خطبة بعنوان: (مراقبة الله وبعض أحكام القضاء) بتاريخ 5-10-1435هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(آل عمران: 102).
عباد الله: المسلم في الحياة الدنيا يتعرض لكثير من الفتن الظاهرة والباطنة، وقليل من ينجو ويسلم، وذلك بتوفيق الله جل وعلا وحفظه لعبده. والناس منهم المفرط في جنب الله، والواقع في معاصيه، والغافل عن آخرته، والكل يختم له بما مات عليه، قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالخواتيم)(رواه البخاري). فعلى كل واحد منّا أن يخلو بنفسه لمعاتبتها ومحاسبتها، لأن في ذلك الخير لها في الدنيا والآخرة.

وتأملوا معي أيها الأحبة هذا الحديث العظيم الذي يبين خطورة المنتهك لحرمات الله في الخلوات، والذي لا يراقب الله تعالى في السر والعلن؛ فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً)، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ:(أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)(رواه ابن ماجة، وصححه الألباني).

أما من خاف مقام ربه ونهى نفسه عن الهوى بعد أن دعته نفسه والشيطان للمعصية، فقد بشره صلى الله عليه وسلم ببشرى عظيمة، وهي أن يظله الله جل وعلا يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، وذكر منهم:.. وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ)(متفق عليه).
عباد الله: المسلم التقي يراقب الله جل وعلا في جميع أحواله وأعماله، ويعلم علم اليقين بقرب الرب جل وعلا منه، ويستشعر قوله جل وعلا:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}(الشعراء:218، 219)، وقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الحديد: 4). وقول جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (متفق عليه).

وحقيقة هذه المراقبة دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، وعلى خطرات نفسه ولحظ عيونه، وأنه سبحانه وتعالى ينظر إليه، ولا يخفى عليه شيء من أحواله وأمره فيسهل ذلك عليه استشعار قرب الله منه ومعيته له .
ألا فليعلم المسلم إذا خلا ساعة أو لحظة أن الله معه فلا يجعله سبحانه أهون الناظرين إليه.

روى الإمام أحمد وغيره عن سعيد بن يزيد الأزدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:(أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك) (وصححه الألباني في صحيح الجامع).

فمراقبة الله جل وعلا توجب الحياء منه، ويوصل ذلك إلى: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ” .
عباد الله: تأهبوا للقاء الله تعالى بمراقبته في كل شؤونكم، واحذروا من معصيته في الخلوات، وتذكروا قوله جل وعلا:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(يونس61).

فكل منَّا يحتاج إلى محاسبة نفسه محاسبة شديدة أعظم من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، وخاصة بعد شهر رمضان.
واعلموا عباد الله أن اللهِ جل وعلا يراقبنا أينما ذهبنا، وفي أي مكان حللنا، في ظلامِ الليل، ومن وراء الجدران، والحيطان، وفي الخلوات والفلوات، وفي أعماق البحار، فانتبه رعاك الله إذا ما خلوت فلا تقل خلوتُ ولكن عليك رقيب لا يغفل، ولا يغيب عنه ما تخفيه.

عباد الله: ويترتب على مراقبة الله جل وعلا ثمار عظيمة منها:

أنها من أفضل الطاعات وأغلاها، ومن خصال الإيمان وثمراته، وبها يكسب العبد رضا الرب جل وعلا، وهي سبب من أسباب دخول الجنة، ومن أعظم البواعث على المسارعة إلى الطاعات،وترك المعاصي والمنكرات وبها يحصل العبد على معيّة الله وتأييده ونصرته ورحمته وجنته.
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلن، والغيب والشهادة، واجعلنا ممن يخشاك كأنه يراك.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكم ظنُّكُم الذِي ظَنَنتم بِربِّكُم أَرْداكُم فَأَصْبَحْتُم من الخاسِرِين}(فصلت: 22، 23).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن بارك الله فيكم أن من أحكام قضاء رمضان وصيام ست من شوال ما يأتي:

أولاً: الأولى المبادرة بقضاء الأيام الفائتة من رمضان وتقديمها على صيام الست من شوال، لكن لو احتاج المسلم أو المسلمة لتقديم الست جاز له ذلك.

ثانياً: لا يجوز تأجيل القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه مع القضاء الكفارة على الراجح، وهي إطعام مسكين عن كل يوم.

ثالثاً:لا يجب التتابع في القضاء، بل يجوز أن يصوم أيامه متفرقة، وإن صام ما عليه متتابعاً فهو أفضل لأنه أسرع في براءة الذمة.

رابعاً: من مات وعليه صوم نذر استحب لوليه قضاؤه، لأن دَين الله أحق بالقضاء: لقوله صلى الله عليه وسلم:(من مات وعليه صوم صام عنه وليه)(متفق عليه)، وروى مسلم عن ابن عباس أنه قال: ‏جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها‏؟‏ فقال‏:‏(لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها‏؟)‏ قال نعم، قال‏:‏ (فدين الله أحق بالقضاء)‏، وإن كان الصيام الذي عليه من صيام رمضان فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكيناً.

خامساً: من ترك القضاء حتى مات: فإن كان من عذر شرعي كمرض استمر به حتى مات فليس عليه شيء، لعدم تمكنه من القضاء، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
أما إن ترك القضاء من غير عذر فمات فيشرع لوليه أن يطعم عنه، لكن الصيام والإطعام واجب في حق الميت، فإذا تعذر من يصوم عنه عدل الولي إلى الإطعام.

سادساً: الحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما فأفطرتا فعليهما القضاء فقط، وإن خافتا على طفليهما فعليهما القضاء والإطعام.

سابعاً: الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان لا يقدران على الصيام لهما أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكيناً، لقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}(البقرة: 184).

ثامناً: يحرم الفطر في قضاء رمضان إلا من عذر يبيح له الفطر في رمضان كسفر ومرض، وأما صيام النفل فالمتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر.

تاسعاً: لا بد في صيام القضاء من النية من الليل، وهكذا في كل صيام واجب.
وأما صيام النفل فلا يلزم له نية من الليل سواء كان نفلاً مطلقاً أو مقيداً في أصح قولي العلماء.

أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يعيننا وإياكم على كل عمل صالح يرضيه.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56).

الجمعة: 5-10-1435هـ