).
فالمسلم كلما قرأ القرآن وتدبر آياته تضاعفت حسناته، وامتلأت صحائف أعماله، وهذه هي التجارة الرابحة مع الله جل وعلا.
وقراءة القرآن أيضاً تشفع لصاحبها يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)(رواه مسلم)، وقال أيضاً:(يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارْقَ، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)(رواه أحمد وغيره).
(4) الحرص على الاعتكاف: فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان، وخاصة في العشر الأواخر منه قطعاً لأشغاله، وتفرغاً لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وطلباً لليلة القدر, وكان له صلى الله عليه وسلم حصير يتخلى فيه عن الناس فلا يخالطهم ولا ينشغل بهم.
وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه عشرين يوماً، ولم يتركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
فالاعتكاف يصفي قلب المسلم وروحه من أدران حب الدنيا والتعلق بها، وهو سببٌ في إبعاده عن الذنوب والمعاصي، وحمايته من فضول الصحبة والكلام والنوم وغير ذلك من الصوارف التي تفرق عليه أمر اجتماعه على طاعة الله .
عباد الله: ومن مقاصد الاعتكاف:(تحري ليلة القدر، وطلب الخلوة بالله عز وجل، والانقطاع عن الناس ليتم أنسه بالله عز وجل وذكره، وإصلاح القلب ولم شعثه بإقباله على خالقه تبارك وتعالى بكليته، والإقبال التام على العبادة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن، وأيضاً حفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والتقلل من المباحات، والزهد في الدنيا، والإقبال على العمل للآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(القدر).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف كان أكمل الهدي وأيسره ، فقد كان إذا أراد أن يعتكف وُضع له سريره وفراشه في مسجده صلى الله عليه وسلم ، وراء أسطوانة التوبة كما جاء عن ابن عمر: ” أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة”(رواه ابن ماجه).
وكان صلى الله عليه وسلم يُضرب له خباء مثل هيئة الخيمة، فيمكث فيه غير أوقات الصلاة، وكان ذلك في المسجد، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح، ثم يدخله ..)(رواه البخاري).
وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، من بول أو غائط، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها حين قالت:(.. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً)(رواه البخاري).
وكان صلى الله عليه وسلم يؤتي إليه بطعامه وشرابه إلى معتكفه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته، إذْ كان يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجّل له شعر رأسه (رواه البخاري).
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، فعن عائشة قالت: (السنّة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)(رواه أبو داود).
وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف يتسم بالاجتهاد، فجلَّ وقته مُكثٌ في المسجد، وإقبالٌ على طاعة الله عز وجل، وترقبٌ لليلة القدر .
ووقت دخول الاعتكاف قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، وأما وقت الخروج منه فيكون عند غروب شمس آخر يوم من رمضان بعد إعلان انقضاء رمضان وثبوت دخول شوال.
وعلى المعتكف الاشتغال بالصلاة، وقراءة القرآن، وذكر الله، والدعاء، والاستغفار.
وعليه أن يجتنب كل ما يشوش عليه عبادته وصلته بربه، كالنوم الكثير، واستعمال أجهزة الجوال إلا لضرورة، ومجالسة الأصدقاء، والإكثار من فضول الكلام.
عباد الله: ومما ينبغي التنبيه عليه الحرص على احتشام النساء والبنات عند نزولهن إلى الأسواق مع التزام الستر والعفاف، وعدم مزاحمة الرجال، ومنعهن من شراء الملابس الفاضحة ولا سيما في لباس العيد، فإن المرأة إذا تعرت فهذا دليل غضب الله عليها، وقد قص الله علينا خبر آدم وحواء حينما اهبطا من الجنة.
ووصيتي للتجار أيضاً أن يتقوا الله فيما يضعونه في محلاتهم من ملابس لا تناسب مجتمعنا المسلم، وأن يوفروا الملابس الساترة التي يبحث عنها كل أب غيور على أهله وأولاده.
كما أني أوصي إخواني وأحبابي ألا يشغلوا الناس برسائل حول ليلة القدر لا سيما من يدّعون تعبير الرؤيا، فقد أبهمها الله جل وعلا لحكمة عظيمة وهي مضاعفة الجهد وبذل الوسع في العشر كلها، والذين ينشرون هذه الرسائل المتكلفة المبنية أحياناً على تعبير خاطئ يثبطون الناس، ويقعدونهم عن العبادة والطاعة، فليتقوا الله جل وعلا.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 20-9-1435هـ