خطبة بعنوان: (محبة الوطن ووجوب المحافظة عليه والدفاع عنه) بتاريخ 19-7-1436هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: الآية 18).
عباد الله: إن محبةَ الوطن، والانتماءَ للأمة أمر فطري غريزي، وطبيعةٌ جبل الله النفوس عليها. قال تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: الآية 30)، فحين يولد الإنسان في بلد ما، وينشأ ويترعرع بين أحضانه، فيأكل من طعامه، ويشرب من مائه، ويحيا بين أهله وإخوانه، فإن فطرته ترتبط به، فيحبه ويواليه، ويجتهد في رفع شأنه، وتحسين صورته، والذب عن حياضه، وهذا كله مرتبط بما يكون عليه هذا الوطن.
فإذا كان هذا الوطن متمسكاً بشرع الله تعالى، مطبقاً لسنة نبيه ، قائماً بحدوده، فهذا هو أغلى الأوطان، وأحبها إلى النفوس المؤمنة، وهذا الذي تبذل له الأموال والأنفس، لأن الدفاع عنه دفاع عن الدين والمقدسات. فارتباط الإنسان بوطنه كامن في كل نفس بشرية، ويستشعر ذلك حينما يترك بلده مهاجراً إلى بلد آخر، فيشعر بالحنين والشوق للرجوع إليه.
ونبينا محمد لما أخرجه قومه من بلده التي نشأ بها، وترعرع بين جنباتها أصابه حُزن شديد لذلك، فقال وهو يغادرها (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)(رواه الترمذي).
عباد الله: إن العقيدة الإسلامية هي أساس وطنيةِ المسلمين، قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء: الآية 92)، ولذلك فحدود الوطن التي تلزم المحافظة عليه، والتضحية في سبيل حريته وخيره لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إنه يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى غيره ثانياً، ومن ثمَّ يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة، وشعور الوطنية العامة؛ لأنه قد جعلها فريضة لازمة لا مناص منها؛ فيقدم كلَّ إنسان الخير لبلده، ويتفانى في خدمته، ويبذل القليل والكثير من أجل رفعة شأنه وتقدمه.
وعلى كل مسلم أن يكون ولاؤه أولاً وآخراً لله تعالى ولدينه ولنبيه ، ثم يكون بعد ذلك لإخوانه المسلمين، فيصبح الرابط الذي يجمعهم هو (رب واحد، ودين واحد، ونبي واحد).
والمواطنة حسْب مفهومها السابق والمستمد من الشريعة الإسلامية الغراء لا يتعارض مع الانتماء إلى أمة الإسلام، بل هي فرع منها لأنها تنمي حبَّ الأوطان وأُلفَتَها والحنينَ إليها، والعملَ من أجلها، ولكنها تتعارض مع الوطنية التي تعتمد على شرائع وضعية شكلتها الغاياتُ المادية، وفسرتها الأفهامُ القاصرة وفق المصالح والأهواء، والتي تسعى بدورها إلى تقسيم أمة الإسلام إلى طوائفَ متناحرةٍ، وفرقٍ، ومذاهبَ، وحزبياتٍ وولاءاتٍ مختلفةٍ تسير بها إلى الضعف، والخلاف، والتشرذم، وإيقاد نار العصبيات، وهذه لا يمكن الركونُ إليها، أو الاعترافُ بها أبداً .
إن الوطنية التي يدعو إليها الإسلام ويدعو إليها كل عاقل هي الوطنية المرتبطة بالدين، المتعلقة بالعقيدة، المستقاة من شريعة رب العالمين، والتي تهدف إلى تقوية أواصر مواطني البلد الواحد والأمة الواحدة، ليعمل الجميع في مصلحة وطنهم وأمتهم.
عباد الله: إن هذا الوطن الذي نعيش فيه، ونطعم من خيراته، ونستشعر نعمة الأمن في جميع جهاته يحتاج منا أن نحافظ عليه، وأن نبذل الغالي والرخيص من أجل الذب عن حياضه، كيف لا وهو أمل الأمة في نشر العلم وبذل الخير، وهو منبر الدعوة إلى الله لكل بلدان العالم بشرقه وغربه، وهو قبلة المسلمين في سائر بقاع الأرض.
إن نعمة الوحدة واجتماع الكلمة وتلاحم الصف التي نعيشها ونأمل أن تدوم لنا قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلزم غرزها، وتتمسك بمعصمها، وحذرها من مغبة فرقتها واختلافها، وقد بدا ذلك واضحاً في حجة الوداع، فقد قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً على ذلك:(إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)(رواه مسلم)، وعند أحمد في المسند: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد). فعلينا أن نقويَ أواصرَنا، ونجمعَ كلمتَنا، ونوحدً صفنَا، ونتركَ خلافاتِنا, وأن نجتمعَ على كلمةٍ سواء، فلن يجمع شملَنا، ويعيدَ مجدنَا شيٌء مثلُ اجتماعنا على كلمةِ التوحيد الصافية النقية، وعقيدةِ السلف المبرأة السوية، وليكن نبراسُنا الذي نستضيء به قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: 103). ليعود ذلك على الوطن بالخير والنماء والأمن والأمان.
عباد الله: إن محبة الوطن ليست أقوالاً تقال، أو شعارات ترفع،أو مجردَ أحاسيسَ جوفاء، بل هي فطرةٌ غريزية متأصلةٌ في النفوس، ومتجذرةٌ في الوجدان، وأفعالٌ تدفع المسلم إلى العمل الجاد الذي يستهدف رفعةَ الوطن والاعتزاز بالانتماء إليه والاستعداد للتضحية من أجله. فينبغي على كل مسلم يعيشُ على تراب هذه البلاد ويأكلُ من خيراتها ويتقلب في أمنها وأمانها ــ سواء كان مواطنا أو مقيماً ــ أن يكون مواطناً صالحاً يبذل قصارى جهده في عدم الإضرار بها، وبث الفتن بين جنباتها، وقد تقرر عند أهل السنة أنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمامة، ولا إمامة بلا طاعة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(آل عمران: الآيتان 102، 103).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن بلادنا ــ المملكة العربية السعودية ــ ولله الحمد والمنةـ هي البلاد الوحيدة على مستوى العالم كلَّه ــ التي تسودها شريعة الإسلام، وتطبق أحكامه في شتى أمورها الحياتية، فهي الوطن المسلم الذي نعتز به أمام جميع دول العالم لما حباها من نعمة القيام على الكتاب والسنة واجتماع الصف والكلمة.
ولذا حرص الأعداء على الكيد لها، وأذيتها ولا سيما في زرع نابتة من أبنائها خرجوا عليها وحملوا السلاح وقتلوا الأبرياء جهاراً نهاراً، قتلوا رجال الأمن وروعوا الآمنين، وحملوا السلاح على المسلمين، وقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
عباد الله: ومن علامات صدق المحبة لهذا الوطن:
أن يكون كل واحد منا قدوة صالحة في نفسه، وبين أهله وإخوانه من المسلمين، ولا يكون عامل هدم وإفساد في المجتمع، لأن صلاحه طريق لصلاح الأسرة والمجتمع، وصلاح المجتمع طريق إلى صلاح الوطن.
أن يحترم كل واحد منا مشاعر إخوانه المسلمين، فيوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويعطف على فقيرهم، ويواسي ضعيفهم، ويؤدي حق جاره، ويحسن معاملة من حوله من أهله، وإخوانه، وزملائه، وعامة الناس.
أن يحترم النظام الذي وضع من أجل مصلحة الناس حفظاً لهم من الوقوع في الفساد والفوضى، فلا يقطع إشارة، ولا يتحايل على نظام، ولا يخون الأمانة، ولا يقصر في عمل هو مسئول عنه.
أن يطيع ولي أمره في كل ما يصدره من أنظمة لا تخالف الشرع الحنيف، وتعود بالنفع والخير على الوطن والمواطنين.
أن يقوم بمسئولياته تجاه وطنه، بأداء واجباته، وحفظ مقدراته.
أن يكون أول من يدافع عن وطنه لمن يريد به الشر والفساد والفتنة، وأن يكون من الجنود الذين يحفظون أمنه وسياجه من اعتداء المعتدين، أو إفساد المفسدين، وهم يتلونون بأشكال مختلفة في وقتنا الحاضر.
عباد الله: إن تعزيز قيم الانتماء الوطني مطلب أساسي وضرورة ملحة لا بد أن توليها المؤسسات التربوية ومؤسسات التوجيه الوطني عناية فائقة، فلابد من تكريس الجهود لغرس مفاهيم الانتماء في أذهان الشباب وإبعادهم عن كل مظاهر العنف والتطرف وتعزيز قدراتهم والارتقاء بهم كي يكونوا جنوداً أوفياء لوطنهم وقيادتهم الحكيمة.
ووصيتي للشباب الذين هم عماد الأمة أن يلتفوا حول علمائهم وقيادتهم، وأن يحرصوا على حفظ بلادهم ومؤسساتها ومنشآتها،وتنمية مقدراتها والعمل من أجل تقدمها ورقيها وازدهارها، والتفاني في خدمتها، والتضحية من أجلها، والتصدي للتحديات والأخطار المحدقة بها. أسأل الله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا وعلمائنا واجتماع كلمتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦)
الجمعة:19-7-1436هـ