خطبة بعنوان: (خطورة الإسراف وأثره في ضياع النعم) بتاريخ 1-5-1436هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
خطورة الإسراف وأثره على المجتمع
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(الحشر: الآية 18).
عباد الله: لقد امتن الله جل وعلا على هذه البلاد المباركة بنعم كثيرة، وعطايا جزيلة، يتقلب فيها الناس ليلاً ونهاراً، ما بين نعمة الأمن والاستقرار، واجتماع الكلمة ووحدة الصف، ورغد العيش، وسعة الأرزاق، وهذه النعم تحتاج منا لشكر المنعم جلَّ وعلا.
وإذا نظرنا إلى بعض البلدان نجد شدة معاناة أهلها مما أصابهم من الخوف، والفقر، وضيق العيش، والشتات والاختلاف والتناحر، وما كان ذلك إلا بسبب بعدهم عن منهج الله جلَّ وعلا، وعدم تطبيقه في حياتهم، وتكذيبهم وإعراضهم عنه والله جل وعلا ليس بينه وبين خلقه نسب، وهو سبحانه يهب عطاياه لمن شاء من خلقه إذا أطاعوه ولم يعصوه.
عباد الله: ومن الأشياء الخطيرة التي انتشرت في شتى مظاهر حياتنا، مع انفتاح الدنيا، وتيسر أسباب الحصول على المال، وتنوع الأرزاق من مأكول ومشروب، ظاهرة الإسراف؛ وهي ظاهرة أمرها خطير، وشرها مستطير، نهى الله تعالى ورسوله عنها، وحذر العلماء والمصلحون من مَغَبّتها، وعلم الناس حرمتها وخطرها على دينهم ودنياهم.
عباد الله: إن ما نراه في بعض المناسبات من تجاوز الحد في الإنفاق والبذخ، وتفاخرٍ بالموائد ومغالاة في الصالات المستأجرة، وتنافسٍ في الملابس وأنواع الحلل والحلي، وإهدارٍ للذبائح والإكثارِ من الحلويات والمشروبات، يوضح مدى ما يعانيه المجتمع من غفلة عن المنهج الرباني الذي أمر بالتوسط وعدم الإسراف، كما في قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأعراف: الآية 31)، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: الآية 67)
إن نسيان الماضي الذي كان يعيش فيه آباؤنا وأجدادنا، ومدى المعاناة التي كانوا يتعرضون لها في ضيق العيش وقلة ذات اليد، يورث الغفلة عن هذه النعم التي نتقلب فيها الآن، وانظروا كيف كان عيشهم؛ إنه اليسر وعدم التكلف، تقديم لما يسّره الله في الزيجات والمناسبات الأخرى، في تواضع جمّ وراحة بال، وطيب قلب وسعة صدر، وكانت المحبة والألفة بين الناس في أبهى صورها وأعلى معانيها، وكانت الألسن تلهج بالدعاء لأصحاب المناسبة، وبالشكر والثناء على الله جل وعلا.. فأين نحن من هذا الآن؟
عباد الله: إن الإسراف والتبذير مسلك خطير، وداء مهلك، ومرض قتّال، ينبت أخلاقاً سيئة، ويهدم بيوتًا عامرة، ويورث الجبن، وينبت الذل، جاء التحذير منه والنهي عنه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى عن فرعون:{إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}(الدخان:31)، وقال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(الإسراء: الآيتان 26، 27)، وقال صلى الله عليه وسلم:( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ)(رواه البخاري)، وقال أيضاً:( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ)(رواه البخاري).
عباد الله: في دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ذُكر فيها:”أن الأطعمة التي يتم هدرها على مستوى العالم مقدارها (مليار وثلاثمائة مليون طناً)، تُلقى في صناديق القمامة، وهو ما يعادل ثلثي إنتاج العالم من الطعام، وهو ما يتسبب في خسارة مادية قيمتها (سبعمائة وخمسون ملياراً من الدولارات) كل عام، يحدث هذا في ظل وجود (ثمانمائة وسبعين مليون جائع) على مستوى العالم، وصدق القائل: “ما رأيتُ إسرافاً إلا وبجانبهِ حَقٌّ مُضيَّعٌ.
ففي الوقت الذي نرى فيه عشرات الآلاف يموتون جوعاً على مستوى العالم وخاصة الدول الفقيرة، نجد دولة أوروبية ترمي وحدها أطعمة تبلغ قيمتها (تسعة عشر مليار من الدولارات) في كل عام. وفي دولة أوروبية أخرى يُهدر في كل عام (مائةُ طنٍ) من الطماطم في مهرجان سنوي يعرف بمهرجان التراشق بالطماطم.
وفي دراسة لإحدى الدول العربية وجدوا أن (ثمانين بالمائة) من قمامتها كانت عبارة عن طعام. فلنتدارك الأمر قبل أن يؤول بنا الحال إلى مصير المسرفين، فثمَّتْ دول معاصرة اشتهرت بكثرة النعيم والإسراف ثم دارت عليها الدوائر فأصبحت تعاني من المجاعة والقحط.
عباد الله: اعلموا رحمكم الله أنه يحرم إلقاء شيء من الطعام الصالح للأكل في القمامة؛ لأن الطعام نعمة من الله تعالى، وفي إلقائه إساءة لهذه النعمة من وجهين:
الوجه الأول: أن في ذلك احتقاراً للنعمة، وكفراً بها، والواجب على المسلم أن يكون شاكراً لله على نعمه وعطاياه.
الوجه الثاني: أن هذا التصرف فيه إتلاف للمال، وإتلاف المال أشدّ سوءاً من الإسراف فيه، والله تعالى لا يحب المسرفين.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على حرصه على نعم الله تعالى، ولنا فيه أسوة حسنة، ومن ذلك: عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة مسقوطة ـ أي ساقطة ـ فقال:(لولا أن تكون صدقة لأكلتها)(رواه البخاري).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث، وقال:(إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان) وأمرنا أن نسلت القصعة ــ أي نمسحها ونتتبع ما بقي فيها من الطعام ــ، قال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) (رواه مسلم). فاحترام النعمة وصيانتها من باب شكر الله تعالى الذي قال:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: الآية 7).
فلنتق الله يا عباد الله: ولنحرص جميعاً على الاقتصاد في الطعام والشراب، وأن نأتي بما نريد بقدر الحاجة، وإذا تبقى منه شيء فلنحتفظ به للوجبة التالية، أو نعطيه للمحتاجين من الأسر الفقيرة والعمال بعد أن نغلفه، وإذا كان هذا الطعام لا يصلح للإنسان فلنجعله في صندوق ليأكل منه الطير والحيوان، فهذا أفضل من رميه وإهداره، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)(رواه البخاري ومسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (لإسراء:16).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه خيرا زاد للنجاة من عذابه.
عباد الله: دُعيت إحدى الأخوات لزواج بنت جيرانها؛ ووصفت ما حصل في الزواج حيث قالت:” كان الزواج رائعاً، وكل شيء فيه يسير على ما يرام، ولكن هناك شيء في هذه المناسبة لفت نظري وأعجبني جداً أن أم العروس عندما وضعت الطعام على الماصات وضعت صحوناً فارغة لها غطاء، ووضعت بجوارها كارتاً صغيراً مكتوب فيه ــ ساعدينا على توزيع باقي الطعام ــ اغرفي من الصحن الذي أمامك وأعطيه لمحتاج عند خروجك من الزواج”.
وتكمل الأخت حديثها فتقول: والله إن الأكل ما بقي منه شيء، فقد أُخذ كله. فقلت لأم العروس يمكن يكون هذا العمل فاتحة خير والناس تمشي على طريقتك، قالت: يا ابنتي لو أعطيته للجمعية لم يوزعوه بهذه السرعة، بل يضعونه في الثلاجات إلى الغد ثم يوزعونه على المحتاجين، وتكون فائدته قد ذهبت، ولكن طريقتي أن تأخذ كل واحدة من الحاضرات الصحن الذي به الطعام وتعطيه للسائق أو عمال البلدية الذين بالشوارع أو غيرهم، فأعجبتني الفكرة وقلت أخبر بها لعل الله أن ينفع بها” انتهى كلامها.
إن هذه المرأة قد علمت قيمة النعمة فحرصت على نفع الغير بها، فوفقها الله تعالى إلى هذه الفكرة الطيبة، فأفادت واستفادت، أسأل الله الكريم أن يكتب لها الأجر والمثوبة.
لقد عايشنا بعض كبار السن وكبيرات السن ممن مرَّ عليهم شيء من الشدة والحاجة فوجدناهم أحرص ما يكونون على صيانة النعمة وحفظها حتى حبة الرز لا يرضون أن تبقى على السفرة، فهل يقتدي الجيل الحاضر بهم.
عباد الله: إن المشكلة الكبيرة التي نعاني منها في مجتمعنا هي كثرة الإسراف في تحضير الولائم والعزائم في الأفراح والمناسبات وغيرها بشكل غير طيب، حتى إن كثيراً من الطعام يتبقى ولا يدرى صاحبه ما يفعل به، وربما ألقاه في القمامة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا سيما بعض المطاعم التي ترمي ما يبقى عندها في براميل القمامة ولو كانت تخشى المحاسبة من الجهة المسؤولة لما فعلت ذلك.
فعلينا أولاً: أن نقتصد في تلك الولائم والعزائم بقدر المستطاع بحيث لا نخسر الكثير من المال، ونهدر الكثير من الطعام، فإذا تبقى من هذا الطعام شيء فعلينا أن نتعاون على توزيعه بالطريقة المناسبة.
وثانياً: أرى أن تخصص جمعية البر الخيرية في هذا البلد مكاناً مخصصاً لتجمع فيه هذا الطعام بعد الانتهاء من المناسبة مباشرة، ويقوم على هذا المكان بعض الأشخاص الطيبين الحريصين على الخير، والأولى أن يكون ذلك بأجر حتى يتفرغ هؤلاء لتوزيعه مباشرة، فيقومون بتجميعه من قصور الأفراح، أو أماكن المناسبات، ثم وضعه في مكان نظيف مخصص لتجهيزه مرة أخرى، فيقومون بترتيبه، وتغليفه بطريقة مناسبة ثم توزيعه على الأسر الفقيرة، والعمال ، ويكون ذلك بعد حصر هذه الأسر وتحديد أماكنها لينتفعوا به.
وقد رأينا مثل هذا العمل في محافظات أصغر من محافظتنا وقد نفع الله به نفعاً عظيماً.
وهذا المشروع الخيري لو تعاون الناس على إقامته وأخلصوا النية لله، يسره الله تعالى، وانتفع به خلق كثير. أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الجمعة: 1-5-1436هـ