خطبة بعنوان: (مشاهداتي في حج عام 1436هـ) بتاريخ 18-12-1436هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج: )، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فهي وصيته جل وعلا للأولين والآخرين، قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}(النساء: الآية).
عباد الله: لقد منَّ الله جل وعلا على عباده في هذا العام بموسم عظيم، تغفر فيه الذنوب، وتمحى فيه الخطايا، وتذوب فيه الأجناس والألوان، وتتجمع فيه القلوب والأبدان، ويلبي الجميع فيه بنداء التوحيد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فنسأل الله جل وعلا بعظيم فضله وجوده وكرمه أن يتقبل من الحجيج حجهم، وأن يعظم أجورهم، وأن يغفر ذنوبهم، وأن يرفع درجاتهم.
في هذا الموسم العظيم ترى وفود الحجيج في المواقيت وفي طريقهم إلى مكة ملبين منيبين خاشعين فرحين مستبشرين، خلعوا عنهم لباس الدنيا، وتركوا أهليهم وأموالهم وأعمالهم، مُيمِّمين وجوهم قبل بيت الله الحرام، راغبين في نيل المغفرة من الله، راجين موعوده وجزيل ثوابه.
وإني أوصيهم ونفسي أن يولوا مسألة قبول العمل بالاهتمام، وأن يستصغروا ما قاموا به في جنب عظيم فضل الله ونعمته، وأن يعودوا بعد حجهم خيراً مما كانوا قبله، وأن يفتحوا صفحة جديدة مع خالقهم يصدقون فيما يستقبل من حياتهم ليتنافسوا بالأعمال الصالحة التي ترضيه عنهم وتوصلهم إلى جنته ورضوانه.
عباد الله: لقد شاهدت من خلال رحلتي في حج هذا العام 1436هـ مشاهد عظيمة مفرحة، ومن تلك المشاهد التي رأيتها:
1ـ مشهد الحجيج وقد أتوا من كل فجٍّ عميق على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم وأعمارهم، بذلوا النفيس والغالي وقطعوا الفيافي والبحار وتحملوا المشاق الصعبة، من أجل الوصول إلى بيت الله الحرام، وأداء منسك الحج في هذا العام، تلبية لنداء أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (الحج: الآيتان 26، 27). واتباعاً لهدي حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم. تلبيتهم واحدة، وشعارهم واحد، ولباسهم واحد، يدعون رباً واحداً، ويؤدون نسكاً واحداً، فسبحان من جمعهم، ووفقهم لأداء هذه الشعيرة العظيمة.
2ـ ومما رأيته في يوم التروية ويوم عرفة وليلة مزدلفة سهولة التصعيد وتفويج الحجاج وترتيب أماكن السيارات والحافلات ووضع العلامات والأسماء والاتجاهات.
3ـ وكذلك ما رأيته بعد المبيت بمزلفة عند توجه الحجاج لرمي جمرة العقبة وعشرات الآلاف يسيرون على أقدامهم في يسر وسهولة في منظر مهيب، ودون عناء أو مشقة.
4ـ وهكذا ما رأيته من تلك الجموع العظيمة وهي تتجه إلى الحرم في يسر وسهولة لأداء طواف الإفاضة والسعي، ورأيت رجال أمن هذه البلاد المباركة وهم ييسرون على الحجاج طريقهم، ويسهلون لهم الصعاب، ويدلونهم على الاتجاهات الصحيحة، ورأيت بأم عيني هؤلاء رجال الأمن وهم يعينون الضعيف ويساعدون العاجز، ويدفعون العربات في الأماكن الصعبة فجزاهم الله عنا خيرا.
5ـ وشاهدت حرص الدعاة وطلبة العلم على تعليم الناس العقيدة الصحيحة، والعبادة المستقيمة، والأخلاق الفاضلة في تعامل كريم. بعضهم يجوب المخيمات ويتنقل بينها، وبعضهم ثابت في مخيم يوجه ويعلم ويرشد، وألسنة الحجاج تلهج بالثناء والدعاء لهم، وهؤلاء الدعاة منهم الرسميون وغيرهم فجزى الله كل محتسب خيراً، ووفقهم للعلم النافع والعمل الصالح.
6ـ وهكذا ما رأيته من تعامل رجال الأمن مما أثلج صدري، ولا أخص قطاعاً دون غيره، بل تعاملت مع الطلاب في الكليات والعسكرية ومن فوقهم من الضباط إلى رتبة لواء، فوجدت الخلق الكريم، والتعامل الراقي، والابتسامة العريضة، وهم يتسابقون لخدمة الحجيج، ويعتبرون ما يقومون به تشريفاً لهم. ولذا كسبوا قلوب الحجيج، ولا تستغرب تلك الدعوات الصادقة ترتفع بها الأصوات من هنا وهناك أن يحفظ الله هذه البلاد وقيادتها ورجال أمنها.
ويوم أن يكون التعامل بهذه الصورة نحقق توجيهات قيادتنا الرشيدة بأن نجعل خدمة الحجاج شرفاً لنا ومن أهم الأولويات عندنا. فجزى الله كل من ساهم وأعان وأرشد كل خير، وبارك في أعمارهم وأرزاقهم وذرياتهم.
7ـ وما رأيته أيضاً من تعاون الحجيج في التيسير على بعضهم في الطرقات، والحرص على مساعدة الضعفاء منهم، وفسح الطريق لأصحاب العربات ممن يحملون كبار السن، وتلك الابتسامات المشرقة الرقراقة التي كانت تخرج من وجوههم لبعضهم البعض، وصدق رسول صلى الله عليه وسلم حين قال:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(رواه مسلم). فنحمد الله جل وعلا على هذه النعم العظيمة ونسأله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن ينصر دينه وأوليائه إنه سميع قريب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(البقرة: 144).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن الأحداث التي تصيب الأمة في كل زمان ومكان
ـ ومن ذلك حادث التدافع في مشعر منى ـ، ينقسم الناس حيال تقييمها إلى أقسام:
فَقِسمٌ من الناس صاحب هوى وقلب مريض ينظر بالعين السوداء ولا يبصر إلا السلبيات، وهؤلاء يشوهون الصورة، ويبطنون الشر، ويكتمون الخير، لا كثَّر الله في الأمة أمثالهم.
وقِسمٌ من الناس يقلبون الحقائق، ويصطادون في الماء العكر، ويشاركون في المصيبة لكنهم يرمون بها على غيرهم، وينسبون شيئاً من تصرفاتهم إلى الآخرين، ويظهرون ما لا يبطنون، وهؤلاء أسيادهم المنافقون، وهم شوكة في قلب الأمة قديماً وحديثاً، أصحاب نوايا سيئة، ومقاصد دنيئة، لا يعرفون عدلاً ولا إنصافاً، ينشرون الكذب، ويقلبون الحقائق، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، لكن سرعان ما ينكشفون، ويتبين أمرهم، عاملهم الله بعدله وفضحهم في جوف بيوتهم.
وقِسمٌ من الناس يخوضون في هذه المصائب بغير علم، ويصدقون الإشاعات والأقاويل الكاذبة، ينقلون الأخبار من غير تمحيص، ويتحدثون في المجالس ولا يكترثون بالنتائج، وما علم هؤلاء أن كل شيء مقيد ومكتوب، وصدق الله العظيم { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}(الإسراء: الآية 36).
وقِسمٌ من الناس وهم الصفوة وهم الوسط، أهل العدل والإنصاف، وهؤلاء عملوا بالأسباب، وبذلوا ما يستطيعون للوقاية من المصائب وعلاجها بعد وقوعها، ولكن قدر الله نافذ، وليس لهم حيلة في دفع ما قدره الله، وهؤلاء اعتبروا هذا القدر ابتلاءً وامتحاناً لهم، فصبروا واجتهدوا في تحمل ما كتبه الله، يرجون ما أعده الله للصابرين، وصدق الله العظيم:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155ـ 157).
عباد الله: لقد كدر حادث التدافع على الحجاج وغيرهم، ولكن عند التأمل حول هذا الحدث يتبين للمسلم أن قدر الله نافذ، وأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر مهما كانت الأسباب المبذولة، فرحم الله من اصطفاهم الله في هذا الحادث، وشفى الله المصابين.
ومما يؤلم حقاً ما يفعله بعض مرضى القلوب الذين ملأ الحقد قلوبهم، فوظفوا هذا الحدث في النيل من هذه البلاد وقيادتها ومواطنيها، وهم يظنون أنهم بذلك يصلون إلى شيء من مآربهم في التشكيك في الجهود المباركة التي تبذل لخدمة الحجاج والمعتمرين وزوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن هيهات أن يتحقق لهم ما يأملون، فقد بان الصبح لذي عينين وعرف الناس أصحاب المقاصد السيئة، ولمسوا آثار تلك المشاريع العملاقة في الحرمين الشريفين، وبلادنا لا تريد من أحد جزاء ولا شكورا، ولكنها ترجو ذخر ما تقوم به عند الله جل وعلا. هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 18 /12 /1436هـ