خطبة بعنوان: (فضل الحج ونعمة المبادرة إليه) بتاريخ 20-11-1436هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: الآية 18).

عباد الله: تتوالى الأيام والليالي، ويفيض الله جل وعلا على عباده بفضله، وعطائه وكرمه، فلا يمر زمان إلا وفيه عبادة تتلو عبادة، ويترتب على كل عبادة من تلك العبادات أجورٌ عظيمة، ومن تلك العبادات التي عظمها الله تعالى، وأمر بها عباده فريضة الحج التي تعتبر ركناً عظيماً من أركان الإسلام، ومن أفضل العبادات وأجل القربات، فرضها الله جل وعلا على عباده المسلمين منذ نداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى وقتنا الحالي، فقال جل وعلا:{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(الحج: الآية 27)، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 97).

ولا يزال المسلمون بحمد الله تعالى يلبون النداء، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ولن ينقطع الحج أبداً ما دام على الأرض عباد موحدون.

وقد حجَّ نبينا صلى الله عليه وسلم حجَّة الوداع بالمسلمين في السنة العاشرة من الهجرة استجابة لأمر ربه جلَّ وعلا، وعلَّم أمته كيفية أداء هذه الفريضة، بفعله وقوله:(لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)(رواه مسلم).

وقد رغَّب نبينا صلى الله عليه وسلم في الحج، وأبان بعض فضائله، وما أعد الله جل وعلا لمن حج على الوجه المطلوب، ومن تلك الفضائل:

أولاً: دخول الجنة؛ وهذا من أعظم المطالب التي يتمناها كل مسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم مبشراً:( الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)(متفق عليه).

ثانياً: نعمة التطهر من الذنوب والمعاصي قبل لقاء الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)(رواه البخاري)، وفي رواية عند مسلم:(مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).

ثالثاً: أنه من أفضل الأعمال وأجل القربات؛ فقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:(الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:(حَجٌّ مَبْرُورٌ)(رواه البخاري، ومسلم).

رابعاً: أنه يعدل الجهاد في سبيل الله؛ وينوب عنه لمن لا يقدر عليه ومن لا يُكلف به.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ:(لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)(رواه البخاري).
خامساً: أن الحج مع العمرة ينفيان الفقر والذنوب؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا، تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ، خَبَثَ الْحَدِيدِ)(رواه ابن ماجة، والترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة).

فما أعظم هذه النعمة التي امتن الله جل وعلا بها على عباده، لمن علم قدرها، وأداها كما أمر الله بها.

عباد الله: ينبغي على كل مسلم مستطيع لم يؤدي تلك الفريضة العظيمة أن يتقي الله في نفسه وألا يحرمها هذا الخير، وأن يبادر إلى أداء تلك الفريضة؛ فنحن بحمد الله نعيش في أمن وأمان، ورغد عيش، وتآلف بين الراعي والرعية، وقد يأتي يومٌ يَعْجَزُ فيه أحدنا عن الحج بعد ما كان ميسراً وسهلاً عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ)(رواه أحمد، وابن ماجة، وحسنه الألباني).

وعلى كل ولي أمر عنده أولاد وبنات لم يحجوا أن يعينهم ويشجعهم على الحج، فقد أصبحت الأمور ميسرة جدا خاصة بعد تحديد أسعار الحملات التي سوف تقوم بنقل حجاج الداخل، فهي بين حملات ميسرة، أو مخفضة، أو متميزة.

فمتى توفرت الشروط في المسلم أو المسلمة بأن كان بالغاً عاقلاً حراً مستطيعاً ببدنه وماله، ووجد المحرم للمرأة فعليه المبادرة بأداء فريضة الله لبراءة ذمته.

ولكن حذار حذار من الكذب والتحايل والحج من دون تصريح لما في ذلك من المخالفة والوقوع في الإثم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) } (آل عمران: ). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن البلاء سُنَّة الله الجارية في خلقه؛ وقد قضى الله جلَّ وعلا على كل إنسان نصيبه من البلاء؛ فلا مفر ولا محيص من ذلك، ولن يخرج من هذه الدنيا إلا إذا أصابه ما قدَّره الله عليه، قال تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}(الإنسان:2، 3)، فمنهم من يصبر ويسلم ويرضى بقضاء الله وقدره، ومنهم من يجزع ويتسخَّط ولا يرضى بقضاء ربه. فعلى كل مُبتلى أن يهوِّن على نفسه، وأن يعلم أنه مهما اشتد البلاء فسوف يأتي الفرج من الله لا محالة. كان أحد السلف رحمه الله إذا نزل به البلاء، قال: “سحابة صيف ثم تنقشع”.

ولن يحصل المسلم على الصبر إلا بتدريب نفسه عليه، استجابة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم:(ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر) (متفق عليه)، وعلى قدر إيمانك، وقوة صبرك ويقينك، وحسن ظنك بربك يكون استعدادك للبلاء أقوى، ويكون الأمر عليك هيناً بإذن الله تعالى .

عباد الله: ومن أسباب الصبر عند نزول البلاء:

أولاً: تيقنك بأن الله جل وعلا ابتلاك ليُهذبك لا ليُعذبك. وأن هذا البلاء كفارة وطهور من الذنوب والمعاصي. قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه) (متفق عليه).

ثانياً: أنه دليل على محبة الله لك، فقد قال صلى الله عليه وسلم:( إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ)(رواه أحمد وغيره).

ثالثاً: تلقي البلاء بالرضا بقضــاء الله وقدره، قال تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157].

رابعاً: أنك بهذا البلاء يُبلغك الله تعالى المنازل العالية في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)(رواه أبو يعلى وابن حبان، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حديث حسن صحيح).

خامسًا: تذكَّر أحوال من هو أشد منك بلاءً ممن ابتلوا في أنفسهم أو في أهليهم،.فمن ينظر إلى بلاء غيره يهون عليه بلاؤه.

سادسًا: معرفة الثواب المترتب على صبرك، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر: 10)، وأن ذلك يهون عليك كل بــلاء.

سابعًا: معرفة أن الدنيا دار كدر وعناء ومشقة، فهي بمثابة القنطرة التي يعبرها العبد إلى الدار الآخرة.

ثامنًا: أن تحفظ لسانك عن كثرة التشكي إلا لربك جلَّ وعلا، فهو سبحانه بيده الأمر من قبل ومن بعد. قال تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ..}(يوسف: 86).

تاسعاً: الاستعانة بالله واللجوء إليه، وطلب العون منه، والثِقة في موعوده، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(الشرح: 5، 6).

عاشراً: تجنب الغضب والتسخط عند نزول البلاء، قال تعالى:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48]

أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بحج هذا العام، وأن يحفظ حجاج بيت الله تعالى، وأن ييسر لهم حجهم، وأن يمن علينا وعليكم بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 20-11-1436هـ