خطبة بعنوان: (أهمية صلاة الاستسقاء وحاجة البلاد والعباد إليها) بتاريخ 21-1-1436هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتَقوى الله جل وعلا، فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. والمتقون هم الناجون من عذاب الله؛{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}(مريم: 72)، وهم الوارثون لجنة الرحمن؛{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}(مريم: 63).
عباد الله: إنَّ الله جل وعلا ما خلق العباد ليشق عليهم، أو يجعل حياتهم عسرا، بل يريد سبحانه بهمُ الرحمة والشفقة واليُسر لعلمه بضعفهم وحاجتهم إلى فضله وكرمه، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}(النساء: 27، 28).
وما قدَّر الله جل وعلا الشدةَ والبلاءَ والمحنةَ إلا ليختبرهم ويمتحنَهم، ويعلمَ منهم صِدقَ الولاء وحسنَ الظنِ والتوكلِ، وعظيمَ الرَّجاءِ والأملَ فيما عنده، وينْظُرَ صحيحَ التَّوبة، وذلَّ الدُّعاء، فييسرُ على المعسر، ويفرجُ الكرب عن المكروب، ويجيبُ دعوة المضطرين، ويعينُ أصحاب الحاجات، ولا يغلق بابه أمام من دعاه ورجاه، ويجزي من صدَّقه واستجاب لأمره عظيم الجزاء، وكريمَ الثَّناء، والرفعةَ في الدُّنيا وفي الآخرة؛{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(محمد: 31).
وإن مِن أعظم البلاء الذي يقدره الله سبحانه وتعالى على عباده مَنْعَ القطر عنهم وحَبسه، وقلَّةَ المياه في آبارهم وأوديتهم وأنهارهم، وغورَها وشُحَّها، وما ذاك إلا ليعلم قوة تعلقهم به، وحسنَ توكلهم عليه،فيستسقون، ويدعون، ويستغيثون مرَّاتٍ ومرات، ولا يكادون يُجابون، فيصابُ كثيرٌ من النّاس باليأس والقنوط، ويستبطئون نزول الغيث، ويصبحون مُبْلِسينَ؛ فإذا وصل الأمر إلى نهاية حده، وعلم الله جل وعلا قوةَ تعلقهم به، وحسنَ الظن فيما عنده، جاءهم الفضل من عنده، فينزلُ المطر برحمته صيِّبًا مدرارًا نافعاً، فيعمُّ القلوبَ الفرحُ بما جاءهم من الله، وتلهجُ الألسنُ بشكر الله، والثناء عليه، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}(الشورى: 28).
عباد الله: إنَّ إنزال الغيث مِن أَجَلِّ نِعَم الله تعالى على عبادِه، فهو شريان الحياة لأبدانهم، وزُرُوعهم، وبهائمهم؛ وطيورهم؛ وصدق الله العظيم إذ يقول:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء: 30).
وقد ذَكَر الله جل وعلا نعمةَ إنزال المطر في مواطنَ كثيرةٍ من كتابه، وجَعَلَهُ آيةً من أعظم آياته، قال جلَّ وعلا:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 57). وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الروم: 24).
وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} (النور: 43).
فإذا علمنا أنها نعمةٌ من الله تعالى وتيقنا بحاجتنا إليها، وأنَّه لا قدرة لنا على جَلْبها، فإنَّ الواجب علينا أن نلجأ إلى الله، وندعوه، ونرجوه أن يغيثنا بغيث من عنده، وأن ينزِّل علينا مطراً من سمائه لنحيا به، وتحيا به البهائم والزروع.
عباد الله: إن الكُفر بنعم الله جل وعلا، والظُّلمَ للنَّفس وللعباد، والإعراضَ عن شَرْع الله وتوحيده وطاعته مما يجلب على العباد الجوعَ والخوف، وقلةَ الخيرات والبركات، وشدةَ الحياة وقسوتَها، ويكونُ سبباً أيضاً في نزول العذاب، وحلول النِّقمة، فانتبهوا لذلك، واحرصوا على ما يرضي ربكم، فبتوحيده وتعظيمه وإجلاله، والعملِ بما يرضيه ينال العباد الخير الكثير من هذا الكريم الرحيم.
عباد الله: ومن أهم أسباب تأخر نزول الأمطار وانحباسه كثرةُ المعاصي والذنوب، والغفلةُ عن لقاء الله، والبعدُ عن صراطه المستقيم.
وقد شرع المولى جل وعلا لعباده صلاةَ الاستسقاء لطلب نزول المطر من الله، وإظهارِ الافتقار إليه، والاعترافِ بالذنب، وطلبِ العفو والغيث منه.
وإننا يا عباد الله نعلم أننا مضطرون إلى رحمة ربِّنا وغَيثه غاية الضرورة، وأنه لا يكشف ضُرَّنا، ولا يغيث شِدَّتنا إلاَّ هو، ونعلم أنَّه أمرنا بالدعاء، وأنه سبحانه حَييٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفَع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا، وأن مَن دعاه سبحانه وتعالى بإخلاص وصِدق، لن يَخيب رجائه؛ فإمَّا أن يُعطى مطلوبَه، أو يُدَّخرَ له ما هو أكثر منه وأعظم، أو يدفعَ عنه من السوء ما هو أشدُّ وأعظم، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }(البقرة: 186).
وكلُّنا يعلم أنَّ الله تعالى عليم حكيم، وأنَّه سبحانه وتعالى بيده خزائن السموات والأرَاضين، قال تعالى:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ }(الحجر: 21).
ألَم يقل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بربِّه: (يدُ الله مَلأَى لا تَغيضها نفقة، سحَّاءَ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفَق منذ خَلق السماءَ والأرضَ، فإنه لَم يَغِضْ ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يَخفِضُ ويَرْفَعْ)رواه البخاري).
فإذا عَلِمنا ذلك فعلينا أن نلجأ إلى ربِّنا وخالقنا، ورازقنا ومولانا جل وعلا، وعلينا أن نحاسب أنفسنا ونتفقَّد حالنا، ونصلح أمورنا، وأن نستقيم على طاعة ربنا الذي هو أرحم بنا من أنفسنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ }(الشورى: الآية 28).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن الرحماتِ من ربِّنا فيَّاضةٌ، لا ينقطع مددُها، والنعمَ من عنده دفَّاقةٌ، لا ينقص عطاؤها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: “شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبرٍ فوُضِع له في المصلَّى، ووعَد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعَد على المنبر، فكبَّر صلى الله عليه وسلم وحَمِد الله عزَّ وجلَّ ثم قال:(إنكم شكوتم جدْبَ دياركم، واستئخارَ المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمرَكم الله عزَّ وجلَّ أن تدعوَه، ووعَدكم أن يستجيبَ لكم)،ثم قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(الفاتحة: 2 -4)، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهمَّ أنت الله لا إله إلاَّ أنت الغني ونحن الفقراء، أَنْزِل علينا الغيثَ واجعَل ما أنزلتَ لنا قوَّةً وبلاغًا إلى حين))، ثم رفَع يديه، فلم يزَل في الرَّفع، حتى بدا بياض إبطَيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهرَه، وقلَب ــ أو حوَّل ــ رداءَه وهو رافع يديه”(رواه أبو داود، وابن حِبَّان، والحاكم).
واعلموا بارك الله فيكم أنه إذا كَثُر الاستغفار في الأُمة، وصدَر عن قلوب بربِّها مُطمئنة، دفَع الله عنها ضروبًا من النِّقم، وصرَف عنها صنوفًا من البلايا والمِحَن؛{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(الأنفال: 33)، وبالاستغفار تتنزَّل الرحمات؛ {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(النمل: 46). وما أسرَع أثرَ الضراعة والاستكانة والابتهال إلى الله تعالى، إن وافَق توحيدًا وتوكُّلاً على الله، وثقة به وبواسع فضْله.
واحرصوا بارك الله فيكم على حضور صلاة الاستسقاء؛ ولا تتكاسلوا عنها، ولا تتهاونوا بأهميَّتها، ولنتوجَّه جميعاً بقلوبنا إلى ربِّنا جل وعلا، ولنرفَع أيدينا إليه، مُستغيثين به، راجين فضْلَه، آملين كرمَه، ولنقدِّم بين يدي ذلك توبةً نصوحًا، واستغفارًا من الذنوب، فبالتوبة النصوح تُغسَل الخطايا، وتُستمطَر السماء، وتُستدر الخيرات، وتُستنزَل البركات.
وعلينا أن نخلص في الدعاء عسى ربنا جل وعلا أن يغيثَ العباد والبلاد، وأن يصلح أحوالنا وجميع أمورنا، وفساد قلوبنا، وأن يغيثنا برحمته تفضلاً منه وكرماً.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 21-1-1436هـ