خطبة بعنوان: (أثر محاسبة النفس في حياة المسلم) بتاريخ 30-12-1435هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: الآية 102).
عباد الله: كثير من الناس تمضي أعمارهم وكأنها لحظات بسبب التفريط والتضييع والغفلة،وصدق الله العظيم:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(المؤمنون: الآيات: 112 ــ 114).
فهل ننتبه أيها الأخوة قبل أن تمضي أعمارنا، وتضيع أوقاتنا، ونرحل عن دنيانا الفانية، ثم نعرض على الله جل وعلا الذي لا تخفى منا عنه خافية، يوم نجد كل ما عملنا من خير محضرا، وما عملنا من سوء نود لو أن بيننا وبينه أمدا بعيداً، يوم يفر كل واحد منا من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً.
علينا أن نتأمل قول الله جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: 18])، ليكون ذلك عوناً لنا على محاسبة أنفسنا ولومها على تقصيرها وتفريطها في جنب ربها، وتذكيرها بلقائه، والوقوف بين يديه.
كل واحد منَّا يعرف أنه موقوف بين يدي الله ولابد، وأنه محاسب عما قدم في هذه الحياة الدنيا، فمن الخير أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، وأن يزنها قبل أن يوزن، وأن يهيئها للعرض على الله جل وعلا. وصدق الله العظيم:{أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين}(الزمر: الآية 56).
وقال صلى الله عليه وسلم:(الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(رواه الترمذي وابن ماجه، وضعفه الألباني). ومعنى دان نفسه: أي حاسبها.
ويقول عمر رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية “.
ويقول الحسن رحمه الله:”إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه ” .
ويقول ابنُ القيمِ رحمه الله: “ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل بين التفريطِ والأمن”.
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفَّ في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ومَن أهملَ المحاسبة دامتْ حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته.
عباد الله: وإن من وسائل محاسبة النفس، أن يلزمها دوام المراقبة لها وملاحظتها ليصل بها إلى طريق الاستقامة، يقول صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الإحسان:(أنْ تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك)(متفق عليه).
ومن ذلك أيضاً مراقبة العبد نفسَه في الطاعة بأن يكونُ مخلصاً فيها، ومراقبته لنفسه عند المعصيةِ بالتوبةِ والندمِ والإقلاع، ومراقبته في المباح بمراعاةِ الأدب مع الله والشكرِ له على نعمه وعطاياه.
عباد الله: ومن الأمور التي تكون عائقاً ومانعاً من محاسبة النفس ما يلي :
1ـ عدم تعظيم الله في القلوب، والغفلة عن لقاءه جل وعلا، ونسيان الوقوف بين يديه، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ..}(الزمر: 67)، وقال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(الحشر: الآية 19). وقال أيضاً {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)}(يونس: الآيتان 7، 8 ).
2ـ حب الدنيا والتعلق بها، ونسيان الآخرة: قال تعالى:{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}(الأنعام: الآية 29)، وقال تعالى{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا..}(الأنعام: الآية 70).
3ـ الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها، وعدم التوبة منها، قال تعالى:{فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(التوبة: الآية 74).
4ـ تزكية النفس وحسن الظن بها مما يمنع من معرفة عيوبها والعمل على إصلاحها، قال تعالى:{.. فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى}(النجم: الآية 32).
عباد الله: وإن لمحاسبة النفس ثمراتٍ كبرى في حياة المسلم، ومن ذلك:
1ـ أنها توصل صاحبها إلى الصلاح، والتقوى، والاستقامة على طاعة الله، وتعمل على تزكيته، وتربيته على ما يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
2ـ أنها طريق لاستقامة القلوب وطهارتها من أدران الشرك، والرياء، وحب الدنيا، والتعلق بها، ومعالجة الأمراض الباطنة التي تصيبها كالعجب، والكبر، والتعصب، والغل، والحسد، والكراهية، والبغضاء.
3ـ أنها دليل على قوة إيمان العبد وخوفه من الله تعالى.
4ـ أنها من أقوى أسباب تعجيل التوبة والأوبة ورد المظالم قبل الرحيل عن الدنيا.
5ـ أنها عامل قوي في دفع المسلم إلى التزود بالأعمال الصالحة ليثقِّل بها موازينه عند الله.
6ـ أنها تعين المسلم على نيل حسن الخاتمة، فكل من حاسب نفسه كان أحرص ما يكون على الطاعة، وأبعد ما يكون عن المعصية.
ومما يعينُ المسلمَ على محاسبةِ نفسهِ، قراءة القرآن بتدبر، ومصاحبةُ الأخيار، وحضور مجالس العلم، وزيارة القبور، والبعد عن أماكن اللهو والغفلة، وسؤال اللهِ الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(الحشر: الآيتان 18، 19).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأطيبوا مطعمكم واحذروا من التساهل في دخول المال الحرام عليكم، فإن له أثراً في إجابة الدعوة، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)(رواه الطبراني، وضعفه الألباني).
واعلموا ـ بارك الله فيكم ـ أن الله جل وعلا قد أكمل لنا الدين، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) (المائدة: الآية 3)، فأصبح هذا الدين كاملاً ليس في حاجة لزيادة، صالحاً لكل زمان ومكان.
وما نراه في نهاية كل عام من الاحتفال بالعام الهجري الجديد، أو رأس السنة الهجرية، أو ذكرى الهجرة النبوية فهذا لا يجوز لأنه لم ينقل لنا ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(متفق عليه).
وكذلك ما ينتشر بين الناس من إرسال رسائل بالجوال، وإلزامهم بالعمل بأشياء ونشرها. بمناسبة آخر العام وبداية العام الجديد، ومن ذلك رسائل تدعو للتوبة، وثانية تذكر بالاستغفار، وثالثة تدعو لجعل الصيام ختام العمل في العام، ورابعة تهنئ بالعام الجديد تهنئة بدعية، وكذا ما ينتشر بين الناس من رسائل طلب العفو و الصفح في هذا الوقت بالذات لأن صحائف الأعمال تطوى كما يزعمون، والمسلم يطلب العفو والصفح دائماً مما يحدث منه من تقصير وخطأ وزلل .
وهذه الأخطاءُ والبدعُ وغيرها وإن بدتْ صغيرةً في نَظَرِ بعضِنا إلا أنها تكبر وتصبحُ شعيرةً وشريعة، فسدُّ هذا البابِ أولى. يقول ابنُ تيميةَ رحمه الله: ” فالبدع تكون في أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع حتى تصيرَ أذرعاً وأميالاً وفراسخ”.
فعلينا بلزوم السنة ومحاربة البدعة، ففي ذلك الخير لنا في الدنيا والآخرة .
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 30-12-1435هـ