خطبة بعنوان: (الحج بين الماضي والحاضر) بتاريخ 10-11-1435هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: الآية 18).
عباد الله: فرض الله الحج مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً، والاستطاعة تتطلب سلامة الجسد، وتوفر المال، ومن لم يجد فقد سقطت عنه تلك الفريضة حتى تتحق له الاستطاعة ويتمكن من الأداء.
والحج يحتاج إلى جهدٍ جسدي، وبذل للمال، وتركٌ للأهل والأوطان، والسفر مئات الكيلو مترات، وقطع الفيافي والقفار، وهذه حكمة ربانية أرادها الله جلَّ وعلا ليختبر عباده، ويعلم الصادق منهم والكاذب..{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ..}(الحج 27 : 30). وها هي الأيام تمضي سراعاً، فنحن الآن في شهر ذي القعدة وهو شهر حرام، وقريباً يهل علينا شهر ذي الحجة، وهو من الأشهر الحرم التي عظمها الله وعشره الأولى من أفضل أيام العام، فقد روى البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)(رواه البخاري).
عباد الله: لقد كان الحج في الزمن الماضي من الصعوبة بمكان، فقد كان الحجاج والمعتمرون يقطعون الصحاري والقفار، يتنقلون على الدواب أياماً، بل ربما شهورا كاملة، ليصلوا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
يلقون في رحلتهم تلك من المشقة والتعب والجهد ما الله به عليم، حتى أنه كان يقال لمن عزم على الحج في ذلك الزمن «الذاهب إلى الحج مفقود، والعائد منه مولود»، وهذا تعبير عما يلاقيه الحاج في أزمنة سبقت من الخوف وفقدان الأمن، وما يجده من صعوبات جمّة في طريقه للقيام برحلة العمر من عذاب السفر.
وكان الذاهب إلى الحج يتجهز للحج قبل عدة أعوام، فيبدأ في جمع المال واختيار الرفقة، وتجهيز المركب أو الراحلة والزاد، وكان يودع أهله وداع من يخشى عدم العودة، حيث بُعدُ المسافة، وقلةُ الزاد، وخطورةُ الطريق ومشقتُه، وما يتعرض له أثناء سفره من الأمراض الخطيرة وقطاعِ الطريق وقلةِ الصاحب.
وكان الحجاج يذهبون قبل الحج بشهر أو شهرين حتى يتمكنوا من الوصول إلى مكة في وقت أداء الفريضة، وكانت وقتها وسائل المواصلات قليلة جداً والطرق وعرة غير معبدة، تنتابهم في رحلتهم الإيمانية مشاعر الخوف من غوائل الغدر والسطو والعدوان، وربما المتاهة والموت عطشاً في الصحراء، وهذا يوضح معاناة الأجداد الذين واجهوا تلك الأمور مع شظف العيش وقسوة الحياة، وكانت تلك الرحلة تمتد من الشام أو العراق أو مصر شهوراً عديدة، بل ربما سنوات لمن كانوا يأتون من البلاد البعيدة للوصول إلى بيت الله الحرام.
وهذه القوافل كانت لها طرق محددة تسلكها، وجداول زمنية تسير عليها لئلا يطول بها الطريق وتفقد الزاد.
وكانوا يخترقون الجبال مشياً على الأقدام، يحملون متاعهم ومآكلهم ومشاربهم على أظهر الحمير والجمال، وكانت هذه وسيلة النقل الوحيدة في الماضي.
وكانت تلك القوافل تحيطها حراسات مشددة في مقدمتها ومؤخرتها، لحمايتها من قطاع الطرق، وغارات القبائل التي تمر قوافلهم بها، حتى أن بعض تلك القوافل يتم سلبها بالكامل وقتل جميع حجاجها، مع أن هؤلاء الحجاج كانوا في كثير من الأحيان مسلحين لمواجهة مخاطر الطريق.
وإذا عاد الحاج سالماً إلى أهله، احتفوا به وذبحوا له الذبائح ليس لأنه حج فقط، بل لأنه حج وعاد سالماً لأهله وعشيرته ووطنه.
عباد الله: وبعد تلك المحن والابتلاءات التي كانت تمر على ضيوف بيت الله الحرام من خلال رحلة الحج، قيّض الله الملك عبدالعزيز رحمه الله رحمة واسعة فوحد كلمة هذه البلاد، ولم شعثها، وجمع فرقتها، واجتمع عليه الناس، وأعانه الله على تطبيق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة، وأرسى قواعد كيان المملكة العربية السعودية، ليسود الأمن والرخاء ربوع الوطن، ويقضي على الاضطرابات والحروب والفتن، ويسخر كل جهود الدولة لخدمة ضيوف الرحمن، بعد أن أفاض الله بالخير على هذه البلاد، من جراء الاكتشافات النفطية التي زادت من موارد الدولة ومداخيلها المالية وإمكاناتها.
وكانت خدمة حجاج بيت الله الحرام على رأس أولوياته رحمه الله، وتحوّل هذا الأمر العظيم إلى منهج للدولة من أجله تُسخر كل الجهود، وهو النهج الذي سار عليه من بعده الملوك من أبنائه رحمهم الله جميعاً.
حتى كان عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله وسدده لما فيه خير بلاده والعرب والمسلمين الذي بذل وما زال يبذل ويوجه المسئولين في القطاعات المختلفة المتعلقة بشؤون الحج أن يحققوا أرقى الخدمات التي تقدم لخدمة ضيوف الرحمن، ليعودوا إلى بلدانهم وقد أدّوا فريضتهم على الوجه المطلوب بكل يسر وسهولة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(البقرة: الآية 126).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن بلاد الحرمين الشريفين ــ المملكة العربية السعودية ــ لم تدخر جهداً في تيسير كل شيء لضيوف بيت الله الحرام، وها هي تبذل كل ما في وسعها للارتقاء بخدمات الحجاج المختلفة، ومن أهمها الحفاظ على أمن الحجاج، وتهيئة الطرق وتقديم سائر الخدمات المادية والمعنوية.
ومن ذلك أيضاً تلك المشاريع التي توالت وما زالت في عهد ملوك المملكة العربية السعودية على مرَّ السنوات الماضية بدءًا بالملك سعود رحمه الله التي كانت أول توسعة للحرم الشريف في عهده، ثم الملك فيصل، ثم الملك خالد، وكانت أكبر توسعة للحرمين في عهد الملك فهد رحمه الله، فقد صاحبتها أضخم شبكة طرق وأنفاق في المشاعر المقدسة ومكة المكرمة.
ثم توالت التوسعة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث شهدت المشاعر المقدسة أكبر مشاريعها على مرِّ التاريخ وأبرزُها جسر الجمرات العملاق، وقطارُ المشاعر، والتوسعةُ الضخمةُ في الحرم الشريف.
واليوم ــ بفضل الله ــ أصبح الحجاج يأتون من أي بقعة من بقاع الأرض لا تستغرق رحلتهم إلا زمناً يسيراً، حيث تقطعها الطائرات في ساعات معدودة، وكذا الحافلات والسيارات وهي مهيأة ومجهزة بأفضل سبل الراحة والأمان.
وقد تطورت الآن جميع وسائل المواصلات، حيث أصبحت رحلة الحج لحجاج بيت الحرام من أيسر الأمور، فلله الحمد والمنة على فضله وكرمه وجوده .
عباد الله: علينا أن نستشعر تلك النعمة التي نعيشها ويعيشها أهلنا وأولادنا، فقد أصبح الحج سهلاً ميسراً، بعد أن كان شاقاً وصعباً، وهذا يتطلب شكر المنعم سبحانه، والدعاء لمن كانوا سبباً في ذلك.
وعلينا أن نستنهض الهمم في أداء تلك الشعيرة العظيمة التي أوجبها الله على المسلمين، وخاصة الذين لم يؤدوا فريضة الحج، وأن يكون حجهم وفق الأنظمة التي وضعتها الدولة من أخذ التصريح وغيره لئلا يقعوا في المحذور الشرعي.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا وعلمائنا ورجال الحسبة، ورجال الأمن، وأن يرد كيد الأعداء إلى نحورهم.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 10-11-1435هـ