78 – لقاء حول حد الحرابة والتعزير

الأربعاء 19 رجب 1445هـ 31-1-2024م

 

78 –  لقاء حول حد الحرابة والتعزير pdf

 

 

لقاء حول

حد الحرابة والتعزير

 

تأليف

أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

* في رأيكم هل قلّ تطبيق حد الحرابة على المجرمين؟ وهل له شروط أو عوامل حتى يتم تطبيقه؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقبل أن نتكلم عن موضوع قلة تطبيق حد الحرابة على المجرمين وما يتعلق به أحب أولاً أن أشير إلى فضل الله تعالى على العباد، وحكمته البالغة فيما شرعه لهم، ولو نظر البشر نظرة ثاقبة صحيحة إلى دين الإسلام وما شرع فيه لوجد أن السعادة الكاملة، والحياة الكريمة، والأمان المرجو لا يكون إلا فيما شرعه رب العالمين، فقد كفل الإسلام للبشر نظاماً يحفظ لهم حقوقهم الخاصة والعامة، فحق الحياة الكريمة مقرر لكل فرد يحيا في المجتمع المسلم حتى ولو كان غير مسلم.

ويترتب على تطبيق الحدود الشرعية التي وضعها رب العزة ـ جل وعلا ـ لعباده مصالح دنيوية وأخروية، فمن المصالح الدنيوية: الأمن والطمأنينة، وحفظ الدماء وحقنها، وصيانة الأعراض من أن تنتهك، والأنساب أن تختلط، والأموال أن تضيع أو تؤكل بالباطل، والعقول أن تختل، والدين أن يتخذ سخرية وهزوا.

لذلك فقد أمر الشارع الحكيم ـ جل وعلا ـ بحفظ الضرورات الخمس، وهي: (الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس)، وبدون الحدود الشرعية التي وضعها الله ـ جل وعلا ـ لا يمكن أن يقوم المجتمع الآمن، ويترتب على تطبيق الحدود الشرعية أيضاً قلة الجرائم أو تركها وتجنبها، فإذا قلت الجرائم ظهر الأمن، واطمأنت النفوس، وزاد العمل المثمر الذي يعود على الأمة بالخير والنماء، وصدق الله العظيم إذ يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}(البقرة: الآية 229).

وما يرى بفضل الله تعالى من تطبيق الحدود خير شاهد على هذه الأرض المباركة، حيث يطبق شرع الله تعالى على الجميع؛ فساد الأمن، وكثرت الخيرات، وعمت البركات، واطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وكلما تمسك الناس بشرع الله تعالى والعمل بحدوده نالوا خيريّ الدنيا والآخرة.

ومن الفوائد الأخروية في تطبيق الحدود: نيل رضا الله ومثوبته، لأن تطبيقها طاعة لله وعبادة له.

وأما من ناحية قلة تطبيق حد الحرابة على المجرمين، فهذا الأمر صحيح حيث حصل قصور في هذا الأمر الذي أدى إلى عدم خوف بعض المجرمين من الوقوع في حدود الله تعالى، وبالتالي كثرت الجرائم وكثر الفساد، وما نراه وما نسمعه من حصول بعض الجرائم لهو إشارة إلى التقصير في هذا الجانب الهام.

وحد الحرابة له شروط كي يتم تطبيقه وهي كما ذكرها المولى جل وعلا في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(المائدة: الآية 33).

فقد أشار المولى جلَّ وعلا إلى الأمور التي يبنى عليها حد الحرابة ومنها: محاربة الله ورسوله وهو أيضاً يشمل جميع صور الاعتداء على المسلمين، وذلك بالاعتداء على أعراضهم وأموالهم، وأراضيهم، وسرقتها، وسلبها، وترويع الآمنين، وقطع الطريق، وغير ذلك مما يوجب حد الحرابة.

وأنا أرى قلة تطبيق حد الحرابة لعدم وجود الأسباب التي تثبته وتقوم عليه من حيث المجاهرة، وعدم الخوف من سلطان ولي الأمر، وإيقاع الرعب والإفساد والتخويف، وقد حصل من بعض الفئات الخارجة عن جماعة المسلمين، مثل أهل الغلو والتطرف والتفجير، وبعض أفراد المجتمع الذين وقعوا في شرب المخدرات والمسكرات واتبعوا ذلك بالوقوع في بعض جرائم السرقة بالإكراه، وهي بفضل الله قليلة في مجتمعنا، والحمد لله المحاكم بالمملكة تقوم بواجبها تجاه هذه الجرائم وتطبق عليها الأحكام الشرعية المناسبة.

* أليس في تطبيق التعزيرات كحد الحرابة والقطع ردع للمفسدين في الأرض؟

بلى؛ إن تطبيق التعزيرات كحد الحرابة والقطع ردع للمفسدين في الأرض، وتخويف لغيرهم، فما أقيمت الحدود إلا من أجل حفظ الأمن للمجتمع المسلم، ومن أجل ردع هؤلاء المفسدين، وتخويف من تسول له نفسه الوقوع في ذلك، وصدق الله تعالى حيث يقول:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}(البقرة: الآية 179)، نعم فإقامة الحدود على بعض أفراد المجتمع يقيم الحياة المطمئنة الآمنة لباقي المجتمع.

وعلى ذلك فإن أي جريمة تستوجب العقوبة إذا جاء نص من الشارع بتقدير عقوبة معينة عليها كما في جريمة الزنا والسرقة وشرب الخمر والحرابة فتطبق تلك العقوبة عليها حسب نوع الجريمة، وأما إن لم يأت نص من الشارع بتقدير العقوبة في الجريمة أصبحت من الجرائم التي تدخل في باب التعزير، وهو إما أن يكون واجباً أو جائزاً، وهو راجع لولي الأمر أو من ينيبه، وبهذا يعلم أن عقوبات التعزير وجرائمه مما تدخل تحت النصوص العامة التي تأمر بطاعة الله تعالى وتنهى عن مخالفته، وبهذا صح قول من قال إنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، وأن ذلك كما يشمل جرائم الحدود يشمل أيضاً جرائم التعزير.

* هل كثرة المشكلات في آخر الزمان تُصعب من تطبيق حد الحرابة والعقوبات التعزيرية؟

 لا، بل على العكس فإن الشريعة جاءت كاملة شاملة لكل ما يحيط بحياة البشر، ومن وضع هذه الشريعة هو رب العالمين الذي خلق البشر ويعلم ما ينفعهم وما يضرهم، وعلى الرغم من كثرة المشكلات في هذا الزمان إلا أنه بالرجوع إلى أحكام الشريعة تجد لها حلاً إما بوجود نص يدل عليها، وإما باجتهاد إمام المسلمين أو من ينوب عنه اجتهاداً مستنداً على أحكام الشريعة وليس خارجاً عنها.

وعلى ذلك ما وجدت جريمة إلا وجد لها عقاب يردعها، ولما خالف البشر حدود الله التي وضعها لمصالحهم كثرت الجرائم وعم الفساد، وعلى ذلك يجب الرجوع إلى النبع الصافي وهما الكتاب والسنة كي يحتفظ المسلمون بأمنهم.

* (1700) حالة خطف ألا ترون أنها بحاجة إلى علاج؟

الإجابة: نعم، فجريمة الخطف جريمة شنيعة مقززة للنفس، وهي إما خطف من أجل عوض، أو من أجل انتقام، أو من أجل هتك عرض، أو غير ذلك، وكل جريمة يترتب عليها الإفساد وجب إقامة الحد فيها، وهي بحسب الدلائل والقرائن وشهادة الشهود، والحكم في مثل هذه القضايا ليس هيناً ولا سهلاً، إنما يحتاج إلى جهد يبذل، وسعي حثيث من أجل تطبيق الحد على هؤلاء المفسدين.

وجريمة الخطف داخلة في حد الحرابة، ولكن كل جريمة بحسب ما يحصل فيها من الضرر على المجتمع، وهذا يقوم به القضاة حسب ما يرونه من الأدلة والقرائن، ويجب على المجتمع أن يتعاون من أجل القضاء على هذه الجريمة الخطيرة التي تؤثر على أمن المجتمع وسلوكياته، فتكرار جريمة الخطف يبين أن هناك قصوراً في تطبيق الحدود على هؤلاء المفسدين أو غيرهم من أصحاب الجرائم الأخرى، والمسؤولية الكبرى على الجهة المسؤولة عن إقامة الحدود وتطبيقها، ووضع التعزيرات اللازمة لكل جريمة مع اختلافها، وهذا يقوم به ولي أمر المسلمين أو من ينوب عنه.

وعلاج جريمة الخطف يحتاج إلى عوامل كثيرة منها، وقف المؤثرات الخارجية التي تساعد على تنفيذ هذه الجريمة، وتوجيه النشء إلى تعاليم الدين العظيمة وأخلاقه الكريمة، وتعاون الأسرة في هذا المجال من حيث منع هذه المؤثرات التي توصل أولادهم من بنين وبنات إلى الوقوع في الجرائم المخالفة للشرع، وردع المجرمين الذين يقومون بمثل هذه الجرائم وإعلان إقامة الحد عليهم والتشهير بهم من أجل ردعهم عن الوقوع مرة ثانية في مثل هذه الجرائم، وأيضاً إخافة لغيرهم من مغبة التفكير في ذلك.

* وهل للتخفيف مع وجود بواعث الجريمة مبرر مثل الإنترنت والفضائيات والبطالة وغيرها؟

التخفيف في إقامة التعزيرات راجع إلى ولي الأمر أو من ينوب عنه، وهذا بحسب حالة الجرائم الموجودة في المجتمع وتأثيرها عليه وعلى أمنه، والتخفيف شرع لعدم تساوي الجرائم أو مقاصدها، فكل جريمة تختلف عن الأخرى من حيث الضرر الناشئ عنها، وبحسب قصد الجاني وتأثيره على المجني عليه، والتخفيف مع وجود بواعث الجريمة يعد قصوراً في تطبيق حد التعزير، لأن الغالب في الدافع للوقوع في الجرائم هو الوازع النفسي للجاني ورغبته في هذه الجريمة، وبواعث الجريمة المنتشرة الآن خطيرة جداً ولها تأثير سلبي كبير على الشباب والفتيات، بل وعلى جميع فئات المجتمع، وقد وصل ضررها إلى الأطفال الصغار الذين يشاهدون كل ما له تأثير على أخلاقياتهم وسلوكياتهم، ولابد من التعاون بين الجميع، مؤسسات وأفراد من أجل الوقوف أمام هذه المؤثرات، لأنه كلما ازدادت في الانتشار كلما ازداد ضررها، وكلما ضيق عليها كلما قلّ خطرها.

والمشاهد أن وسائل الإعلام الفاسدة لها تأثير على النشء تأثير مباشر لذلك وجب على الجميع التكاتف من أجل تحصين النشء منها ومن أثرها السيئ، ولابد أيضاً من فتح مجالات الأنشطة المختلفة للنشء لإشغالهم عن الباطل، وللأخذ بأيديهم لما فيه نفع لأنفسهم ولبلادهم، ويجب الانتباه للشباب وفتح مجالات العمل المختلفة لهم،لأن هذا هو الأساس لاستثمار طاقاتهم في العملية الإنتاجية والاستفادة منهم لشغل جميع الوظائف والأعمال التي تنفعهم دينياً ودنيوياً، وكلما قلّ وقت فراغ الشباب كلما قلت سلبياتهم، وكلما طال كثرت سلبياتهم ومشاكلهم.

* نود من فضيلتكم كلمة أخيرة تختمون بها هذا اللقاء..

معلوم لدى الجميع أن أثر تطبيق الحدود والتعزيرات واضح وجلي، وما تحقق من استقرار الأمن وإصلاح المجتمع خير شاهد على ذلك، وإن كان الهدف من وضع العقوبة هو محاربة الجريمة ومنع وقوعها أو تقليله، فإن الإسلام قد بلغ في هذه الغاية مبلغاً لم يصل إليه تشريع قبله أو بعده، وذلك أنه حارب الجريمة قبل وقوعها، ثم قضى عليها بعد وقوعها قضاءً يذهب أثرها ويقلل مضارها.

والإسلام سلك عدة طرق من أجل ذلك نبينها فيما يلي:

أولاً: التربية:

وذلك بإعداد أجيال قوية المناعة ضد جراثيم الجرائم، ثم بإحاطة هذه الأجيال بتربة صالحة لوقايتها من العدوى، لذلك فقد أمر بأن يكون الإيمان هو الأساس في اختيار الزوجين الذين هما أصل الأسرة، حيث إن الوالد إذا كان صالحاً في نفسه كان قدوة حسنة لأولاده، فيثمر ذلك نشأة صالحة لهم، وهكذا المرأة.

والإسلام أمر بتعليم الأولاد مكارم الأخلاق، وتعويدهم عليها، والمحافظة على الدين الذي هو أساس صلاح الأجيال بعد فضل الله تعالى.

ثانياً: ربط التربية بالموعظة:

التي تؤثر في القلوب وتملؤها بتقوى الله تعالى وخشيته، ومراقبته، والرغبة في مرضاته طمعاً فيما عنده من الثواب العظيم، والخوف من الوقوع في المآثم حتى لا يعاقب عليها بالعقاب الأليم.

ثالثاً: رقابة جماعة المسلمين:

وهي واجبة على كل قادر من أفراد المجتمع، ومع هذه الرقابة العامة رقابة خاصة بطائفة من المؤمنين يقومون بها احتساباً، ولذلك عني الإسلام بالرقابة الحسية دعماً للرقابة المعنوية للأفراد النابعة من ضمير المؤمن، فالرقابة الحسية تمنع إشاعة الفاحشة، وتمنع تفشي الأخلاق السيئة اقتداءً بفاعليها إذا ما سكت عنهم المجتمع ولم ينكر عليهم، ولم يخل دونهم ودون ما يقترفون من مآثم.

رابعاً: فإذا ما اقتحمت هذه الخطوط الدفاعية كلها ووقعت الجريمة كان لابد من تلافي خطرها والقضاء على أثرها،

وما تحدثه من مضار وذلك بالعلاج الحاسم مع الحزم في تطبيقه مهما كان فيه من الشدة والقسوة حفاظاً على المجتمع، واحتياطاً لأمنه واستقراره، وذلك هو ما تكفلت به الحدود الشرعية وربما يكون ذلك هو السبب الأعظم فيما تضمنته من القسوة على مرتكبي الجرائم، حيث تبين من اقتحامهم لخطوط الدفاع الأولى أن قلوبهم تجردت من الرحمة، ولم ترهبها التهديدات والوعيد الشديد فلم يكونوا أهلاً للرحمة، بل كانت الرحمة بهم نوعاً من الظلم لأنفسهم والغبن للمجتمع، لأنهم قد انسلخوا من الإنسانية، وماتت ضمائرهم أو مرضت نفوسهم وضاع ماء الحياة من وجوههم، وإنما جزاء الميت أن يدفن، وجزاء العضو المصاب أن يبتر حفاظاً على سلامة الجسم كله من أن يسري إليه عدوى الداء، فلا ينفع فيه الدواء.

وفي ختام هذا اللقاء أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وجوده وفضله أن يحفظ علينا نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ أمة الإسلام من مكر الأعداء، وأن يثبتنا على الإسلام حتى نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.