خطبة بعنوان: (صلاح الظاهردليل على صلاح الباطن) بتاريخ 24-4-1436هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(آل عمران: الآية 102).
عباد الله: جاء الإسلام آمراً العباد بصلاح الظاهر والباطن، فهما مختلفان في المعنى ولكنهما تحت مسمى الإيمان يلتقيان.
والظاهر هو ما يظهر من العبد، في هيئته، ومعاملته، وحديثه، وأخذه وعطائه، وهذا يختلف فيه العباد اختلافاً بيّناً ما بين حسن خلق وسوءه، وتواضع وكبر، ورحمة وقسوة، وحسن كلام وفحش وبذاءة وشتم ولعن، وبرٍّ وإحسانٍ، وظلم وعدوان، وأداء حقوق وواجبات، وتقصير فيها، وبذلِ وعطاء، وشح وإقتار، واجتناب المعاصي، والوقوع فيها، وهكذا في سائر شؤون الناس الظاهرة.
وكذلك الباطن وهو ما يكون في القلب من إيمان وكفر، وصدق وكذب، ومحبة وبغض، وأمانة وغش، وحب الخير للناس والحسد، والسلامة من الإثم، والحقد، والتواضع، والكبر والعجب والغرور وازدراء الناس، فكل ذلك يعبر عما يكون في القلب لدى كل إنسان.
وكلما كان العبد تقيًّا لله وامتلأ قلبه بالإيمان ظهر ذلك على جوارحه، وكلما كان عاصياً لله، ضعيف الإيمان، مرتكباً للمعاصي والموبقات، ظهر ذلك على جوارحه أيضاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه)(رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وحينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ)، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ:(هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إِثْمَ فِيهِ، وَلا بَغْيَ، وَلا غِلَّ، وَلا حَسَدَ)(رواه ابن ماجة، وصححه الألباني).
وليُعلم يا عباد الله أنه ليس كل ما يظهر من العبد من أخطاء أو سيئات أو ذنوب دليلاً على سوء باطنه، بل الغالب أن صلاح الباطن من صلاح الظاهر، وقليل من الناس من يكون في قلبه خير لكن يقع منه بعض التقصير والزلل.
أيها المؤمنون: إن ما نراه في زماننا هذا من تناقض عجيب في أحوال الناس وتعاملاتهم يدل على خللٍ كبير في تعاملهم مع خالقهم، وفيما بينهم، ودليل ذلك أنك عندما تتكلم مع بعضهم في الدين، تراه يعرف الحلال والحرام، ويستشهد بالآيات والأحاديث، ويريك أنه لا يحب المنكر، ولكنك إذا نظرت إلى واقعه ترى خلاف ما كان يتكلم به. فمنهم من يعلم خطورة التكاسل عن الصلاة وأنها كبيرة من كبائر الذنوب، ولكنك إذا عاينت حاله معها تراه يفرط، ويؤخر، وربما يتخلف عن صلاة الجماعة. ومنهم من يعلم حرمة الربا وأنها كبيرة، وأنه أُمر باجتنابها، ولكنك عندما تنظر في حاله تراه يتعامل بها مع الأفراد أو البنوك الربوية.
ومنهم من يعلم أن الخمر حرامٌ شرعاً، ولكنك إذا نظرت إليه وجدته يشربها، أو يبيعها أو يصنعها، إلى غير ذلك مما نراه في حياتنا ونعايشه مع الناس.
وهذا يدل على أن الباطن فيه خلل أوصل صاحبه إلى تفريطه في جنب الله، ووقوعه فيما حرم الله جل وعلا.
أيها المؤمنون: إن الإسلام لم يهمل الظاهر بحجة أن التقوى في القلب، بل جعله دليلاً على الباطن في الغالب، ولم يهمل الباطن ويتركه بحجة العناية بالظاهر، بل جعلهما متلازمين في كل الأحوال، فصلاح القلب، من أهم أسباب نجاة العبد في الدنيا والآخرة، فلا ينجو أحد يوم القيامة إلا إذا كان من أصحاب القلوب السليمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعليقاً على قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)(رواه البخاري ومسلم)، فبين صلى الله عليه وسلم أن صلاح القلب مستلزِمٌ لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دلّ على أن القلب غير صالح، والقلبُ المؤمن صالح، فعُلم أنّ من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، كما قال عثمان، وأما إذا لم يظهر أثر ذلك، لا بقوله ولا بفعله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجَبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه” انتهى كلامه رحمه الله.
قال عثمان رضي الله عنه: “ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه”.
عباد الله: ومن عناية الإسلام كذلك بقضية الباطن، أن العمل يكون بحقيقته قبل أن يكون بمظهره، ولا يقبل الله تعالى عملاُ إلا من مؤمن؛ والإيمان يكون في القلب ويظهر ذلك على جوارحه. فمن صلح باطنه تبدى على ظاهره الصلاح! ومن أظهر الصلاح، مع فساد الباطن، كان على شعبة من النفاق !
رأى عمر رضي الله عنه رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة فقال: ” يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب” .
وروى الحسن رحمه الله أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر ـ أو قال لكمه ـ وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وكان ناسكاً صدقاً وخاشعاً حقاً ” .
ورأت عائشة رضي الله عنها شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: ” من هؤلاء “. فقالوا: ” نسِِّاك” . فقالت: ” كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع. وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقا” .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله:” كان يُكره أن يري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ” استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع”.
فمن أظهر للناس خشوعاً زائداً عما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق . قال ابن القيم رحمه الله: “وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو حذيفة يقول: ” إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع ” .
عباد الله: إن الاهتمام بنية العمل أمر مهم قبل العناية بمظهره؛ لأن العبد يتعامل مع الله الذي يعلم سره وعلانيته، فإخلاص النية يترتب عليها قبول العمل، وعدم الإخلاص يحبط العمل، قال صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى..) (متفق عليه).
وانظروا رحمكم الله لأثر النية مع ظاهر العمل، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)(متفق عليه).
وفي حديث آخر قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غُفِرَ لامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قَالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ)(رواه البخاري).
فمقياس الناس عند الله بما وقر في قلوبهم، وصدقته أعمالهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }(النساء: 62، 63 ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن من الوسائل التي تعين العبد على إصلاح ظاهره وباطنه، ما يلي:
الأولى: العلم بالله تعالى وٍأسمائه وصفاته: فكلما كان العبد أعرف بالله كان أحرص ما يكون على إصلاح باطنه وظاهره لعلمه أن الله تعالى مطلع على سره وعلانيته وجميع أحواله، قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (التوبة: الآية 78).
الثانية: الحرص على إخلاص العمل لله: فلا يرائي به أحد من الخلق، ولا يقوم به لنيل الثناء أو المدح منهم، بل يقوم به ابتغاء وجه الله تعالى، واحتسابا للأجر منه سبحانه.
الثالثة: الصدق: وهو أن يكون العبد صادقاً مع ربه، في سره وعلانيته، وقوله وعلمه، راجياً ما عنده، راغباً في رحمته وعفوه وجنته، وقد رغب سبحانه عباده على أن يكونوا من الصادقين فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة: الآية 119).
الرابعة: تعاهد القلب من الآفات : كالكبر، والعجب، والغرور، والرياء، وحب الثناء والمدح، وغير ذلك مما يصيب القلب، يقول سعيد بن جبير رحمه الله:”إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويعمل السيئة فيدخل بها الجنة”، قال ابن تيمية رحمه الله: “ذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه، ويعجب بها، كلما ذكر شيئاً قال: أنا فعلت”.
الخامسة: العناية بأعمال القلوب: وهذه من أهم أسباب فلاح العبد، وعلى قدر حرص العبد على قلبه، وتوجيهه الوجهة التي يحبها الله تعالى نال الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم:(الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه)(رواه أحمد وغيره)، فيجب علينا أن نعتني بأعمال القلوب الخفية أشد مما تعتني بالأعمال الظاهرة.
عباد الله: لقد كثر في زماننا هذا ظواهر خطيرة كالانتكاس والردة وسوء الخاتمة، وهذا يدل على سوء الباطن لمن مات على ذلك، ولا يمكن أن يختم لشخص بسوء إلا بسبب ما وقر في سريرته والعياذ بالله، والله جل وعلا هو الحكم العدل، ولا يظلم ربك أحدا.
أما المؤمن الصادق فيختم له بخير لأنه كان مخلصاً صادقاً محباً لربه حريصاً على طاعته ومرضاته، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول:(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ..)(رواه البخاري)، نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يختم لنا ولكم بخير إنه جواد كريم.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الجمعة: 24-4-1436هـ