خطبة بعنوان: (توجيه وتنبيه للوقاية من الأمراض) بتاريخ 5-12-1436هـ
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}(الحج: )، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فهي وصيته سبحانه للناس كافة، كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}(النساء: ).
عباد الله: لقد ظهرت في عصرنا الحاضر أمراض متنوعة وأوبئة بمسميات غريبة، لم نسمع عنها من قبل في آبائنا ولا أجدادنا الأولين، أصابت كثيراً من الخلق، والغالب أن تلك الأمراض لا تنتشر إلا في بلاد العهر والفساد والانحلال الأخلاقي، وقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (وما أعلن قوم الفاحشة إلا عمتهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)(رواه ). فإذا فرط العباد في تعظيم الله وطاعته، وكثر منهم الفساد، وحل الظلم مكان العدل، والخيانة محل الأمانة، فلينتظروا البلاء بعد العافية، والفقر بعد الغنى، والذلة بعد العزة، والضعف والهوان بعد القوة. وصدق الله تعالى إذ يقول:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الروم: 41)، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30).
يقول ابن القيم رحمه الله: (ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص, ما يجلب عليهم من الآلآم, والأمراض, والأسقام, والطواعين , والقحط , وسلب بركات الأرض , وثمارها ونباتها , وسلب منافعها , أو نقصانها أموراً متتابعة يتلو بعضها بعضا, فإن لم يتسع علمك لهذا فأكتفي بقوله تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }(الروم:41)(زاد المعاد 4/332ـ 334).
ففيروس يصيب المرء لا يرى بالعين المجردة صار مصدراً للرعب والفزع للبشرية جمعاء لأن الله جل وعلا يريد أن يرينا ضعفنا وضعف علمنا وعجز أجهزتنا فمهما أوتينا من تقدم في الطب ودقة في الفحص وسرعة في الكشف تأتي مثل هذه الأوبئة لتقول لنا { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا}(الإسراء: 85)، ولتقول لنا:{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ولتعلمنا {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}(القمر: 31).
فهذا الفيروس المسبب لهذا المرض خلق من خلق الله فهل يستطيع أحد من الخلق أن يضاهي خلق الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(الحج: 73).
عباد الله: لقد أشغلت قضية مرض كورونا والتي يطلق عليها (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية) كثيراً من الناس في بلادنا، ولا شك أنه مرض كغيره من الأمراض يقدره الله جل وعلا على عباده متى شاء وكيف شاء، فينبغي على كل مسلم أن يأخذ بالأسباب التي بينها أهل التخصص للوقاية من هذا المرض قبل وقوعه، وأن يتداوى بما أباح الله له إذا أصيب به، وأن يعتصم بالله جلّ وعلا وأن يتجنب الخوف والهلع، فلن يكون في هذا الكون شيء إلا بقضاء الله وقدره.
وإليكم بعض التنبيهات حول هـذا الموضوع أختصرها فيما يلي:
الأول: يجب على كل مسلم أن يحسن الظن بربه، وأن يتوكل عليه حق التوكل، وأن يعتقد اعتقادا جازماً أنّ الأمور كلّها بيده جل وعلا، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن يسلم لقوله جل وعلا:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(التغابن:11). وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي).
الثاني: يجب على المسلم أن يتلقى ما يصيبه من تلك الأمراض بالصَّبْر والاحتساب، فهو خير له من اليأس والقنوط، وأن يستبشر بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:155-157)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم(مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)(رواه البخاري).
الثالث: أن يأخذ المسلم بأسباب الوقاية من الأمراض، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ)(رواه ابن ماجة)، وقوله صلى الله عليه وسلم (مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ)(رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم(اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت)(رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وإذا قدَّر الله تعالى له المرض فعليه بطلب التّداوي، والأخذ بأسباب الاستشفاء، التي بينها أهل الطب في مجالهم، وهذا من حسن التّوكّل على الله سبحانه وتعالى .
الرابع: يجب على كل مسلم أن يتجنب نشر ما يسبب الخوف والهلع لإخوانه المسلمين تجاه هذا المرض، وأن يحذر من الشائعات التي تطلق وتروج للتهويل من خطورته, فقد قال صلى الله عليه وسلم:(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)(رواه مسلم).
الخامس: علينا جميعا أن نتقي الله تعالى في أمر ديننا، وأن نتعاون على الخير، وأن نتجنب الشر، وأن نحافظ على نعم الله علينا مما نعيش فيه من أمن وأمان، واستقرار ورغد عيش واجتماع الكلمة وذلك بشكر المنعم جل وعلا، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. أسأل الله تعالى أن يلبسنا وإياكم لباس الصحة والعافية، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (الحديد: 22، 23).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن بلادنا ولله الحمد والمنة تبذل جهودا كبيرة في الوقاية من هذا المرض، وتوعية الناس بذلك عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وعمل لقاءات ومحاضرات، ووضع العلاج اللازم له، فلا بد من التعاون بين الجميع من أجل الحماية من هذا المرض وتقليل أضراره وأخطاره.
ومن تلك الجهود المبذولة ما صدر عن اللجنة الدائمة للإفتاء في بلادنا برئاسة سماحة مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء والرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ حيث جاء في الفتوى ما نصه:
” أن اللجنة ترى منع إدخال الإبل إلى المشاعر والاكتفاء بذبح البقر والغنم في الهدي والأضاحي والفدية وعدم ذبح الإبل أو إدخالها إلى المشاعر وما حولها تجنباً لانتقال العدوى بهذا المرض وانتشاره بين الحجاج، ما يترتب عليه إلحاق الضرر بهم ونقل المرض إلى بلدانهم”.
وبينت اللجنة: أن ذلك يأتي “نظراً لتزامن زيادة حالات الإصابة بمرض كورونا في هذا الوقت مع بدء موسم الحج هذا العام، وحيث أن الحجاج وعمال المسالخ والجزارين وغيرهم قد يباشرون ويتعاملون مع الإبل في الهدي والأضاحي والفدية فقد ينتقل الفيروس إليهم، ثم ينتقل منهم إلى بقية الحجاج والمخالطين لهم، وقد أثبتت الدراسات والواقع انتشار العدوى بسرعة كبيرة داخل المستشفيات وأن نسبة الوفاة عند المصابين بالفيروس عالية”.
وأضافت اللجنة: “ونظراً للأعداد الكبيرة من الحجاج وازدحامهم ووجود تقارب بينهم في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، فإنه يخشى من انتشار المرض بين الحجاج بسبب تقاربهم وتزاحمهم، خصوصاً أن حكومة خادم الحرمين الشريفين ممثلة في لجنة الحج العليا تولي صحة الحجاج عناية كبيرة جداً وأن من أهم الأمور في هذا الموضوع العناية والاهتمام بالجانب الوقائي قبل العلاجي”.
وأكدت اللجنة، أن أحاديث نبوية كثيرة، تدل على مشروعية أخذ الوقاية والحذر من المرض والبعد عن أسباب انتشاره كما تدعو اللجنة المخالطين للمصابين بهذا المرض بمراعاة الأحوال بتأجيل حجهم هذا العام إلى الأعوام المقبلة، حتى لا يكونوا سبباً في العدوى وانتشار المرض” .
أسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 5-12-1436هـ