خطبة بعنوان: (مشاهداتي في حج عام 1435هـ) بتاريخ 16-12-1435هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: الآية 102).
عباد الله: انتهى موسم حج هذا العام ورجع الحجاج إلى بلادهم بسلام ولله الحمد، رجعوا بعد أن وقفوا في تلك المشاعر وأدوا مناسك الحج بكل يسر وسهولة، والله أسأل أن يكتب لهم الأجر وأن يغفر لهم الذنب، وأن يحط عنهم الخطايا والأوزار، وأن تتحق لهم البشارة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)(رواه البخاري ومسلم).
وهنا أوصي من وفقه الله جلَّ وعلا لأداء فريضة الحج أن يولي مسألة قبول العمل اهتماماً كبيراً، فيستصغر ما قام به في جنب فضل الله ونعمه العظيمة، وأن يكون بعد حجه خيراً مما كان قبله، وأن يستمر على الطاعة، وأن يفتح صفحة جديدة في حياته للمنافسة في كل عمل صالح يقربه إلى ربه.

عباد الله: لقد رأيت مشاهد خلال رحلة حج هذا العام 1435هـ سرتني كثيراً وهي تدل على وجود خير كثير ولله الحمد والمنة، ومن ذلك ما يأتي:

1ـ مشهد الحجاج وقد أتوا من كل فجٍّ عميق على اختلاف أجناسهم وألوانهم وتباين لغاتهم ولهجاتهم، الأعمار متفاوتة، والألوان متغايرة، كلهم بذل الغالي والنفيس، وتحمل المشاق العظيمة للوصول إلى البيت العتيق، وأداء هذا النسك العظيم استجابة لنداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ..}(الحج: الآيتان 26، 27).
نداؤهم واحد، ولباسهم واحد، وشعارهم واحد، لا الأنساب تفرق بينهم، ولا الأجناس ولا اللغات، ولا البلدان، يدعون رباً واحداً، ويؤدون نسكاً واحداً، فسبحان من جمعهم، وشرح صدورهم، ووفقهم لأداء هذه الشعيرة العظيمة.

2ـ رأيت مناظر ومواقف لرجال الأمن سرّتني كثيراً، فقد رأيت حرصاً شديداً منهم على مساعدة الحجاج رغم الصعوبات والمعوقات، ورغم عدم تعاون بعض الحجاج معهم، لقد أثلج صدري ذلك المنظر الرائع لرجل الأمن في مدخل الحرم وهو يساعد تلك المرأة العاجزة عن دفع عربة والدتها ويمشي بها مسافة ويسلمها للمرأة، لقد رأيت هذا المنظر بنفسي، فقلت سبحان الله ذلك الفضل من الله، كم سيجني هذا الشاب في هذا الموقف من الأجر، فلله درّه، ولله درّ من عينه وأوصاه بذلك، وهذا ليس بغريب على رجال الأمن، فهم يتلذذون بخدمة الحجيج، ويتنافسون في ذلك، شعارهم “خدمتكم شرف لنا”.
كما رأيت منظراً في عودتي من رمي الجمرات ورجال الأمن يوجهون ويرشدون بكل أدب والابتسامة على محياهم، أسأل الله أن يوفقهم ويعينهم، ويجعل ما بذلوه بركة في أعمارهم، وسعة في أرزاقهم، وصلاحاً في ذرّياتهم.

3ـ ظهر شباب الكشافة بمظهر مشرف حيث رأينا نماذج منهم يحملون بعض الحجاج المسنين على ظهورهم لإيصالهم إلى مخيماتهم، وأحياناً يدفعون العربات تحمل المسنات لإيصالهن إلى مخيماتهن، وتلك والله مظاهر تسرُّ الخاطر، وتبهج النفوس، فشباب الكشافة جاءوا من أنحاء المملكة ليتشرفوا بخدمة ضيوف الرحمن.

4ـ ومن المشاهد التي أثّرت في نفوس الحجيج كثرة البذل والإنفاق في سبيل الله كما رأينا، ويتمثل ذلك في هدايا خادم الحرمين الشريفين لحجاج بيت الله الحرام، كما حرص بعض المحسنين ممن فتح الله عليهم بالمال وأغناهم به يشترون الوجبات ويوزعون الصدقات المتمثلة في المطعومات والمشروبات، وألسنة الحجاج تلهج لهم بالدعاء بالبركة في المال والرزق.

5ـ ومن المشاهد تلك الجهود المباركة لوزارة الشؤون الإسلامية في انتشار أكشاك الوعظ والتوجيه وتيسير الفتوى عن طريق الهاتف المجاني الذي يتم الاتصال عن طريقه من جميع أنحاء العالم، فيجد السائل الجواب الشافي لمسألته بكل يسر وسهولة.

6ـ توزيع الكتيبات والنشرات والمطويات لتعليمهم وتوجيههم وبيان الهدي النبوي في الحج والعمرة.

7ـ الإخلاص شعار الحجيج جميعهم، فكلهم جاء ابتغاء وجه الله، وطلباً لثوابه، تركوا الأهل والديار، وحري بمن كان هذا حاله أن يتقبل الله منه، ويرده إلى بلده بحج مبرور وذنب مغفور.

8ـ لمست حرص الكثيرين على أداء الحج على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أحرص الناس على أداء المناسك كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل (خذوا عني مناسككم)(رواه مسلم).

9ـ شاهدنا في يوم عرفة مظاهر إيجابية من الإيجابيات نعجز عن وصفها في تنافس عظيم بين الحجاج، وقد انتفت جميع الشعارات في هذا الموقف ولم يبق إلا شعار { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ..}(الحجرات: الآية 13).

10ـ ذكر الله وسيلة لحياة القلوب وتزكية النفوس، وهو من أعظم مقاصد الحج، قال تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..}(الحج: الآية 28)، وقال صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)(رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود).
وقال تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ }(العنكبوت: الآية 67).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن التقوى هي زادكم في هذه الدنيا للدار الآخرة، فاحرصوا على الطاعة والعبادة، واختموا أعمالكم بالصالحات لتفوزوا يوم العرض على الله.
عباد الله: لعل نجاح حج هذا العام جاء بعد توفيق الله وفضله، ثم نتيجة جهود كبيرة بذلتها جميع الجهات المختصة لخدمة الحجيج، وهم ينفذون توجيهات قيادة هذه البلاد في جعل خدمة ضيوف الرحمن أهم المهمات، فبلادنا تتشرف بذلك ولله الحمد.

ورغم هذا النجاح العظيم إلا أن بعض الحجاج يتصرفون تصرفات لها آثار سلبية على غيرهم ومن ذلك:

1ـ الزحام الشديد في بعض المواقع، ولعل من أبرز أسبابه دخول بعض الحجاج من المواطنين والمقيمين بغير تصريح، وقد أثر ذلك سلباً على الحجاج الآخرين الذين يحملون التصاريح.

2ـ الزحام الشديد في التنقل عن طريق القطار، ولعل من أبرز أسبابه دخول حجاج من غير المصرح لهم بركوب القطار ممن لا يحملون الأساور الخاصة بالقطار.

3ـ كثرة النفايات في بعض الطرقات وذلك بسبب سوء التصرف من بعض الحجاج حيث لا يضعون النفايات في الأماكن المخصصة لها مما ترتب عليه ازدحام في هذه الطرق، وانبعاث روائح كريهة لهذه النفايات.

4ـ في بعض مواقع الازدحام تصدر ألفاظ بعض الحجاج غير لائقة بالزمان والمكان، ولا سيما أثناء الطواف حيث نسمع ألفاظ السب والشتم من بعض الحجاج لإخوانهم مع أن الأمر ليس باختيارهم، وهنا يظهر أثر الطاعة والعبادة، ويتبين أصحاب العقول الراجحة المستجيبة لقول الله تعالى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ }(البقرة: الآية 197).
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 16-12-1435هـ