110 – رسائل في الفتوى وآثارها

الخميس 20 رجب 1445هـ 1-2-2024م

110 –  رسائل في الفتوى وآثارها pdf

 

 

رسائل في الفتوى

وآثارها

 

تأليف

أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

عضو الإفتاء بالقصيم

والأستاذ بكلية التربية بالزلفي جامعة المجمعة

  

دار التدمرية

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

إنَّ الحمدَ لله، نَحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله من شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه.

أَمَّا بَعْدُ:

فهذه مجموعة من الرسائل حول الفتوى، وهي رسائل محكمة تم تحكيمها في عدد من الجامعات ومراكز البحوث، رأيت نشرها مجموعة نزولًا عند رغبة بعض طلاب العلم.

أسأل الله جل وعلا أن ينفع بها كاتبها وقارئها والمطلع عليها، وأن يجعلها ذخرًا لي ولوالدي وأحبابي.

وألتمس من كل من له ملاحظة أو اقتراح إبداء ما يراه حسب العنوان المنشور، حامدًا لربي سبحانه وشاكرًا لفضله وإنعامه، ومصليًا ومسلمًا على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

                                                                                                                         المؤلف

                                                                                                    عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

                                                                                                            الزلفي:  8/ 11/ 1437هـ

المحتويات

1-   الفتوى وأهميتها.

2-   أثر الفتوى في المتغيرات الإعلامية.

3-   الفتوى وأثرها في المحافظة على الهوية الإسلامية.

4-   الحجر في الفتوى لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان.

5-   من أحكام الفتوى.

6-   الفتوى والاجتهاد.

 

الفتوى وأهميتها

والمقدم لمؤتمر الفتوى وضوابطها

المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة 

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن أمتنا الإسلامية في العصور المتأخرة بدأ يدب فيها مرض فتاك، وداء عُضال، يؤثر على الأخضر واليابس، وعلى الصحيح والسقيم، وعلى الكبير والصغير حتى غدا الناس يتقلبون بين أهل الكلام والأهواء، الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فبثوا سموم فتاويهم بين الناس ليهلكوا الحرث والنسل، وما ذاك إلا بسبب ضعف إيمانهم، وتعلقهم بالدنيا، وحبهم لها، وشغفهم بشهواتها، وكم رأينا ممن يخرج على المسلمين من هؤلاء ليفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([1]).

ولله دَرُّ ابنِ القيم رحمه الله حيث يقول: “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السِّيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله؛ وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسمواتِ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عدتَه، وأن يتأهب له أُهبتَه، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصرُه وهادِيه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}[النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤُول غدا وموقوف بين يدي الله”([2]).

وبهذا تُعلم أهميةُ الفتوى وضرورتُها للناس، وأن شأنَها عظيم ومقدارَها جليلٌ، وحاجة الناس إليها في جميع شؤونهم، ومن أجل ذلك وجب على المسلمين أن يجتهدوا في معرفة أهمية الفتوى، ومن الذي يقوم بها وصفاته، وما هي أنواع الفتوى ومجالاتها، وشروط من له الإفتاء حتى يكونوا على بصيرة بذلك لئلا يقعوا فريسة في أيدي أصحاب الهوى والرأي الذين ضلوا وأضلوا، وتسببوا في إغواء الكثير من المسلمين.

وليسمع هؤلاء الذين يُفتون الناس بغير علم قولَ الله فيهم {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[يونس: 59، 60]، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي الله يوم العرض الأكبر فيسألهم عما أفتوا به، كما قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 24- 26].

ومما هو واجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن يقف في وجوه هذه الفئة حتى لا يكونوا سببًا في فتنة الناس وإضلالهم، وإبعادهم عن صراط الله المستقيم.

ولقد وجه لي مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة كتابة بحث حول هذا الموضوع الهام والذي يحتاج إلى معرفته جميع المسلمين لما له من أهمية عظمى في حياتهم الدنيا والآخرة، ولضرورة التبصر بمن يتسابقون للتصدر للفتوى ليلا ونهارًا على القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وليتم التعرف على من يفتِي مستندًا على العلم الشرعي ومن يفتِي تبعًا لهواه وآراء الناس.

فاللهَ تعالى أسأل أن ينفع بهذا البحث كاتبَه وقارئَه وكلَّ من يطلع عليه، وأن يجعله خالصًا لوجه، وأن يمن علينا وعلى المسلمين بالثبات على دينه، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

الهدف من البحث:

هو إيضاح حقيقة الفتوى وأهميتها ومجالاتها وعظم شأنها، وشروط من له الإفتاء وصفاته، وكيف كان منهج السلف الصالح ومن سار على دربهم في الفتوى والإفتاء، وخطورة الفتوى وكثرة من يتعرض لها من المتأخرين لما له من الأثر على عقيدة المسلم ودينه، وضرورة الوقوف في وجه من يتعرض للفتوى من بعض المتأخرين الذين يناقضون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بحيث يرى القارئ أن من يتصدر للفتوى سوف يتحمل تبعاتها يوم العرض على الله تعالى.

نسأل الله تعالى أن يعيننا على السير على نهج السابقين في الصدق واليقين وخشية رب العالمين، وأن يُثبتنا على صراطه المستقيم، وأن يُبصرَنا بأمر ديننا، وأن يكفيَنا شرَّ أنفسنا، وأن يَرحم علماءَنا السابقين الذين أفنَوا حياتهم في تعليم الناس الخيرَ، وأن يحفظَ علينا علماءنا ومشايخنا اللاحقين، وأن يُمدهم بعونه وتوفيقه، والحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين.

خطةُ البحثِ:

اشتمل البحث على عدةِ مباحثَ ومطالبَ، ويتفرع عنها بعض المسائل والفروع التي تتعلق بها:

المبحث الأول: حقيقة الفتوى ومجالاتها، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: الفتوى ومكانتها في الإسلام.              

المطلب الثاني: أركان الفتوى (المستفتي – المفتي – الفتوى).        

المطلب الثالث: أنواع الفتوى (الفتوى بالرأي – الفتوى بالتقليد – الفتوى بالدليل والاجتهاد).

المطلب الرابع: مجالات الفتوى.

المبحث الثاني: عظم شأن الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: عظم شأن الفتوى في القرآن الكريم.        

المطلب الثاني: عظم شأن الفتوى في السنة المطهرة.

المطلب الثالث: عظم شأن الفتوى عند السلف.   

المبحث الثالث: شروط من له الإفتاء، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: صفات المفتي.     

المطلب الثاني: الشروط الواجب توافرها فيمن يفتي.

الخاتمة.

المبحث الأول: حقيقة الفتوى ومجالاتها،

وفيه أربعة مطالب:

 

المطلب الأول:

الفتوى، ومكانتها في الإسلام: 

ا – تعريف الفتوى لغة:

اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوَى والفتاوِي، يقال: أفتيته فَتْوى، وفتيا إذا أجبته عن مسألته، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتوا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، والتفاتي: التخاصم، ويقال: أفتيتُ فلانًا رؤيا رآها، إذا عَبَرْتها له([3]).

ومنه قوله تعالى حاكيًا: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}[يوسف: 43].

والاستفتاء لغة:

طلب الجواب عن الأمر المشكِل، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: 22].

وقد يكون بمعنى مجرد سؤال، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}[الصافات: 11]، قال المفسرون: أي اسألهم([4]).

والفتوى في الاصطلاح:

تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه([5])، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها. فهي إبانة الأمر وإيضاحه، يقال: أفتى فلان فلانا إذا أبان له، وأوضح له الطريق أو المسألة، أو ما أشكل عليه من الأمور سواء أكان ما أشكل عليه لغويا أم شرعيا.

قال ابن فارس: “يقال أفتى الفقيه في المسألة إذا بيَّن حكمها، واستفتيت إذا سألتَ عن الحكم، ويقال منه فَتْوَى، وفُتْيَا”([6])، قال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 178]، وأفتاه في الأمر: أبانه وأوضحه([7]).

ب – حكم الفتوى:

ذكر العلماء أن الفتوى فرض كفاية، إذ لابد أن يكون بين المسلمين من يبين أحكام الدين للناس، ومعلوم أنه لا يحسن ذلك كل أحد، فوجب أن يقوم به من لديه القدرة على ذلك.

والفتوى لم تكن فرض عين على المسلمين لأن ذلك يتطلب الاجتهاد في تحصيل علوم شرعية جمة، فلو كلف بها كل مسلم لأفضى ذلك إلى تعطيل أعمال الناس ومصالحهم، لكنها فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

ومما يدل على فرضية الفتوى قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}[آل عمران: 187].

وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة: 122].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ)([8]).

قال المحللّي: “ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدين، ودفع الشبه، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما”([9]).

ج – مكانة الفتوى وأثرها:

الفتوى في دين الإسلام لها مكانة عالية، ومنزلة عظيمة، ومهمة جليلة، فهي أمر تولاه الله تعالى بنفسه، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 176]، وقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تولى هذا المنصب الذي كلفه الله به حيث قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44]، ثم علماء الصحابة من بعده، ثم العلماء الربانيون من بعدهم، فهي توقيع عن رب العالمين، فالمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم.

قال الإمام الشاطبي([10])رحمه الله: “فإن المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم فهو خليفته ووارثه، وفي الحديث: (الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)([11])، وهو نائب عنه في تبليغ الأحكام، وتعليم الأنام، وإنذارهم بها لعلهم يحذرون، وهو إلى جوار تبليغه في المنقول عن صاحب الشريعة، قائم مقامه في إنشاء الأحكام في المستنبط منها بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه شارع، واجب اتِّبَاعه، والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق”([12]).

قال ابنُ القيم رحمه الله: “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم وَالصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسَنَ الطريقة، مرضِيَّ السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟

فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وَكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}[النساء: 127] وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤل غدا وموقوف بين يدي الله”([13]). قال صلى الله عليه وسلم: (أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أجرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ)([14]).

ولذلك لما علم السلف – رضوان الله عليهم – مكانتها كانوا من عظم المسؤولية وخطورة الفتوى يكرهون التسرع في إجابتها، ويتدافعونها ويحجمون عنها، ويشددون النكير على من استشرف لها، وسارع فيها، وحرص عليها، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.

د – ضوابط الفتوى:

(1) يجب أن تتوافر في الفتوى لتكون محلا للقبول، اعتمادها على الأدلة الشرعية المعتبرة: من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز له مخالفتهما اعتمادا على غيرهما.

فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}[الأحزاب: 36].

ومن السنة: ما رواه الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشَرِيكِ بنِ سَحماءَ عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث اللِّعان وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ) (أي: ممتلئ الساقين) (فَهْوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ وَإنْ جَاءتْ بهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لهِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ) فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْلا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ)([15]).

قال ابن القيم رحمه الله: “يريد – والله ورسوله أعلم – أنه كان يَحُدُّها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به، ولكن كتاب الله فصل الحُكومةَ، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع”([16]).

فالفتوى الشرعية إذًا يجب أن تعتمد على كتاب الله تعالى، وسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا يَحسنُ بمن يفتي تبيينَ الدليل الشرعي، لأن لُبَّ الفتوى وقوتَها وجمالها هو الدليل.

وثالثهما الإجماع: وهو محل اتفاق علماء المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في واقعة، وهو حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا نَسخِه.

والدليل على حجية الإجماع، قول الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: 83].

ورابعهما القياس: وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة وردَ نصٌّ في حكمها في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم، وهو حجة شرعية أيضًا على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، كما أنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع وثبت أنها تساوي واقعة نص على حكمها في علة هذا الحكم فإنها تقاس بها ويحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعا ويسع المكلف اتباعه والعمل به.

ودليل حجية القياس قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59].

ولا يحسن القياس إلا فقيه النفس أصولي الطبع، وما لم يكن كذلك فإنه تغلبه الغفلة ويزل من أول وهلة.

(2) تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء: إن الفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته وحصل منها على مراده، فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسد له حاجة، ولا تحل له مشكلة، ولا تنقذه من معضلة، ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات وحل ما يعرض للإنسان من مشكلات.

ويجوز أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء بحيث يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه لفائدة يرى أنها تفيد السائل، فقد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقالوا له: إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ)([17]).

فقد بيَّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حِلِّيةِ ميتة البحر رغم أنهم لم يسألوا عنها لما في ذلك من عظيم الفائدة لهم.

وقد ذكر البخاري ذلك في صحيحه فقال: (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه)، ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: “ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مدارك السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدل على ذلك قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة: 189]. فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفيا ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن حكمه ذلك في ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج.

فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك، فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه، ولفظ سؤالهم محتمل فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ في النقص”([18]).

كما يجوز العدول عن موضوع السؤال أو الإمساك عن الجواب إذا ترتب على الجواب فتنة للسائل، وهذا يعتمد على كياسة وفطانة المفتي وقوة بصيرته بالسائل، فقد سأل رجل ابن عباس – رضي الله عنهما – عن تفسير آية، فقال له: “وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به؟” أي أنكرت هذا الحكم.

(3) سلامة الفتوى من الغموض:

يجب على المفتي تقديم الفتوى بأسلوب مبين، وكلام واضح قويم لئلا يكون فيها غموض يحير السائل، وقد وجه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم لذلك بقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[النور: 54].

(4) مراعاة حال الفتوى وزمانها ومكانها:

قد تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنيا على عُرف بلد ثم تغير هذا العرف إلى عرف جديد ليس مخالفًا لنص شرعي، وهذا مشاهد لما عليه المسلمون الآن، وخاصة مع وجود المتغيرات الكثيرة التي تعرض للمسلمين داخل بلدانهم وخارجها.

قال ابن القيم رحمه الله: “فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس، تصور له الظالم بصوره المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله”([19]).

غير أنه لا تصح مخالفة النصوص أو تأويلها تأويلا تعسفيًّا ولا تطويعها لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع أو تغير الزمان.

(5) التجرد من الهوى في المفتي والمستفتِي:

وهذه من أهمها أن تكون مأهمتجردة عن الأهواء، سواء كانت من المستفتي أو المفتي.

أما المستفتي: فقد يدفعه الهوى لتزيين الباطل بألفاظ حسنة ليغرر بالمفتي حتى يُسوغَ له ذلك، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل.

قال ابن القيم رحمه الله: “ينبغي للمفتي أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا، فقيها بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهُه في الشرع وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ”([20]).

وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشد لزومًا من المستفتي لأنه مخبر عن الله تعالى فإن أفتى بهواه مُوافقةً لغرضِه أو غرضِ مَن يُحابيه كان مفتريا على الله لقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

قال ابن القيم رحمه الله: “لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه، فيعمل به ويفتي به ويحكم به ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر”([21]).

هـ – أثر الفتوى الشرعية في الأمة الإسلامية:

معلوم أن الفتوى إذا كانت مؤصلة تأصيلا شرعيا خالية من التنطع، بعيدًا عن الأقوال الشاذة والضعيفة، قوية بالأدلة، مراعًى فيها رضا الحق، وملاحظًا بها مصالح الخلق، فإنها تترك آثارًا طيبة، ومن ذلك:

أولا: إزالة الجهل: فالفتوى عبارة عن سؤال المستفتي وإجابة المفتي وهي نوع من المدارسة العلمية، يتعلم من خلالها السائل أحكام دينه، وهو نوع من العلم الذي حض الله تعالى على تحصيله في كتابه الكريم، وفي سنة نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

ثانيا: العمل على تصحيح مسار الفرد والمجتمع: فالفتوى السليمة، تأخذ بأيدي الناس إلى طريق الجادة القويم، وتبعدهم عن البدع الذميمة، وتصحح مسارهم لئلا يزلوا، وتحذرهم من البدع لئلا يضلوا، وفي ذلك صلاح الفرد وسلامة المجتمع.

ثالثا: توثيق صلة الأمة بعلمائها: إن الفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها، وتربطهم بولاة الأمر في شؤُون دينها وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقود ركبه حملة أشرف رسالة.

رابعا: تبصرة طالب العلم: إذا وفق الله تعالى طلبة العلم إلى استفتاء العلماء المتمكنين، العاملين المخلصين، فإن آفاق المعرفة تتفتح أمامهم ينهلون من معينها، ويَرشفُون من حقائقها فتتنور بصائرُهم، وتنضج معارفُهُم، وقديما دل لقمان الحكيمُ ولدَه على منبع الخير حتى ينهل منه، فقال له: “يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء”([22]).

خامسًا: إعانة المسلمين على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الصحيح: فكلما كانت الفتوى سديدة ومعتمدة على الأدلة الصحيحة فإنها تكون أدعى على حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله وفي ذلك إحياء للسنن وإماتة للبدع.

المطلب الثاني:

أركان الفتوى (المفتي – المستفتي – الفتوى):

أولا: المفتي:

أ – تعريف المفتي لغة:

اسم فاعل من أفتى، فمن أفتى مرة فهو مفتٍ، ولكنه يحمل في الحكم الشرعي بمعنى أخصَّ مِن ذلك، قال الصيرفي: هذا الاسم موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلِمَ جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن عَلم مسألة وأدرك حقيقتها، فمن بَلَغ هذه الرتبة سمَّوْهُ بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما استفتي فيه([23]).

قال ابن الصلاح: “أما شروطه وصفته فهو: أن يكون مكلفًا مسلمًا ثقة، مأمونًا، منزهًا من أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط متيقظًا”([24]).

وقال ابن حمدان: “ومن صفته وشروطه: أن يكون مسلما عدلا مكلفًا فقيهًا مجتهدا يقِظًا صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به”([25]).

وقد بين ابن حمدان سبب تأليف كتابه القيم (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) بقوله: “عظم أمر الفتوى وخطرها، وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها وأقدم عليها الحمقى والجهَّال، ورضوا فيه بالقيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال، واكتفوا – بزعمهم – أنهم من العَدد بلا عُدد، وليس معهم بأهليتهم خط أحد، واحتجوا باستمرار حالهم في المُدد بلا مَدد، وغرَّهم في الدنيا كثرةُ الأمنِ والسلامة وقلة الإنكار والملامة”([26]).

فإذا كان هذا حال المفتين في عصره فكيف لو رأى عصرنا الذي تصدى فيه للإفتاء من لم يذق طعم العلم أصلا، ولم يعرف له فرعًا ولا أصلا، من هؤلاء الكُتَّاب الذين يَدَّعُون الفكر، والذين تربوا على ثقافة الغرب وأخلاقهم، فامتلأت الصحف من أقوالهم وآرائهم في الدين، فملؤُوا الأوراق ضلالًا، والقلوب شكوكًا، والمسلمين فَسادًا وتَفرقًا، حتى أصبح الناس شيعا وأحزابًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وما ذكرناه أخبرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله: (إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([27]).

لذلك فعمل المفتي من الضرورة بمكان إذا كان لائقًا لمكانته، متحملًا لمسؤوليته.

روي عن الإمام أحمد رحمه الله من رواية ابنه صالح أنه قال: “ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، عالمًا بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها”.

 وقال أيضًا في رواية ابنه عبد الله: “إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء ويتخير، فيقضي به، ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به فيكون يعمل على أمر صحيح”([28]).

وقال في رواية أبي الحارث: “لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة”.

 وقال في رواية حنبل: “ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم وإلا فلا يفتي”([29]).

ب – ما يلزم المفتي حين يخبر عن الحكم الشرعي في مسألة:

الأول: تحصيل الحكم الشرعي المجرد في ذهن المفتي:

فإن كان مما لا مشقة في تحصيله لم يكن تحصيله اجتهادًا، كما لو سأله سائل عن أركان الإسلام ما هي؟ أو عن حكم الإيمان بالقرآن؟ وإن كان الدليل خفيًا، كما لو كان آية من القرآن غير واضحة الدلالة على المراد، أو حديثًا نبويًا واردًا بطريق الآحاد، أو غير واضح الدلالة على المراد، أو كان الحكم مما تعارضت فيه الأدلة أو لم يدخل تحت شيء من النصوص أصلًا، احتاج أخذ الحكم إلى اجتهاد في صحة الدليل أو ثبوته أو استنباط الحكم منه أو القياس عليه.

الثاني: معرفة الواقعة المسؤول عنها:

بأن يذكرها المستفتي في سؤاله، وعلى المفتي أن يحيط بها إحاطة تامة فيما يتعلق به الجواب، بأن يَستفصل السائلَ عنها، ويسأل غيره إن لزم، وينظر في القرائن.

الثالث: أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسؤول عنها:

بأن يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، وذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعدادًا لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معينة خصوصية ليست في غيرها.

وليست الأوصاف التي في الوقائع معتبرة في الحكم كلها، ولا هي طردية كلها، بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردد بين الطرفين، فلا تبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا؟ فإذا حقق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لابد منه لكل مفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها عمومات ومطلقات، منزلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال التي تقع في الوجود لا تقع مطلقة، وإنما تقع معينة مشخّصة، فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلًا وقد لا يكون، وذلك كله اجتهاد.

ومثال هذا: أن يسأله رجل هل يجب عليه أن ينفق على أبيه؟

فينظر أولًا في الأدلة الواردة، فيعلم أن الحكم الشرعي أنه يجب على الابن الغني أن ينفق على أبيه الفقير، ويتعرف ثانيًا حال كل من الأب والابن، ومقدار ما يملكه كل منهما، وما عليه من الدين، وما عنده من العيال، إلى غير ذلك مما يظن أن له في الحكم أثرًا.

ثم ينظر في حال كل منهما ليحقق وجود مناط الحكم – وهو الغنى والفقر – فإن الغنى والفقر اللذين علق بهما الشارع الحكم لكل منهما طرفان وواسطة.

فالغنى مثلًا له طرف أعلى لا إشكال في دخوله في حد الغنى، وله طرف أدنى لا إشكال في خروجه عنه، وهناك واسطة يتردد الناظر في دخولها أو خروجها، وكذلك الفقر له أطراف ثلاثة – فيجتهد المفتي في إدخال الصورة المسؤول عنها في حكم أو إخراجها بناء على ذلك.

وهذا النوع من الاجتهاد لابد منه في كل واقعة – وهو المسمى تحقيق المناط – لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدم لها نظير، وإن فرضنا أنه تقدم مثلها فلابد من النظر في تحقيق كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد([30]).

ج – أثر الجانب الأخلاقي للمفتي على المستفتي:

إن الجانب الأخلاقي للمفتي له أثره الهام والضروري على المستفتِين، بحيث أن تطبيق المفتي لأوامر الشرع الحنيف على نفسه، وقيامه بالأمر والنهي، وظهور ذلك عليه يكون لذلك الأثر الطيب على قبول فتواه والعمل بها، ومن الأشياء التي ينبغي على المفتي التزامها ما يلي:

1- لابد للمفتي مع العلم الذي يحملُه أن يكون عاملًا به، وأن يكونَ مع العمل خشيةٌ، والعلم الذي لا يثمر خشية الله وتقواه لا قيمة له في ميزان الحق، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر 28].

2- أن تكون فتواه بما يعلم أنه الحق بما لديه من أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وحسبه أن يُرْضِي الله تبارك وتعالى.

3- رجوعه عن الخطأ إذا تبين له، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصرَّ عليه عنادًا وكبرًا، أو خجلًا من الناس، ولا إثم عليه في خطئه إذا لم يعلم به، لأنه مأجور عليه، وقد وجه عمرُ بنُ الخطاب([31])رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريِّ([32]) كتابًا قال فيه: “لا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء”([33]).

4- أن يكون صادق التوجه إلى الله، شديد افتقاره إليه، وحاجته إلى عونه وفضله، وأن يسأله الصواب في قوله وأن يجنبه الزلل فيه.

5- أن يُحِيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى إذا لم يجد لها جوابًا، ولا يجد في صدره حرجًا من ذلك، وهذا دأب سلفنا الصالح، وقد سُئلت عائشة أم المؤمنين([34]) عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سَلْ عليًّا([35])، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.

6- أن يكون متصفًا بالورع، والتواضع، ولين الجانب، وحسن البشر، وقوة الصبر على الإنصات للسائلين، وألا ينصرف عن السائل بوجهه حتى يستمع لحاجته، فكم كان للنبي صلى الله عليه وسلم من مواقف شتى، ومن ذلك: ما رواه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه جاء رجل من أهل البادية، قال: أيكم بن عبد المطلب؟ قالوا: هذا الأمغَرُ المرتَفِقُ، قال حمزة: الأمغرُ: الأبيض مُشرَب حُمرةً، فقال: إني سائلك فمشتد عليك في المسألة، قال: (فَقَالَ: إِنِّى سَائِلُكَ فَمُشْتَدٌّ عَلَيْكَ فِى الْمَسْأَلَةِ، قَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ وَرَبِّ مَنْ بَعْدَكَ، آلله أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِهِ، آلله أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِهِ، آلله أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهُ عَلَى فُقَرَائِنَا؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِهِ، آلله أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ اثْنَىْ عَشَرَ شَهْرًا؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِهِ، آلله أَمَرَكَ أَنْ يَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قَالَ: اللَهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي آمَنْتُ وَصَدَّقْتُ وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ)([36]).

د – صيغة فتوى المفتي:

ينبغي لسلامة الفتيا وصدقها وصحة الانتفاع بها أن يراعي المفتي أمورًا منها:

(1) تحرير ألفاظ الفتوى لئلا تُفهم على وجه باطل.

(2) ألا تكون الفتوى بألفاظ مجملة، لئلا يقع السائل في حيرة، كمن سئل عن مسألة في المواريث فقال: تقسم على فرائض الله عز وجل.

(3) يحسن ذكر دليل الحكم في الفتيا سواء كان آية أو حديثًا حيث أمكنه ذلك، ويذكر علته أو حكمته، و لا يلقيه إلى المستفتي مجردًا، فإن الأول أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم، وذلك أدعى للطاعة والامتثال، وفي كثير من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم([37]).

(4) لا يقول في الفتيا هذا حكم الله ورسوله إلا بنص قاطع، أما الأمور الاجتهادية فيتجنب فيها ذلك لحديث: (وَإذَا حَاصَرتَ أَهلَ حِصنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ الله فَلا تُنزِلهُمْ عَلَى حُكمِ الله، فإنَّكَ لا تَدْرِي أتُصِيبُ حُكمَ الله فيهِمْ أَمْ لَا؟)([38]).

(5) ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي مما يتعلق بسؤاله، ويتجنب الإطناب فيما لا أثر له، لأن المقام مقام تحديد، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف([39]).

وسنذكر لاحقًا شروط وصفات المفتي في المبحث الثالث، إن شاء الله تعالى.

ثانيًا: المستفتي:

ا – تعريف المستفتي:

هو الذي نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها.

ب – حكم الاستفتاء:

استفتاء العامّي الذي لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه، لوجوب العمل حسب حكم الشرع، ولأنه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام، أو يترك في العبادة ما لابد منه.

قال الغزالي: “العامي يجب عليه سؤال العلماء، لأن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لأنه يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطل الحرف والصنائع، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء ووجوب اتباعهم”([40]).

وقال النووي: “من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة اللياليَ والأيامَ”([41]).

وإذا لم يجد المكلف من يفتيه في واقعته فيسقط عنه التكليف بالعمل إذا لم يكن له به علم، لا من اجتهاد معتبر ولا من تقليد، لأنه يكون من باب التكليف بما لا يطاق، ولأن شرط التكليف العلم به، وقياسًا على المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة وتكافأت فلم يمكنه الترجيح، ويكون حكمه حكم ما قبل ورود الشرع، وكمن لم تبلغه الدعوة([42]).

ويجب على المستفتي معرفة حال من يفتيه بحيث إذا وقعت له حادثة وجب في حقه أن يسأل من يتصف بالعدل والعدالة، فعن محمد بن سيرين قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم”([43]).

قال النووي رحمه الله: “يجب على المستفتي قطعًا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفًا بأهليته، فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وانتصب للتدريس والإقراء، وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر، والصحيح هو الأول”([44]).

ويتخير المستفتي من يفتيه، فإن وجد المستفتي أكثر من عالم، وكلهم عدل وأهل للفتيا، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المستفتي بالخيار بينهم يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علمًا فيسأله، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل، واحتجوا لذلك بعموم قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43]، وبأن الأوَّلِينَ كانوا يسألون الصحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكنهم من سؤالهم.

وعن موسى بن يسار قال: “كان رجاء بن حيوة وعدي بن عدي، ومكحول في المسجد، فسأل رجل مكحولًا عن مسألة فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة”([45]).

ويلزم المستفتي إن اتفقت أجوبة المفتين العمل بذلك إن اطمأن إلى فتواهم، وإن اختلفوا فللفقهاء في ذلك طريقان:

فذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، وبعض الحنابلة، وابن سريج والسمعاني، والغزالي من الشافعية إلى أن العامّي ليس مخيرًا بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، ثم ذهب الأكثرون منهم إلى أن الترجيح يكون باعتقاد المستفتي في الذين أفتوه أيهم أعلم، فيأخذ بقوله ويترك قول من عداه.

قال الغزالي: الترجيح بالأعلمية واجب، لأن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع، والغلط أبعد عن الأعلم لا محالة.

وقال الشاطبي: “لا يتخير، لأن في التخير إسقاط التكليف، ومتى خيرنا المقلدين في اتباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات والهوى في الاختيار”.

وقال ابن القيم: وصاحب المحصول: “عليه الترجيح بالأمارات، فإن الحق والباطل لا يستويان في الفطر السليمة”.

وذهب البعض إلى أن الترجيح يكون بالأخذ بالأشد احتياطًا.

وقال الكعبي: “يأخذ بالأشد فيما كان في حقوق العباد، أما في حق الله تعالى فيأخذ بالأيسر”.

والأصح والأظهر عند الشافعية وبعض الحنابلة: أن تخير العامي بين الأقوال المختلفة للمفتين جائز، لأن فرض العامي التقليد، وهو حاصل بتقليده لأيّ المفتين شاء([46]).

ج – آداب المستفتي:

وينبغي على المستفتي التأدب ببعض الآداب مع الذي يستفتيه، ومن ذلك:

أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي، ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه، وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة.

فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: جاء رجل منا إلى أبي الدرداء أَمَرَتْهُ أُمُّه في امْرَأَتِهِ أن يفارقها، فرحل إلى أبي الدرداء يسأله في ذلك، فقال أبو الدرداء: ما أنا بالذي آمرك أن تطلق، وما أنا بالذي آمرك أن تمسك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلكَ البَابَ أَوِ احْفَظْهُ)، قال: فرجع الرجل وقد فارقها([47]).

وينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي، وأن يجلَّه ويعظِّمه لعلمه ولأنه مرشد له([48])، ولا ينبغي أن يسأله عند همّ أو ضجر أو نحو ذلك مما يشغل القلب([49]).

ويجوز للمستفتي أن يطالب المفتي بالحجة والدليل احتياطًا لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر له الدليل، وقال بعض الفقهاء لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالدليل.

ويكره للمستفتي كثرة السؤال، والسؤال عما لا ينفع في الدين، والسؤال عما لم يقع، وأن يسأل عن صعاب المسائل، وعن الحكمة في المسائل التعبدية.

ويكره له أن يبلغ بالسؤال حدَّ التعمق والتكلف، وأن يسأل على سبيل التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام لما في الحديث: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى الله الأَلَدُّ الْخَصِمُ)([50]).

فهذه بعض الآداب التي ينبغي على المستفتي أن يعمل بها من أجل الحصول على إجابة فتواه دون تقصير أو إفراط، فالواجب في طلب الفتوى هو الالتزام بما يوصل إلى صحتها.

د – حكم المستفتي إن لم يطمئن قلبه إلى الفتيا:

على المستفتي عندما يريد الحصول على حكم مسألة معينة، أو قضية خاصة به، أن يبحث عمن يجيبه، فإذا وجد من يجيبه وحصل على مقصوده ومراده فالأمر راجع له في قبول الفتوى أو لا، لكن يطرأ على بعض المفتين من التقصير في إجابة المستفتي، أو الشعور من جهة المستفتي بأن هذا المفتي لا يرتاح إليه في فتواه.

قال ابن القيم رحمه الله: “المستفتي لا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا)([51]).

ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه بجهل المفتي أو بمحاباته له في فتواه، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانيًا وثالثًا حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة”([52]).

ثالثًا: الفتوى:

سبق أن ذكرنا في المطلب الأول الفتوى ومكانتها في الإسلام، ومن أجل عدم الإطالة فلن نكرر الحديث عنها هنا، ولكن ستكون لنا وقفة مع خطورة الفتوى وبعض الأمراض التي تعتريها.

وقبل أن نبدأ في ذكر بعض الأمراض التي تعتري الكثير من الفتاوى وخاصة في زماننا الحالي، والذي كثرت فيه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وأصبح الكثير من الناس يتابعونها في كل وقت، فكان أثر الفتوى على الناس عظيمًا، حتى غدا البعض منهم يتلهفون لسماع إجابات الفتاوى التي تعرض عليهم من أجل إرضاء أهوائهم وقلوبهم المريضة المحبة للشهوات، أو من أجل مجادلة أهل الحق الذين يلتزمون الدليل الشرعي الصحيح.

وهنا وقفة: أريد توجيهها إلى من وضع نفسه محل المشرع الحكيم في التحليل والتحريم، ألا يعلم أن الكذب في شريعة الإسلام من أكبر الكبائر، ومن أعظم الذنوب، فكيف له أن يكذب على الله تعالى؟

وإذا كان ضياع أمانة الناس وخيانتهم في أموالهم منهيًا عنها، بل ويعاقب عليها من وقع فيها، فكيف بمن يضيع أمانة الله تعالى ويخون أمره ونهيه.

وإذا كان أثر الفتوى في الزمن الماضي محدود المكان، فكيف بمن يُفتي الناس الآن على الملإِ دون وازع أو خوف من رب الأرباب الذي يطلع عليه، ويسمع كلامه، ويحصي عليه كلَّ ما يقول، وهذا الصنفُ الذي يفتي الناس بغير علم ويفتري على الله الكذب من أبغض الناس عند الله لأنه يتكلم عن الله تعالى، ويبلغ شرعته، وكم نرى ونسمع من يخرجون على الناس بأقوال وآراء لم يُنزل الله بها من سلطان إنما هو اتباع للهوى والشيطان، وحبًّا للظهور أمام الناس بمظهر العالم الجليل، وهؤلاء النفر ربما يصدق فيهم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم عن أول من تسعر بهم النار، وذكر منهم: (وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. . )([53]).

ومن الأمراض والأعراض التي تصيب الفتوى، ويكون لها الأثر السلبي على من يسمعها، وهي:

1- تَصَدُّرُ غيرِ المختصين بعلوم الشريعة للفتوى، وكم يخرج علينا من ليس أهلًا للفتوى، فربما يكون بعيدًا عن الدين تمامًا، وقد يكون المتكلم لاعبَ كرة، أو تكون راقصة، أو يكون عاميًا فيفتون فيما ليس لهم به علم فيَضلون ويُضلون.

2- قد يتصدر لها من لا يعرف إلا القليل في شرع الله، فيأتي بعض الشباب المتحمسين وليس عندهم علم، ولا دراية، ولا دليل فيعتمدون على حماسهم وعلى بعض النصوص التي يحفظونها فيُفتون في كل مسألة يُسألون فيها.

3- وقد يَتصدر لها مَن يكون مفرِّطًا في أركان الدين، كمن يقع في الشركيات، أو يتكاسل عن الصلاة، أو يفطر في نهار رمضان، أو غير ذلك.

4- تساهل بعض المفتين في إجابة الفتاوى التي ترد عليهم، دون النظر إلى من يفتونهم.

5- استغلال بعضِ المتصدرين للفتوى فتاواهم من أجل أهوائِهم الشخصية، أو أغراض مادية.

6- إعمالُ الرأي والفكرِ في إجابة الفتوى أَكثر منَ الوقوف عند النصوص الشرعية الصحيحة.

7- مراعاةُ أغراض السائلين وأمزجتِهم دون النظر في عواقب الأمور ومآلاتها.

8- وقوع بعض المفتين ضحية طمع دنيوي عاجل.

المطلب الثالثُ:

أنواع الفتوى:

النوع الأول: الفتوى بالرأي:

ا – تعريف الرأي:

الرأي هو: ما يَراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيها الأماراتُ، ولا يقال لما تختلف فيه الأمارات: إنه رأي([54]) والرأي يشمل القياس والاستحسانَ وغيرَهما([55]).

ولا يجوز الإفتاء بالرأي المخالف للنص أو الإجماع، ولا يجوز المصير إلى الرأي قبل العمل على تحصيل النصوصِ الواردة في المسألة، أو القول بالرأي غير المستنِد إلى الكتاب والسنة، بل بمجرد الخرص والتخمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (كَيفَ تَقْضِي؟) قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: (فَإنْ لَم يَكُنْ في كتَابِ اللهِ؟) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: (فَإنْ لَم يَكُنْ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ) صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: (الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّق رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)([56]).

وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لشريح: “ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن لك في كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك”([57]).

قال ابن القيم رحمه الله: “وقالت طائفة من أهل العلم: من أَدَّاه اجتهاده إلى رأي رآه ولم تقم عليه حُجَّة فيه بعد فليس مَذمومًا، بل هو معذور، خالِفًا كان أو سالفًا، ومن قامت عليه الحُجَّة فعاند وتمادى على الْفُتْيَا برأي إنسان بعينه فهو الذي يلحقه الوعيد؛ وقد رُوينا في مسند عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)([58]).

وعن ابن سيرين قال: “لم يكن أحد أهيبَ بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قَضِيَّة فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السُّنَّة أثرًا فاجتهد برأيه ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صوابًا فمنَ الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله”([59]).

ب – ذم الصحابة القولَ بالرأي:

ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين بعضًا من نماذجَ من النقول عن الصحابة – رضوان الله عليهم – في ذمهم للرأي، فقال رحمه الله: “قال أبو بكر رضي الله عنه: أيُّ أرض تُقلني وأي سماء تُظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم”.

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “إياكم وأصحابَ الرأي فإنهم أعداء السُّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرّأي، فَضَلُّوا وأضَلُّوا”.

وقالَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “علماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم”.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال: “لو كان الدِّين بالرّأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه”.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل”([60]).

ج – ذكر ما روي من رجوع بعض الصحَابة عن آرائهم التي رأوها إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوها ووعوها:

عن سعيد بن المسيب أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: “الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلابِيُّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ وَرِّثِ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا” فرجع عمر عن قوله([61]).

وعنه أيضًا قال: “قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأصابع بقضاءٍ ثم أُخبِر بكتابٍ كتبهُ النبي صلى الله عليه وسلم لابن حزم (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ)([62]) فأخذ به، وترك أمره الأول([63]).

وعن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: (يَغسِلُ مَا مَسَّ المَرأَةَ مِنهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ)([64]).

وعن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه عن أبي بن كعب أنه كان يقول: “ليس على من لم ينزل غُسل، ثم نزَعَ عن ذلك – أي قبل أن يموت”([65]).

قال الشافعي: “وإنما بدأت بحديث أبي في قوله: (المَاءُ مِنَ المَاءِ) ونزوعه عنه أنه سمع: (المَاءُ مِنَ المَاءِ) من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسمع خلافه فقال به، ثم لا أحسبه تركه إلا أنه أثبت له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعده ما نسخه”، وهذا الذي ظنه الشافعي قد روى سهل بن سعد أن أبي بن كعب وقفَ عليه توقيفًا مُبَيّنًا.

فعن سهل بن سعد قال: حدثنا أبي بن كعب: “أن الفتيا التي كانوا يفتون (أن الماء من الماء) كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزمان الأول”. رواه أبو داود السجستاني عن محمد بن مهران فزاد: ” ثم أمر بالاغتسال بعد”([66]).

فهذه الكلمات اليسيرة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على ذمهم للرأي والأمر بتركه، والرجوع إلى الأصل الأصيل والنبع الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فما بال أقوام في زماننا اتخذوا رأيهم حجة ودليلًا على صحة فتاويهم، حتى إنهم يجادلون في وجود النصوص التي توضح الحق بدليله، وصدق الله تعالى إذ يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46].

فلابد من مراجعة هؤلاء لحالهم مع الله يوم أن يقفوا بين يديه فيسألهم عما قالوا وأفتوا به، ولْيُعدوا للسؤال جوابًا وليكنِ الجوابُ صوابًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24].

وليحذَر أولئك النفرُ من تحملهم لأوزار من يتبعونهم في أقوالهم وفتاويهم، وليعلموا أن كل من أضلوه برأيهم المخالف للكتاب والسنة سوف يتعلق في أعناقهم يوم القيامة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[النحل: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)([67]).

النوع الثاني: الفتوى بالتقليد:

ا – معنى الفتوى بالتقليد:

هو أن يقلد العالم عالمًا آخرَ في فتواه مصيبًا كان أو مخطئًا.

وهنا وقفة وهي: هل يجوز للعالم أن يقلد غيره؟

يُنظر في ذلك، فإن كان الوقت واسعًا عليه يمكنه فيه الاجتهاد لم يجز له التقليد، ولزِمه طلب الحكم بالاجتهاد.

وقيل: يجوز له تقليد العالم([68]).

وروي عن محمد بن الحسن الشيباني أنه قال: “يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليدُ مثله، والدليل على أنه لا يجوز له التقليد أصلًا مع اتساع الوقت: أن معه آلة يَتوصل بها إلى الحُكم المطلوب، فلا يجوز له تقليد غيره، وأما إذا كان الوقت قد ضاق، وخشيَ فواتَ العبادة إنِ اشتغل بالاجتهاد، ففي ذلك وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد، والوجه الثاني: أنه لا يجوز، لأن معه آلةَ الاجتهاد، فأشبه إذا كان الوقت واسعًا، وقيل: هذا أصح الوجهين، والله أعلم”([69]).

ب – تعريف التقليد:

التقليدُ هو: قبول القول من غير دليل، أي أن العامي يقبل فتوى العالم بدون أن يوضح له الدليل على حكمه، فيعمل به العامي تقليدًا لمن أفتاه، حيث إن العامي يصعب عليه البحث والتنقيب في المسائل الشرعية لانشغاله بأمور معاشه وحاجاتِه.

قالَ أبو علي الطبري في تقليد العامي: “فرضه اتباع عالمه بشرط أن يكون عالمه مصيبًا، كما يتبع عالمه بشرط ألا يكون مخالفًا للنص، وقد قيل: إن العامي يقلد أوثق المجتهدين في نفسه، ولا يكلف أكثر من ذلك، لأنه لا سبيل له إلى معرفة الحق، والوقوف على طريقه، وكل واحد من المجتهدين يقينه بما أدى إليه اجتهاده، فيؤدي ذلك إلى حيرة العامي، فجعل له أن يقلد أوثقهما في نفسه، ويخالف المجتهد، لأنه يتمكن من موافقتِه على طريق الحق ومناظرته فيه”([70]).

ج – أقسام الأحكام:

الأحكام تنقسم إلى قسمين: عقلي، وشرعي.

فأما العقلي: فلا يجوز فيه التقليد، كمعرفة الصانع تعالى، وصفاته، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، وغير ذلك منَ الأحكام العقلية.

وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: يجوز التقليد في أصول الدين، وهذا خطأ ومنافٍ للنصوص الشرعية الواردة، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف: 23]، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من اتباع الأهدى فقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف: 24]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69- 74]. فتركوا جواب المسألة لانقطاعهم عنه، وكشفت المسألة عن عَوار مذهبهم؛ فذكروا ما يسألهم عنه من فعل آبائهم وتقليدهم إياهم. وعلى ذلك فالعقل مناط التكليف وهو طريق إلى معرفة الأصول، والناس كلهم يشتركون في العقل، فلا معنى للتقليد فيه.

وأما الأحكام الشرعية، فضربانِ:

أحدهما: يُعلم ضرورةً من دين الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلوات الخمس، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، وتحريم الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز التقليد فيه، لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه، والعلم به، فلا معنى للتقليد فيه.

وضرب آخر: لا يُعلم إلا بالنظر والاستدلال: كفروع العبادات، والمعاملات، والفروج، والمناكحات، وغير ذلك من الأحكام، فهذا يسوغ فيه التقليد، بدليل قَوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].

ولأننا لو منعنا التقليد في هذه المسائلِ التي هي من فروع الدين لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك، وفي إيجاب ذلك قطعٌ عنِ المعايش، وهلاك الحرث والماشية، فوجب أن يسقطَ.

د – فيمن يسوغ له التقليدُ ومن لا يُسوغ:

الذي يسوغ له التقليد هو العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية، فيجوز له أن يقلد عالمًا، ويعمل بقوله قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].

والذي لا يسوغ له التقليد هو العالم، وهل يجوز أن يقلد غيره أم لا؟

قال الخطيب البغدادي: “ينظر فيه؛ فإن كان الوقت واسعًا عليه، ويمكنه فيه الاجتهاد، لم يجز له التقليدُ، ولزِمَه طلب الحكم بالاجتهاد، وأما إذا كان الوقت قد ضاق، وخشي فوات العبادة إن اشتغل بالاجتهاد ففي ذلك وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد.

والوجه الثاني: أنه لا يجوزُ لأن معه آلةَ الاجتهاد، فأشبه إذا كان الوقت واسعًا، وقيل: هذا أصح الوجهين والله أعلم”([71]).

هـ – أقسام التقليد:

القسم الأول: الإعراض عما أنزله الله تعالى وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

فهذا النوع قام به المقلد قبل أن يتمكن من مَعرفة حكم ما يقلده.

القسم الثاني: تقليد من لا يعلم المُقَلِّد أنه أهلٌ لأن يؤخذ بقوله، وهذا ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا أصابه جُرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني: فاحتلم – فَأُمِرَ بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، إنَّ شِفَاءَ العِيِّ السُّؤَالُ)، قال عطاء: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال: (لَوْ غَسَلَ جَسَدَهُ، وَتَرَكَ رَأْسَهُ حَيثُ أَصَابَهُ) يعني: الجُرْحَ([72]) فالذي أفتاه بالغُسل جرَّ على السائل – الذي ليس عنده علم – لأنه كان سببًا في وفاته، فنال الدعاء عليه من النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الفتوى بغير علم.

القسم الثالث: التَّقْليد بعد قيام الحُجَّة وظهور الدَّليل على خلاف قول المُقَلَّد، وهذا قَلَّد بعد ظُهور الحُجَّة له؛ فهو أولى بالذَّم ومعصية الله ورسوله، وهذا من أشد الأنواع ذمًا لكونه علم الحق بدليله فتركه وعمل بما أفتاه به المقلَّد.

وهذه الأقسام الثلاثة قد ذَمها الله تعالى في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف: 23، 24]، وهذا كثير في ذم من أعرض عما أنزله الله تعالى وقنع بتقليد الآباء.

القسمُ الرابعُ: التقليدُ بعد الحجةِ والبيانِ: فالذي بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فَقَلَّد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور.

و – ذم التقليد وأهلِه:

التقليد المذموم: هو الذي يُورد صاحبَه طريقَ الضلال والهلاك، فالمقلد الذي يسلك هذا الطريق يسير كالأعمى الذي لا يبصر، فإنه يمشي وراء كل من يوجهه دون بصر ولا بصيرة، فيسبب الهلاكَ لنفسه من دون أن يشعر بذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: “قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ..}[الأعراف: 3]، فأمر باتِّباع المنزَّل خاصة، والمقلِّد ليس له علم أن هذا هو المُنَزَّل وإن كان قد تَبيَّنت له الدلالةُ في خلاف قول من قلده فقد علم أَن تقليده في خلافه اتِّباع لغير المُنَزَّل، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء59] فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يُبطل التقليد.

فإن قيل: إنما فيه ذم من قلَّد من أضله السبيل، أما من هداه السبيل فأين ذم الله تقليده؟ قيل: جواب هذا السؤال في نفس السؤال، فإذا لا يكون العبد مهتديًا حتى يتَّبعَ ما أنزل الله على رسوله؛ فهذا المقلِّد إن كان يعرف ما أنَّزل الله على رسوله فهو مهتدٍ وليس بِمُقَلِّد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هُدًى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم (إن كانوا) إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى.

فإن قيل: فأنتم تُقِرُّون أن الأَئِمَّة المقلَّدين في الدين على هدى، فمقلدوهم على هدى قطعًا؛ لأنهم سالكون خلفهم.

قيل: سلوكهم خلفهم مبطلٌ لتقليدهم لهم قطعًا؛ فإن طريقتهم كانت اتباعَ الحجَّة والنهي عن تقليدهم، فمن ترك الحجَّة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتَّبع الحجَّة، وانقَادَ للدليل، ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسولِ صلى الله عليه وسلم يجعله مختارًا على الكتاب والسُّنَّة يعرضهما على قوله. وبهذا يظهرُ بُطلان فهمِ من جعل التقليد اتباعًا، وإيهامه وتلبيسه، بل هو مخالف للاتباع. وقد فَرَّق الله ورسوله وأهل العلم بينهما كما فَرَّقت الحقائق بينهما، فإن الاتِّباع سلوكُ طريقِ المُتَّبع والإتيانُ بمثل ما أتى به”([73]).

ز – الفرقُ بينَ الاتِّباع والتَّقليد:

هناك فرق كبير بين الاتباع والتقليد لمن كان له بصيرة بالعلم وأهله من حيث أن المتبِع يسلك الطريق بالحجة الدامغة والعلم الصحيح الواضح من غير تذبذب ولا شك، أما المقلدُ فإنه يتبع كل نَاعق دون أن يكون عنده علم يهديه ويبصره بصحة تقليده، وضرر التقليد عظيمٌ على من سلك طريقه دون أن يعرف من يأخذ منه، أو الوقوف على ما يأخذه من المقلَّد.

قال ابن القيم رحمه الله: “قال أبو عمر في الجامع: باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتِّبَاع، قال أبو عمر: قد ذَمَّ الله تبارك وتعالى التَّقليد في غير موضع من كتابه فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة31] روي عن حذيفة وغيرِه قال: لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم أحلُّوا لهم وحرَّموا عليهم فاتَّبَعوهم.

وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب، فقال: (يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك)، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورةَ براءةَ حتى أتى على هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا، قال: (بلى، أليس يُحِلُّون لكم ما حُرِّم عليكم فَتحلُّونه ويُحَرِّمُون عليكم ما أُحِلَّ لكم فتحرمونه؟) فقلت: بلى، قال: (فتلك عبادتهم)([74]).

قال: فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجبَ التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي الكتاب والسنَّة وما كان في معناهما بدليل جامع، ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ)([75])، وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم)([76]))([77]).

النوع الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد:

المفتي الذي يقوم بإفتاء الناس في أمور دينهم لابد أن يكون على بصيرة بما يبلغه عن ربه، لأنه يُوقِّعُ عن رب العالمين في تعليم الناس وتوجيههم إلى الحق، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق العلم الشرعي المستخرج من الكتاب والسنة، فلابد من وجود أصول الأحكام التي يقف عليها هذا المفتي كي يكون أهلًا للفتوى، وقد ذكرها الخطيب البغدادي بقوله: “أصول الأحكام في الشرع أربعة:

أحدها: العلم بكتاب الله تعالى على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام: محكمًا ومتشابهًا، وعمومًا وخصوصًا، ومجملًا ومفسرًا، وناسخًا ومنسوخًا.

والثاني: العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله، وأفعاله، وطرق مجيئها في التواتر، والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سبب أو إطلاق.

والثالث: العلم بأقوال السلف فيما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه، ليتبع الإجماع، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف.

والرابع: العلمُ بالقياس الموجِب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها، والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الحقِّ من الباطل. فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه” ([78]).

عن الضحاك قال: “لقي ابن عمر جابر بن زيد رضي الله عنهما وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تُفْتِ إلا بقرآنٍ ناطق، أو سُنَّة ماضية، فإنك إن فعلتَ غير ذلك هلكت وأهلكت”([79]).

وعن أبي نضرة قال: “قدم أبو سلمة – وهو ابن عبد الرحمن – فنزل دار أبي بشير، فأتيت الحسن، فقلت: إن أبا سلمة قدم وهو قاضي المدينة وفقيههم انطلق بنا إليه، فأتيناه، فلما رأى الحسن، قال: من أنت؟ قال: أنا الحسن بن أبي الحسن، قال: ما كان بهذا المصر أحد أحب إليَّ أن ألقاه منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي الناس، فاتق الله يا حسن وأفت الناس بما أقول لك: أفتهم بشيء من القرآن قد علمته، أو سنة ماضية قد سنها الصالحون والخلفاءُ، وانظر رأيك الذي هو رأيك فألقه”.

وهذا لن يستطيعه المفتي إلا أن يكونَ قد أكثر من الاطِّلاع على كُتبِ الأثر وسماع الحديث.

المطلب الرابع:

مجالات الفتوى:

قد ذكرنا سابقًا أن تعريفَ الفتوى اصطلاحًا: هو تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه([80])، وهذا يَشملُ السؤالَ في الوقائعِ وَغيرِها.

لذَا فمجالاتُ الفتوى كثيرةٌ ومتنوعة، وهي تشمل الدين كله، فهي تتعلق بالعقائد، والعبادات، والمعاملات، والحدودِ، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق ورضاع وميراث، والحلال والحرام، وسائر الأمور الشرعية.

وهي تشمل جميعَ الأمور الدينية التي لا غنى للمُسلم عن معرفة الحكم الشرعي بشأنها.

فإذا أَشكَلَ على المسلم أي أمر من أمور دينه رد ذلك إلى أهل العلم ليحصل على جواب سؤاله ليعبد الله على علم وبصيرة، وليتجنب الوقوع فيما حرم الله.

ومن صور مجالات الفتوى ما يلي:

أولًا: العقائد:

معلوم أن الناس في حاجة إلى معرفة ربهم وخالقهم، وكيفية الإيمان به، والتوكل عليه، والاستعانة به، وأداء حقه على الوجه الذي أمر به، والإيمان برسله، وكتبه، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك مما يتعلق بالعقيدة الصافية التي كان عليها السلف الصالح – رضوان الله عليهم -.

لذا فالعقيدة الصحيحةُ هي أساسٌ لازم لكل مسلم، فبدونها لا يقبل الله من عباده صرفًا ولا عدلًا، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: 110].

ولقد كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يحرصُون أشدَّ الحرص على سؤاله عن كل ما يتعلق بأمر دينهم وكانوا يفرحون أشدَّ الفرح إذا أتى أعرابيٌّ وسأله أمامهم وهم جلوس عنده، فيستفيدون مما رأوا وسمعوا ويعملون بذلك.

صور من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدةِ:

والفتوى في العقيدة من أهم الفتاوَى وأعظمِها خطرًا لأنها ترتبط بجناب الله تعالى وعظمته، وأسمائه وصفاته، والذي يُفتي فيها يحتاج إلى قوة في العلم، وقوة في النظر، وقوة في تحصيل المجمل والمفصَّل، لأن الفتوى الخالية من النص الصحيح الصريح تقذف الشك في قلب سائلها.

ومن الفتاوى الصحيحة المنقولة – في كتب السنة – عنِ النبي صلى الله عليه وسلم ما يلي:

قال ابن القيم رحمه الله: “ولقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن رؤية المؤمنين ربَّهم تبارك وتعالى، فقال: (نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟) قَالُوا: لا، قَالَ: (وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ضَوْءٌ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟) قَالُوا: لا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الله عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ)([81]).

 وسئل صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ نَحْنُ مِلْءُ الأَرْضِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ نَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْنَا) قَالَ: (أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلاءِ الله عز وجل الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهُمَا وَيَرَيَانِكُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَرَاكُمْ وَتَرَوْنَهُ)([82])([83]).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن مسألة القدر، فعن علي رضي الله عنه قال: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا وَقَدْ كَتَبَ الله مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً)، قَالَ فَقَالَ رَجَلٌ يَا رَسُولَ الله أَفَلا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: (مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل5-10])([84]).

وسأله صلى الله عليه وسلم يهودي عن أول طعام يأكله أهل الجنة فقال: (زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ)، قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: (يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا)، قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا)([85]).

وسئل صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)([86]).

وغير ذلك كثير من الأسئلة التي كان يَسألها الصحابةُ للنبي صلى الله عليه وسلم فيجيب عليها تعليمًا وتبصيرًا لهم، وتقوية لإيمانهم، فالفتوى لا تقوى إلا بالدليل الشرعي والعقلي، حيث إن الناس يغلب عليهم النظر إلى ما حولهم من آيات الله تعالى، فإذا وضحت الإجابة بدليلها الصحيح الصريح، اطمأنت نفس السائل إليها، وازداد قوة في دينه وتمسكًا به، وعملًا بما سمع.

وما يعيشُه المسلمون الآنَ من الحيرة والقلق وكثرة الاضطرابات والأمراض النفسية بسبب ما يبث لهم من عقائد فاسدة، وشرور عظيمة تحارب عقيدتهم وتشككهم فيها، وتحاول إبعادهم عنها، فلزم من يفتي الناس في وقتنا الحاضر النظر الثاقب في مُعالجة هذه الأمور العظيمة لئلا تتشتت العقول وتذهل عن الحق، ونصوص الكتاب والسنة تبين الكثير من ذلك بحيث إذا أراد الناس تقوية عقيدتهم رجَعوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو سبيل النجاة للمسلمين جميعًا.

ثانيًا: صور من فتَاوَى النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات:

لقد كثرت الأحاديثُ التي وردت فيها أسئلة بعض الصحابة وغيرهم من الأعراب حول العبادات، كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم البيانَ الشافيَ لكل من سأل، بل ربما أوضح أمرًا لم يكن قد ظهر للسائل، فتعود الفائدة عليه وعلى من حضر هذه الفتوى وإجابتها.

ومما يُؤثَر عنه صلى الله عليه وسلم في فتاوى العبادات ما يلي:

(1) الطهارة:

سُئل صلى الله عليه وسلم عنِ الوضوء بماء البحر فقال: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)([87]).

وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب فقال: (المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ)([88]).

وفي الصحيحين: إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ الله فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ الله فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ)([89]).

وسئل صلى الله عليه وسلم عن المَذيِ فقال: (إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ)، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله: كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: (يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ)([90]).

 وسُئل صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء فقال: (ذَاكَ الْمَذْيُ وَكُلُّ فَحْلٍ يَمْذِي فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ)([91]).

 وسألته فاطمة بنت أبي حبيش فقالت إني امرأة اسْتَحاضُ فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: (إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي)([92]).

وسألته أم سُليم فقالت يا رسول الله: إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغَسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ؟، قَالَ: (نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ) فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (فَبِمَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ)([93]).

(2) الصلاةُ:

سُئل صلى الله عليه وسلم عن: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى الله؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله)([94]).

وسئل صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة؟ فقال للسائل: (صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ) يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ فَأَبْرَدَ بِهَا فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا ثُمَّ قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاةِ) فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ الله قَالَ (وَقْتُ صَلاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ)([95]).

وسأله صلى الله عليه وسلم عمران بن حصين رضي الله عنه فقال: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلاةِ فَقَالَ: (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)([96]).

وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد قال: (أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ)([97]).

وسُئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال: (مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ)([98]).

(3) الزكاة:

وسئل صلى الله عليه وسلم عن صدقة الإبل؟ فقال: (وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. . )([99]).

وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ) فَقَالَ يَا رَسُولَ الله أَقْلِلْ لِي قَالَ (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) فَقَالَ حَسْبِي يَا رَسُولَ الله إِذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إِلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ الله: صلى الله عليه وسلم (نَعَمْ إِذَا أَدَّيْتَهَا إِلَى رَسُولِي فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا فَلَكَ أَجْرُهَا وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا)([100]).

(4) الصيام:

وسأله صلى الله عليه وسلم عمر بن أبي سلمة أيُقَبِّلُ الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَلْ هَذِهِ) لأُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ الله قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (أَمَا وَالله إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِله وَأَخْشَاكُمْ لَهُ)([101]).

وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله: أكلت وشربت ناسيًا وأنا صائم؟ فقال: (اللهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ)([102])، وعند الدار قطني فيه بإسناد صحيح (أتم صومك فإن الله أطعمك وسقاك ولا قضاء عليك) وكان أول يوم من رمضان([103]).

وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال هلكت وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟) قَالَ لا قَالَ (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) قَالَ لا فَقَالَ (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) قَالَ لا قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ (أَيْنَ السَّائِلُ) فَقَالَ أَنَا قَالَ (خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله فَوَالله مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ)([104]).

(5) الحج:

وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)([105]).

وسألته امرأة عن صبى رفعته إليه فقالت ألهذا حج؟ قال: (نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ)([106]).

 وسأله رجل فقال: إِنَّ أُخْتِي قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاقْضِ الله فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ)([107]).

وغير ذلك كثير من فتاويه صلى الله عليه وسلم في أبواب العبادات نكتفي بما ذكرناه.

ومن فتاويه صلى الله عليه وسلم أيضًا في سائر نواحي الدين ما يلي:

فقد سألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلاةَ مَعَكَ قَالَ: (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلاةَ مَعِي، وَصَلاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلاتِكِ فِي مَسْجِدِي) قَالَ فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ بَيْتِهَا وَأَظْلَمِهِ فَكَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتِ الله عز وجل)([108]).

 وسئل صلى الله عليه وسلم أي البقاع شر؟ قال: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ)([109]).

وسئل صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ الله شَيْئًا؟ قَالَ: (هِيَ مِنْ قَدَرِ الله)([110]).

وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن الساعة فقال: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا) قَالَ لا شَيْءَ إِلا أَنِّي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ)([111]).

وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يَا رَسُولَ الله حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِه؟ِ قَالَ: (قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ) قُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: (هَذَا)([112]).

 وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يَا رَسُولَ الله قُلْ لِي قَوْلا وَأَقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ قَالَ: (لا تَغْضَبْ) فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: (لا تَغْضَبْ)([113]).

فكل هذه الفتاوى وغيرها كثير قد أجاب عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجابة شافية كافية، وكيف لا وهو قد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.

فعلى من أراد الإفتاء أن يتعلم من سيرته، وأن يقتفي أثره، وأن ينهج نهجه، وأن يلتزم أمره ونهيه، ففي ذلك الخير له ولمن يفتيه.

 

المبحثُ الثاني:

عِظمُ شأن الفتوى،

وفيه ثلاثة مطالب:

 

المطلب الأول:

عظم شأن الفتوى في القرآن الكريم:

إن مِن عَظيم شأن الفتوى أن جَعلها الله قرينةً لأعظم الأعمال التي نهى عن الوقوع فيها، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

ومعلوم أن من يفتي في دين الله تعالى يوجه الناس إلى أوامر ربهم، ويعرفهم بالحلال والحرام، وما يتعلق بأمور عباداتهم ومعاملاتهم، فإذا كان ذلك وجب أن يوجهه المولى جل وعلا إلى الحذر من الإفتاء عليه بغير علم لئلا يبوء بإثم عظيم لنفسه ولغيره.

قال ابن القيم رحمه الله: “وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفُتَّيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فرتب المحرماتِ أربعَ مراتبَ وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه، وقال تعالى:{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل: 116، 117]، فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه”([114]).

ومن الأدلة على عظم شأن الفتوى من القرآن الكريم ما يلي:

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 59، 60].

وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169].

وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

وقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].

وقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 68، 70].

وقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل: 116، 117]. وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].

وفي كتاب الله تعالى آيات كثيرة تدل على عظيم شأن القول على الله بغير علم، وأن من وقع في ذلك باء بالوبال والخسران المبين.

المطلب الثاني:

عظم شأن الفتوى في السنة المطهرة:

إن من عظم شأن الفتوى أن حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا لئلا يقبل عليها من لا يستطيع تحمل أمانتها وتبعاتها، ووجه إلى عظم شأن القول على الله بغير علم، ومن الكذب عليه وعلى رسوله، وأن من تكلم فيما لا ليس له به علم فقد أوقع نفسه في هاوية لا يمكنه الخروج منها فيبوء بإثم نفسه وإثم من يفتيه.

ومن توجيهاته وتحذيراته صلى الله عليه وسلم في ذلك:

ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي الأسود عن عروة قال حج علينا عبد الله بن عمرو فسمعته يقول سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الله لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ).

وفي رواية لمسلم: (إِنَّ الله لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([115]).

وفي رواية لأحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهُ وَلَكِنْ يَذْهَبُ بِالْعُلَمَاءِ كُلَّمَا ذَهَبَ عَالِمٌ ذَهَبَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ حَتَّى يَبْقَى مَنْ لا يَعْلَمُ فَيَتَّخِذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالا فَيُسْتَفْتَوْا فَيُفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّوا وَيُضِلُّوا)([116]).

وما رواه أبو داود من حديث مسلم بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ)([117]).

وروى أيضًا عنِ ابن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ: فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ، فَهُوَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ)([118]).

وروى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ)([119]).

وروى البخاري عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)([120]).

وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلا مَا عَلِمْتُمْ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَمَنْ كَذَبَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارَ)([121]).

فجاءت هذه الأحاديث في مجملها تبين عِظم القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن من كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنما كذب على الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 151]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع أمره وعدم الكذب عليه. وعلى ذلك فينبغي للعاقل اللبيب الذي يسمع هذه الآيات والأحاديث أن يحذر من التمادي في تصدره للفتوى بغير علم، وإلا صار ممن قال فيهمُ الرسول صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)([122]).

المطلبُ الثالث:

عِظمُ شأن الفتوى عند السلف:

إن الناظر في سيرِ السلف الصالح ومواقفهم حيال الفتوى في دين الله يتعجب أشد العجب من شدة تقواهم، وورعهم، وخوفهم من الله تعالى، وحرصهم على عدم تحمل تبعاتها يوم القيامة، حتى إن الواحد منهم يكون عنده العلم الذي يستطيع الإجابة به إلا أنه يحتاط لدينه فيحول السائل إلى غيره، وهذا مصداقٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي. . )([123]).

ولقد كانوا يتهيبون الفتوى أشد الهيبة، ويتريثون في أمرها، وربما يتوقفون في بعض الأحيان عن القول فيها. فكان الخلفاء الراشدون – رضوان الله عليهم – يجمعون علماء الصحابة وفضلاءهم عندما تَعرض لهم بعض المسائل التي لا يجدون لها حلا عندهم، فيستشيرونهم، ويستنيرون برأيهم، فكان هذا هو الإجماع الذي كانوا عليه في العصر الأول.

وهكذا دأب الصحابة – رضوان الله عليهم -، كان الكثير منهم – على الرغم مما أوتوا من علم وبصيرة وطهارة قلوب – إلا أن أحدهم كان لا يجيب عن المسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، وكيف لا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل في بعض الأحيان فلا يجيب حتى يأتيه جبريل بالوحي؟.

وأخرج سعيد بن منصور في سننه، والدارمي والبيهقي في المدخل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه)([124]).

قال ابن أبي ليلى([125]): “أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يُحَدثُ بحديثٍ، أو يُسْأَلُ عن شيءٍ، إلا ودَّ أخاه كفاه”([126]).

وفي الحديث قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ)([127]).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ([128]): “والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون”([129]).

وهذا سعيد بن المسيب([130])رحمه الله -سيد التابعين ومن أكابر فقهائهم- كان لا يكاد يفتي، ولا يقول شيئًا، إلا قال: “اللهم سلمني، وسلم مني”([131]).

وهذا الشعبي([132])رحمه الله سُئل عن مسألة، فقال: “لا أدري: فقيل له: ألا تستحي مِن قول: لا أدري وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة: 32]”([133]).

وهذا الإمام أبو حنيفة([134]) رحمه الله مع براعته في الجواب، وقدرته الفائقة على الاستنباط والتوليد في مسائل معروفة قال فيها: “لا أدري”([135]).

وروى الخطيب البغدادي([136]) عن أبي يوسف([137]) قال: سمعت أبا حنيفة يقول: “لولا الفَرَق – أي الخوف – من الله أن يضيع العلم، ما أفتيت أحدًا؛ يكون له المهنأ، وعليَّ الوِزْر”([138]).

وكان أشدهم في ذلك الإمام مالك([139])رحمه الله ، فكان يقول: “مَن سُئِل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنَّة والنَّار، وكيف يكون خَلاصَهُ في الآخرة، ثم يجيب فيها”.

 وقال مصعب([140]): “سئل مالك عن مسألة، فقال لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة!! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل”([141]).

فالذي ينبغي للعالم أن يكون متهيبًا للإفتاء؛ ولا يتجرأ عليه إلا حيث يكون الحكم جليًا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يكون مجمَعًا عليه، أما ما عدا ذلك مما اختلفت فيه الأقوال والآراء وجب عليه أن يتريث ويتثبت حتى يتضح له الجواب، فإن لم يتضح له توقَّف.

وأما من عداهم ممن يتبوأ بعض المناصب أو يحوز بعض العلم فهو أشد خطرًا من العالم الذي لديه علم يفتي به الناس، فهؤلاء بمنزلة مَن يدل الركب على طريق السفر، وليس له علم به، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هم أسوأ حالًا من هؤلاء كلهم.

فلا ينبغي لهؤلاء التصدر للفتوى لما في ذلك من الخطر العظيم عليهم وعلى من يستفتونهم، ويكفيهم

قول الله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 1].

وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله القول: “بعدم الحَجْر على السفيه احترامًا لآدميته، ولكنه قال بوجوب الحجر على المفتي الجاهل والمتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضررٍ عامٍ على الجماعةِ المسلمة”([142]).

فإذا عُلم ذلك عُلم أن الفتوى بغير علم حرام لما يتضمن ذلك من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتضمن إضلال الناس وهو من كبائر الذنوب لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فقرنه سبحانه وتعالى بالفواحش والبغي والشرك.

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([143]).

من أجل ذلك كثر النقل عن السلف أنه إذا سُئِل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري. نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومالك، وأحمد، وغيرهم.

 

المبحث الثالث:

شروط من له الإفتاء،

وفيه مطلبان:

 

المطلب الأول: صفات المفتي:

تكلمنا عن ذلك في المطلب الثاني من المبحث الأول، وذكرنا تعريف المفتي، وبعض الأمور التي يلزم المفتي العمل بها، وصفة صيغة فتواه لتكون محلًا للقبول.

وأما في هذا المطلب فسنتكلم إن شاء الله تعالى على بعض صفات وخصال المفتي، ومن ذلك:

(1) أهلية المفتي:

ذكرنا سابقًا أن الإفتاء إخبارٌ عن حكم الله، فلابد للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية.

وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطًا معينة، وصفاتٍ محددةً، ومن ذلك:

“أن يكون مكلفا مسلما ثقة، مأمونا، متنزها من أسباب الفسق ومسقطات المروءة، لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، حتى وإن كان من أهل الاجتهاد ويكون مع ذلك متيقظا فقيه النفس سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط”([144]).

قال ابن القيم رحمه الله: “قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة عالمًا بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها”.

وقيل لابن المبارك: “متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي”.

وقيل ليحي بن أكثم: “متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر”.

قال ابن القيم بعد الأثرين السابقين: “يريدان بالرأي القياس الصحيح، والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردًا وعكسا”([145]).

(2) خصال المفتي:

والخصال التي يجب على المفتي الاتصاف بها أجملها الإمام أحمد بن حنبل بقوله: “لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نورٌ، ولا على كلامه نور.

وثانيها: أن يكون له علمٌ، وحلمٌ، ووقارٌ، وسكينة.

وثالثها: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.

ورابعها: الكفاية وإلا مضغه الناس.

وخامسها: معرفة الناس”([146]).

ونقول أيضًا زيادةً على هذه الخصال:

سادسًا: فهم مقاصد الشريعة.

سابعًا: معرفة مواضع الخلاف.

ثامنًا: القصد والاعتدال: إن المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.

تاسعًا: فهم الواقع والفقه فيه.

عاشرًا: مراعاة القواعد الشرعية المؤثرة في الفتوى، كسد الذرائع والحيل، والضرورات، وغير ذلك.

المطلب الثاني: شروط المفتي:

أولًا لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقًا، فتصح فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة([147])، وأما السمع، فقد قال بعض الحنفية: إنه شرط فلا تصح فتيا الأصم وهو من لا يسمع أصلًا، وقال ابن عابدين: لاشك أنه إذا كُتب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلا أنه لا ينبغي أن ينصب للفتوى، لأنه لا يمكن كل أحد أن يكتب له([148])، ولم يذكر هذا الشرط غيرهم، وكذا لم يذكروا في الشروط البصر، فتصح فتيا الأعمى، وصرّح به المالكية([149]).

وأما ما يشترط في المفتي:

أولًا: الإسلام: فلا تصح فتيا الكافر.

ثانيًا: العقل: فلا تصح فتيا المجنون.

ثالثًا: البلوغ: فلا تصح فتيا الصغير.

رابعًا: العدالة: فلا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء، لأن الإفتاء يتضمن الإخبار عن الحكم الشرعي، وخبر الفاسق لا يقبل، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسَهُ فإنه يعلم صدق نفسه([150]).

وذهب بعض الحنفية إلى أن الفاسق يصلح مفتيا، لأنه يجتهد لئلا ينسب إلى الخطأ([151]).

وقال ابن القيم: “تصح فتيا الفاسق، إلا أن يكون معلِنًا بفسقه وداعيًا إلى بدعته، وذلك إذا عمّ الفسوق وغلب، لئلا تتعطل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح([152]).

وأما المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفِّرة أو مفسقة لم تصح فتاواهم، وإلا صحت فيما لا يدعون فيه إلى بدعتهم، قال الخطيب البغدادي: وتجوز فتاوى أهل الأهواء، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق، وأما الشُّرَاةُ والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة”([153]).

خامسًا: الاجتهاد: وهو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: “لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي”. أهـ([154]).

وهذا معنى الاجتهاد. ومفهوم هذا الشرط أن فتيا العامي والمقلد الذي يفتي بقول غيره لا تصح.

قال ابن القيم رحمه الله: “وفي فتيا المقلد ثلاثة أقوال:

الأول: ما تقدم ذكره، وهو أنه لا تجوز الفتيا بالتقليد، لأنه ليس بعلم، ولأن المقلد ليس بعالم والفتوى بغير علم حرام، قال: وهذا قول جمهور الشافعية وأكثر الحنابلة.

الثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا.

الثالث: أنه يجوز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، قال: وهو أصح الأقوال، وعليه العمل”([155]).

وقال ابن عابدين نقلًا عن ابن الهمام: “وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي”([156]).

المطلب الثالث: إفتاء القاضي:

لا خلاف في أن للقاضي أن يفتي في العبادات ونحوها مما لا مدخل فيه للقضاء كالذبائح والأضاحي.

واختلف الفقهاء في إفتائه في الأمور التي يدخلها القضاء: فذهب الشافعية في وجه وصححه النووي، والحنابلة في قول وصححه ابن القيم إلى أنه يفتي فيها أيضًا بلا كراهة.

وذهب آخرون من الفريقين إلى أنه لا يجوز، لأنه موضع تهمة، ووجهه أنه إذا أفتى فيها تكون فتياه كالحكم على الخصم، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة، ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكم، أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن حكم بخلاف ما أفتى به جعل للمحكوم عليه سبيلًا للتشنيع عليه، وقد قال شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، وقال ابن المنذر: “يكره للقاضي الإفتاء في مسائل الأحكام الشرعية”([157]).

وذهب الحنفية في الصحيح عندهم إلى أن للقاضي أن يفتي في مجلس القضاء وغيره في العبادات والأحكام وغيرها، ما لم يكن للمستفتي خصومة، فإن كان له خصومة فليس للقاضي أن يفتيه فيها([158]).

وذهب المالكية إلى أنه يكره للقاضي أن يفتي في ما شأنه أن يخاصم فيه، كالبيع والشفعة والجنايات.

قال البرزلي: “وهذا إذا كان فيما يمكن أن يعرض بين يديه، فلو جاءه السؤال من خارج البلد الذي يقضي فيه فلا كراهة”([159]).

الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير البريات، وبعد:

فالحديث عن الفتوى وأهميتها حديث ذو شأن كبير لارتباطه بشرائع الدين الإسلامي، فكل ما يرتبط بالعبادات، والمعاملات، والحلال والحرام، وأيضًا علاقة الخلق بربهم جل وعلا يحتاج إلى بيان وإيضاح، ولا يتم ذلك إلا عن طريق العلماء الربانيين السائرين على نهج سلفهم الصالح، والذين يقتدون برسولهم صلى الله عليه وسلم في جميع شأنه، ويبينون للناس أهمية اتباعه والسير على طريقته، فكل ما وصل إلينا من شرائع الإسلام يحتاج إلى بيان الكثير منها ولا يتم ذلك إلا عن طريق تعليم الناس الخير، إما بالدروس العلمية، أو المحاضرات، أو الكلمات، أو الفتاوى، وغير ذلك من طرق الدعوة إلى الله.

وواقع الناس اليوم يبين أهمية الفتوى في حياتهم مع كثرة الجهل، والفتن، والبعد عن شرائع الإسلام، وكثرة من يخرجون على المسلمين بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان فَيَضِلُون ويُضِلُون.

لذا فتوعية الناس وتذكيرهم بأهمية الفتوى، وضرورة الرجوع إلى أهل العلم المتخصصين، وتحذير من يخرج على المسلمين بفتاوى مخالفة لما عليه إجماع المسلمين وتذكيرهم بمغبة القول على الله بغير علم، وأثره على الناس، والعمل على سلوك منهج العلماء السابقين في الحرص على نفع الناس، والأخذ بأيديهم لما يقربهم إلى ربهم يحتاج كل ذلك لجهد كبير، وبذل عظيم، وهذا البحث الذي بين أيدينا نقاط من بحر شاسع حول موضوع الفتوى وأهميتها حرصت فيه بقدر الإمكان على إيضاحه، عسى الله تعالى أن يمد في أعمارنا ويمنّ علينا بالتوسع لاحقًا في هذا الموضوع الهام الذي يعود على الأمة الإسلامية بالخير والفائدة.

وأخيرًا: هذا ما تم تقييده – بين دفتي هذا البحث المبارك – فما كان فيه من صواب فبتوفيق من الكريم المنان، وما كان فيه من خطأ أو نسيان فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأسأل الله جل وعلا أن يجعله خالصًا لوجهه، مقبولًا عند خلقه، وأن ينفع به المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وأن يكون في موازين الحسنات يوم نلقى ربنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

المراجع والمصادر:

* إبطال الحيل، عبيد الله بن محمد العكبري العقبلي، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ .

* الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، ط د.ن، 1387.

* اختلاف الحديث للشافعي، ط مؤسسة الكتب الثقافية، 1405هـ.

* أدب المفتي والمستفتي للشهروزي، ط مكتبة العلوم والحكم، بيروت، تحقيق د. موفق عبد القادر، 1407هـ.

* إرواء الغليل للألباني، ط المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ.

* إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، ط مطبعة السعادة، 1374هـ.

* الأعلام للزركلي، ط دار العلم للملايين، 1976م.

* البحر المحيط للزركشي، ط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1413هـ.

* تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ط دار إحياء الكتب العربية، مصر.

* الجامع الصحيح لسنن الترمذي، للألباني، ط دار إحياء التراث العربي.

* الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار إحياء التراث العربي، 1372هـ.

* حاشية ابن عابدين والدر المختار، ط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1400هـ.

* حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ط دار الفكر، د.م.

* رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، علاء الدين أمين بن عمر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت.

* سنن ابن ماجة للألباني، ط دار الفكر، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

* سنن ابن ماجه، ط دار إحياء التراث العربي، 1975م.

* سنن أبي داود، ط دار إحياء التراث العربي، دار الكتب العلمية.

* سنن البيهقي، ط مكتبة دار البار، مكة المكرمة، تحقيق محمد عبد القادر عطا، 1414هـ.

* سنن الترمذي، ط دار الدعوة، أستانبول، 1401هـ.

* سنن الدار قطني، ط دار المعرفة ببيروت، تحقيق السيد عبد الله المدني، 1386هـ.

* سنن الدارمي، ط دار الكتاب العربي، 1987.

* سنن النسائي، ط دار البشائر الإسلامية، 1986م.

* سنن سعيد بن منصور، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ.

* سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط مؤسسة الرسالة، تحقيق شعيب الأرنؤوط، 1414هـ .

* شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي، ط دار الفكر، د. م.

* صحيح ابن حبان، ط مؤسسة الرسالة ببيروت، تحقيق شعيب الأرنؤوط، 1414هـ.

* صحيح ابن خزيمة، ط المكتب الإسلامي ببيروت، تحقيق د. محمد الأعظمي، 1386هـ.

* صحيح البخاري، ط دار القلم، بيروت، 1987م.

* صحيح جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط دار الكتب العلمية، 1398م.

* صحيح سنن أبي داود للألباني، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، 1409هـ.

* صحيح مسلم، ط دار إحياء التراث العربي، 1972م.

* صحيح وضعيف الجامع للألباني، ط المكتب الإسلامي، بيروت، 1402هـ.

* صفة الفتوى لابن حمدان، ط 3، المكتب الإسلامي، بيروت 1397، تحقيق الألباني.

* ضعيف الترغيب والترهيب للألباني، ط مكتبة المعارف، الرياض.

* الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، مكتبة أنس بن مالك، ط 1400هـ.

* القاموس المحيط، للفيروز آبادي، ط د. ن.

* لسان العرب لابن منظور، ط دار صادر، بيروت، 1388م.

* مجمع الأنهر لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان الحنفي.

* المجموع للنووي، ط دار إحياء التراث العربي، تحقيق محمد المطيعي، 1415هـ.

* مستدرك الحاكم، ط دار الكتب العلمية، ببيروت، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، 1411هـ.

* المستصفى للغزالي، القاهرة، المكتبة التجارية 1356هـ.

* مسند الإمام أحمد، ط دار المعارف، مصر، 1949ـ 1980م.

* مسند البزار، ط دار العلوم والحكم، تحقيق محفوظ زين الله، 1415هـ .

* مشكاة المصابيح للألباني، ط المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ.

* المعجم الكبير للطبراني، ط مكتبة العلوم والحكم ، الموصل، تحقيق حمدي السلفي، 1404هـ.

* معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ط دار الفكر، 1399هـ.

* الموافقات للشاطبي، ط دار المعرفة، تحقيق الشيخ عبد الله دراز.

* الموطأ للإمام مالك، ط دار إحياء العلوم، بيروت، 1988م.

* نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1386م.

 

 

أثر الفتوى في المتغيرات الإعلامية

بحث مقدم إلى كرسي سماحة الشيخ

محمد بن إبراهيم آل الشيخ

 

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

فتعتبر الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية أهم وسيلة من وسائل التأثير الجماهيري، فقد لعبت دورًا كبيرًا في حياة المجتمعات الإسلامية. وذلك لما تميز به عصرنا الحاضر من زيادة في حجم المتغيرات والمستجدات التي لم تشهدها العصور السابقة.

فقد تطورت العلوم والمجتمعات تطورا كبيرا، وتغيرت أنماط الحياة، وأثرت ثورة المعلومات وعالم الكمبيوتر والإنترنت والقنوات الفضائية في العالم جميعا إنسانًا وسلوكًا حتى أصبح العالم كقرية صغيرة.

ولا شك أن هذه المتغيرات الإعلامية المعاصرة سلاح ذو حدين، حيث يمكن استعمالها في الخير وفي الشر، وفي التوعية الجيدة والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أنها يمكن استعمالها عكس ذلك.

والفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية لابد أن تأخذ موضع الجد فإن أهل الإفساد يفكرون ويخططون ليل نهار لإفساد عقائد المسلمين مستخدمين في ذلك وسائل الإعلام القديمة والحديثة لنشر مذاهبهم الهدامة، فإن لم يكن للفتوى دورها في وسائل الإعلام المباحة والمتاحة فلا شك أن ذلك سيكون عنوانًا على خراب عقائد المجتمعات الإسلامية، وخير مثال على ذلك ما نشاهده من الإلحاد الفكري الذي يعرض عبر وسائل الإعلام.

إننا مسؤولون أمام الله عن حماية عقائد الناس وحماية بيضة الدين، وهذا يتطلب منا مواكبة العصر والأخذ بكل ما يخترع فيه حتى تصل الفتوى بقدر ما يمكن إلى أكبر عدد ممكن من المسلمين وغيرهم ممن لا يعرف شيئا عن الإسلام أو ممن تأثر بأفكار وطعونات المناوئين للإسلام وعقيدته.

وبناءً على ذلك أُقدم هذا البحث الموسوم بـ (أثر الفتوى في المتغيرات الإعلامية) وسأتناول فيه آثار الفتوى على المجتمعات والأفراد في ظل ما يعرف بالإعلام الجديد.

ورتبت هذا البحث في تمهيد وسبعة مباحثَ وخاتمة وفهارس بيانها كالتالي:

التمهيد: وفيه بيان:

1 – تعريف الفتوى.

2 – معنى المتغيرات الإعلامية.

3 – أنواع وسائل الإعلام في ظل المتغيرات الإعلامية ومدى تأثيرها على المجتمع.

المبحث الأول: مدى تأثير الفتوى على الأمم والمجتمعات.

المبحث الثاني: برامج الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية.

المبحث الثالث: العلاقة بين الفتوى والإعلام، وأثر ذلك على المجتمعات.

المبحث الرابع: واقع الفتوى في وسائل الإعلام.

المبحث الخامس: اختلاف العلماء في الفتوى، وتأثير ذلك في ظل المتغيرات الإعلامية.

المبحث السادس: المَلَكات الاستقبالية للمفتي عبر المتغيرات الإعلامية.

المبحث السابع: أهم مجالات تأثير الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية: وتحته أربعة مطالب.

المطلب الأول: أثر الفتوى في تمسك المسلمين بدينهم في ظل المتغيرات الإعلامية.

المطلب الثاني: أثر الفتوى في التصدِّي للغلوِّ في التكفير واستباحة الدماء في ظل المتغيرات الإعلامية

المطلب الثالث: أثر الفتوى في المحافظة على الهويَّة الإسلاميَّة في ظل المتغيرات الإعلامية.

المطلب الرابع: أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي في ظل المتغيرات الإعلامية.

الخاتمة: وفيها ملخَّص البحث والتوصيات.

وإنني في نهاية هذه المقدمة أتقدم بالشكر للمشرفين على كرسي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأخص بالشكر الجزيل أخي الأستاذَ الدكتور/ سليمان بن سليم الله الرحيلي وزملاءَه في اللجنة التنظيمية واللجنة العلمية على دعوتي للمشاركة في الندوة البحثية (الفتوى بين التأثير والتأثر بالمتغيرات).

سائلًا الله تعالى أن تحقق هذه الندوة أهدافها المرجوة كما أسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وأن يرزقنا الثبات على دينه حتى نلقاه إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

تمهيد بين يدي البحث

أولًا: تعريف الفتوى:

ا – معنى الفتوى في اللغة: تأتي الفتوى في اللغة بعدة معاني أشهرها معنيان:

1- الفتوى بمعنى البيان. يقال: أفتاه في الأمر: أبانه له.

2- الفتوى بمعنى الجواب على السؤال. يقال: أفتاه في المسألة يفتيه إذا أجابه.

ويقال: الفُتوى والفُتيا والفَتوى، والجمع: فَتاوِي بكسر الواو، ويجوز فَتاوَى بفتحها للتخفيف([160]).

ب – معنى الفتوى في الاصطلاح:

الفتوى اصطلاحا: الإخبار بالحكم الشرعي مع المعرفة بدليله([161]).

فقولنا: (الإخبار) يفيد أن المفتي إنما يخبر بفتواه منِ استفتاه، فإن شاء قبل قوله وإن شاء تركه، ولا يُلزمه بالأخذ بها بخلاف حكم الحاكم وقضاء القاضي؛ فإن حكمهما على سبيل الإلزام. “فيشترك القاضي والمفتي في الإخبار عن الحكم، ويتميز القاضي بالإلزام”([162]).

وقولنا: (بالحكم الشرعي) فيه احتراز عن بيان الأحكام غير الشرعية؛ كاللغوية والطبية والعقلية؛ فإن ذلك لا يدخل تحت الفتوى بمعناها الشرعي.

وقولنا: (مع المعرفة بدليله) يفيد أن الفتوى إنما تصدر عمن يعرف الدليل، وذلك هو العالم بالشرع، وهو الفقيه المجتهد، وهذا يشمل: “ما أخبر به المفتي عما فهمه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، مما نص عليه الكتاب والسنة، أو أجمعت عليه الأمة، ولما استنبطه وفهمه باجتهاده، ويشمل أيضا ما أخبر به عما فهمه عن إمامه الذي قلده من كتاب أو ألفاظ هذا الإمام”([163])، ولهذا ذهب كثير من الأصوليين إلى أن المفتي هو المجتهد، وأنه لا يفتي إلا مجتهدٌ، وهذا يشمل المجتهدَ المطلق ومجتهدي المذهب([164]).

وفي قولنا (مع المعرفة بدليله) احتراز عن العامي المقلد؛ فإنه مجرد ناقل لقول غيره.

ثانيًا: معنى المتغيرات الإعلامية:

تدور مادَّة (غَيَّرَ) في اللُّغة على أصليْن، هما: إحْداث شيء لم يكن قبلَه. أو انتِقال الشيء من حالةٍ إلى حالة أخرى([165]).

فمن الأصل الأول: (غَيَّرَه): جَعَلَه غَيْرَ ما كَانَ، و(غَيَّرَه): حَوَّلَهُ وبَدَّلَهُ.

ومن الأصل الثاني: (الغِيَر)؛ أَي: تَغَيُّر الحال وانتقالها من الصلاح إِلى الفساد.

ومُتَغَيِّر: اسم فاعل من تغيَّرَ. يقال: تغيَّرَ يتغيَّر، تغيُّرًا، فهو مُتغيِّر. والجمع: متغيّرات([166]).

ب ـــ ومعنى كلمة إِعلاَم:

ا – تعريف الإعلام لغة: مشتق من أَعْلَمَ، يقال: أَعْلَمَهُ إِعْلامًَا، بمعنى أخبره إخبارًا.

جاء في معجم محيط المحيط: “الإعلام في اللُّغة مصدر أَعْلَمَ وأَعْلَمت كأذْنيْتُ، ويقال: استَعلِمْ لي خَبَر فَلان وأعلِمْنيه حتى أعْلَمَه واستعلمني الخبر، وأعْلَمَ الفارسُ جعل لنفسه علامة الشجعان، وأعلَمَ الفرسَ علَّق عليه صوفًا أحمر أو أبيض في الحرب، وأعلَم نَفْسَه وَسَمَها بسيما الحرب”([167]).

ب – معنى الإعلام اصطلاحًا: تنوعت تعريفات كلمة الإعلام في الاصطلاح فمن ذلك مثلًا:

الإعلام هو: نشر الأخبار والآراء على الجماهير([168]).

أو هو تزويد الناس بالأخبار الصادقة والمعلومات الصحيحة والحقائق الثابتة التي تساعد الناس على تكوين رأي صائب في واقعة معينة([169]).

ج- مفهوم الإعلام الإسلامي:

الإعلام الإسلامي معناه تزويد الجماهير بحقائق الدين الإسلامي المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بصورة مباشرة أو من خلال وسيلة إعلامية عامة بوساطة قائم بالاتصال لديه خلفية واسعة متعمقة في موضوع الرسالة التي يتناولها، وذلك بغية تكوين رأى عام صائب يعنى بالحقائق الدينية وترجمتها في سلوكه ومعاملاته([170]).

كما يُعرَّف الإعلام الإسلامي بأنَّه: “استخدام منهج إسلامي بأسلوب فني إعلامي يقوم به مسلمون عالمون عاملون بدينهم متفقهون لطبيعة الإعلام ووسائله الحديثة وجماهيره المتباينة مستخدمون تلك الوسائل المتطورة لنشر الأفكار المتحضرة والأخبار الحديثة والقيم والمبادئ والمُثُل للمسلمين ولغير المسلمين في كل زمان ومكان في إطار الموضوعية التامة بهدف التوجيه والتوعية والإرشاد لإحداث التأثير المطلوب”([171]).

ومن هنا يمكن القول بأن مفهوم الإعلام الإسلامي؛ أنه إعلام عام في محتواه ووسائله يلتزم في كل ما ينشره أو يذيعه أو يعرضه على الناس بالتصوُّر الإسلامي للإنسان والكون والحياة المستمدة أساسًا من القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية وما ارتضته الأُمَّة من مصادر التشريع في إطارها([172]).

هـ – المراد بالمتغيرات الإعلامية:

 المراد بالمتغيرات الإعلامية هي تلك الوسائل الإعلامية الحديثة التي يتم بها التبليغ والبيان للآخرين عبر تقنيات مختلفة، وهي وسائل قديمة مرئية كالتلفاز، ووسائل مسموعة كالإذاعة، ووسائل مقروءة كالصحف والإنترنت.

ثالثًا: أنواع وسائل الإعلام في ظل المتغيرات الإعلامية ومدى تأثيرها على المجتمع.

1 – الصحافة: الصحيفة هي وسيلة اتصال مطبوعة لها العديد من السمات التي تميزها عن غيرها من الوسائل الإعلامية والاتصالية لكنها تنفرد بنقطة ضعف معينة وهي كونها وقتية أي تتمثل في الوقت نفسه ومن ثم فهي تفتقد عنصرًا مهما من العناصر التي تميز وسائل الإعلام الجماهيرية الأخرى.

2 – الإذاعة: تعد الإذاعة وسيلة إعلامية جماهيرية فهي وسيلة اتصال لجميع فئات المجتمع بدون استثناء، وذلك من خلال قدرتها على الوصول لكافة فئات المجتمع الأمي والمتعلم، بخلاف الصحافة التي كانت تخاطب الفئات المتعلمة من المجتمع.

وقد أبرزت المتغيرات الإعلامية تحولًا وتطورًا في الإذاعة فظهرت الإذاعة بواسطة الأقمار الصناعية التي تهدف إلى تغطية البث الإذاعي للأماكن المعزولة والفقيرة في أطراف الصحارى، والأماكن ذات الكثافة السكانية القليلة والتي لا يصل إليها البث الإذاعي.

وقد استطاعت برامج الفتاوى الإذاعية سحب البساط من نظيرتها على الفضائيات وذلك لخفتها وقدرة المستمع على متابعتها أينما كان دون الحاجة للجلوس في المنزل لمشاهدتها. وكذلك وجود نخبة من الفقهاء المتميزين الذين يتولون الإجابة على أسئلة الناس عبر إذاعة القرآن الكريم على مدار السنة.

3 – التليفزيون: تعد وسيلة التليفزيون من أقوى وسائل الإعلام مقدرة على الإقناع، بعد الاتصال الشخصي، ويجعل المشاهد في حالة استسلام لما يقال عبر هذه الوسيلة، بالإضافة إلى قدرته على استقطاب قطاعات عريضة من فئات المجتمع من المستويات الثقافية والفكرية والتعليمية والعمرية والطبقات المتعلمة وغير المتعلمة.

4 – القنوات الفضائية: القنوات الفضائية هي تلفزيون تقدمه وسائل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ويستقبل بواسطة طبق القمر الصناعي وجهاز فك التشفير.

ولقد حملت القنوات الفضائية العديد من المضامين الإيجابية والسلبية، فأثرت القنوات الفضائية في حياة المجتمع، ونقلت إلى المجتمع العديد من القيم الاجتماعية السلبية التي لا تتوافق مع القيم الإسلامية ومن ذلك مثلًا:

1 – إشغال الفرد والأمَّة عن أداء واجبات مهمَّة، فإدمان مشاهدة الفضائيات أشدُّ خطرًا من إدمان المخدرات، خاصَّة على مَن يعتمد سياسةَ قتل الوقت، وإضاعة العمر.

2- إدخال كثيرٍ من العادات الغَربيَّة إلى بيوت المسلمين، ونبذ القيم الدينية، ونقل أخلاق البيئات الشاذَّة والمنحرفة إلى مجتمعنا، خصوصًا ما يتعلَّق بالنساء والأزياء والاختلاط، وتقليد نمط الحياة الغربيَّة.

3- التَّعود على رؤية المنكرات وعدم إنكارها، وتعويد النَّاس على اختلاط الجنسين بلا حدودٍ شرعيَّة أو أخلاقيَّة.

4 – هجر اللغة العربية وإضعافها، ونشر الفساد العقائدي والأخلاقي، وتدمير التعليم الديني والتربوي.

5 – التمرد على أحكام شرع الله جل وعلا، وقطع الحواجز بين المسلمين والكفار.

6 – إثارة الشهوات بعرض مشاهد عارية وراقصة، والاستهزاء بالشريعة وما ورد فيها من أحكام كالحجاب وتعدد الزوجات والطلاق، ونشر الآراء والأفكار والنظريات الهدامة.

وفي ظل هذه السلبيات التي ذكرناها لا يخفى الجانب الإيجابي لبعض الفضائيات فقد أتاحت هذه الفضائيات فرصًا غير محدودة لنشر دين الإسلام في ربوع الكرة الأرضية، فيمكن لمن يتصدَّون للدَّعوة إلى الله – تعالى – تطويعَ قدراتِ القنوات الفضائيَّة في الانتشارِ والذيوع، والإبهارِ لغزو قلوب الكافرين والمبطلين في كلِّ مكانٍ، إخراجًا لهم من الظُّلمات إلى النُّور، وحدًّا من الآثار السلبيَّة التي أحدثتْها في الجوانب الفكريَّة، والخُلقية، والسُّلوكية.

5 – شبكة الانترنت: وهي آخر المتغيرات الإعلامية وأشهرها وأفضلها إذا حسُنَ استخدامها وذلك بسبب الإقبال عليها من غالبية فئات المجتمع، ولأنها الأسرع وصولًا إلى الجميع في أي مكان، ولسهولة استخدامها وشمولية المواد التي تعرض من خلالها ولقد كان من مساوئ هذه الشبكة على الناس ما يأتي:

1- إضاعة الأوقات التي هي أثمن ما يملكه المسلم في حياته.

2- التعرف على صحبة السوء الذين لهم دور كبير في فساد الأخلاق والانحراف العقدي والسلوكي والأخلاقي.

3- زعزعة العقائد والتشكيك فيها وذلك بنشر الكفر والإلحاد من خلال شبكات الانترنت الداعية إلى التنصير والإلحاد والتقليد الأعمى للكفار والافتتان ببلادهم.

4- تدمير الأخلاق ونشر الرذائل، وإهمال الصلاة وضعف الاهتمام بها، وإشاعة الخمول والكسل.

5- التعرف على أساليب الإرهاب والتخريب، سواء كان إرهابًا دوليًا وذلك من خلال القتل والتدمير للمنشآت أو الإرهاب الأسري وذلك بالتجسس على الأسرار الشخصية للأسرة.

وفي مقابل ذلك هناك من الإيجابيات التي أحدثتها شبكة الإنترنت ما يسر الخاطر ومن ذلك:

1- الدعوة إلى الإسلام وبيان محاسنه.

2- الرد على الشبهات التي تثار حول الإسلام ودحضها.

3- محاربة البدع والتصدي لدعاتها.                               

4- نشر العلم النافع والأخلاق الحسنة.

5- معرفة العلوم الكونية والأخذ بأسباب التقدم والرقي.   

6- الاستفادة منه في الأبحاث العلمية.

7- التعرف على أحدث التقارير والدراسات والإحصاءات في مختلف المجالات.

8- سهولة الاتصال بالعلماء لأخذ الفتوى عنهم والاستنارة بآرائهم.

9- الإعلان عن محاضرات العلماء ومتابعتها عبر الإنترنت.

10- التعرف على أحوال المسلمين في العالم ومتابعة أخبارهم.

المبحث الأول:

مدى تأثير الفتوى على الأمم والمجتمعات

للإفتاء تأثيره البارز على سلوك الأفراد في المجتمع مما يساهم في المحافظة على عقيدته وتصحيح عباداته وتقويم سلوكه وأخلاقه وانسجامه وسلامته. ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت الفتوى مؤصلةً تأصيلًا شرعيًّا، بعيدةً عن الشذوذ، يراعي المفتي فيها رضا الخالق وصلاح الخلق.

ومن آثار الفتوى على الأمم والمجتمعات أنها تترك في الأمة أثرًا واضحًا، من نشر العلم، وإزالة الجهل، وإنارة العقول، وتصحيح المسار للفرد والمجتمع، وإعانة المسلمين على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الصحيح، وتبصرة طالب العلم، وتوثيق صلة الأمة بعلمائها، مع تعميق التديُّن في نفوس الناس، وطمأنينتهم على صحة أدائهم للتكاليف الإسلامية([173]).

غير أننا إذا نظرنا إلى الواقع الذي تمر به الأمة في هذه الفترة فإننا نشاهد تحولا عظيمًا في مختلف المجالات بما في ذلك مجال الفتوى والاستفتاء.

فالمجتمعات الإسلامية اليوم تواجه إشكالية كبيرة وهي التعدي على الفتوى وذلك بخروج الفتوى عن الضوابط والقواعد التي سطرها العلماء، كما أن التطورات الحاصلة في واقعنا والتي تفرضها العولمة جعل لها أثرا واضحا على السلوك الفردي والجماعي، وساعدت في نشوء فوضى وفتن جعلت من الصعب على المسلم أن يستقر له حال في فهم دينه والالتزام بتعاليمه في ظل هذا الركام الضخم من الفتاوى.

إن انتشار الفتاوى الشاذة الخاطئة، والتقدم بين يدي العلماء إفتاءً وتوجيهًا – مؤشرٌ لا يبشر بخير، وفتنة لها ما بعدها من التلبيس والإضلال؛ بل هو من أسرع صور التفرق والاختلاف وإحداث البلبلة في المجتمع قال صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ)([174]).

وعن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسَا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([175]).

ومع وجود هذه الفتاوى الشاذة وتلميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لها، وتأثيرها البالغ على الأمم والمجتمعات فلابد من مواجهة لها باتخاذ الوسائل المتاحة ومنها:

أولًا: أهمية خروج أهل العلم الكبار وتوليهم أمر الفتوى.

ثانيًا: المبادرة إلى إصدار فتاوى جماعية لمواجهة ما يندُّ من الفتاوى الشاذة؛ لإرجاع البسطاء إلى جادة الصواب.

ثالثًا: نشر الوعي بين الناس بأهمية استفتاء العلماء، وإعلام الناس أن استفتاء مفتٍ عُرف عنه التساهل في قضايا كثيرة جدًّا لا تبرأ به الذمة.

رابعًا: على من ولاه الله الأمر أن يمنع بسلطانه من يكون سببًا في رقَّة الدين؛ حماية للدين، وجمعًا للكلمة؛ (فإنَّ اللهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ) ([176]).

المبحث الثاني:

برامج الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية

في ظل هذا التطور التقني المتسارع تنوعت برامج الفتوى في الإعلام المعاصر ويظهر هذا التنوع في نوعين من الإخراج:

الأول: برامج الفتوى المسجلة: حيث تستقبل هذه البرامج أسئلة الجمهور قبل بث الحلقة، وتعرض على المفتي، يتفحصها ويعد الإجابات والتوجيهات، ثم تعرض الحلقة على شكل أسئلة وأجوبة، يلقيها المفتي أو تلقى عليه الأسئلة ويتولى هو الإجابة. ويتسم هذا الشكل بميزات عديدة، من أهمها عدم ارتجالية المفتي التي قد تؤدي إلى الغلط.

الثاني: البرامج المباشرة، التي يلقى فيها السؤال على المفتي أثناء عرض الحلقة، ويتولى الإجابة على الفور.

وهذا النوع من برامج الفتاوى هو الأوسع انتشارًا، والأكثر قبولًا، لما فيه من ميزات كثيرة، فهو يستجيب لداعي العجلة المغروس في كل فرد. ويكفي المستفتي عناء الانتظار والارتقاب لحين عرض مسألته في البرامج المسجلة، كما أن المستفتي يختار بنفسه العالم الذي يطرح عليه أسئلته([177]).

والفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة لها إيجابيات وسلبيات لابد من التنبيه عليها:

أولًا: إيجابيات الفتوى المباشرة في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة:

1 – تبيين الحكم الشرعي في الواقعات والنوازل التي تواجه الناس، وهذه هي وظيفة الفتوى ابتداء، فالمتصل بالبرنامج التلفزيوني المباشر يقصد (في الغالب الأعم) الحصول على الفتوى ليتعرف على الحكم الشرعي ليلتزم به.

2 – شيوع العلم وإرشاد الناس إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وسد حاجة الناس إلى الإفتاء لسهولة اتصال المستفتي بالمفتي الذي يريد سؤاله، وإقامة الحجة في كثير من المسائل التي يحتاجها الناس.

3 – إشاعة الثقافة الفقهية الشرعية عن طريق بث السؤال والجواب. فالمستمع والمشاهد وإن لم يكن صاحب السؤال، أو أنه لا ينطبق عليه -الاستفتاء- إلا أنه قد استمع إلى الفتوى وعرف فحواها، وهذا ضرب من التعليم الشرعي.

4 – تعريف المشاهد والمستمع بالعلماء والدعاة من مختلف البقاع؛ وذلك أن العالم أو المفتي الذي يقبع في بقعة من بقاع العالم الإسلامي ولا يعرفه إلا أهل تلك البقعة يسمع به ويشاهده وينتفع به كثير من الناس، وتعم فائدته العالم الذي يشاهده ويطلع على القناة الفضائية، فكم من عالم أو طالب علم تنبه الناس إلى علمه وانتفعوا به عن طريق حلقة من حلقات القنوات الفضائية.

ثانيًا: الآثار السلبية للفتوى عبر الفضائيات في ظل المتغيرات الإعلامية:

يلحظ المتتبع لمسيرة الفتوى عبر الفضائيات أنها أفرزت جملة من النتائج والآثار ومن أهم هذه الآثار السلبية:

1 – نشر الآراء الفقهية الشاذة والمهجورة، وذلك لكثرة الفضائيات وكثرة ما تبثه من مادة إعلامية؛ وتبعا لذلك كثرة المتصدرين للفتوى على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومناهجهم في التعامل مع الوقائع والأسئلة الواردة إليهم.

2 – أدت الفتوى عبر المتغيرات الإعلامية الحديثة إلى إثارة الشكوك وخلخلة الثقة بفتاوى أهل العلم المعتبرين والثقات؛ وذلك أن المستفتي والمستقبل للفتوى يسمع فتاوَى مخالفة لما سمعه ممن أفتاه مفتيه أو مفتي بلدته، ومن هنا يحصل له نوع تشويش.

3 – أدت عملية تعدد الفتاوى بتعدد قنوات البث واختلافها إلى نشر فكرة (التخير) بين الفتاوى لعوام الناس من حيث المعرفة الفقهية، فالمستقبل للفتوى صغيرا كان أو كبيرًا، رجلًا أو امرأة يسمع فتاوى مختلفة، وسينظر -بنفسه- وبحسب ما يرتاح إليه، دون منهج أو استدلال، ثم يرجح ويختار الفتوى التي تناسبه.

وأكثر من ذلك أيضا أصبح الناس ينظرون إلى الفتوى نظرة استهتار، فإذا لم تعجبك فتوى فلان فهناك غيره له فتوى تناسبك.

4 – أدت الفتوى الفضائية غير المنضبطة إلى وضع علماء الشرع والدعاة عموما موضع (التندر والسخرية أحيانا) بسبب الفتاوى الصادرة عنهم، وأصبحت الفتاوى أحيانا حديث المجالس لا لإشاعة الحكم الشرعي بل لشغل الوقت وتناول العلماء والطعن فيهم من جهلة لا يدركون أبعاد ما يتكلمون به([178]).

المبحث الثالث:

العلاقة بين الفتوى والإعلام

وأثر ذلك على المجتمعات

تمهيد:

مما قرره أهل العلم قديمًا أنه إذا كان المستفتي في بلدٍ ليس فيها من يصلح للفتيا، فيلزمه أن يسافر إلى بلد المفتي، ما دام يجد إلى ذلك سبيلًا، قال الخطيب البغدادي: “أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة؛ أن يطلب المفتي، ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته؛ وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده؛ لزمه الرحيل إليه، وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحدٍ من السلف في مسألته”([179]) اهـ.

هذا ما قرره الفقهاء في العصور المتقدمة، أما في عصرنا الحاضر فقد استُحْدِثَتْ وسائل للاتصال لم تكن فيما مضى، واستخدمت هذه الوسائل في بيان الأحكام الشرعية من خلال ما يعرض فيها من فتاوى يحتاج الناس إلى بيانها، في تبليغ أحكام الشريعة، يبثون بواسطتها فتاويهم وأجوبتهم عن المشكلات، ويعقدون من خلالها برامج التفقه والدعوة والإرشاد، وأصبح المستفتون يتواردون بأسئلتهم على تلك البرامج، حتى صارت برامج الفتيا في وسائل الإعلام، وبالأخصِّ تلك التي تُبثُّ مباشرةً على الهواء؛ من أوسع البرامج الإعلامية قبولًا لدى الجمهور، وأكثرها نفيرًا، ولم تعد الفتيا فيها مجرد سؤال وجواب بين المفتي والمستفتي لا يعدوهما، بل تجاوز الأمر إلى أن أصبح لتلك البرامج من التأثير ما ليس لغيرها من البرامج الإعلامية الأخرى، وصارت وسيلةً لتقرير أحكام الشرع في المسائل العامة، وبيان حكمه في خصوص المسائل المتجددة، والظواهر الاجتماعية المتنوعة وأصبح الاستفتاء عبر تلك البرامج مما يتأدى به واجب طلب العلم، المذكور في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].

والخلاصة أن العلاقة بين الفتوى والإعلام علاقة وطيدة وذلك من حيث الانتشار فنحن نرى هذا الانتشار العجيب للفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة. فإذا كانت الفتاوى في الزمن الماضي لا تتعدى مجال قائلها في مسجد أو بين مجموعة من الأشخاص، فإن الفتوى في هذا الزمان تطير في الآفاق بأسرع من لمح البصر، عير وسائل الإعلام المختلفة؛ من صحف، ومجلات، وإذاعة، وتلفزة، وعبر شبكات الاتصال العالمية وذلك بحسب قوة الإعلام عنها والترويج لها وبخاصة إذا كانت الفتوى صادرة عن عالم له ثقله ووزنه بين العلماء.

وتظهر العلاقة بين الإعلام والفتوى وأثر ذلك على المجتمعات في أمور من أهمها:

أولًا: الانتقال السريع للفتاوى داخل المجتمع الإسلامي، ومن ثم نرى تأثيرًا مباشرًا وسريعًا للفتاوى في:

إظهار حكم الله أو إحداث تغييرات اجتماعية إيجابية في مدة وجيزة إذا كانت الفتوى سليمة مبنية على أصول الإفتاء، أو أن يكون لهذه الوسائل الإعلامية نفسها ميزات سلبية، مثل استغلال تقنياتها العالية في إيصال الفتاوى الخاطئة، كالفتاوى التحريضية والتكفيرية، أو الفتاوى الإفسادية التدميرية، أو توجيه المجتمع نحو مصالح فئوية أو طائفية.

ثانيًا: التعدد والتنوع: فكثرة الوسائل الإعلامية وتنوع مشاربها، وتعدد المفتين واختلاف توجهاتهم وخلفياتهم الشرعية أنتج اختلافًا كبيرًا في الآراء والفتاوى قد يصل أحيانًا إلى حد الفوضى الإعلامية، وجعل الناس في بلبلة وشك.

ثالثًا: اختراق الإعلام للحدود والأقاليم: وهذا الأمر له تداعياته على الإفتاء من حيث إن المستفتي أمام كم كبير من الفتاوى ترده من بلدان كثيرة تختلف في عاداتها وتقاليدها، وأحوالها وظروفها عن الواقع في بلد المفتي، مما يستلزم معرفته بأحوال تلك المجتمعات وأعرافها السائدة، ويستوجب منه التأكيد على أن هذه الفتوى خاصة بذلك المستفتي، أو بتلك الحال المسؤول عنها، ولا يصلح لغيره ممن تختلف حاله أو واقعه عن ذلك السائل أن يأخذ بها.

رابعًا: الوسائل الإعلامية أملت على المفتي أن يتعامل مع أجهزة الإعلام المتطورة، ويتمرس على مخاطبة المتابعين بطريقة مناسبة وجاذبة، ولغة واضحة وحذرة، دون إطالة مملة أو اختصار مخل، ودون إثارة أو تهييج، أو تجريح أو تشهير؛ لأجل إيصال الرسالة وإيضاح الحكم لجمهور عريض من المستفتين، ممن هم على درجات متفاوتة من الفهم والتنوع الثقافي، وقوة التمسك بالدين أو ضعفه([180]).

المبحث الرابع:

واقع الفتوى في وسائل الإعلام

كان من المفترض أن تأخذ الفتوى مكانها المرموق في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة غير أننا وبكل أسى وجدنا فوضى في الإفتاء عبر القنوات والفضائيات، والشبكات ووسائل الاتصالات، دون حسيبٍ أو رادع، وبلا رقيبٍ أو صادع؛ حيث غدا مقام الإفتاء العظيم كلًا مباحا، وحمًى مستباحا، وسبيلًا مطروقة لكل حافٍ ومنتعل، ومطيةً ذلولًا لكل يافعٍ ومكتهل، نبرأ إلى الله من ذلك ونبتهل، ولا ينافي ذلك الإنصاف بالقول، والاعتراف بأنه لا تخلو جملة ذلك من بعض الآثار الإيجابية والمنافع الدينية كما سبق بيانه في إيجابيات الفتوى المباشرة في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة.

إلا أن الغيور ما أكثر ما يرى من أشباه المفتين وأنصاف المتعلمين الذين يتجاسرون – وبجَرْأةٍ عجيبةٍ – على مقام التحليل والتحريم؛ فيُجمِلون الفتيا دومًا دون تفصيل، ويرسلون القول غُفلًا عن الدليل والتعليل، يتطفلون على حلائب الفتوى وهم ليسوا منها في عيرٍ ولا نفير، ويفتاتون على مقامات العلماء والمجتهدين وهم ليسوا منهم في قبيلٍ ولا دبير، يتقحمون دون وجلٍ عظيمَ المسائل، وهيهات أن يتورعوا عن البت في النوازل، مما لو عرض على عمر رضى الله عنه لجمع له أهل بدر([181]).

ومن نظر إلى واقع الفتوى عبر وسائل الإعلام الحديثة يجد أن الكثير من هذه الفتاوى قد أصبحت وللأسف إما مصدرًا من مصادر الرزق لبعض وسائل الإعلام وغيرها، وإما مصدرًا من مصادر الشهرة، وإما مصدرًا من مصادر التسويق لفكر ما.

إن الوسائل الإعلامية المعاصرة سلاح ذو حدين، حيث يمكن استعمالها في الخير وفي الشر، وفي التوعية الجيدة والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أنها يمكن استعمالها في التضليل، وتكريس الباطل والجهل والتخلف، ناهيك عن إحداث الفتن، والحيرة لدى الناس.

وبالتالي فإذا لم تضبط الفتاوى الفقهية، بل والبرامج الدينية في وسائل الإعلام بصورة عامة، وفي الفضائيات بصورة خاصة فإن إثمها يكون أكبر من نفعها، وآثارها السلبية تكون أعظم من فوائدها، ومفاسدها تصبح أكثر من مصالحها.

المبحث الخامس:

اختلاف العلماء في الفتوى

وتأثير ذلك في ظل المتغيرات الإعلامية:

لما كان لكل عالم من العلماء اجتهادات خاصة به فيما يفتي فيه وذلك بما ترجح عنده من الأدلة، كان ذلك أحد أسباب اختلاف الفتوى.

واختلاف المفتين في فتاواهم المبنية على الأدلة الشرعية ليس أمرًا مذمومًا، وليس مما نهى عنه الشرع الشريف، بل أقرَّ مثل هذا النوع من الاختلاف، وجعل لكل مجتهد نصيبًا من الأجر، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذا حَكَمَ الحاكِمُ فَاجتَهَدَ ثُمَّ أَصابَ فَلَهُ أَجرانِ، وَإِذا حَكَمَ فَاجتَهَدَ ثُمَّ أَخطَأَ فَلَهُ أَجرٌ)([182]).

غير أننا نقول بأن الإفتاء بغير المذهب السائد في بلد ما يعد أمرًا غير مرغوب فيه، لأنه يفضي إلى النزاع والاختلاف والتفرق، ولذا أشار إليه العلماء المتقدمون، وبينوا خطره وما يحدثه، قال الشاطبي رحمه الله، في معرِض حديثه عما في تتبع رخص المذاهب من المفاسد: “أنه يفضي إلى ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم؛ لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة”([183]).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله في رسالته عن حكم شرب الدخان: “والعوام تبع للعلماء، فلا يسوغ ولا يحل للعوام أن يتبعوا الهوى ويتأولوا، ويتعللوا أنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء، فإن العوام تبع لعلمائهم ليسوا مستقلين، وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم. . وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام اتباعًا للهوى لا اتباعًا للحق والهدى إلا كما لو قال بعضهم يوجد بعض علماء الأمصار من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن نتبعهم، ولو فتح هذا الباب فتح على الناس شرٌّ كبير، وصار سببًا لانحلال العوام عن دينهم. وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية، ولما عليه أهل العلم من الأمور التي لا تحل ولا تجوز”([184]).

يظهر أثر اختلاف العلماء في الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية في الأمور التالية:

1 – إن اختلاف الفتوى عبر وسائل الإعلام في ظل المتغيرات الإعلامية له من الآثار السلبية ما لا يعلمه إلا الله تعالى خصوصًا في تلك الآونة الأخيرة التي ينتشر فيها الجهلُ بالأصول الدينية فضلا عن فهم قضايا الخلاف والاجتهاد وسعة الأفق الفقهية وتعدد الأقوال بحسب الدليل والنظر في الدلالة المستفادة، إلى غير ذلك من الأمور التي يدركها العلماء الراسخون، والتي يعاني من فهمها المنتسبون إلى العلم ممن يريدون أن يحملوا الناس على فهم وقول واحد، ويخطّئون ويبّدعون غيرهم، فما بالك بالجهال من عوام المسلمين؟

2 – إن اختلاف الفتوى على هذا الوضع الذي نراه من خلال وسائل الإعلام المختلفة من أعظم الأسباب التي تفقد العوام الثقة بالعلماء، وتتسبب في أن يستغل أعداءُ الدين هذه المسألة التي لا يفقهها الكثير في أن يسموا الفتوى بالهوائية التي تخضع للرغبات الشخصية أو وجهات النظر لا إلى الدليل الشرعي، وكذلك يستغلون هذا الخلاف المعلن في بث نوع من الشبهات نحو عدم ثبوت الشريعة واستقرارها على مبدأ معين، إلى آخر تلك القائمة الخبيثة من المفاسد التي تترتب على هذا الأمر الذي يحتاج إلى العلاج السريع لتدارك خطورة هذه المسألة والتي أرى أنه لا يجوز لأحد أن يتذرع بأنه يفتي بما أداه إليه اجتهاده، وأنه لا يستطيع أن يخالف ما وصل إليه من العلم والفهم ونحو هذه الدعاوى.

3 – إن اختلاف الفتوى في المسألة الواحدة ما بين مبيح ومانع، مع أن المسألة هي هي، قد أحدث نوعًا من التشتت عند المسلمين بسبب أنه كيف يقال في المسألة الواحدة بالحل والحرمة؟ وكيف يفتي أحدُ العلماء بالجواز ويفتي الآخر بالمنع؟([185]).

المبحث السادس:

المَلَكات الاستقبالية للمفتي

عبر المتغيرات الإعلامية

ودور مقدم البرنامج مع المفتي

أولًا: المَلَكات الاستقبالية للمفتي عبر المتغيرات الإعلامية:

أهم الأركان التي يقوم عليها برنامج الإفتاء، هو المفتي، وبمقدار ما أعطي من قوة وفهم واستحضار للأدلة يكون نجاح البرنامج الذي يتصدر للإفتاء من خلاله.

ولكن هناك أمور تعرض، خارجة عن السيطرة، يفرضها جو البرنامج، من كونه مباشرة على الهواء، وكون المستفتين على فئات شتى من الثقافة والفهم والأخلاق، فهذه الأمور قد ينتُج عنها سلبيات كثيرة، تجر وراءها ما تجر، سببها فقدان بعض الملكات الإعلامية والعلمية التي يجب توفرها عند المفتي.

ومن المَلَكات الاستقبالية للمفتي عبر وسائل الإعلام في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة ما يأتي:

1 – سرعة الاستحضار للأحكام الفقهية وأدلتها، وهذا يتطلب الرسوخ العلمي، والممارسة العملية للإفتاء لفترات طويلة، بحيث تتكون لديه خبرة ودُربة على مثل ذلك، والمفتي يتعامل في هذه البرامج مع فئات متنوعة من الناس، فمنهم من انخفض مستوى العلم عنده إلى درجات البدائية والسطحية، ومنهم من يشكل عليه أمور غامضة، يكثر فيها الاختلاف بين العلماء، ويتجاذب حكمها أدلة متعارضة ظاهريًا، أو مختلفة الصحة والصراحة، أو غير ذلك، ومنهم من لا يحسن السؤال، أو يتعمد المكايدة والإحراج، أو إيقاع المفتي في قضية لا ينبغي الخوض فيها على الملإ، أو استدراجه إلى ما يحقق غرض السائل وقصده الفاسد، أو إخفاء بعض الحقائق المهمة التي يتغير معها الحكم، أو استعمالها ضد منافس أو خصم، وإظهار السائل بمظهر المظلوم وهو ظالم. فيجب على المفتي أن يكون مستعدًا لكل هذا، وأن يكون كيسًا فطنًا، ذكيًّا في إجاباته، حذرًا في عباراته، رابط الجأش، واسع الحلم.

2 – سرعة الفهم وقوة الإدراك، والتمكن من فهم السؤال، لأن فهم السؤال هو الذي تنبني عليه الفتوى، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ويعظم الخطب حين يفتي السائل بحكم لا يناسب مسألته.

3 – مما يجب أن يتحلى به المفتي، ضبطُ النفس، وعدم الاندفاع وراء أي محاولة استفزاز من المستفتين، سواءً أكانت متعمدة أم عفوية.

4 – النظرُ إلى حال المستفتي وقت الفتوى، وإلى الأحوال والعوائد التي تختلف من بلد إلى آخر، وإلى التغيرات التي طرأت في العصر، وإلى اختلاف عقول الناس وعلومهم، وقوة إيمانهم أو رقته، وشدة ورعهم أو قلته؛ فغفلة المفتي عن ذلك قد تؤدي به إلى الفتوى بشيء يوقع بعض الناس في الحرج والعنت، أو يكون سببًا لغلوهم وتشددهم، أو تفريط آخرين وتساهلهم، وربما اتخذت تلك الفتوى ذريعة لمعاصٍ كثيرة، أو حصول فتن كبيرة.

ثانيًا: دور مقدم البرنامج مع المفتي:

إن برامج الفتوى -وخاصة المباشرة- تستلزم أن تتضافر فيها الجهود لأن يصل شرع الله تعالى إلى الناس بطريقة سليمة، فإن لها أهمية خاصة بسبب هذا الجانب، ولذا فهي تستلزم الدقة والانضباط، ومقدم البرنامج يتحمل مسؤولية كبيرة، فهو حلقة الوصل بين المستفتين والمفتي، ويضطَلع بدور كبير في إدارة الحلقة، وتوجيه الأسئلة، وانتقاء الموضوعات الأهم والأكثر قبولًا لدى الناس، كما أن له دورًا ظاهرًا في توجيه المفتي إن وهم، أو فهم خطًا، أو أجاب إجابة موهمة.

ويبرز دور مقدم البرنامج مع المفتي في أمور منها:

1-إذا سئل المفتي سؤالًا طويلًا، يتضمن فقراتٍ عدةً، فكثيرًا ما ينسي المفتي بعض الفقرات، أو يستطرد، حتى ينسي عجُز السؤال، أو يبدأ بآخر السؤال وينسي أوله، في هذه الأوقات والأحوال يجب على مقدم البرنامج التدخل، ليأتي المفتي على كل فقرة.

2- إذا أجاب المفتي إجابةً عائمة، أو عامة، فيجب على المقدم التدخل، ليحدد الإجابة. أما إذا عمد المفتي إلى الإجابات العامة، وهو مضطر لذلك، فيجب على المقدم عدم التدخل إلا بما يعزز هدف المفتي من صرف النظر عن السؤال لأن بعض الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها، إما لأغراض شرعية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو ربما تكون الإجابة غائبة عن المفتي، فهنا يجب على مقدم البرنامج صرف النظر عن السؤال، وعليه أن يكون فطنًا عارفًا حال المفتي وأسلوبه.

3- إذا فهم المفتي السؤال خطًا، أو حاوره السائل، فاتضح أن السائل لم يفهم الإجابة، فعلى مقدم البرنامج إزالة الالتباس([186]).

المبحث السابع:

أثر الفتوى فيما يأتي

في ظل المتغيرات الإعلامية،

وفيه أربعة مطالب:

 

المطلب الأول:

أثر الفتوى في تمسك المسلمين بدينهم

في ظل المتغيرات الإعلامية:

إقامة الدِّين والمحافظة عليه جلبًا للمصلحة ودفعًا للمفسدة أحد الضروريَّات التي جاء الشرع بالمحافظة عليها، والإسلام هو دين الأمّة المسلمة التي تدين به، وهو خاتم الأديان، ورسولها خاتم الرسل، والإسلام نظام الأمّة، وعليها عصبتها واجتماع كلمتها وانتظام أحوالها في شؤونها كلّها، وأحكامه جاريةٌ على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.

ولا بدّ للمجتمع من الفتوى وأهلها لإقامة دين الله في المجتمع الإسلاميّ حماية للعقيدة وإيضاحًا للشريعة، قال ابن القيم رحمه الله: “حاجة الناس إلى الشريعة ضروريَّة فوق حاجتهم إلى كلّ شيءٍ، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطبّ إليها، ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب”([187]).

وفي ظل المتغيرات الإعلامية التي تعيشها الأمة اليوم بل يعيشها العالم بأسره، أصبحت الفتوى ذات مكانة عالية فهي من أهم سبل التعلم، إذ إن جميع فئات المجتمع المسلم تشترك في اتخاذها سبيلًا لها، فإن الفتوى مشروعة للعامي، وطالب العلم الصغير والمتوسط، والعالم المقلد كل واحد منهم بأمس الحاجة لها.

ومن آثار الفتوى في تمسك المسلمين بدينهم في ظل المتغيرات الإعلامية:

1 – ما أحدثته الفتوى في المجتمع المسلم من إفراد الله بالعبادة، وأداء ما أوجبه الله تعالى على الناس والانتهاء عما حرم الله تعالى.

2 – ما أحدثته الفتوى من إصلاح في المجتمعات الإسلامية في مختلف المجالات الاجتماعية والحياتية حتى استقامت حياة الناس على الحق والخير والهدى والصلاح من خلال هذه الفتاوى التي دخلت بيوت كثير من المجتمعات الإسلامية.

3 – ما أحدثته في تحسين خلق المسلم وسلوكه الحميد التي ينبغي أن يكون عليها، سواء كان ذلك في ألفاظه، أو أعماله، أو تصرفاته، أو طباعه، أو معاملته مع الآخرين.

إلا أنه في مقابل ذلك هناك من الفتاوى ما كان له تأثير سلبي على بعض المسلمين فكم من فتوى أدت إلى الانحراف في الجانب العقدي، وكم من فتوى أدت إلى فساد أخلاقي وانتشار للرذيلة وانتشار الفواحش والمحرمات في مجتمعات الأمة.

وبناء على ذلك فالمتغيرات الإعلامية، أحدثت تغيرًا كبيرًا في حياة المسلمين ومنظومة التربية الإسلامية عندهم, وأصبح من المهم مراجعة منظومة الفتوى عبر وسائل الإعلام لتتوافق مع الأثر الذي ستؤديه في زمن الانفتاح.

المطلب الثاني:

أثر الفتوى في التصدِّي للغلوِّ في التكفير

واستباحة الدماء في ظل المتغيرات الإعلامية:

أولًا: تعريف الغلو وصوره:

الغلوّ شرعًا: تجاوز العبد حدّه نحو الشدّة مما يخرجه عن موجب النصوص الشرعيَّة في اعتقادٍ أو عملٍ وهو منهيّ عنه كما قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]، وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلوّ في الدين، ونحن كذلك، كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[هود: 12].

وصور الغلو كثيرة منها:

1 – الجنوح إلى أمر خارجٍ عن نصوص الكتاب والسنّة نحو التشديد، كالتكفير بالذنب، والخروج على الولاة – كما هو مذهب الخوارج.

2 – إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله عز وجل عبادةً وترهّبًا مما يخالف المشروع في نوافل العبادات، فعن أنس رضى الله عنه قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتين، فقال: (مَا هَذَا الحَبْلُ؟) قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلّقت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)([188]).

3 – تحريم الطيبات التي أباحها الله – تعالى – إذا كان تحريمها على وجه التعبّد، كتحريم أكل اللحم والفواكه.

4- ترك الإنسان ما يحتاجه من ضروراته، مثل الأكل والشرب والنوم والنكاح.

وتظهر وظيفة الفتوى عبر وسائل الإعلام في ظل هذه المتغيرات في التصدي لهذا الفكر الخاطئ وذلك بسلوك منهج الوسطيَّة والاعتدال في الفتوى، فيردّ شارد الأمّة نحو الغلوّ إلى طريق الجادّة والصواب

وذلك بالتزام هدي الكتاب والسنّة، فلا اعتقاد إلا بما جاء في كتاب الله عز وجل وسنّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ولا تكفير إلا بما جاء كذلك فيهما، ولا إلزام بحكمٍ ولا سلوكٍ إلا بما ألزم به الكتاب والسنّة، فلا تحريم للطيّبات ولا ترك للضرورات التي يحتاجها الإنسان من نكاح وطعامٍ وشراب ونوم.

ثانيًا: أثر الفتوى في التصدِّي للغلوِّ في ظل المتغيرات الإعلامية:

دور الفتوى عبر وسائل الإعلام الحديثة في التصدي للغو واضح فقد كان لها القدم المعلى في تنقية الأفكار وفي ترسيخ المفاهيم الإسلامية الصحيحة، والرد على شبهات الغلاة ودعاويهم وتلبيساتهم، وتتبع مقالاتهم ومؤلفاتهم، بالحجة والدليل والبرهان الشرعي والعقلي.

ومن أثر الفتوى في التصدي لظاهرة الغلو أيضًا أنها قامت عبر الوسائل الإعلامية الحديثة, بعرض الوسطية ومفاهيمها بمنهج أهل السنة والجماعة وبمفاهيم إنكار المنكر والقواعد الأصولية المتعلقة بالضرر والضرار، وبعرض مفاهيم عقيدة أهل السنة والجماعة وسلوكياتهم. وذلك من خلال أمرين:

أولاهما: ترسيخ المفاهيم الشرعية الصحيحة وتقريرها ابتداء.

ثانيهما: تمييز الحق من الباطل ببيان خصائص الحق وعلاماته، وكشف زيف الباطل ودفع شبه المحرفين الغالين فيه.

المطلب الثالث:

أثر الفتوى في المحافظة على الهويَّة الإسلاميَّة

في ظل المتغيرات الإعلامية:

تمهيد:

الإسلام هو دين الأمّة، وهو عقيدة وعبادة وأحكام وآداب، يشمل المعاملات والأنكحة والجزاءات والقضاء، والإنسان في كافّة أحواله ونشاطاته من آداب اللباس والأكل وغيرهما، فالإيمان ليس بالتمنّي ولا بالتحلّي ولكن ما وقر بالقلب وصدّقته الجوارح، والتزام الأمّة المسلمة بهدي الكتاب

والسنّة يجعلها في انسجام مع دينها ومحافظة على هويَّتها.

وقد كانت حياة المسلمين وشخصيَّة الأمّة المسلمة بارزةً في عقيدتها وعباداتها وفي حياتها الاجتماعيَّة، وفي نشاطها الاقتصاديّ، وفي الحكم والتقاضي وجميع تشريعاتها.

ولا بد للإنسان من هوية تميزه عن غيره، بل ينبغي أن يكون للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء.

وإن من أعظم ما يلزم معرفته لدى من يتصدر للإفتاء أن يدرك مدى خطورة الإعراض عن الهوية الإسلامية وأن حاجتنا إلى هويتنا الإسلامية ضرورية وبخاصة في هذه الفترة التي تمر بها أمتنا الإسلامية حيث اختلطت الأمور والمفاهيم عند كثير من أبناء الأمة

وتكمن حاجتنا إلى هويتنا فيما يلي:

1- لأنها الثابت الوحيد الذي يواجه المتغيرات التي نعيش فيها.

2- لأنها مصدر أساسي في الحفاظ على العقيدة، والقيم الثابتة في الإسلام والأخلاق، وهي أمور ربانية أمرنا الله بتطبيقها في جميع أمور حياتنا.

3- لأنها تساعد على تقوية البناء النفسي عن طريق تعليق الإحساس بالله، وجعل حب الله ورسوله وطاعة الله ورسوله أحب إلينا من كل ما في الكون وبما فيه من مغريات.

أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويَّته الإسلاميَّة في ظل المتغيرات الإعلامية:

وفي ظل المتغيرات الإعلامية الهائلة رأينا للفتوى دورها الفعال في محافظة المسلمين على هويتهم، فقد كانت الفتوى طوق النجاة للمسلمين الذين كانت تتقاذفهم الأمواج وتحيط بهم الأخطار من كل جانب.

فكم يعرض من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة عن أهمية الهوية وأهمية المحافظة عليها وبخاصة في البلدان التي بها أقليات مسلمة فقد كان للفتوى دور حاسم في حقن دماء المسلمين، عندما تدب الخلافات بين المسلمين، أو بين السلطات في البلدان التي يعيشون فيها.

وهذه جوانب من آثار الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويَّته الإسلاميَّة في ظل المتغيرات الإعلامية:

1 – من آثار الفتوى في جانب العقيدة في ظل المتغيرات الإعلامية أنها قامت بفضل الله تعالى على حفظ الدين الذي يحصل بالأمر بالتوحيد والإيمان وإظهار أحكام الشريعة، ومنع الارتداد عن الدين والسخرية منه، والذب عنه بكشف شبهات أهل الزيغ والضلال والأهواء والبدع.

2 – ومن آثار الفتوى في جانب العقيدة أنها كانت الحصن الحصين بعد الله تعالى في الرد على أعداء الله من اليهود والنصارى والوثنيين الذين يحاربون عقيدة المسلمين من خلال وسائل الإعلام المختلفة من التشكيك فيها، ووسائل التنصير، والهجوم المباشر عليها ورمي أصحابها بأنواع من تهم التطرف والإرهاب مستعينين في ذلك بتيارات مختلفة من المارقين عن دينهم الذين استخدموا كلَّ وسيلة تمكنوا منها لنفث سمومهم بأساليب متنوعة.

3 – ومن آثار الفتوى في الحفاظ على هوية المسلمين في جانب العقيدة عبر وسائل الإعلام الحديثة أنها كانت الحصن الحصين بعد الله تعالى لما تدعو إليه منظمات حقوق الإنسان العالمية المسلمين إلى تغيير موقفهم من حرية الاعتقاد من خلال إلغاء حد الردة، الذي هو أحد الحدود الإسلامية، بحجة أن حرية الاعتقاد مكفولة لأي إنسان، دون منعه من الانتقال من دين إلى آخر.

4 – ومن آثار الفتوى في الحفاظ على هوية المسلمين في جانب الأحوال الشخصية عبر وسائل الإعلام الحديثة أنها كان لها دور حاسم وفعال في الرد على بعض الشبهات التي تثار حول تعدد الزوجات. ودعوى أن التعدد يعدُّ انتهاكًا لحقوق المرأة وهدرًا لكرامتها، ويستشهدون ببعض ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لدعم ما يذهبون إليه، فيحملون هذه الأدلة على غير محملها، ويفسرونها تفسيراتٍ شاذةً، حرصًا منهم على دفن كل فضيلة ونشر كل رذيلة في المجتمع المسلم.

وكذلك دعوى السماح للمسلمة بالزواج من أهل الكتاب ودعوى مساواة الأولاد الذكور والإناث في الميراث إلى غير ذلك من الدعاوى الباطلة التي قامت الفتوى عبر وسائل الإعلام بالرد عليها وبيان فسادها، وتناقلت هذه الفتاوى جميع دول العالم العربية والأجنبية عبر وسائل الإعلام المختلفة مما كان له دور بارز في حماية عقيدة المسلمين والحفاظ على هويتهم الإسلامية([189]).

المطلب الرابع:

أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي

في ظل المتغيرات الإعلامية:

تمهيد:

جعل الله اجتماع الإنسان بغيره وحاجته إليه مما لا يمكن دفعه، وعند اجتماع الإنسان بغيره يحتاج إلى الانتظام وحسن التعايش والطمأنينة على حقوقه، فلا يعتدي أحدٌ على أحدٍ، في عِرضٍ أو مالٍ أو دمٍ، كما تصان الحقوق العامّة مما شرعه الله عز وجل لانتظام أحوال المسلمين وحسن تعايشهم وسلامة مجتمعهم، وتحقيقُ ذلك هو الأمن الذي هو مطلبٌ لكلّ أمّة، وقد جاء القرآن الكريم والسنّة المشرّفة ببيان أهميَّة الأمن، ففي دعاء إبراهيم – عليه السلام – ربّه قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

وامتنّ الله – تعالى – على أهل البلد الحرام بالأمن فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]، وعن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطميّ عن أبيه – وكانت له صحبةٌ – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)([190]). فالصحّةُ في الأبدان، والأمن في الأوطان من أعظم النِّعَم على الإنسان.

وأمن المجتمع يتحقّق بحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وذلك يدور على حفظ الضروريَّات الخمس من الدين والعقل والنفس والعرض والمال في جانب الوجود بتزكيتها وترقيتها، وفي جانب العدم بحمايتها من الفناء والزوال.

والفتاوى الرشيدة الملتزمة بمنهج الوسطيَّة في الفتوى والتي تنطق بما نطق به الكتاب والسنّة على وفق منهج السلف الصالح تدعم هذا الاتّجاه وتقوّيه، فيذعن الجميع لنداء الحقّ ويسعى لتحقيقه، ولا يجترئ على مخالفته([191]).

أثر الفتوى عبر وسائل الإعلام الحديثة في رسوخ الأمن:

لقد كان للفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية الهائلة أثرُها الفعال في محاربة الإرهاب بجميع صوره وذلك من خلال أمور منها:

1 – تأكيد الفتوى على التمسك بمنهج الإسلام الصحيح بعيدًا عن الإفراط والتفريط اللذين هما مكمن الخطر والانحراف الفكري لدى الأفراد والمجتمعات.

2 – ومن أثر الفتوى في رسوخ الأمن في ظل المتغيرات الإعلامية ما كان يركز عليه دائمًا عبر وسائل الإعلام على براءة الإسلام من الأفكار والأعمال المنحرفة.

الخاتمة

وفيها ملخَّص البحث والتوصيات:

بعد الانتهاء من هذا البحث (تأثير الفتوى في المتغيرات الإعلامية) أُلخص أبرز النتائج وأهم التوصيات التي ينبغي على أهل الإفتاء في ظل هذه المتغيرات الإعلامية أن يراعوها:

أولًا: ملخص البحث:

1 – أن الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية أهم وسيلة من وسائل التأثير الجماهيري. وذلك لما تميز به عصرنا الحاضر بزيادة في حجم المتغيرات والمستجدات التي لم تشهدها العصور السابقة.

2 – لابد أن تأخذ الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية موضع الجد لمواجهة أهل الإفساد الذين يفكرون ويخططون ليل نهار لإفساد عقائد المسلمين

3 – للفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية تأثيرها البارز على سلوك الأفراد والمجتمعات إما سلبًا أو إيجابًا وذلك حسب مضامين هذه الفتوى ومدى تأصيلها الشرعي.

4 – العلاقة بين الفتوى والإعلام في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة علاقة وطيدة حيث يقوم الإعلام بدوره في الانتقال السريع للفتاوى داخل المجتمع الإسلامي، فتحدث تأثيرًا مباشرًا وسريعًا للفتاوى في إظهار حكم الله أو إحداث تغييرات اجتماعية إيجابية في مدة وجيزة.

 5 –تعدد المفتين عبر وسائل الإعلام واختلاف توجهاتهم وخلفياتهم الشرعية أنتج اختلافًا كبيرًا في الآراء والفتاوى قد يصل أحيانًا إلى حد الفوضى الإعلامية، وجعل الناس في بلبلة وشك.

6 – واقع الفتوى في وسائل الإعلام واقع مؤلم وذلك لأن الكثير من هذه الفتاوى قد أصبحت إما مصدرًا من مصادر الرزق لبعض وسائل الإعلام وغيرها، وإما مصدرًا من مصادر الشهرة، وإما مصدرًا من مصادر التسويق لفكر ما.

7 – الوسائل الإعلامية المعاصرة سلاح ذو حدين، حيث يمكن استعمالها في الخير وفي الشر.

8 –الإفتاء بغير المذهب السائد في بلد ما يعد أمرًا غير مرغوب فيه، لأنه يفضي إلى النزاع والاختلاف والتفرق.

9 – ينبغي على المفتي أن تكون لديه ملكات استقبالية عبر وسائل الإعلام في ظل المتغيرات الإعلامية.

10 –الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية لها دور كبير في تمسك المسلمين بدينهم والمحافظة على هويتهم ومحاربة الغلو بجميع صوره.

ثانيًا: أهم التوصيات:

1 – الاعتدال في الفتوى وعدم المبالغة والتشدد مع مراعاة نصوص الوحيين في ذلك.

2 – الاعتناء بتقديم وعرض الفتوى بطريقة يستطيع المستفتي من خلالها فهم مراد المفتي.

3 – تلمس الجوانب والمداخل التي يمكن الإفادة منها عند عرض الفتوى وتوظيفها مهما كانت محدودة.

4 – الاعتناء بالتربية الإيمانية من خلال الفتوى وذلك من خلال دعوة المستفتي بالمحافظة على أولاده، والتحذير من حالات الانحراف والتغير، وصحبة أهل السوء وغير ذلك.

5 – وفي ظل المتغيرات الجديدة ينبغي للفتوى أن تقوم بتحذير المسلمين من هذا الانفتاح الهائل للشهوات، وأبواب الفساد المحرمة، من خلال ما يعرض في القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، والانفتاح المتزايد على العالم الآخر.

6 – لما كانت المتغيرات الجديدة في وسائل الإعلام المعاصرة ومصادر الثقافة الجديدة تنقل الناس إلى عالم مادي بحت لا صلة له بالدار الآخرة وما يدعو إليها، كان لزامًا على أهل الإفتاء عبر وسائل الإعلام الاعتناء بتدعيم التربية الإيمانية وتقويتها في كافة وسائل الإعلام.

7 – تعتمد العوامل والمتغيرات الإعلامية الجديدة في الغالب على إثارة الشهوات والغرائز، التي كثيرا ما يؤتى منها المرء من جهة ضعف إرادته، وقلة قدرته على ضبط نفسه، ولابد لأهل الفتوى عبر هذه المتغيرات من الاعتناء بما يعالج هذه السلوكيات.

8 – على أهل الإفتاء في ظل هذه المتغيرات الإعلامية اقتحام وسائل الإعلام والمشاركة فيها وذلك لأن هذه الوسائل الإعلامية هي التي تتحكم اليوم في ثقافة الأمة وتصنع الرأي العام، وتُوجّه الناس شئنا أم أبينا، وتملك من الجذب والإثارة والوسائل؛ مالا تملكه الوسائل الأخرى.

9 – على أهل الإفتاء في ظل هذه المتغيرات الإعلامية الاعتناء بنشر العلم الشرعي وإحيائه؛ لأن العلم الشرعي يعطي الناس القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين المفسد والمبطل، والناس إنما يُؤتَون من الجهل، فيقعون في الحرام، أو يتركون الواجب جاهلين بحكمه، وقد تضعف إرادتهم فيتبعون شهوتهم مع علمهم بالحكم الشرعي.

10 – في ظل المتغيرات الإعلامية ألتمس من المجامع الفقهية ومؤسسات الفتوى بأنواعها الاستفادة من الوسائل التكنولوجية الحديثة في نشر الفتوى.

11- ألتمس من معدِّي ومقدِّمي البرامج الدينية، ومحرِّري الشؤُون الإسلامية، في الصحف والمجلات وسائر طرق الإعلام الأخرى، ضرورة الاستعانة بعلماء الشرع الموثوقين، للإشراف على برامجهم، وعدم فتح الباب أمام غير المؤهلين للعبث بها تحقيقا للتعاون المثمر بين الجهات العلمية والجهات الإعلامية.

12- أتمنى أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلًا عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تمحيص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغطَ على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.

المراجع والمصادر

* أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة لمعالي الشيخ عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين، مطبوع في مجلة البحوث الإسلامية العدد الثامن والثمانون – الإصدار، من رجب إلى شوال لسنة 1430 هـ.

* أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية : ا.د عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار، موجود لدى المجموعة الكاملة لبحوث الفتوى واستشراف المستقبل.

* التعريفات: علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفى: 816هـ): ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر. دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ -1983م.

* إعلام الموقعين عن رب العالمين: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ – 1991م.

* الإحكام في أصول الأحكام : أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ) تحقيق: عبد الرزاق عفيفي: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان.

* العلاقات العامة والمجتمع: إبراهيم إمام: مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1981م.

* القاموس المحيط : مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817هـ)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الثامنة، 1426 هـ – 2005 م.

* الإعلام الإسلامي: الأصول والقواعد والأهداف: محي الدين عبد الحليم: ص (54). مؤسسة اقرأ الخيرية، 1992م.

* الأسس العلمية والتطبيقية للإعلام الإسلامي، عبد الوهاب كحيل. عالم الكتب، بيروت، ط/1 : 1985م.

* الفتوى والاستفتاء في البَرَامِجِ الإعلامية المُبَاشِرَةِ: د. فريد بن عبد العزيز الزامل السُّليم، مكتبة الرشد 1426هـ.

* الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية، للدكتور: فهد بن سعد الجهني ، مجلة البحوث الإسلامية ع (80).

* الفروق: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ): عالم الكتب. الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ.

* الفقيه والمتفقه: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ) تحقيق: أبو عبد الرحمن عادل بن يوسف الغرازي: دار ابن الجوزي – السعودية، الطبعة الثانية، 1421هـ.

* الموافقات: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان: دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م

* تعظيم قدر الفتوى خطبة الجمعة للشيخ: إبراهيم بن صالح العجلان شبكة الألوكة.

* حقيقة الإفتاء الفضائي وخصائصه: د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان. مجلة البحوث الإسلامية: العدد السابع والتسعون – الإصدار من رجب إلى شوال 1433 هـ.

* خطبة المسجد الحرام – 11 صفر 1430 – فتاوى الفضائيات – الشيخ عبد الرحمن السديس وهي خطبه منشورة في عدد من المواقع الإلكترونية.

* رسالة مسؤولية الفتوى الشرعية وضوابطها وأثرها في رشاد الأمة الدكتور محمد فؤاد البرازي.

* سنن الترمذي: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ) تحقيق وتعليق شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة الثانية، 1395 هـ – 1975 م.

* شرح الكوكب المنير: تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المعروف بابن النجار الحنبلي (المتوفى: 972هـ). تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد: مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية 1418هـ – 1997 م.

* صفة الفتوى والمفتي والمستفتي: أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان النميري الحرّاني الحنبلي (المتوفى: 695هـ) تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1397هـ.

* صحيح الإمام البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى : 256هـ) دار الشعب – القاهرة، الطبعة الأولى ، 1407 هـ – 1987م.

* صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

* صحيح الجامع الصغير: محمد ناصر الدين الألباني: المكتب الإسلامي: بيروت، الطبعة الثالثة.

* ضوابط الفتوى عبر الفضائيات: ا د . عبد الناصر أبو البصل، رئيس جامعة العلوم الإسلامية العالمية. موقع الفقه الإسلامي.

* ضوابط الإعلام في الشريعة الإسلامية وأنظمة المملكة العربية السعودية، يوسف محمد قاسم، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الرياض،, 1979.

* لسان العرب: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (المتوفى: 711هـ) الناشر: دار صادر – بيروت الطبعة: الثالثة – 1414 هـ .

* مجمل اللغة لابن فارس: أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395هـ). دراسة وتحقيق: زهير عبد المحسن سلطان دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الثانية – 1406 هـ – 1986 م.

* محيط المحيط: بطرس البستاني مكتبة لبنان ـ بيروت. ط 1987م.

* مسؤولية الفتوى الشرعية و ضوابطها و أثرها في رشاد الأمة: محمد فؤاد البرازي، مدير الرابطة الإسلامية في الدانمارك. كتب وأبحاث .مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا موقع صيد الفوائد.

* مقال بعنوان الفتوى الفضائية: مصطفى مهدى خميس السيد. شبكة الألوكة.

* مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ): دار الكتب العلمية – بيروت

* وظائف الإعلام الإسلامي: محمد محمد يونس: ورقة مقدمة إلى ندوة: (الإعلام الدولي وقضايا العالم الإسلامي)، القاهرة، نوفمبر 1998م.

 

الفتوى وأثرها في المحافظة

على الهوية الإسلامية

والمقدم لمؤتمر (الفتوى واستشراف المستقبل).

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

بجامعة القصيم.

 

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن لكل أمة من الأمم ثوابتَ تبنى عليها حياتها، هذه الثوابت تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة. وفي طليعة هذه الثوابت تأتي الهوية باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة. ولا تستحق أمة من الأمم وصف الأمة حتى تكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم. فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول هوية ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك أفرادها، وتكيف ردود أفعالهم تجاه الأحداث، ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهويتهم، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى.

كما أنه من البديهي أيضًا، أن الأمة إذا فقدت هويتها، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة.

 والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين لم يقتنعوا حتى الآن أن الأعداء من حولهم، على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية، وصهرها في مواقد نار الأممية وإزالتها من الوجود؛ لأنها تعتبر الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في الاستيلاء على العالم الإسلامي، والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

إن أيّ جماعة تفرّط في هويتها سيسهل – في عالم تحكمه شريعة الغاب – استقطابُها والهيمنة عليها، وانحلالُ شخصيتها عن طريق تدمير المؤسسات والأفكار والثقافة في ذلك المجتمع التي تحفظ عليها شخصيتها، فيتحول الإنسان إلى كائنٍ فارغٍ تابع لغيره مقلد له. أما هذه الأمة فلا عزة لها بدون هويتها {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون: 8]

إنَّ محافظة الأمة المسلمة على هويتها الإسلامية، والاعتزاز بهذا الدين العظيم، يولِّد لديها الشعورَ بأنَّها الأمَّة التي اصطفاها الله بين العالمين لخيريتها وسمو تشريعاتها، ولكنَّا وللأسف نرى أناسًا من المثقفين وغيرهم، ينسلخون من هويتهم، وينقلبون على واقعهم الإسلامي بالهمز واللمز، بل ويذوبون في المشروعات الغربيَّة المناهضة للإسلام([192]).

وفي مقابل ذلك يلزم كل من انشغل بدعوة الناس إلى الإسلام وبخاصة من يقومون بجانب الإفتاء أن يبينوا للناس مخاطر الانزلاق بالوقوع في أفكار الغرب المسمومة، وأن يبينوا للناس الهوية الإسلامية الصحيحة، وأن يدعوهم إلى المحافظة على هويتهم والاعتزاز بها، وأن يوضحوا للناس بعض الجوانب التي قد تأثر بها بعض المسلمين من غيرهم، وأن يحذروا الناس من ترك هويتهم الإسلامية ومنَ الانجرار وراء الأفكار الغربية المسمومة التي تفسد عليهم هويتهم.

الهدف من البحث:

يتركز هدف البحث في التعريف بالهوية الإسلامية وبيان قيمة ودور الفتوى في المحافظة عليها سواء كان ذلك في الجانب العقدي أو الجانب السلوكي والأخلاقي مع تبصير المسلمين بالمؤامرات التي تحاك ضد هويتهم، وضرورة الحفاظ عليها في زمن الاضطراب الذي يشهده العالم اليوم، وصيانتها من الجهود المبذولة لطمسها وتغييرها، وذلك من خلال الفتاوى التي تتناول أسس الاعتصام بالهوية وتحذير المجتمع المسلم من الانزلاق في الهاوية، ودعوته إلى التمسك بالعقيدة وترغيبه في الاعتزاز بدينه وتحذيره من التشبه بأهل الباطل في عباداتهم وعاداتهم أيما تحذير.

سبب اختياري لهذا البحث:

وقد دعاني إلى الكتابة في أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية ما يلي:

1 – أن الهوية هي أحد المقومات التي تُبنى عليها الأمم فشعب بلا هوية لا قيمة له في الوجود ومن هنا كان ولابد من تحصين الهوية والاعتناء بها وبخاصة في هذه الفترة التي تمر بها أمة الإسلام حيث اختلطت فيه المفاهيم وأصبح الكثير من المسلمين لا يعرف قيمة ما هو عليه من الإسلام، وهنا يبرز دور الفتوى إذ بها يحافظ المسلم على هويته الإسلامية في ظل تسلط العولمة المقيتة وبروز من يفتي لها بما يناسب أهداف وأغراض المناهضين لهذه الهوية.

2- أن الفتوى المبنية على أصول الشريعة في المجتمع المسلم وغير المسلم هي صمام أمان لأهل الإسلام من فتن الشبهات والشهوات، وسد منيع دون التأثر بالتيارات الضالة والمناهج المنحرفة والطرق المبتدعة، وخصوصًا في ظل هذه المتغيرات والتقنيات الحديثة التي قربت البعيد وأصبح فيها العالم كقرية واحدة وإن شئت فقل كأن العالم كله في غرفة واحدة ينهل من معين واحد بلا ضوابط يمكن من خلالها أن يحافظ المرء على عقيدته وسلوكياته وأخلاقه.

3- أن الفتوى على مر التاريخ الإسلامي كانت هي الرائدةَ وصاحبة الدور الكبير في الحفاظ على هوية المسلمين واعتزازهم بها، يتمثل ذلك في تقديم الأجوبة الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم المعتبَرين عند أهل السنة والجماعة بلا تفريط وإفراط ولا شطط ولا تهور كما سيتبين ذلك من خلال هذا البحث.

4 – أن أثر الفتوى في المحافظة على الهوية يكمن في بيان نصوص الشريعة للمستفتي وبخاصة إذا كان المستفتي يعيش في بلاد غير إسلامية حيث اختلطت عندهم الأمور والمفاهيم وأصبح الكثير ممن يعيشون في هذه البلدان لا يعرف عن الإسلام إلا النادر اليسر فتكون الفتوى لبعضهم الملاذ الآمن وطوق النجاة الذي يحفظ عليه هويته ويحميه من الانزلاق في أوحال الفكر العلماني وغيره من الأفكار المخالفة للإسلام.

5- ظهور بعض الآراء ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين حيث نجدهم يدعون إلى التجديد والتغيير حتى في الأحكام الشرعية التي وردت فيها نصوص قطعية، وقد يكون دافعه إلى ذلك اجتناب الانتقادات التي توجه إلى الإسلام من الكفار، سواء من اليهود أو النصارى، أو يكون دافعه من وراء ذلك أغراض أخرى سيئة.

وقد قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مباحث:

بيَّنت في التمهيد وهو المبحث الأول: تربص أعداء الإسلام بالهوية الإسلامية بين الماضي والحاضر، وأن هدف أعداء الإسلام على مر العصور والأزمان هو إبعاد المسلمين عن هويتهم وأنهم بالفعل نجحوا إلى حد كبير في هذا الجانب.

والمبحث الثاني بعنوان: التعريف بالهوية الإسلامية وأهمية الحفاظ عليها وفيه ستة مطالب:

المطلب الأول: تعريف الهوية.

المطلب الثاني: بيان حاجة المسلم إلى الهوية.

المطلب الثالث: مقومات الهوية الإسلامية.

المطلب الرابع: سمات وخصائص الهوية الإسلامية.

المطلب الخامس: التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية.

المطلب السادس: كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية.

والمبحث الثالث بعنوان: أثر الفتوى في حماية الهوية الإسلامية، وفيه ستة مطالب:

المطلب الأول: العلاقة بين الفتوى وحفظ الهوية الإسلامية.

المطلب الثاني: أثر الفتوى في الحفاظ على العقيدة.

المطلب الثالث: أثر الفتوى في الحفاظ على الأحوال الشخصية.

المطلب الرابع: أثر الفتوى في الحفاظ على الهوية الإسلامية للمرأة.

المطلب الخامس: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية في جانب العبادات.

المطلب السادس: أثر الفتوى في المحافظة على هوية الشباب المسلم.

وفي الختام أتقدم بالشكر إلى عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية فضيلة الدكتور/ مزيد بن إبراهيم المزيد وزملائه في اللجنة التنظيمية واللجنة العلمية على دعوتي للمشاركة في مؤتمر (الفتوى واستشراف المستقبل)، سائلًا الله تعالى أن يحقق هذا المؤتمر أهدافه المرجوة، كما أسأله سبحانه أن يحفظ علينا ديننا، وأن يرزقنا الثبات عليه حتى الممات إنه سبحانه وتعالى القادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المبحث الأول:

التربص بالهوية الإسلامية بين الماضي والحاضر

وأثر الفتوى في مواجهة ذلك:

اتخذ القرآن الكريم منهجًا واضحًا في تبصير المسلمين بالمؤامرات التي تحاك ضد هويتهم، وإعلام كل مسلم بأن الأعداء يستهدفون هويته التي تميزه عن غيره، وتشكل مصدر اعتزازه، وهذا بلا شك امتداد طبيعي للصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

وقد ذكر القرآن مصادر تهديد الهوية الإسلامية الخارجية والداخلية، فالمنافقون في عهد النبوة كانوا يشكلون تهديدًا للهوية الإسلامية، ويعملون على طمسها، وكذا كفار قريش كانوا يشكلون تهديدًا للهوية الإسلامية، فقد وصفوًا أعظم مصادر الهوية الإسلامية بأنه إفك مفترى وأعانه عليه قوم آخرون، وأنه أساطير الأولين اكتتبها النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك أهل الكتاب كانوا يشكلون تهديدا للهوية الإسلامية، فقد استباحوا حرمة المؤمنين، وزعموا أنه ليس عليهم في الأميين سبيل ووصفوا الوثنية بأنها الأهدى سبيلا.

ذكر الإطار الزماني لقضية تهديد الهوية الإسلامية:

بين القرآن الكريم أن الجهود لطمس الهوية الإسلامية قديمة قدم البشرية ذاتها، وهي تتصل بقصة خلق البشر، والاعتراض على تكريم البشر في شخص أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، وأثبت كذلك أن هذه الجهودَ ستظل متصلة، ولن تنقطع حتى تصل إلى غايتها.

أما في العصر الحاضر فالجهود التي تبذل اليوم لتذويب الهوية الإسلامية لا تختلف عن الجهود السابقة في المغزى، وإن كان هناك اختلاف فهو في الوسائل؛ فإن الجهود الحالية تسخر آلة الإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة، وكل ما وصلت إليه التقنية في سعيها لطمس الهوية الإسلامية.

وتُهم أعداء الإسلام لا تختلف كثيرا عن التهم السابقة فإنهم يتهمون الإسلام بأنه انتشر بالسيف والبطش، فهو دين يقوم على الإرهاب والإكراه، ويتهمونه بالعجز عن تقبل المدنية والتحضر، وعدم الصلاحية لكل زمان ومكان، ويتهمونه بظلم المرأة في الميراث وتعدد الزوجات، وانتهاك حقوقها المتعلقة بحريتها الشخصية، وغير ذلك من التهم التي تلصق بالدين الإسلامي.

وبناء الهوية الإسلامية مسؤُولية كل فرد من أبناء هذه الأمة وعلى رأسها المؤسسات التي أسستها الدولة وعلى رأسها دار الإفتاء فالأمّة في حاجةٍ إلى الفتوى لإقامتها على منهج الله تعالى، وإذا لم يكن بُدٌّ من الأطبّاء في المجتمع لطب الأبدان ليقضوا على المرض وأسبابه أو مداواته لتخف وطأته على المريض ولا يمكن لغير الأطباء أن يحلّوا محل الأطباء في مراجعة كتب الطب لمعالجة أنفسهم أو غيرهم، فمن باب أولى ألاّ يطببَ الناس في عباداتهم ومعاملاتهم ومناكحاتهم وكافّة أحوالهم الشرعيَّة إلا أهلُ الفتوى، فكما أن الإنسان إذا تُرك من غير علاج فإن المرض يؤذيه أو يهلكه فكذا إذا تُرك من غير إفتاء ولا توجيه في شؤُون عباداته ومعاملاته وأنكِحَته وغيرها فإنه يضلّ ويهلِك، فكان لا بدّ للمجتمع من الفتوى وأهلها لإقامة دين الله في المجتمع الإسلامي حماية للعقيدة وإيضاحًا للشريعة وحفظًا لهوية المسلمين وليس لأحد مزاحمة أهل الفتوى المتخصصين فذلك جناية على الأمة والمجتمع ومزلق خطير يقع فيه بعض من يسيئون لأنفسهم ودينهم وبلادهم وأمتهم.

المبحث الثاني:

التعريف بالهوية الإسلامية وأهمية الحفاظ عليها

وأثر الفتوى في ذلك،

وفيه ستة مطالب:

مدخل:

إن مجال الإفتاء في عصرنا الراهن يشهد حالة من الاضطراب والفوضى، فكم نسمع من فتاوى في تحريف مبادئ الدين وتضليل الأفراد، ولاسيما الفتاوى التي ألقت بظلالها على الهوية الإسلامية وكان لها دور في وجود أجيال لا تعرف معنى الإسلام الذي تدين إلى الله تعالى به مما كان له دور سلبي على واقع دول العالم الإسلامي، وعلى صورة الإسلام والمسلمين في الدول الأخرى التي ساهمت بعض الفتاوى في تشويهها وفي تنفير غير المسلمين من الإسلام، وخلق صور نمطية مفادها أن الإسلام ليس هناك فرق بينه وبين هذه الديانات الأخرى التي يمثل أصحابها الأكثر وجودًا في جميع دول العالم.

ولا شك أن هذه القضايا وغيرها، لها ارتباط وثيق بحالة الفوضى التي يشهدها مجال الإفتاء في كثير من بلاد المسلمين، فتغيرت المفاهيم والأصول والمبادئ، في عصر العولمة الذي اجتاح مجتمعاتنا بوسائله المتعددة، كتقنيات الاتصال وشبكة المعلومات العالمية، التي جلبت معها (فتاوى الكترونية عابرة للقارات)، مما أدى إلى خروج الفتوى عن الضوابط والحدود التي سطرها العلماء ورسموها لها لتؤدي دورها الفاعل.

ولقد مثلت الفتوى في تاريخ الإسلام دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية الإسلامية وفي تقديم الأجوبة الشرعية على الأسئلة التي تَستجدُّ في حياة الناس، ولا سيما الأسئلة الكبرى التي تثيرها حوادث الزمان وتعاقبُه والمكان بأبعاده وخصوصياته.

وقبل الشروع في بيان دور الفتوى في الحفاظ على الهوية الإسلامية نقف وقفة نتعرف من خلالها على معنى الهوية وحاجة المسلم إليها ومقوماتها وسماتها وخصائصها والتحديات التي تواجهها وكيفية المحافظة عليها.

المطلب الأول:

تعريف الهوية:

أولًا: الهوية في اللغة:

من هَوَى: أي أحب. والهوى بالقصر هو: العشق يكون في الخير والشر. والهوى: المهوي، واستهوته الشياطين: أي ذهبت بهواه وعقله وحيرته: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}[إبراهيم: 37]، أي: تميل وتحن إليهم. .

والهوية: بفتح الهاء هي البئر البعيدة المهواة، والموضع الذي يهوي ويسقط من وقف عليه، والمرأة التي لا تزال تهوى.

جاء في المعجم الوسيط أن الهوية: حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره. وهي أيضا بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله وتسمى البطاقة الشخصية أيضا([193]).

ثانيًا: الهوية اصطلاحًا:

بالنسبة للفرد هي العقيدة التي ينطلق منها والقيم العالية المطلقة التي يؤمن بها ويتمثل ذلك في أهدافه وأخلاقياته وسلوكياته الحياتية.

أما الهوية بالنسبة للأمة فهي ما تتميز به عن غيرها من الأمم كدينها ولغتها وقوميتها وتراثها([194]).

ثالثًا: مفهوم الهوية الإسلامية:

في المجتمعات الإسلامية يُعد الدين الإسلامي الهوية الأساسية والرسمية لها، فهو الانتماء الحقيقي والرمز ومحور حياة المجتمع، من خلاله يتفاعل أفراد المجتمع، وحينما يضعف التمسك بالدين والالتزام به في نفوس الأفراد يظل هو الهوية المفقودة التي نبحث عنها.

وذلك بحكم أننا مسلمون أولًا وأخيرًا، ولأنه ليس من الممكن أن نختار غير الإسلام هوية ونظل مع ذلك مسلمين، فنحن حينما ابتغينا الإسلام دينًا، فقد ارتضيناه هوية.

وهوية المسلم تتمثل في حفاظه على دينه، واعتزازه به وتمسكه بتعاليمه والتزامه بمنهجه في صغير الأمور وكبيرها، قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، والدين في المنظور الإسلامي هو النظام أو المنهج الذي يحكم جميع جوانب الحياة

وعليه فالهوية الإسلامية هي كل ما يميز المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى، وقوام هويتهم هو الإسلام بعقيدته وشريعته وآدابه وتاريخه وحضارته المشتركة بين كل شعوبه على اختلاف قومياتها([195]).

المطلب الثاني:

بيان حاجة المسلم إلى الهوية:

لا بد للإنسان من هوية تميزه عن غيره، بل ينبغي أن يكون للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء.

وإن من أعظم ما يلزم معرفته لدى من يتصدر للإفتاء أن يدرك مدى خطورة الإعراض عن الهوية الإسلامية وأن حاجتنا إلى هويتنا الإسلامية ضرورية وبخاصة في هذه الفترة التي تمر بها أمتنا الإسلامية حيث اختلطت الأمور والمفاهيم عند الكثير من أبناء أمتنا الإسلامية.

وتكمن حاجتنا إلى هويتنا فيما يلي:

1- لأنها الثابت الوحيد الذي يواجه المتغيرات التي نعيش فيها.

2- حاجتنا إلى الهوية الإسلامية لأنها مصدر أساسي في الحفاظ على العقيدة، والقيم الثابتة في الإسلام والأخلاق، وهي أمور ربانية أمرنا الله بتطبيقها في جميع أمور حياتنا.

3- حاجتنا إلى الهوية الإسلامية، لأنها تساعد على تقوية البناء النفسي عن طريق تعليق الإحساس بالله، وجعل حب الله ورسوله وطاعتهما أحب إلينا من كل ما في الكون وبما فيه من مغريات.

المطلب الثالث:

مقومات الهوية الإسلامية:

مقومات الهوية الإسلامية هي العناصر التي تجتمع عليها الأمة بمختلف أقطارها من وحدة عقيدة، ووحدة تاريخ، ووحدة اللغة، والموقع الجغرافي المتميز المتماسك، وأعظمها بلا شك هي العقيدة التي يمكن أن تذوب فيها بقية العناصر.

وهويتنا الإسلامية تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة تجمع تحت لوائها جميع المنتمين إليها فيَحيَون لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم وتحريرهم من عبودية غيره. وفي القرآن مدح وتعظيم لهذه الهوية، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

ولقد رسم القرآن مفهوم الهوية عند المسلمين، فجعل العقيدة هي معيار الولاء والبراء والحب والبغض، وهي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ ويحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم([196]).

وإن من أهم ما يلزم العلماء وطلاب العلم ومن يتصدر للإفتاء وهو يرى هذا الكم الهائل من الانحراف العقدي والأخلاقي والسلوكي أن يتعرف على أبرز مقومات الهوية الإسلامية، ومن أهم هذه المقومات ما يلي:

1- الاعتزاز العام بالهوية الإسلامية وبهذا الدين الذي يحمله معتنقوه والمجاهرة به ونشره في الآفاق.

2- صناعة المنظمات والمؤسسات المعنية بالمحافظة على الهوية الإسلامية والدفاع عنها، وتصحيح الصورة النمطية المسيئة في أذهان الكثير من الكفار سواء في الشرق أو في الغرب عن نظرتهم للإسلام وتجلية صورة الإسلام بصفته السمحة النقية الخالدة.

3- إبراز شهادات الغرب والشرق المنصفة والمحايدة التي تدلل على عظمة هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان واستيعابه لجميع الأمور الدنيوية.

4- مجادلة ومناقشة المتشككين بدينهم والرد عليهم، وإبراز مصادر الخلل في التلقي والاستدلال عندهم وهؤلاء أصبحوا يتكاثرون يومًا بعد يوم ولهم انتشار ظاهر خصوصًا في وسائل الإعلام العربية والإسلامية.

المطلب الرابع:

سمات وخصائص الهوية الإسلامية:

لا يخفى ما تميزت به هويتنا الإسلامية من سمات وخصائص جعلت أعداءها يحقدون عليها ويعملون بكل ما أُوتوا من قوة في إبعاد المسلمين عن هويتهم، لكن من تمام فضل الله تعالى أنه سخر لهذه الأمة من يحمي لها هويتها، وذلك من خلال أهل العلم المعتبرين الذين لم يألوا جهدًا في بيان هذه الخصائص والسمات من خلال فتاويهم ودروسهم وخطبهم وغير ذلك.

ولما كان معرفة خصائص وسمات الهوية الإسلامية هامًا لدى الداعية والمفتي، فسأذكر بعض الجوانب الخاصة بسمات وخصائص الهوية الإسلامية؛ ليكون الجميع على بصيرة منها فمن أعظم خصائص وسمات الهوية الإسلامية ما يلي:

1 – العقيدة: فينضوي تحتها كل مسلم أيًّا كان مكانه أو شكله أو لغته؛ فلأهل الإسلام مميزاتهم الخاصة بهم، والتي تجعلهم كلهم تحت مسمى واحد ومعتقد واحد هو سماكم المسلمين من قبل.{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

2 – أنها لازمة لكل مسلم: لا يجوز لمسلم الخروج عنها، فهي فرض لازم.

3 – أنها متميزة عمَّا عداها: وهذا التميز هو الذي يعطي كل قوم مقومات بقائهم، ويحفظ عليهم ثقافتَهم وأفكارهم وتصوراتِهم، فلا يذوبون في غيرهم ولذا شمل هذا التميز كل جوانب الحياة بداية من العقيدة ونهاية بالشكل الظاهر في الملبس والهيئة.

4 – أنها تستوعب حياة المسلم كلها وكل مظاهر شخصيته: فهي تامة الموضوع محددة المعالم تحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة قال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}  [الأنعام: 162، 163].

5 – أنها مصدر العزة والكرامة: قال تعالى في معرض توبيخه للمنافقين {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء: 139]. وقال عمر رضي الله عنه: “إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله”([197]).

6 – أنها تربط بين أبنائها برباط وثيق: فتجعل الولاء بين أتباعها والمحبة بين أصحابها وتربط بينهم برباط الأخوة والمحبة والنصرة والموالاة، فهم جسد واحد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[آل عمران: 103]، وقال أيضًا: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}[الحجرات: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)([198]). (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)([199])([200]).

المطلب الخامس:

التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية:

إنَّ المتأمّلَ في واقعنا المعاصر وما آلت إليه الهوية الإسلامية فإنه يُصاب بالذّهول وهو يرَى هذا الانحراف في العقيدة والسلوك والآداب والأخلاق وغير ذلك مما تقوم عليه هوية الأمم والشعوب.

ومن نظر بعين البصر والبصيرة إلى أهم الأسباب والعوامل التي تسعَى إلى تقويض هويتنا وزعزَعة أركان أمتنا يجد أن أخطرَ تلك الأسباب ما يلي:

1 – التقصير في جوانب العقيدة وتطبيق الشريعة.

2 – عدم الرجوع إلى المتخصصين في مجال الفتوى مؤسسات وأفراد.

3 – البث الفضائي المرئي والمسموع وظهور شبكة الإنترنت: بما فيها من السلبيات والإيجابيات مما جعل مصادر التلقي في مجال الفكر والتربية متعددة ومتنوعة، ولم تعد محصورة في المدرسة والمسجد والأسرة، إضافة إلى تسويق الانحرافات السلوكية والأخلاقية.

وإذا تمعنَّا في هذه الأسباب نجد أن من أعظم التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية ما يلي:

1- الغزو الفكري العقائدي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي بشتَّى أنواع الغزو الإعلامي والدعائي.

2- التقليد لغير المسلمين في جميع شؤون الحياة في العقيدة والسلوك في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك مما يكون خاصًا بالهوية الإسلامية.

3- ضعف عناية الناس وتمسكهم بفقه السلف الصالح ومنهجهم وإعجابهم بتقاليد أخرى.

4- إعجاب الشباب بالنماذج التي لا تخدم أمَّتنا بل تفسد عقيدة وأخلاق الأمة المسلمة، وما تقوم به من فساد أخلاقي بل عقائدي.

5 – تغلغل المبادئ المنحرفة والمذاهب الساقطة وبعض الأفكار المتطرفة.

6- الهيمنة الإعلامية، فقد أصبحت وسائل الإعلام من أكبر الوسائل في طمس الهوية الإسلامية.

7 – إثارة الشبهات حول الهوية الإسلامية من خلال التشكيك فيها ومحاولة طمس حقيقتها.

8 – الترويج لقوى عولمة الثقافة والتركيز على نشر الثقافة الغربية وجعلها الأسلوب الثقافي السائد بنشر مبادئه وقيمه من أجل النيل من خصوصية ثقافتنا العربية الإسلامية وتدمير هويتها.

9 – الترويج للقيم والثقافات والسلوكيات التي ذوبت خصوصيتنا الثقافية وهويتنا. وهنا يرد سؤال: كيف يمكن أن نهيئ الجيل والنشء القادم ونؤكد هويته في عالم اليوم.

إن الواجب على الدعاة والمفتين أن يربطوا الناس بالواقع الذي يعيشون فيه وأن يبينوا للأمة ما يحاك بها ولهويتها وأن يبينوا للناس هذه التحديات التي تواجه الأمة وبصفة خاصة هويتها التي هي عنوان البقاء لها.

المطلب السادس:

كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية.

إن مما يجب أن يهتم به كل فرد من أبناء أمتنا الإسلامية المحافظة على هويته الإسلامية، وأن يدعو غيره إلى المحافظة على هويته لأنها تعد طوق النجاة من الفتن بعد توفيق الله تعالى وهي وقاية من السقوط الحضاري، وصيانة للذات، وتعزيز للقدرات التي يمكن التصدّي بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.

ولا يكون ذلك إلا بتوعية شبابنا وتحصين أفكارهم وتوعيتهم التوعية الصالحة وتبصيرهم بالحق وتحذيرهم من الباطل وطرقه، وأن نشخص الداء الذي وقعوا فيه ونأتي بالدواء الشرعي ليجتث ذلك الداء الخبيث وذلك الفكر السيئ المنحرف الذي لا يعتمد على دليل ولا خير، وإنما هي الأهواء المضلة والطاعة العمياء لأعداء الأمة.

إن الحفاظ على هويتنا أمر في غاية الضرورة، فلابد لجميع شرائح المجتمع أن تهتم به، وأخص بالذكر من هذه الشرائح من يتعرضون للفتوى فإن لهم السبق في الحفاظ على هوية الأمة.

ومن أبرز الأساليب للحفاظ على الهوية الإسلامية الذي ينبغي للمفتي أن يراعيها حال إفتائه ما يلي:

1 – تعميق الإيمان بالله تعالى فإنَ له أثرًا كبيرًا في تحصين القلب ضدَّ الأفكار الهدَّامة.

2- التعلُّق بالله عز وجل والاستعانة والاستعاذة به، وسؤاله الهداية والثبات والممات على دين الإسلام من غير تبديل ولا تغيير.

3- الثِّقة بمنهج الله ووعده وحكمه وأوامره، واليقين به ومراقبته، والشعور بالمسؤوليَّة عن حفظ الدين من شبهات المغرضين، وعدم خلطه بالباطل.

4- تلقِّي العلم عن العلماء الربَّانيين، وإرجاع المسائل المشكِلة إليهم ليحلُّوها ويوضِّحوا ما أبهم على صاحبها، فلا يستعجل في قبول فكرةٍ أطلقها من لا يُؤْمَن فكره، ولا يبقي تلك الشُّبهة في صدره حتَّى تعظم، بل ينبغي عليه أن يضبط نفسه بالرجوع للراسخين من أهل العلم.

5- البناء الذاتي بمعرفة مصادر التَّلقي، ومناهج الاستدلال الصحيحة، وملء القلب بنور الوحي من الكتاب والسنَّة، مع ملازمة إجماع أهل السنَّة والجماعة.

6- التعلَّق بكتاب الله قراءة وفقهًا وتدبرًا وعملًا.

7- أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلًا عن عدم استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.

8- إنشاء مراكز الأبحاث والدراسات المعنيَّة برصد الانحرافات الفكريَّة، والتعقيب عليها بتفنيد الشُّبه، والجواب عن الشكوك والإثارات التي تخرج من بعض المارقين من قيم الإسلام ومبادئه.

المبحث الثالث:

أثر الفتوى في حماية الهوية الإسلامية،

وفيه ستة مطالب:

 

المطلب الأول:

العلاقة بين الفتوى وحفظ الهوية الإسلامية:

إن العلاقة بين الهوية والفتوى علاقة تلاحم وتلازم، فمتى كانت الفتوى لها أصولها الراسخة وقواعدها المتينة كان لها أثر ولا شك في محافظة الناس على هويتهم وتمسكهم بدينهم.

فالفتوى المبنية على أصول الشريعة في المجتمع المسلم وغير المسلم هي صمام أمان لأهل الإسلام من فتن الشبهات والشهوات، وسد منيع دون التأثر بالتيارات الضالة والمناهج المنحرفة والطرق المبتدعة، وهي أيضًا تُكوِّن الشخصية المسلمة كما أرادها الإسلام، متكاملة متزنة، ترتكز على الصلة الدائمة بالله تعالى، تعبده وحده دون سواه، وتصرف له سبحانه جميع أنواع العبادة، ولا تشرك معه أحدًا، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

ومن العلاقة أيضًا- بين الفتوى والهوية أن الفتوى من أعظم الوسائل التي تحافظ على هوية المسلم وبخاصة في جانب التعامل مع غير المسلمين فالعلاقة بين المسلم وغيره يجب أن تكون مضبوطة بالضوابط التي حددها الشرع، وخاصة في هذا الزمان الذي التبست فيه الأمور وكثر الجهل بالدين واختلط الحابل بالنابل، وأصبح المسلمون لا يتميزون عن غيرهم في مظهرهم العام أو مخبرهم الخاص.

ثم إن العلاقة بين الفتوى والمحافظة على الهوية لا يكمن في بيان نصوص الشريعة للمستفتي، وبخاصة إذا كان المستفتي يعيش في بلاد غير إسلامية، بل تراعي الفتوى إيجاد بعض الحلول المناسبة التي تتناسب مع روح الشريعة مع الأخذ بالقواعد العلمية الشرعية والانضباط بحدود المباح والمشروع، حتى لا تواجه بعد ذلك الفتوى بنوازلَ فقهية وانحرافاتٍ تطبيقية، ثم يتهافت الناس على دور الفتوى بحثًا عن مخارج فقهية لنوازل غريبة عن عقيدتنا ومنهجنا وشريعتنا.

المطلب الثاني:

أثر الفتوى في الحفاظ على الهوية في جانب العقيدة:

أولًا: العلاقة بين الهوية والعقيدة:

تقوم الهوية الإسلامية على أسس أربعة هي (العقيدة – التاريخ – اللغة – الأرض) ومتى تكونت هذه العناصر الأربعة في الأمَّة المسلمة عبَّرت بمجموعها عن الهوية الإسلامية.

وإن أهم مقومات وأركان الهوية هي العقيدة، وهويتنا الإسلامية تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة تجمع تحت لوائها جميع المنتمين إليها، فيحيون لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم وتحريرهم من عبودية غيره([201]).

ولقد اعتبرت الشريعة الإسلامية العقيدة أهم المقاصد التي جاءت لحمايتها، والمحافظة عليها، وإن أكبر خطر يواجه المسلمين، وخصوصا الذين هاجروا إلى الغرب، هو انصهار العقيدة الإسلامية في العقائد الأخرى، بحيث يختلط على المسلم تمييز ما هو من الإسلام مما هو دخيل عليه من العقائد الأخرى، كالاحتفال بأعياد المجوس أو أعياد النصارى، واليونان القدماء، وغيرهم، أو الاعتقادات الشركية والوثنية.

ثانيًا: أثر الفتوى في المحافظة على العقيدة:

إن قضايا ومسائل المعتقد من أهم المسائل التي يجب على من تصدر للإفتاء أن يراعيها عندما يتعرض للإفتاء بخصوصها؛ لأن أثرها ينسحب إلى علاقة الإنسان مع ربه وإيمانه بعدد من القضايا الخطيرة، وكل كلمة تخرج من فم المفتي، بل كل حكم يصدره مفتٍ؛ يصبح منهجًا ينتهجه المقلدون، وسلوكًا يسلكه السائرون، ليس تقديسًا لهذا المفتي أو ذاك – فهو في نظرهم غير معصوم – وإنما للعلم الذي يحمله؛ ولما جبل عليه عامة المسلمين من توقير العلماء وتقدير أقوالهم، وطاعةً لأمر الحكيم الخبير في قوله المبين: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

فهؤلاء العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين بسببهم يهتدي الناس للحق والنور؛ إذا ادلهمَّت الخطوب، وتنازعتهم الأهواء، وتفرقت بهم السبل، فما أعظم أمانتهم، وما أخطر تأثيرهم!

وتتضح أهمية الفتوى في هذا الجانب العظيم أي جانب العقيدة الذي هو أعظم جوانب الهوية الإسلامية فيما يلي:

1 – أن حماية جناب التوحيد وصحة المعتقد من أولى الواجبات، بل هو أهم الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها، والضروريات كما عرفها الإمام الشاطبي رحمه الله هي: “ما لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين”([202]).

وهذه الضروريات خمس، هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب.

فحفظ الدين من أهم مقاصد الشريعة، فلا يمكن أن تترك الشريعة هذا المقصد عرضة للضياع أو التحريف، ففي ضياعه ضياع للمقاصد الأخرى، وخراب لنظام الحياة بأسرها.

وعن دور (الفتوى والمفتين) في حماية المعتقد الذي هو من أهم ما يلزم المسلم المحافظة عليه في هويته نقول: قد جاء الأمر في كتاب الله بالدعوة إلى هذا الدين وبيان حقيقته، وأعظم قضية تناولها القرآن وجاهد من أجلها أنبياء الله ورسله وعلى رأسهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم قضية (التوحيد): قال تعالى عن دعوة رسله إلى التوحيد: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: 56]، وقال تعالى آمرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدًا، لكن يكون فيه من يدخل من التحريف، والتبديل، والكذب، والكتمان ما يلبس به الحق من بالباطل، ولابد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق، ويبطل الباطل ولو كره المشركون”([203]).

ويقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في سياق بيانه لوجوب الذب عن حياض الحق بالفتوى الصحيحة والكلمة المقنعة: “ويزداد الأمر شدة حينما يكون مع صاحب الهوى: حق يلبس به بدعته وهكذا! حتى إذا طفحت الكأس هب من شاء الله من حملة الشريعة ينزعون من أنوارها بذنوب وافرة، يطفئون بها جذوة الهوى والبدعة، فهم مثل العافية في الناس لدينهم وأبدانهم، بما يقيمونه من حجج الله وبيناتِه القاهرة، فتهب بذلك ريح الإيمان، وتقوم سوق الانتصار للكتاب والسنة”([204]).

ومن نظر إلى تأثير الفتوى في مثل المسائل الإيمانية والعقدية المهمة يجد ذلك جليًا من خلال هذه الفتاوى. ومن تلك الفتاوى التي كان لها أثر في المحافظة على الهوية الإسلامية وخاصة في حماية العقيدة الصحيحة في نفوس وعقول المكلفين ما يلي:

ا – فتوى إمام دار الهجرة مالك بن أنس؛ رحمه الله ، حينما سئل عن مسألة عقدية تتعلق بصفات الله تعالى، كما نقل ذلك الإمام الذهبي رحمه الله بسنده إلى جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5] كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده، حتى علاه الرُّحَضَاءُ (العرق) ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: “الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج”([205]).

فهذه فتوى عظيمة الشأن كثيرة النفع شافية كافية في المسألة ذاتها، إلا أن أثرها تعدى خصوص المسألة لتكون منهجًا علميًّا ينسحب على هذه المسألة ومثيلاتها من مسائل الصفات أو الأمور الغيبية التي يعجز العقل عن إدراكها.

ب – ومن ذلك أيضًا فتوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، حينما ظهرت بدعة خلق القرآن وهي من البذور الأولى لبدعة الجهمية في تقديم المعقولات على الوحي، وامتحن الناس بها، وفتحت السجون من أجلها، فتصدى الإمام أحمد لهذه الفتنة التي كادت أن تفسد على الناس دينهم لولا أن ثبته الله لبيان الحق.

ج – ومن ذلك أيضًا فتاوى الشيخ العالم الفقيه صاحب الفتاوى المشهورة أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، فقد برز هذا العالم المجتهد في أمور كثيرة، من أهمها وأظهرها: جهاده العظيم في الذب عن حياض المعتقد الصحيح؛ وحمله لواء البيان عن الله ورسوله؛ فقد كرس حياته ووظف علمه في بيان الحق ومناظرة أهل الأهواء والبدع، ولقد تميزت حياة ابن تيمية بهذه الميزة العظيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، فلم يكن العالم القابع في بيته، المتفرغ للإفتاء والتدريس والتأليف؛ وإنما كان رحمه الله رابطًا العلم بالعمل؛ فعلمه يدفعه إلى تحمل مسؤُوليته فيبادر إلى القيام بالحق والجهاد في سبيل الله وردع أهل الباطل([206]).

والمتأمل لحياته رحمه الله يجد أنه عني كثيرًا بإرسال الفتاوى المحققة والمؤصلة المبنية على القواعد المنهجية والشرعية لمن يسأله ويراسله مستفتيًا وطالبًا للحق، فرسائله العلمية المشهورة المسماة بالعقيدة الحموية أو التدمُرية أو الواسطية؛ إنما هي في أصلها فتاوى عقَدِيةٌ صدرت منه رحمه الله بناءً على أسئلة وردت إليه من أهل حماة أو تدمر أو واسط تتعلق بمسائل عقدية عظيمة.

2 – ومن آثار الفتوى في جانب العقيدة أن حفظ الدين يحصل بالأمر بالتوحيد والإيمان وإظهار أحكام الشريعة، ومنع الارتداد عن الدين والسخرية منه، والذب عنه بكشف شبهات أهل الزيغ والضلال والأهواء والبدع. واستحضارًا لهذا الأصل العظيم، فإن المفتين يردون فروعًا كثيرة لا تحصى، تجتمع كلها على حفظ هذا المقصد.

فإذا دخل على بعض المكلفين إشكال في فهمٍ (كحرية المعتقد أو الرأي) بحسب مبلغ فهمه من قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256] وفهم أن حرية الدين مطلقة، بحيث يسوغ للمكلف أن ينحل من أي دين أو معتقد متى ما شاء! فإنه يفتى ويبين له من خلال الرد لهذا المقصد المحكم (حفظ الدين)، وبيان ذلك: أن الشريعة كفلت لأهل الأديان الأخرى؛ إذا كانوا تحت ولاية المسلمين (أهل ذمة) حرية البقاء على ما هم عليه، أو اتباع الإسلام، وهذا الحق مشروط بشروط ذكرها الفقهاء في كتبهم، ومنها: ألا تؤدي هذه الحرية للإخلال بحفظ الدين، فيمنع الإلحاد، وتسد جميع الوسائل المفضية إليه، وكذلك منع الإباحية ووسائلها، ونشر الخرافة والضلالات.

وكذلك فإن في منع المسلم من الانتقال من الإسلام للكفر حفظًا لهذا الدين من الانتقاص من قدره وتهوين شأنه في نفوس أهله وغيرهم.

وبذلك يُرد كل ما أشكل فهمه في هذه المسألة إلى هذه المحكمات، فتكون الفتوى حينئذ من وسائل حماية المعتقد وبيان الشريعة.

3 – ومن آثار الفتوى في جانب العقيدة أنها تكون الحصن الحصين بعد الله تعالى في الرد على أعداء الله من اليهود والنصارى والوثنين الذين يحاربون عقيدة المسلمين بالتشكيك فيها، ووسائل التنصير، والهجوم المباشر عليها ورمي أصحابها بأنواع من تهم التطرف والإرهاب مستعينين في ذلك بتيار المستغربين اللذين استخدموا كلَّ وسيلة تمكنوا منها لنفث سمومهم بأساليب متنوعة.

وهي أيضًا يعني (الفتوى) الحصن الحصين بعد الله تعالى لما تدعو إليه منظمات حقوق الإنسان العالمية المسلمين إلى تغيير موقفهم من حرية الاعتقاد من خلال إلغاء حد الردة، الذي هو أحد الحدود الإسلامية، بحجة أن حرية الاعتقاد مكفولة لأي إنسان، دون منعه من الانتقال من دين إلى آخر.

وإنه وللأسف مع وجود هذه الأمور الخطيرة على العقيدة والسلوك يوجد من لا يقوم في فتاويه بالتركيز على العقيدة، زاعمًا بأنها أمور مسلمة في بلاد المسلمين، مما أدى إلى وقوع الانحراف وتنوعه وهم عنه غافلون أو متغافلون([207]).

ثالثًا: ضوابط للمفتي حينما يفتي في جانب العقيدة:

1- ضبط الفتوى، وذلك بردها إلى أصول محكمة هي محل إجماع بين أهل العلم، فلا يستطيع المفتي تجاوز هذه الحدود؛ وإلا كانت فتواه بعيدةً عن الصواب بقدر ابتعاده عن هذه الحدود.

2- تقليل دائرة الاضطراب في الفتوى قدر الإمكان، ومرد ذلك إلى توحيد جهة الرد، فإذا استحضرت هذه المقاصد الضرورية عند تحرير الفتوى، وراعاها المفتي حق رعايتها، فإن كثيرًا من المسائل المتعلقة بالاعتقاد والقضايا الكلية التي تهم مجموع الأمة ستكون محل اتفاق؛ أو على الأقل فإن دائرة الخلاف ستكون ضيقة إلى حد كبير، مما سيؤدي إلى جمع الأمة على رأي واحد – قدر الإمكان – في القضايا والمسائل الكلية لاسيما المتعلقة بباب الاعتقاد.

3- من آثار هذا الحفظ على المكلفين منع الفساد في الأرض، وإبراز المنهج الرباني الذي يقدم التصور الصحيح لقضايا الدين والدنيا؛ ومنه: تحريم الشرك والأهواء المضلة لمعارضتها لأصل التوحيد، وكذلك تحريم الاعتداء على النفوس، والأعراض ماديًّا أو معنويًّا، وتحريم ومنع كل الوسائل المفضية إلى الانحلال الخلقي والإباحية، واستحلال المحرمات، وتحريم كل ما يضر بالعقل من أفكار ضالة وأهواء منحرفة وخرافات ساقطة([208]).

رابعًا: صور المخالفة للهوية الإسلامية في جانب العقيدة التي ينبغي للمفتي أن يحذر المستفتي منها:

1 – موالاة الكفار بأي نوع من أنواع الموالاة وهناك صور شائعة لأنواع من موالاة الكفار ومنها:

– التعلق بهم ومحبتهم، خاصة مع كثرة الاختلاط بهم في بلادهم، أو في بلاد المسلمين في العمل ونحوه.

– السفر إلى بلادهم لغير حاجة أو ضرورة، وربما البقاء في بلادهم أزمنة طويلة.

– التعلق ببعض الكفار لغرضٍ معين كلاعب كرة أو ممثل ونحوه.

– الثناء على الكفار وتلميع أحوالهم ونظمهم وقوانينهم بما يؤدي إلى احتقار المسلمين وشريعتهم.

2 – التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، وشمل هذا البلاء الرجال والنساء والفتيان والفتيات، والأطفال، كما أنه تعدى إلى أمور كثيرة من حياة الناس في ألبستهم وأزيائهم ومساكنهم وكلامهم وسلامهم، وأعيادهم وحفلاتهم

3 – تهنئة ومشاركة الكفار بأعيادهم كعيد الكريسمس وأعياد رأس السنة الميلادية.

4 – الذهاب لكنائس النصارى للمشاركة في أعيادهم.

5 – الاحتفال بأعياد الميلاد.

6 – التهنئة بشعائر الكفر المختصة.

والواجب على المفتِي أن يحذر المستفتِي من الوقوع في مثل هذه الأمور، وأن يبتعد عنها وأن يحقق عقيدة الولاء والبراء، وأن يعتز بدينه وعقيدته الصحيحة.

المطلب الثالث:

أثر الفتوى في الحفاظ على الأحوال الشخصية:

أولًا: المسلم القويم لا يبني شخصيته على الانبهار بما في أيدي غيره لأنه يعلم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين: فهو لا يعطي الدنية في دينه ولا يرضى بغير درر الإيمان وسلسبيل اليقين وعزة التوكل على مولاه وجميل الإنابة إليه بديلًا. قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].

والإنسان المسلم متميز بهذه الشخصية الملتزمة التي وضحها رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَا أَنْتُمْ فِي سِوَاكُمْ مِنَ الأُمَمِ إِلاَّ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ)([209]).

فالمسلم إنسان متميز بعقيدة لا تتزعزع ورسوخ في الأخلاق لا يتهاوى مع مباهج الحياة المادية الخداعة والهدامة، ورباطة جأش لا تلين أمام رياح الشهوات ومنهج قويم لا تحركه أمواج الملذات الجارفة.

وإن مما يؤسَف له أن نجد كثيرا ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين ممن تخلى عن هويته الإسلامية نجدهم يدعون إلى التجديد والتغيير حتى في الأحكام الشرعية التي وردت فيها نصوص قطعية، وتناسى أنه (لا اجتهاد مع نص) وقد يكون دافعُه إلى ذلك اجتنابَ الانتقادات التي توجه إلى الإسلام من الكفار، سواء من اليهود أو النصارى، أو من غيرهم فهو يريد أن يدافع عن الإسلام- في ظنه- ولكنه يحارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويكون عونًا لأعداء الإسلام.

ثانيًا: دور الفتوى في الرد على بعض الشبهات التي تثار حول الأحوال الشخصية:

من أهم القضايا التي يتناولها هؤلاء النفر ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين في الأحوال الشخصية ما يلي:

1- تعدد الزوجات:

تعدد الزوجات من المسائل التي أكثر أعداء الدين الخوض فيها زعمًا منهم أن في التعدد انتهاكًا لحقوق المرأة وهدرًا لكرامتها، وهم خلال ذلك يستشهدون ببعض ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لدعم ما يذهبون إليه، فيحملون هذه الأدلة على غير محملها، ويفسرونها تفسيراتٍ شاذةً؛ حرصًا منهم على دفن كل فضيلة ونشر كل رذيلة في المجتمع المسلم.

ومما يؤسف له أن هؤلاء الأعداء وجدوا من المسلمين من يستجيب لآرائهم، ويؤمن بمعتقداتهم وأفكارهم.

ومن التهم التي يثيرونها إباحةُ الإسلام لنظام تعدد الزوجات بلا ضوابط، ويتخذ هؤلاء الأعداء من هذا التعدد ذريعة للطعن في الإسلام وفي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويتهمون الإسلام بأنه أهدر مكانة المرأة، ونال من آدميتها، وحط من إنسانيتها.

وهذا الاتهام قد يستهوي بعض العقول القاصرة، بل ربما يتأثر به بعض من ينتسبون إلى الإسلام، فيذهبون إلى ترويجها وإشاعتها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

ونسي أو تناسى هؤلاء أن الإسلام لم يكن أول من شرع نظام تعدد الزوجات، وإنما كان موجودًا في الأمم القديمة كلها تقريبًا، عند الصينيين والهنود والبابليين والآشوريين.

إن دور المفتي في المحافظة على هوية المسلم تجاه ما يثار حول قضية التعدد دور مهم جدًا وذلك من خلال ما يعرض عليه من الأسئلة حول هذا الموضوع، ويكون ذلك بإبراز الجوانب الإيجابية حول تعدد الزوجات، وبيان أن الطاعنين في التعدد إن كانوا من أبناء المسلمين فهم على خطر عظيم، وأن الطعن في أصل قضية التعدد اتهام للإسلام لإجماع العلماء على ردة من أنكر شيئا من كتاب الله تعالى أو كرهه، فالذين ينكرون التعدد أو يرون فيه ظلما للمرأة أو إهدارا لحقوقها لا شك أنهم على خطر عظيم، فليراجعوا حساباتهم وليتبينوا أمرهم.

ومما يجب على المفتي كذلك أن يبين للمستفتي أن الذي يتولى كبر الفتنة فيها أعداء الإسلام ممن دأبوا على وصف الإسلام بالرجعية والتخلف ووصف المسلمين بالتأخر والتخلف، فتراهم يتهمون المسلم بالظلم للمرأة حين يتزوج بأكثر من واحدة، وهم يبيحون لأنفسهم اتخاذ العشيقات والخليلات، بل نراهم يتجرؤون على حامل الرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كيف استحل لنفسه الزواج من تسع نساء ناسين أو متناسين أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما ينفذ ما أمر الله به.

2- دعوى السماح للمسلمة بالزواج من أهل الكتاب:

مما يشيعه أعداء الإسلام القول بزواج المسلمة من غير المسلم حتى وجد من بين المسلمين من يأخذ بآراء أعداء الملة والدين فزوجوا بناتهم لغير المسلمين وروجوا لهذا الفكر المنحرف.

ولا شك أن غياب الحكم الشرعي عن المسلمين في هذا الجانب راجع إلى فقد الهوية الإسلامية عند هؤلاء النفر الذين ينتسبون للإسلام.

إن دور المفتي حينما يُسأل عن مثل هذه القضية لابد أن يربط المستفتي بدينه وبرسالته، وأن يبين للمستفتي خطر الانصياع إلى أصحاب هذا الفكر الخبيث، وأن إجماع المسلمين انعقد على حرمة هذا الأمر، وأن يبين خطورة الوقوع فيه قال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}[البقرة: آية 221]. وقال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة: آية 10].

وعليه كذلك أن يبين للمستفتي الآثار المترتبة على مثل هذا النكاح، فمتى عُقد له عليها وجب الفسخ فورًا، فإن علمت بذلك الزوجة وعرفت الحكم استحقت التعزير، وكذا يعزر الولي والشهود والمأذون إذا علموا ذلك، فإن ولد لهما أولاد تبعوا أمهم في الإسلام، فإن أسلم الزوج بعد العقد جدد له عقد النكاح.

وكذلك ينبغي للمفتي أن يبين للمستفتي الحكمة من منع زواج المسلمة من غير المسلم من أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فالزوج له قوامة على زوجته وهذا ممنوع في حق الكافر، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].

ثم أن المرأة قد تتأثر بزوجها إذا دعاها لدينه، وكذلك لا يؤمَن على الأولاد أن يتابعوا أباهم على كفره، ولهذا مُنع هذا الزواج ابتداء. فهذا هو الواجب على المفتي تجاه هذا الأمر.

3- دعوى مساواة الأولاد الذكور والإناث في الميراث:

ومما يروج له أيضًا أعداء الإسلام دعوى مساواة الرجل بالمرأة في جانب الميراث؛ زعمًا منهم أن الشريعة الإسلامية هضمت حقوق الأنثى في عدم مساواة المرأة بالرجل في الميراث.

وهنا يأتي دور المفتي تجاه هذه الشبهة حينما يسأل عن مثل هذه القضايا التي تأثر بها بعض المسلمين، وبخاصة من يقيم في بلاد غير إسلامية أن يبين للمستفتي خطورة هذه الدعوى أعني (دعوى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث)، وأن القول بها خروج عن ملة الإسلام لأنها في الحقيقة طعن في التشريع الإلهي وكفر به ومخالفة لما أجمعت عليه الأمة وإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ثم يبين أن القول بعدم مساواة المرأة للرجل في الميراث ليس مطلقا في جميع الحالات، وإنما يجري في بعض الحالات لأسباب أساسية تتعلق بإقامة العدل نفسه بين الذكور والإناث، وقد نص القرآن الكريم على ما يأتي:

أولًا: المساواة في الإرث بين الأم والأب من ولدهما فيما إذا كان لولدهما أولاد ذكور.

ثانيا: المساواة في الإرث بين الأخت والأخ لأم إذا لم يكن لأخيهما أصل من الذكور ولا فرع وارث، وفي ذلك مساواة في الإرث بين الرجال والنساء.

غير أن هذا المبدأ قد يعدل عنه في حالات حددها القرآن، وذلك كما في حالة وجود أولاد للمتوفى، فتكون القاعدة عندئذ بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والعلة في عدم المساواة في الإرث بين أولاد المتوفى وفي أمثالهم من الحالات المشابهة لها من حالات التعصيب، هي مسؤُولية الإنفاق عند الاقتضاء على من تبقى من أسرة المتوفى ونحو ذلك، وهذه المسؤُولية تقع على عاتق الذكور دون الإناث ولذلك يرث الذكور عندئذ على أساس قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين، وليس من العدل أن تعطى الأنثى مثل حصة الذكر وهو يتحمل الإنفاق والأنثى لا تتحمل منه شيئًا.

وكذلك في حالة الزوجية فالزوج يرث من زوجته ضعف ما ترثه هي منه؛ وذلك لأن الزوج يكون مسؤُولا عن الاستمرار في الإنفاق على الأولاد بينما الزوجة غير مسؤُولة عن الإنفاق على الأولاد بل تكون نفقتها عند الاقتضاء قائمة على مسؤُولية الأولاد الذكور فيما ملكوه أو ورثوه من أبيهم، ويتضح من كل ذلك أنه ليس صحيحًا الزعم القائل بعدم مساواة المرأة للرجل في الميراث مطلقا، وأن هذا المبدأ إذا لم يعمل به مباشرة أحيانا فذلك عملا بمبدأ العدالة والمساواة في حالات المسؤُولية في الإنفاق الملقاة على عاتق الذكور دون الإناث؛ وفقا للقاعدة الشرعية الغنم بالغرم، أو الغرم بالغنم أي أن الإنسان إنما يعطي على حسب مسؤُوليته.

المطلب الرابع:

أثر الفتوى في المحافظة

على الهوية الإسلامية للمرأة.

أولًا: دور المرأة في حماية هوية المجتمع:

المرأة هي إحدى صمامات الأمان للمجتمع الإسلامي وهي عنصرٌ فعال في مسيرة الأمة الإسلامية لا يمكن إغفال دورها ومكانتها أو تجاهله فهي الأم وهي الأخت وهي الزوجة وهي الابنة وهي الخالة وهي العمة، فهي تمثل نسبة كبيرة من المجتمع الإسلامي ولها دور فعال في إصلاح المجتمع أو إفساده، وقد ترسخ في عقول أعداء الإسلام ضرورة استغلال هذا العنصر الفعال في مجتمعاتنا، فانطلقوا يتبارون في سبيل نخر الأساس وتشويه المفاهيم وبث الشبهات والسموم.

وقد حاول أعداء الإسلام تجريد المرأة المسلمة من أسلحتها الدفاعية ومنطلقات عزتها التي هي خير عون لها في سبيل الإصلاح.

فتارة نجد الأعداء يصولون ويجولون لأجل إخراج المرأة من قلعتها الحصينة التي أمرها الله عز وجل بلزومها فقال سبحانه {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}[الأحزاب: 33]. وتارة يثيرون الشبهات حول حجابها وهم يريدون الخلوص إلى عفتها وطهرها.

وبالرغم من تمسك الموحدات بحجابهن وقيم الإسلام العظيمة فإن أعداء الإسلام لا يفتؤون عن حربهن من خلال وسائل الإعلام والمجلات ودور التعليم وغيرها.

ومما يحزن له قلب الموحد وينشغل به لب العاقل تأثر بعض المنتسبين إلى الإسلام من رجال ونساء بتلك الشبهات التي يثيرها الأعداء وبتلك السموم التي يدسونها في معسول المقال. ولذلك لابد من المحافظة على الهوية الإسلامية للمرأة.

ثانيًا: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية للمرأة:

ذكرنا فيما سبق جملة من المخالفات التي أثرت سلبًا على هوية المرأة المسلمة، وهنا لابد من وجود الفتوى التي يكون لها أثر إيجابي على المرأة المسلمة لكي تحافظ على هويتها سواء كان في جانب الاعتقاد أو جانب العبادات أو جانب السلوك والأخلاق.

ولقد أثرت الفتوى في جانب محافظة المرأة المسلمة على هويتها وهذا أمر محسوس وملموس رغم هذه الحملة الشرسة والمنظمة تجاه هوية المرأة المسلمة، فكم كان للفتوى من أثر بالغ في عودة الكثير من المسلمات إلى أحضان هويتهن الإسلامية، وكم كان للفتوى من أثر فعال في صيانة المرأة المسلمة لعقيدتها ولعفتها وطهارتها.

ومن آثار الفتوى على هوية المرأة المسلمة أنها تغرس فيها الاعتزاز بدينها والشعور بقوة الحق الذي تدين به، وهي أمام هذه التيارات الجارفة التي تعصف بالمجتمعات الغريبة لا تلين ولا تضعف ولا تذوب في أي بيئة تعيش فيها، بل بهذه الفتاوى الرصينة المبنية على نصوص الوحيين نجد المرأة المسلمة بإيمانها القوي تدافع عن عقيدتها وتحارب التيارات الفكرية والانحلال الخلقي والفساد الاجتماعي.

ولم يكن أمر الفتوى مقصورًا على ما سبق بل لها دور فعال في تحذيرها من الفتاوى التي تضرها في عقيدتها وأخلاقها وسلوكياتها، وذلك من خلال كشف عورات هؤلاء المفتِين وتساهلهم في كثير من الفتاوى وتمييع الدين ومحاولة تقريبه من حياة الغرب بحجة فقه التيسير أو الفقه المرن أو فقه معرفة ومراعاة أحوال الناس كما هو مشاهد من هذه الفتاوى التي نقرأها أو نسمع عنها، كفتاوى جواز كشف وجه المرأة وإباحة عمل المرأة في التمثيل، وجواز زواج المسلمة من الكافر، وغير ذلك من الفتاوى التي تفتح أبوابًا من الشر على حياة المجتمعات الإسلامية.

وبالجملة فإن أثر الفتوى في إصلاح هوية المرأة المسلمة أثرٌ فعال لاسيما في هذه الفترة التي أصبحت الهوية منعدمة عند الكثير من نساء المسلمين.

المطلب الخامس:

أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية

في جانب العبادات:

أولًا: مفهوم العبادة في الإسلام:

مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض بيان وظيفة الإنسان في هذه الحياة، فحصر فيها حياته، وجعلها الغاية من خلقه، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56].

ولهذا كانت حياة المسلم كلها – كما أرادها الله – عبادة خالصة له سبحانه في جميع جوانبها الخاصة والعامة، والاعتقادية والعملية.

فالمسلم عبد لله في كل تحرك وسكون {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ}[الأنعام:163-164].

ومن هنا عرف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله العبادة بأنها: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك من العبادة لله. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56]”([210]).

ثانيًا: العبادة بين الماضي والحاضر:

عرف المسلمون الأولون حقيقة معنى العبادة، فكانوا عبادًا لله حقًا، وكان وصف العبودية جليًا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عباداتٍ. إذ كانوا لا يتحركون تحركًا ولا يسكنون سكونًا إلا ويستشعرون رضا الله عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تحركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة.

ولما ضعف هذا المفهوم في نفوس مَن بعدهم، وخفَتَ ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيًّا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات.

ولقد كان هذا التحول والبعد متنوعًا فيهم، ومتفاوتًا بينهم فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه ومع غيره. وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع الله فخرجوا بذلك عن الجادة.

وهناك من المسلمين من انفصل شعورهم عن سلوكهم في أداء هذه الشعائر التعبدية، فخضعوا لله بجوارحهم، ولم يخضعوا له بمشاعرهم وقلوبهم، بل تصور كثير منهم تعبده لله نقمة عليه، وقيدًا لسعادته وحريته في هذه الحياة، فتراه لا يخضع عن طواعية ورضا، أو يخضع لله فيما خضع له مجتمعه، أو اعتاد الخضوع فيه من بيئته، وهو لا يجد لهذا الخضوع معنى، ولا يحس له في نفسه أثرًا مما شوه صورة العبادة في نفوس الأجيال، وأدى إلى تركها والاستكبار عنها فخرج الناس عن وظيفتهم الحقيقية في هذه الحياة، وخبطوا خبط عشواء.

مما أجهد الدعاة والوعاظ، وأوقعهم في الحيرة من أمرهم، لا يعرفون لهذا التحول الكبير سرًّا، ولا يجدون منه مخرجًا.

ثالثًا: العلاقة بين العبادة والهوية:

الإسلام هو المكون الأول من مكونات الهوية، وبعده مرتكز الولاء والبراء، فهو دِثار الهوية الإسلامية وشعارها، وجعل القرآن الكريم لهذا العنصر سماتٍ تصون الأمة عما آلت إليه الأمم الأخرى، التي وحدها الدين في ظل هوية واحدة؛ ولكنها ما لبثت أن اختلفت، فالدين كل لا يتجزأ، فهو يعني أن تكون الصلاة والنسك والمحيا والممات لله رب العالمين، وأن من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.

 وقد جعل الإسلام شعائر الدين الحسية والغيبية والأصلية والفرعية من مرتكزات الهوية الإسلامية التي تميز الفرد والمجتمع، وهي من عوامل التميز من حيث المصدر والزمان والمكان والترتيب والحكمة والثواب، فهي تختلف عن الشرائع السماوية المحرفة وعن ما ابتدعته المذاهب الفكرية الأرضية، وبناء على ذلك فإن المسلم هو من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا.

رابعًا: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية في جانب العبادات:

الإسلام هو دين الأمّة، وهو عقيدة وعبادة وأحكام وآداب، فالإيمان ليس بالتمنّي ولا بالتحلّي ولكن ما وقر بالقلب وصدّقته الجوارح، والتزام الأمّة المسلمة بهدي الكتاب والسنّة يجعلها في انسجام مع دينها ومحافظة على هويَّتها.

وقد كانت حياة المسلمين وشخصيَّة الأمّة المسلمة بارزةً في عقيدتها وعباداتها وفي حياتها الاجتماعيَّة، وفي نشاطها الاقتصاديّ، وفي الحكم والتقاضي وجميع تشريعاتها.

والفتوى من وراء ذلك تسدّده وتؤيّده، فمتى كانت الفتوى على وفق النهج الصحيح ملتزمة بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم جارية على سنن الاستنباط السليم على طريقة السلف الصالح، كان لها الأثر الإيجابيّ في محافظة المجتمع الإسلاميّ على هويَّته، ولا زال العلماء الربّانيّون الملتزمون بالنهج القويم يدركون ذلك من خلال فتاويهم وهم بذلك يسدّدون مسيرة الأمّة ويصحّحون ما عسى أن يقع فيها من انحرافات تبعًا لمنهج النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد حذّر الفقهاء من التساهل في الفتوى على غير سنن الشرع، وحذّروا من المفتي الماجن الذي يفتي بهواه، وما ذلك إلا لضرر ذلك وخطره على الفرد والأمّة، وكم في الأمّة اليوم ممن يسعى بفتواه إلى إخراج الأمّة من تميّزها والتزامها بدينها عَلِم ذلك أم لم يعلمه، كحال أصحاب فتاوى الإرجاء في الإيمان ممن يقولون: إن العمل ليس من الإيمان، بل يكفي فيه مجرّد التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط ولو مع التمكّن من العمل، والأعمال عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه وكحال الذين يهوّنون مسائل الحكم بغير ما أنزل الله أو يسوّغون تعلّم السحر والرجوع إلى السحرة بحجّة حلّ السحر بسحرٍ مثله ضرورةً، ومن يبرّرون للمجتمعات الإسلاميَّة الاختلاط والسفور، ومعارضة آيات المواريث بتسوية المرأة بالرجل في الميراث مما جعل الله لها فيه النصف من نصيب الرجل، ومنع تعدّد الزوجات، وإباحة الخنزير بحجّة أن المحرّم كانت خنازير سيئة التغذية، وكفتاوى تحليل الربا بحجّة الضرورة، وكلّ ذلك إفكٌ من القول وزورٌ.

فهذه الفتاوى وأشباهها التي يقوم المفتون فيها بالدور السلبيّ بمخالفة الكتاب والسنّة وسلب الأمّة من هويَّتها الإسلاميَّة، وإخراجها من وسطيَّتها التي أراد الله لها([211]).

فللفتوى الملتزمة بهدي الكتاب والسنّة أثرها الإيجابيّ في محافظة الأمّة على هويَّتها الإسلاميَّة فعلى المفتي أن يربط المستفتي بالأدلة الواردة في القرآن والسنة، وإعطائه التوجيهات التي من شأنها أن تصلح من عبادته وسلوكه ومظهره، وتوضيحه للمستفتي شمولية الإسلام، وأنه ليس مقصورًا فقط في الصلاة والصوم، بل إن الإسلام يجب أن يحكم في كل صغيرة وكبيرة. فدين الإسلام دين جماعي، نظام حياة وحكم وتشريع، وعقيدة وأخلاق، ودولة، وأمة واحدة، وأن المسلم لا يمكن أن يكون آخذًا للإسلام من جميع جوانبه إلا إذا فهم هذا الفهم السليم. فإذا فهمنا هذا الفهم السليم للإسلام، فإنه سيملي علينا مسؤُوليات وواجبات يجب أن نقوم بتأديتها امتثالًا لأمر الله حتى يقوم المجتمع على القواعد الصحيحة للإسلام في جميع النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.

المطلب السادس:

أثر الفتوى في المحافظة

على هوية الشباب المسلم.

أولًا: دور الشباب في حفظ الهوية الإسلامية:

دور الشباب في حفظ الهوية عظيم، فهم في كل زمان ومكان عماد أُمة الإسلام وسر نَهضتها، ومَبعث حضارتها، وحاملو لوائها ورايتها، وقادة مسيرتها إلى المجد والنصر.

والإسلام لم ترتفع في الإنسانية رايتُه، ولم يمتدَّ على الأرض سلطانه، ولم تنتشر في العالمين دعوته إلاَّ على يد هذه الطائفة المؤمنة التي تربَّت في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم وتخرَّجت في جامعته الشاملة.

فالشباب في أي أمة من الأمم، هم العمود الفقري الذي يشكل عنصر الحركة والحيوية إذ لديهم الطاقة المنتجة، والعطاء المتجدد، ولم تنهض أمة من الأمم غالبا إلا على أكتاف شبابها الواعي وحماسته المتجددة.

ولقد استمر الشباب المسلم في عطاء الخير المتجدد في الحروب الصليبية في الشام والأندلس وغيرها من المواقف التي يتصادم فيها الحق بالباطل، فغاظت تلك الحماسة أعداء الإسلام، حيث سعوا إلى وضع العراقيل في طريقهم، أو تغيير اتجاههم، إما بفصلهم عن دينهم أو إيجاد هوة سحيقة بينهم وبين أولي العلم، والرأي الصائب في أمتهم، أو بإلصاق الألقاب المنفرة منهم، أو وصفهم بصفات ونعوت غير صحيحة، وتشويه سمعة من أنار الله بصائرهم في مجتمعاتهم، أو بتأليب بعض الحكومات عليهم.

إن دور الشباب المسلم الذي يسير وفق تعاليم الإسلام، دور عظيم في إصلاح النفوس وتوجيه المجتمع والمحافظة على سلامته وأمنه، وهذا الدور لا ينكره إلا أعداء الإسلام، الذين يدركون مكانة الإسلام، وسموه في استجلاب من يرغب، منصفا في طريق العدالة، والأخلاق الكريمة والاستقامة والتوازن في البيئة، والأمن والاستقرار في المجتمع. ولا يُمكن للشباب أن يقوموا بدورهم، ويَنهضوا بمسؤُوليَّاتهم، ويؤدُّوا رسالتهم إلاَّ بالمحافظة على هويتهم ولذا لابد من التركيز على جانب الهوية لدى الشباب المسلم.

ثانيًا: الآثار السلبية للتيارات المعادية للشباب المسلم:

تترك التيارات المعادية عن طريق قنواتها المختلفة (المسموعة – والمقروءة – والمرئية) آثارًا سلبية في قيم الشباب وممارساتهم، وهي تتخذ في ذلك أشكالًا ومشارب شتى ومختلفة ولكنها في النهاية تستهدف الإساءة لتفكير الشباب ووحدتهم وقيمهم وتراث أمتهم.

لقد حاولت هذه التيارات تكريس وشيوع شعور الانبهار بالغرب بين الشباب من خلال تقديم صور مشرقة وبأساليب مشوقة ومتنوعة عن النظام الغربي وأساليب الحياة وأنماط المعيشة في مجتمعاته وصيغ ومجالات العمل في مؤسساته المختلفة، ولهذا الانبهار آثاره السلبية في المجتمع المسلم، إذ تنجم عنه مظاهر اجتماعية معوقة للتغير الاجتماعي والثقافي المخطط، ذلك أنه يؤدي بالمجتمع المنبهر إلى أن يصبح في ثقافته وأسلوب تفكيره وسلوكه أسيرًا للمجتمع الآخر حيث تضمر قابليته على الإبداع ويميل إلى الاستكانة والخنوع وتتردى مكانته وتنخفض قيمته بين المجتمعات.

إن هذه التيارات تظهر في أوضح صورها من خلال تأثيراتها السلبية في قيم شبابنا وممارساتهم وشخصياتهم.

إن الهدف الأول للتيارات المعادية هو حمل الشباب على التخلي عن هويته الإسلامية التي يتميز بها، والتأثير سلبًا في أخلاقه ومثله ومبادئه ومعتقداته، وهي تقوده إلى القيم الضارة والهجينة والدخيلة كالكذب والنفاق والنميمة والتزوير والتعصب والتحيز والطائفية والتبرج والتعالي والغرور، وغير ذلك من القيم السلبية التي تصدع شخصيات الشباب وتقتل طموحاتهم وتسيء إلى تكيفهم واستقرارهم في المجتمع وتعرضهم إلى جملة مشكلات اجتماعية وحضارية ليس من السهولة بمكان مواجهتها والتصدي لسلبياتها وتناقضاتها.

فالتخلي عن القيم الإيجابية كالصدق والأمانة والعفة والنزاهة والشجاعة والثقة العالية بالنفس والتعاون والصراحة والعدالة وغيرها هو الطريق إلى طمس الهوية الإسلامية.

ومما لا شك فيه أن هذه التيارات عندما تؤثر في قيم الشباب ومبادئهم ومعتقداتهم فإنها حتمًا ستؤثر في سلوكهم تأثيرًا سلبيًا ومن أبسط هذه الرموز التي اكتسبها الشباب هي موديلات الملابس وإطلاق شعر الرأس ومظاهر الطعام وأساليب الكلام المصطنعة. وكثير من المظاهر التي تبدو غريبة للكبار وغير متفقة مع قيمهم الإسلامية. وهكذا نرى أن شبابنا قد تأثروا بهذه التيارات بحيث أخذوا يجمعون بين التيارين الإسلامي والغربي.

ثالثًا: أثر الفتوى في المحافظة على هوية الشباب المسلم:

من خلال هذا العرض الذي ذكرناه آنفًا حول هذا التأثير السلبي المعادي لهوية الشباب المسلم لا بد أن يكون للفتوى أثر في حماية هوية الشباب المسلم وإلا كانت النتيجة هي وجود شباب لا يعرف من الإسلام إلا اسمه فقط وهذا أمر مشاهد بلا ريب وبخاصة في الجاليات المسلمة التي توجد في الدول غير الإسلامية. فالكثير ممن يعيشون بين ظهراني الكفار لا يتميزون عن غيرهم في شيءٍ اللهم إلا اسم الديانة فقط.

ولذلك لا بد للفتوى أن تتناول معتقدات أهل الإسلام وأخلاقهم وسلوكياتهم، ولا بد لها أيضًا أن تتناول جانب الهوية وتمييز الهوية الإسلامية عن غيرها، وتحذير المستفتي من الانجرار وراء دعوى الانسلاخ من الدين ودعوى ذوبان المجتمعات المسلمة في مجتمعات الكفر التي لا تعرف ربًا تعبده وليس لها قيم أخلاقية تحصنها من الوقوع في الرذائل والمنكرات.

ومن آثار الفتوى على هوية الشباب المسلم، أنها تدعوه إلى التصور الصحيح للإسلام وتبين له الأخطار التي تحيط به متى ما تجرد عن هويته وتحذره من الانزلاق في الهاوية وتدعوه إلى معرفة الله، وتعظيمه، وتعظيم أمره ونهيه، والتمسك بالعقيدة والحرص على كتاب الله والسير على هدى النبي صلى الله عليه وسلم اللذين هما من أهم ما يحفظ للأمة هويتها وخصوصيتها، وتخوفه بالله واليوم الآخر، وأن الغاية التي من أجْلها خلق الله الإنسان، هي العبادة المُطلقة لله تعالى، والتي من معانيها إخلاص النيَّة لله في القول والعمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء لله ورسوله، واتِّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، في الأمر والنهي، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.

ومن آثار الفتوى أيضًا على هوية الشباب المسلم أنها ترغبه في الاعتزاز بدينه، وأن يرفع به رأسه أينما كان لا تأخذه في الله لومة لائم، فلا يجوز للمسلم أن ينظر إلى أهل الضلال نظرة احترام وإكبار وإعظام، وتحذر هؤلاء الشباب من مشاركة أهل الباطل في أعيادهم ومناسباتهم التي يقيمونها ويحتفلون بها، وكذلك تحذره من التشبه بهم في عباداتهم وعاداتهم التي هي من خصائصهم أيما تحذير.

الخاتمة

بعد الانتهاء من هذا البحث في الفتوى وأهميتها في المحافظة على الهوية الإسلامية أُلخص أبرز نتائجه في النقاط التالية:

1- ضرورة تبصير المسلمين بالمؤامرات التي تحاك ضد هويتهم، وإعلام المسلم بأن الأعداء يستهدفون هويته التي هي مصدر اعتزازه وتميزه عن غيره.

2 – ضرورة الحفاظ على الهوية الإسلامية في زمن الاضطراب الذي يشهده العالم اليوم، وصيانتها من الجهود المبذولة لطمسها وتغييرها، وذلك من خلال الفتاوى التي تتناول أسس الاعتصام بالهوية.

3 – الهوية الإسلامية هي كل ما يميز المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى، وقوام هويتهم هو الإسلام بعقيدته وشريعته وآدابه وتاريخه وحضارته المشتركة بين كل شعوبه على اختلاف قومياتها.

4- على المفتي الالتزام في فتواه بمنهج أهل السنة والجماعة وأن يحذر تمييع الفتوى وبخاصة في جانب العقيدة التي لا يمكن المساومة عليها وأن يحافظ من خلال فتاويه على وسطيَّة الأمّة في دينها وهويَّة مجتمعها المسلم والتزامهم بأحكام الشرع، وأن يدرك مدى خطورة الإعراض عن الهوية الإسلامية، وأن حاجتنا إلى هويتنا الإسلامية ضرورية وبخاصة في هذه الفترة التي تمر بها أمتنا الإسلامية حيث اختلطت الأمور والمفاهيم عند الكثير من أبناء أمتنا الإسلامية.

5 – أن خصائص وسمات الهوية الإسلامية هامة لدى الداعية والمفتي، وأهم هذه السمات والخصائص العقيدة التي ينضوي تحتها كل مسلم أيًّا كان مكانه أو شكله أو لغته؛ وأن هذه الهوية لازمة لكل مسلم: لا يجوز لمسلم الخروج عنها فهي التي تميزه عمَّا عداها وتحفظ عليه ثقافته وكل مظاهر شخصيته بل هي مصدر العزة والكرامة له.

6 – أن قضايا ومسائل المعتقد من أهم المسائل التي يجب على من تصدر للإفتاء أن يراعيها عندما يتعرض للإفتاء بخصوصها؛ لأن أثرها ينسحب إلى علاقة الإنسان مع ربه وإيمانه به وأن كل كلمة تخرج من فم المفتي، بل كل حكم يصدره مفتٍ؛ يصبح منهجًا ينتهجه المقلدون، وسلوكًا يسلكه السائرون.

7 – على المفتي أن يعمل على تقوية الإيمان عند المدعو، وأن يربط المستفتي بالأدلة الواردة في القرآن والسنة، وإعطائه التوجيهات التي من شأنها أن تصلح من عبادة المستفتِي وسلوكه ومظهره، وتوضيحه للمستفتي شمولية الإسلام، وأنه ليس مقصورًا فقط في الصلاة والصوم، بل إن الإسلام يجب أن يحكم في كل صغيرة وكبيرة.

8 – أن من أعظم آثار الفتوى على هوية المرأة المسلمة أنها تغرس فيها الاعتزاز بدينها والشعور بقوة الحق التي تدين به، لا سيما إذا كانت هذه الفتاوى مبنية على نصوص الوحيين.

9- للفتوى أثرها القوي في المحافظة على هوية الشباب المسلم، فهي تبين له الأخطار التي تحيط به إذا ما تنكر لهويته وانحرف عنها وتحذيره من الانزلاق في الهاوية وتدعوه إلى التمسك بالعقيدة وترغبه في الاعتزاز بدينه وتحذيره من التشبه بأهل الباطل في عباداتهم وعاداتهم التي هي من خصائصهم أيما تحذير.

المراجع والمصادر

* الجامع الصحيح: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256هـ) الناشر: دار الشعب – القاهرة.

* دَعْوة أهل السُّنة والجمَاعة على طريق إحياء الأمَّة ـ عبد المجيد بن يوسف الشاذلي الطبعة الإلكترونية الأولى، أبريل 2007.

* الردود، للشيخ د. بكر أبو زيد، ط: دار العاصمة الطبعة الأولى 1414هـ.

* سير أعلام النبلاء المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة.

* صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري الناشر: دار الجيل بيروت، ودار الأفاق الجديدة ـ بيروت -لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور، ط: دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت.

* صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لأحمد بن حمدان الحنبلي، ط: المكتب الإسلامي، دمشق.

* مباحث في أحكام الفتوى عامر: سعيد الزيباري . دار ابن حزم ـ بيروت.

* مجلـة البحوث الإسلاميـة الأعـداد (الثـاني، والثـامن عشر، والثمانـون، والثامن والثمانون).

* مجلة البيان الأعداد (الرابع والخمسون، ومائة وثلاثة، ومائة وثمانية وعشرون).

* مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بالكويت، العدد الخمسون.

* مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد السابع عشر.

* مجلة جامعة الملك سعود، المجلد السادس عشر.

* مجموع الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مطابع الرياض، ط: الأولى، 1405هـ.

* المعجم الوسيط: النشر: دار الدعوة تحقيق: مجمع اللغة العربية.

* معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس. ت: عبد السلام هارون، ط: دار الجيل، بيروت، ط: الأولى، 1411هـ.

* الموافقات، للإمام الشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن بن سلمان، الناشر: دار ابن عفان، ط: الأولى، 1417هـ.

* موقف ابن تيمية من الأشاعرة. د. عبد الرحمن المحمود، مكتبة الرشد، الرياض.

 

 

الحجر في الفتوى لاستصلاح الأديان

أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان

والمقدم لمؤتمر

(منهجية الإفتاء في عالم مفتوح –

الواقع الماثل والأمل المرتجى)

المركز العالمي للوسطية بدولة الكويت


المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإن أمتنا الإسلامية في العصور المتأخرة بدأ يدِبُّ فيها مرض فتاك، وداء عُضال، يؤثر على الأخضر واليابس، وعلى الصحيح والسقيم، وعلى الكبير والصغير حتى غدا الناس يتقلبون بين أهل الكلام والأهواء، الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فبثوا سموم فتاويهم بين الناس ليهلكوا الحرث والنسل، وما ذاك إلا بسبب تعلقهم بالدنيا، وحبهم لها، وشغفهم بشهواتها، وكم رأينا من يخرج على المسلمين من بعض هؤلاء ليفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([212]).

وصدق ابن القيم رحمه الله حين يقول: “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السِّيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله؛ وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسمواتِ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}[النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله”([213]).

فما بال أقوام من أمة الإسلام يقفون هذا الموقف العظيم من الإفتاء والقول على الله بغير علم، حتى غدا علينا أصناف وأشكال لم نعهدها إلا منذ زمن قريب لقلة خشيتهم من الله، وحرصهم على المتاع الفاني القليل فكان ولابد من وضع حد لمن قام يفتي بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ووجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن يقف في وجوه هؤلاء حتى لا يتسببوا في فتنة الناس وإضلالهم، وإبعادهم عن صراط الله المستقيم.

ولذلك ارتأيت أن أكتب عن هذا الموضوع الهام والذي يحتاج إلى معرفته جميع المسلمين، وبخاصة من يتسابقون للتصدر للفتوى ليلًا ونهارًا على القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.

فأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يمن علينا بالثبات على دينه، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ملخص البحث:

الهدف من البحث:

هو إيضاح منهج السلف الصالح ومن سار على دربهم في الفتوى والإفتاء، وخطورة الفتوى وكثرة من يتعرض لها من المتأخرين لما له من الأثر على عقيدة المسلم ودينه، وضرورة الحجر على بعض المفتين المتأخرين الذين يناقضون كتاب الله وسنة نبيه بحيث يرى القارئ مدى خشية السلف من التصدي للفتوى، وانصرافهم عنها، وتحويلها لمن يتحمل تبعاتها يوم العرض على الله تعالى، فلما علم الله صدقهم وإخلاصهم أمدهم بعونه وفضله، وأفاض عليهم بإحسانه وتوفيقه، فخرجت فتاواهم صادقة في بيانها، خالصة لربها فوصلت إلى قلوب الخلق وأثرت فيها، ففازوا بالحُسنيين، ونالوا رضا الرب جل وعلا، وسكنوا المكان الأعلى، نسأل الله تعالى أن يعيننا على السير على نهجهم، والثبات على طريقهم، وأن يبصرنا بأمر ديننا، وأن يكفينا شر أنفسنا، وأن يرحم علماءنا السابقين الذين أفنَوا حياتهم في تعليم الناس الخيرَ، وأن يحفظ علينا علماءنا ومشايخنا اللاحقين، وأن يمدهم بعونه وتوفيقه.

خطة البحث:

اشتمل البحث على عدة مباحثَ ومطالبَ، ويتفرع عنها بعض المسائل والفروع التي تتعلق بها:

المبحث الأول: أركان الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: المفتي.            

المطلب الثاني: المستفتي.          

المطلب الثالث: الفتوى.

المبحث الثاني: أنواع الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الفتوى بالرأي.    

المطلب الثاني: الفتوى بالتقليد.

المطلب الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد.        

المبحث الثالث: الإفتاء في دين الله بغير علم وضرره على الإسلام والمسلمين، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: خطورة القول على الله بغير علم.   

المطلب الثاني: أثر القول على الله بغير علم على المفتي والمستفتي.

المبحث الرابع: الحجر في الفتوى، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: تعريف الحجر في الفتوى.          

المطلب الثاني: أصناف المحجور عليهم.

المطلب الثالث: من يقوم بالحجر في الفتوى.               

المطلب الرابع: أثر الحجر في الفتوى.

المبحث الخامس: تغيير الفتوى واختلافها، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: سبيل العلماء المتقدمين في الفتوى واعتمادهم على الدليل.   

المطلب الثاني: سبيل العلماء المتأخرين واعتمادهم على الرأي والمذهب.

المطلب الثالث: الفروق بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين وأمثلة منها.

الخاتمة.

 

المبحث الأول: أركان الفتوى،

وفيه ثلاثة مطالب:

 

المطلب الأول: الفتوى:

تعريف الفتوى لغة:

اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوَى والفتاوِي يقال: أفتيته فَتْوى، وفتيا إذا أجبته عن مسألته، والفتيا تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتوا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، والتفاتي: التخاصم، ويقال: أفتيتُ فلانًا رؤيا رآها، إذا عَبَرْتها له([214]) ومنه قوله تعالى حاكيًا: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} [يوسف: 43].

تعريف الاستفتاء لغة:

طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف: 22] وقد يكون بمعنى مجرد سؤال، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}[الصافات: 11]، قال المفسرون: أي اسألهم([215]).

الفتوى في الاصطلاح:

تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه([216])، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها. فهي إبانة الأمر وإيضاحه، يقال: أفتى فلان فلانًا إذا بان له، وأوضح له الطريق أو المسألة، أو ما أشكل عليه من الأمور سواء أكان ما أشكل عليه لغويًا أم شرعيًا.

قال ابن فارس: “يقال أفتى الفقيه في المسألة إذا بيَّن حكمها، واستفتيت إذا سألتَ عن الحكم، ويقال منه فَتْوَى، وفُتْيَا)([217])، قال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 176]، وأفتاه في الأمر: أبانه وأوضحه”([218]).

مكانة الفتوى وأثرها:

الفتوى في دين الإسلام لها مكانة عالية، ومنزلة عظيمة، ومهمة جليلة، فهي أمر تولاه الله تعالى بنفسه، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 176]، وقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تولى هذا المنصب الذي كلفه الله به حيث قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44]، ثم علماء الصحابة من بعده، ثم العلماء الربانيون من بعدهم، فهي توقيع عن رب العالمين، فالمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، وقد تولى هذه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم.

قال ابن القيم رحمه الله: “ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم وَالصدق؛ فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وَكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}[النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله([219]). قال صلى الله عليه وسلم: (أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ)([220]).

ولذلك لما علم السلف – رضوان الله عليهم – مكانتها كانوا من عظم المسؤولية وخطورة الفتوى يتدافعونها ويحجمون عنها، ويشددون النكير على من استشرف لها، وسارع فيها، وحرص عليها.

وقد نقل عن بعض أهل العلم توجيهاتُهم ونصائحُهم في هذا الموضوع الخطير، ومن ذلك: قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: “لقد أدركتُ في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم أحدٌ يُحَدِّثُ بحديثٍ إلا وَدَّ أن أخاه كفاهُ الحديثَ، ولا يُسألُ عن فُتْيَا إلا وَدَّ أن أخَاهُ كَفَاهُ الفُتْيَا”([221]).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون”([222]).

وعن مالك رحمه الله أنه ربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: “من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها”([223]).

وعن سحنون “أن رجلًا أتاه فسأله فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله لها ثلاثة أيام فقال: وما أصنع لك يا خليلي مسألتك معضلة، وفيها أقاويل وأنا متحيّر في ذلك، فقال له: وأنت أصلحك الله لكل معضلة، فقال سحنون: هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف”([224]).

وبذلك يتضح أن الفتوى هي بيان أحكام الله تعالى، وتطبيقها على أفعال الناس، فهي قول على الله تعالى، لأنه يقول للمستفتي: حق عليك أن تفعل، أو حرام عليك أن تفعل، ولذا شبه القرافي المفتي بالتَّرجمان عن مراد الله تعالى، وجعله ابن القيم بمنزلة الوزير الموقِّع عن الملك. وقال ابن المنكدر: “العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم”([225]).

لذلك علم أن الفتوى بغير علم حرام لما يتضمن ذلك من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتضمن إضلال الناس وهو من كبائر الذنوب لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]، فقرنه بالفواحش والبغي والشرك.

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا)([226]).

من أجل ذلك كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري. نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومالك، وغيرهم.

المطلب الثاني: المفتي:       

تعريف المفتي لغة:

اسم فاعل من أفتى، فمن أفتى مرة فهو مفتٍ، ولكنه يحمل في الحكم الشرعي بمعنى أخص من ذلك، قال الصيرفي: “هذا الاسم موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلِمَ جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن عَلم مسألة وأدرك حقيقتها، فمن بَلَغ هذه الرتبة سمَّوْهُ بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما استفتي فيه”([227]).

قال ابن الصلاح: “أما شروطه وصفته فهو: أن يكون مكلفًا مسلمًا ثقة، مأمونًا، منزهًا من أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط متيقظًا”([228]).

وقال ابن حمدان: “ومن صفته وشروطه: أن يكون مسلمًا عدلًا مكلفًا فقيهًا مجتهدًا يقظًا صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به”([229]).

وقد بين ابن حمدان سبب تأليف كتابه القيم (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) بقوله: “عظم أمر الفتوى وخطرها، وقل أهلها ومن يخاف إثمها وخطرها وأقدم عليها الحمقى والجهَّال، ورضوا فيه بالقيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال، واكتفوا – بزعمهم – أنهم من العَدد بلا عُدد، وليس معهم بأهليتهم خط أحد، واحتجوا باستمرار حالهم في المُدد بلا مَدد، وغرّهم في الدنيا كثرةُ الأمنِ والسلامة وقلة الإنكار والملامة”([230]).

فإذا كان هذا حال المفتين في عصره فكيف لو رأى عصرنا الذي تصدى فيه للإفتاء من لم يذق طعم العلم أصلًا، ولم يعرف له فرعًا ولا أصلًا، من هؤلاء الكُتّاب الذين يَدّعُون الفكر، والذين تربوا على ثقافة الغرب وأخلاقهم، فامتلأت الصحف من أقوالهم وآرائهم في الدين، فملؤُوا الأوراق ضلالًا، والقلوب شكوكًا، والمسلمين فسادًا وتفرقًا، حتى أصبح الناس شيعًا وأحزابًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وما ذكرناه أخبرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا)([231]).

لذلك فعمل المفتي من الضرورة بمكان إذا كان لائقًا لمكانته، متحملًا لمسؤوليته، ومعلوم أن عمل المفتي هو الإخبار بالحكم الشرعي عن دليله، فإذا علم ذلك فإنه يستلزم أمورًا:

الأول: تحصيل الحكم الشرعي المجرد في ذهن المفتي، فإن كان مما لا مشقة في تحصيله لم يكن تحصيله اجتهادًا، كما لو سأله سائل عن أركان الإسلام ما هي؟ أو عن حكم الإيمان بالقرآن؟ وإن كان الدليل خفيًا، كما لو كان آية من القرآن غير واضحة الدلالة على المراد، أو حديثًا نبويًا واردًا بطريق الآحاد، أو غير واضح الدلالة على المراد، أو كان الحكم مما تعارضت فيه الأدلة أو لم يدخل تحت شيء من النصوص أصلًا، احتاج أخذ الحكم إلى اجتهاد في صحة الدليل أو ثبوته أو استنباط الحكم منه أو القياس عليه.

الثاني: معرفة الواقعة المسؤول عنها، بأن يذكرها المستفتي في سؤاله، وعلى المفتي أن يحيط بها إحاطة تامة فيما يتعلق به الجواب، بأن يستفصل السائل عنها، ويسأل غيره إن لزم، وينظر في القرائن.

الثالث: أن يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسؤول عنها، بأن يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، وذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعدادًا لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معينة خصوصية ليست في غيرها. وليست الأوصاف التي في الوقائع معتبرة في الحكم كلها، ولا هي طردية كلها، بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردد بين الطرفين، فلا تبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا؟ فإذا حقق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لابد منه لكل مفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها عمومات ومطلقات، منزلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال التي تقع في الوجود لا تقع مطلقة، وإنما تقع معينة مشخّصة، فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلًا وقد لا يكون، وذلك كله اجتهاد.

ومثال هذا: أن يسأله رجل هل يجب عليه أن ينفق على أبيه؟

فينظر أولًا في الأدلة الواردة، فيعلم أن الحكم الشرعي أنه يجب على الابن الغني أن ينفق على أبيه الفقير، ويتعرف ثانيًا حال كل من الأب والابن، ومقدار ما يملكه كل منهما، وما عليه من الدين، وما عنده من العيال، إلى غير ذلك مما يظن أن له في الحكم أثرًا، ثم ينظر في حال كل منهما ليحقق وجود مناط الحكم – وهو الغني والفقر – فإن الغنى والفقر اللذين علق بهما الشارع الحكم لكل منهما طرفان وواسطة، فالغنى مثلًا له طرف أعلى لا إشكال في دخوله في حد الغنى، وله طرف أدنى لا إشكال في خروجه عنه، وهناك واسطة يتردد الناظر في دخولها أو خروجها، وكذلك الفقر له أطراف ثلاثة – فيجتهد المفتي في إدخال الصورة المسؤول عنها في حكم أو إخراجها بناء على ذلك.

وهذا النوع من الاجتهاد لابد منه في كل واقعة – وهو المسمى تحقيق المناط – لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدم لها نظير، وإن فرضنا أنه تقدم مثلها فلابد من النظر في تحقيق كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد([232]).

شروط المفتي:

أولًا لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقًا، فتصح فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة([233])، وأما السمع، فقد قال بعض الحنفية: إنه شرط فلا تصح فتيا الأصم وهو من لا يسمع أصلًا، وقال ابن عابدين: لاشك أنه إذا كُتب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلا أنه لا ينبغي أن ينصب للفتوى، لأنه لا يمكن كل أحد أن يكتب له([234])، ولم يذكر هذا الشرط غيرهم، وكذا لم يذكروا في الشروط البصر، فتصح فتيا الأعمى، وصرّح به المالكية([235]).

وأما ما يشترط في المفتي:

(1) الإسلام: فلا تصح فتيا الكافر.

(2) العقل: فلا تصح فتيا المجنون.

(3) البلوغ: فلا تصح فتيا الصغير.

(4) العدالة: فلا تصح فتيا الفاسق عند جمهور العلماء، لأن الإفتاء يتضمن الإخبار عن الحكم الشرعي، وخبر الفاسق لا يقبل، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسَهُ فإنه يعلم صدق نفسه([236]).

وذهب بعض الحنفية إلى أن الفاسق يصلح مفتيا، لأنه يجتهد لئلا ينسب إلى الخطأ  ([237]).

وقال ابن القيم: “تصح فتيا الفاسق، إلا أن يكون معلنًا بفسقه وداعيًا إلى بدعته، وذلك إذا عمّ الفسوق وغلب، لئلا تتعطل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح”([238]).

وأما المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفِّرة أو مفسقة لم تصح فتاواهم، وإلا صحت فيما لا يدعون فيه إلى بدعتهم، قال الخطيب البغدادي: وتجوز فتاوى أهل الأهواء، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق، وأما الشُّراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة([239]).

(5) الاجتهاد: وهو بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي. أهـ([240]). وهذا معنى الاجتهاد. ومفهوم هذا الشرط أن فتيا العامي والمقلد الذي يفتي بقول غيره لا تصح.

قال ابن القيم: “وفي فتيا المقلد ثلاثة أقوال:

الأول: ما تقدم ذكره، وهو أنه لا تجوز الفتيا بالتقليد، لأنه ليس بعلم، ولأن المقلد ليس بعالم والفتوى بغير علم حرام، قال: وهذا قول جمهور الشافعية وأكثر الحنابلة.

الثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا.

الثالث: أنه يجوز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، قال: وهو أصح الأقوال، وعليه العمل”([241]).

وقال ابن عابدين نقلًا عن ابن الهمام: “وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي” أ.هـ([242]).

إفتاء القاضي:

لا خلاف في أن للقاضي أن يفتي في العبادات ونحوها مما لا مدخل فيه للقضاء كالذبائح والأضاحي.

واختلف الفقهاء في إفتائه في الأمور التي يدخلها القضاء: فذهب الشافعية في وجه وصححه النووي، والحنابلة في قول وصححه ابن القيم إلى أنه يفتي فيها أيضًا بلا كراهة.

وذهب آخرون من الفريقين إلى أنه لا يجوز، لأنه موضع تهمة، ووجهه أنه إذا أفتى فيها تكون فتياه كالحكم على الخصم، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة، ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكم، أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن حكم بخلاف ما أفتى به جعل للمحكوم عليه سبيلًا للتشنيع عليه، وقد قال شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، وقال ابن المنذر: يكره للقاضي الإفتاء في مسائل الأحكام الشرعية([243]).

وذهب الحنفية في الصحيح عندهم إلى أن للقاضي أن يفتي في مجلس القضاء وغيره في العبادات والأحكام وغيرها، ما لم يكن للمستفتي خصومة، فإن كان له خصومة فليس للقاضي أن يفتيه فيها([244]).

وذهب المالكية إلى أنه يكره للقاضي أن يفتي في ما شأنه أن يخاصم فيه، كالبيع والشفعة والجنايات.

قال البرزلي: “وهذا إذا كان فيما يمكن أن يعرض بين يديه، فلو جاءه السؤال من خارج البلد الذي يقضي فيه فلا كراهة”([245]).

صيغة الفتوى:

ينبغي لسلامة الفتيا وصدقها وصحة الانتفاع بها أن يراعي المفتي أمورًا منها:

(1) تحرير ألفاظ الفتوى لئلا تفهم على وجه باطل.

(2) ألا تكون الفتوى بألفاظ مجملة، لئلا يقع السائل في حيرة، كمن سئل عن مسألة في المواريث فقال: تقسم على فرائض الله عز وجل.

(3) يحسن ذكر دليل الحكم في الفتيا سواء كان آية أو حديثًا حيث أمكنه ذلك، ويذكر علته أو حكمته، و لا يلقيه إلى المستفتي مجردًا، فإن الأول أدعى للقبول بانشراح صدر وفهم لمبنى الحكم، وذلك أدعى للطاعة والامتثال، وفي كثير من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحكم([246]).

(4) لا يقول في الفتيا هذا حكم الله ورسوله إلا بنص قاطع، أما الأمور الاجتهادية فيتجنب فيها ذلك لحديث: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ الله فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ الله وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ الله فِيهِمْ أَمْ لاَ؟)([247]).

(5) ينبغي أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح مستوف لما يحتاج إليه المستفتي مما يتعلق بسؤاله، ويتجنب الإطناب فيما لا أثر له، لأن المقام مقام تحديد، لا مقام وعظ أو تعليم أو تصنيف([248]).

المطلب الثالث: المستفتي:

تعريف المستفتي:

هو الذي نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها.

حكم الاستفتاء:

استفتاء العامّي الذي لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه، لوجوب العمل حسب حكم الشرع، ولأنه إذا أقدم على العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام، أو يترك في العبادة ما لابد منه.

قال الغزالي: العامي يجب عليه سؤال العلماء، لأن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لأنه يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطل الحِرف والصنائع، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء ووجوب اتباعهم([249]).

وقال النووي: “من نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، أي وجب عليه الاستفتاء عنها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام”([250]).

وإذا لم يجد المكلف من يفتيه في واقعته فيسقط عنه التكليف بالعمل إذا لم يكن له به علم، لا من اجتهاد معتبر ولا من تقليد، لأنه يكون من باب التكليف بما لا يطاق، ولأن شرط التكليف العلم به، وقياسًا على المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة وتكافأت فلم يمكنه الترجيح، ويكون حكمه حكم ما قبل ورود الشرع، وكمن لم تبلغه الدعوة([251]).

ويجب على المستفتي معرفة حال من يفتيه بحيث إذا وقعت له حادثة وجب في حقه أن يسأل من يتصف بالعدل والعدالة، فعن محمد بن سيرين قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم” ([252]).

قال النووي: “يجب على المستفتي قطعًا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفًا بأهليته، فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وانتصب للتدريس والإقراء، وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك، ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر، والصحيح هو الأول”([253]).

ويتخير المستفتي من يفتيه، فإن وجد المستفتي أكثر من عالم، وكلهم عدل وأهل للفتيا، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المستفتي بالخيار بينهم يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علمًا فيسأله، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل، واحتجوا لذلك بعموم قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43]، وبأن الأولين كانوا يسألون الصحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكنهم من سؤالهم.

وعن موسى بن يسار قال: “كان رجاء بن حيوة وعدي بن عدي، ومكحول في المسجد، فسأل رجل مكحولًا عن مسألة فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة”([254]).

ويلزم المستفتي إن اتفقت أجوبة المفتين العمل بذلك إن اطمأن إلى فتواهم، وإن اختلفوا فللفقهاء في ذلك طريقان: فذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، وبعض الحنابلة، وابن سريج والسمعاني، والغزالي من الشافعية إلى أن العامّي ليس مخيرًا بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، ثم ذهب الأكثرون منهم إلى أن الترجيح يكون باعتقاد المستفتي في الذين أفتوه أيهم أعلم، فيأخذ بقوله ويترك قول من عداه.

قال الغزالي: الترجيح بالأعلمية واجب، لأن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع، والغلط أبعد عن الأعلم لا محالة.

وقال الشاطبي: لا يتخير، لأن في التخير إسقاط التكليف، ومتى خيرنا المقلدين في اتباع مذاهب العلماء لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات والهوى في الاختيار.

وقال ابن القيم، وصاحب المحصول: عليه الترجيح بالأمارات، فإن الحق والباطل لا يستويان في الفطر السليمة.

وذهب البعض إلى أن الترجيح يكون بالأخذ بالأشد احتياطًا، وقال الكعبي: يأخذ بالأشد فيما كان في حقوق العباد، أما في حق الله تعالى فيأخذ بالأيسر.

والأصح والأظهر عند الشافعية وبعض الحنابلة: أن تخير العامي بين الأقوال المختلفة للمفتين جائز، لأن فرض العامي التقليد، وهو حاصل بتقليده لأيّ المفتين شاء”([255]).

وينبغي على المستفتي التأدب ببعض الآداب مع الذي يستفتيه، ومن ذلك:

أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي، ليسأله عن حكم نازلته، فإن لم يكن في محلته وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه، وإن بعدت داره، فقد رحل غير واحد من السلف في مسألة، فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: جاء رجل منا إلى أبي الدرداء أَمَرَتْهُ أُمُّه في امْرَأَتِهِ أن يفارقها فرحل إلى أبي الدرداء يسأله في ذلك، فقال أبو الدرداء: ما أنا بالذي آمرك أن تطلق، وما أنا بالذي آمرك أن تمسك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ)، قال: فرجع الرجل وقد فارقها([256]).

وينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي، وأن يجلّه ويعظّمه لعلمه ولأنه مرشد له([257])، ولا ينبغي أن يسأله عند همّ أو ضجر أو نحو ذلك مما يشغل القلب([258]).

ويجوز للمستفتي أن يطالب المفتي بالحجة والدليل احتياطًا لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر له الدليل، وقال بعض الفقهاء لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالدليل.

ويكره للمستفتي كثرة السؤال، والسؤال عما لا ينفع في الدين، والسؤال عما لم يقع، وأن يسأل عن صعاب المسائل، وعن الحكمة في المسائل التعبدية.

ويكره له أن يبلغ بالسؤال حدَّ التعمق والتكلف، وأن يسأل على سبيل التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام لما في الحديث: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى الله الأَلَدُّ الْخَصِمُ)([259]).

فهذه بعض الآداب التي ينبغي على المستفتي أن يعمل بها من أجل الحصول على إجابة فتواه دون تقصير أو إفراط، فالواجب في طلب الفتوى هو الالتزام بما يوصل إلى صحتها.

حكم المستفتي إن لم يطمئن قلبه إلى الفتيا:

على المستفتي عندما يريد الحصول على حكم مسألة معينة، أو قضية خاصة به، أن يبحث عمن يجيبه، فإذا وجد من يجيبه وحصل على مقصوده ومراده فالأمر راجع له في قبول الفتوى أو لا، لكن يطرأ على بعض المفتين من التقصير في إجابة المستفتي، أو الشعور من جهة المستفتي بأن هذا المفتي لا يرتاح إليه في فتواه.

قال ابن القيم: “المستفتي لا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك، لحديث: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلا يَأْخُذْهَا)([260]).

ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه بجهل المفتي أو بمحاباته له في فتواه، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانيًا وثالثًا حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة”([261]).

المبحث الثاني:

أنواع الفتوى،

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الفتوى بالرأي:

الرأي هو: ما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيها الأمارات، ولا يقال لما تختلف فيه الأمارات: إنه رأي([262]) والرأي يشمل القياس والاستحسان وغيرهما([263]).

ولا يجوز الإفتاء بالرأي المخالف للنص أو الإجماع، ولا يجوز المصير إلى الرأي قبل العمل على تحصيل النصوص الواردة في المسألة، أو القول بالرأي غير المستند إلى الكتاب والسنة، بل بمجرد الخرص والتخمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (كَيفَ تَقْضِي؟) قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: (فَإنْ لَم يَكُنْ في كتَابِ اللهِ؟) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: (فَإنْ لَم يَكُنْ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ) صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: (الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّق رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)([264]).

وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لشريح: “ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن لك في كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك”([265]).

قال ابن القيم رحمه الله: “وقالت طائفة من أهل العلم: من أَدَّاه اجتهاده إلى رأي رآه ولم تقم عليه حُجَّة فيه بعد فليس مذموما، بل هو معذور، خالفًا كان أو سالفًا، ومن قامت عليه الحُجَّة فعاند وتمادى على الْفُتْيَا برأي إنسان بعينه فهو الذي يلحقه الوعيد؛ وقد روينا في مسند عبد بن حميد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)([266]).

وعن ابن سيرين قال: “لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رض الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قَضِيَّة فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السُّنَّة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال: “هذا رأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله”([267]).

ذم الصحابة القول بالرأي:

ذكر ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين بعضًا من نماذج الصحابة – رضوان الله عليهم – في ذمهم للرأي، فقال رحمه الله: “قال أبو بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم.

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السُّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرّأي، فَضلُّوا وأضَلُّوا.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: علماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدِّين بالرّأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل)([268]).

ذكر ما روي من رجوع بعض الصحابة عن آرائهم التي رأوها إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوها ووعوها:

عن سعيد بن المسيب قال: “كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: الدِّية للعاقلة لا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا، حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أُوَرِّثَ امرأَةَ أَشيمَ الضَبابي مِن ديةِ زَوجِها فرجع عمر عن قوله) ([269]).

وعن أيضًا قال: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأصابع بقضاءٍ ثم أُخبِر بكتابٍ كتبهُ النبي صلى الله عليه وسلم لابن حزم (وَفِى كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ) فأخذ به، وترك أمره الأول”([270]).

وعن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: (يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ)([271]).

وعن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه عن أبي بن كعب أنه كان يقول: “ليس على من لم ينزل غُسل، ثم نزع عن ذلك – أي قبل أن يموت”([272]).

قال الشافعي: “وإنما بدأت بحديث أبي في قوله: (الماءُ مِنَ المَاءِ) ونزوعه عنه أنه سمع: (الماءُ مِنَ المَاءِ) من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسمع خلافه فقال به، ثم لا أحسبه تركه إلا أنه أثبت له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعده ما نسخه”، وهذا الذي ظنه الشافعي قد روى سهل بن سعد أن أبي بن كعب وقف عليه توقيفًا مُبَيّنًا.

فعن سهل بن سعد قال: حدثنا أبي بن كعب: “أن الفتيا التي كانوا يفتون (أن الماء من الماء) كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزمان الأول”. رواه أبو داود السجستاني عن محمد بن مهران فزاد: “ثم أمر بالاغتسال بعد” ([273]).

فهذه الكلمات اليسيرة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة واضحة على ذمهم للرأي والأمر بتركه، والرجوع إلى الأصل الأصيل والنبع الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فما بال أقوام في زماننا اتخذوا رأيهم حجة ودليلًا على صحة فتاويهم، حتى إنهم يجادلون في وجود النصوص التي توضح الحق بدليله، وصدق الله تعالى إذ يقول: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

فلا بد من مراجعة هؤلاء لحالهم مع الله يوم أن يقفوا بين يديه فيسألهم عما قالوا وأفتوا به، وليعدوا للسؤال جوابًا وليكن الجواب صوابًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24].

وليحذر أولئك النفر من تحملهم لأوزار من يتبعونهم في أقوالهم وفتاويهم، وليعلموا أن كل من أضلوه برأيهم المخالف للكتاب والسنة سوف يتعلق في أعناقهم يوم القيامة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)([274]).

المطلب الثاني: الفتوى بالتقليد:

معنى الفتوى بالتقليد:

هو أن يقلد العالم عالمًا آخر في فتواه مصيبًا كان أو مخطئًا.

وهنا وقفة: وهي هل يجوز للعالم أن يقلد غيره؟ ينظر في ذلك، فإن كان الوقت واسعًا عليه يمكنه فيه الاجتهاد لم يجز له التقليد، ولزمه طلب الحكم بالاجتهاد. وقيل: يجوز له تقليد العالم([275]).

وروي عن محمد بن الحسن الشيباني أنه قال: “يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله، والدليل على أنه لا يجوز له التقليد أصلًا مع اتساع الوقت: أن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم المطلوب، فلا يجوز له تقليد غيره، وأما إذا كان الوقت قد ضاق، وخشي فوات العبادة إن اشتغل بالاجتهاد، ففي ذلك وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد، والوجه الثاني: أنه لا يجوز، لأن معه آلة الاجتهاد، فأشبه إذا كان الوقت واسعًا، وقيل: هذا أصح الوجهين، والله أعلم”([276]).

والتقليد هو:

قبول القول من غير دليل، أي أن العامي يقبل فتوى العالم بدون أن يوضح له الدليل على حكمه، فيعمل به العامي تقليدًا لمن أفتاه، حيث أن العامي يصعب عليه البحث والتنقيب في المسائل الشرعية لانشغاله بأمور معاشه وحاجاته.

قال أبو علي الطبري في تقليد العامي: “فرضه اتباع عالمه بشرط أن يكون عالمه مصيبًا، كما يتبع عالمه بشرط ألا يكون مخالفًا للنص، وقد قيل: إن العامي يقلد أوثق المجتهدين في نفسه، ولا يكلف أكثر من ذلك، لأنه لا سبيل له إلى معرفة الحق، والوقوف على طريقه، وكل واحد من المجتهدين يقينه بما أدى إليه اجتهاده، فيؤدي ذلك إلى حيرة العامي، فجعل له أن يقلد أوثقهما في نفسه، ويخالف المجتهد، لأنه يتمكن من موافقته على طريق الحق ومناظرته فيه”([277]).

ومعلوم أن الأحكام تنقسم إلى قسمين: عقلي، وشرعي.

فأما العقلي: فلا يجوز فيه التقليد، كمعرفة الصانع تعالى، وصفاته، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، وغير ذلك من الأحكام العقلية.

وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: يجوز التقليد في أصول الدين، وهذا خطأ ومنافٍ للنصوص الشرعية الواردة، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف: 23، 24]، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من اتباع الأهدى فقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف: 24].

وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء69-74].

فتركوا جواب المسألة لانقطاعهم عنه، وكشفت المسألة عن عوار مذهبهم؛ فذكروا ما يسألهم عنه من فعل آبائهم وتقليدهم إياهم. وعلى ذلك فالعقل مناط التكليف وهو طريق إلى معرفة الأصول، والناس كلهم يشتركون في العقل، فلا معنى للتقليد فيه.

وأما الأحكام الشرعية، فضربان:

أحدهما: يعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلوات الخمس، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج، وتحريم الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز التقليد فيه، لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه، والعلم به، فلا معنى للتقليد فيه.

وضرب آخر: لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال: كفروع العبادات، والمعاملات، والفروج، والمناكحات، وغير ذلك من الأحكام، فهذا يسوغ فيه التقليد، بدليل قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. ولأننا لو منعنا التقليد في هذه المسائل التي هي من فروع الدين لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك، وفي إيجاب ذلك قطع عن المعايش، وهلاك الحرث والماشية، فوجب أن يسقط.

فيمن يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ:

الذي يسوغ له التقليد هو العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية، فيجوز له أن يقلد عالمًا، ويعمل بقوله قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

والذي لا يسوغ له التقليد هو العالم، وهل يجوز أن يقلد غيره أم لا؟

قال الخطيب البغدادي: “ينظر فيه؛ فإن كان الوقت واسعًا عليه، ويمكنه فيه الاجتهاد، لم يجز له التقليد، ولزمه طلب الحكم بالاجتهاد، وأما إذا كان الوقت قد ضاق، وخشي فوات العبادة إن اشتغل بالاجتهاد ففي ذلك وجهان: أحدهما: يجوز له أن يقلد.

والوجه الثاني: أنه لا يجوز لأن معه آلة الاجتهاد، فأشبه إذا كان الوقت واسعًا، وقيل: هذا أصح الوجهين والله أعلم”([278]).

أنواع التقليد:

النوع الأول: الإعراض عما أنزله الله تعالى وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

فهذا النوع قام به المقلد قبل أن يتمكن من معرفة حكم ما يقلده.

النوع الثاني: تقليد من لا يعلم المُقَلِّد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله، وهذا ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلًا أصابه جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني: فاحتلم – فَأُمِرَ بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي، فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، إنَّ شِفَاءَ العِيِّ السُّؤَالُ)، قال عطاء: فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: (لَوْ غَسَلَ جَسَدَهُ، وَتَرَكَ رَأسَهُ حَيثُ أَصَابَهُ) يَعني: الجُرحَ([279]) فالذي أفتاه بالغُسل جرّ على السائل الذي ليس عنده علم أن كان سببًا في وفاته، فنال الدعاء عليه من النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الفتوى بغير علم.

النوع الثالث: التَّقْليد بعد قيام الحُجَّة وظهور الدَّليل على خلاف قول المُقَلَّد، وهذا قَلَّد بعد ظُهور الحُجَّة له؛ فهو أولى بالذَّم ومعصية الله ورسوله، وهذا من أشد الأنواع ذمًا كونه علم الحق بدليله فتركه وعمل بما أفتاه به المقلَّد.

وهذه الأنواع الثلاثة قد ذمها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف: 23، 24]، وهذا كثير فيمن يذم من أعرض عما أنزله الله تعالى وقنع بتقليد الآباء.

النوع الرابع: التقليد بعد الحجة والبيان: فالذي بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فَقَلَّد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور.

ذم التقليد وأهله:

التقليد المذموم هو الذي يورد صاحبه طريق الضلال والهلاك، فالمقلد الذي يسلك هذا الطريق يسير كالأعمى الذي لا يبصر، فإنه يمشي وراء كل من يوجهه دون بصر ولا بصيرة، فيسبب الهلاك لنفسه من دون أن يشعر بذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: “قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}[الأعراف: 3] فأمر باتِّباع المنزل خاصة، والمقلِّد ليس له علم أن هذا هو المُنَزَّل وإن كان قد تَبيَّنت له الدلالة في خلاف قول من قلده فقد علم أَن تقليده في خلافه اتِّباع لغير المُنَزَّل، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59] فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يبطل التقليد.

فإن قيل: إنما فيه ذم من قلَّد من أضله السبيل، أما من هداه السبيل فأين ذم الله تقليده؟ قيل: جواب هذا السؤال في نفس السؤال، فإذًا لا يكون العبد مهتديًا حتى يتَّبع ما أنزل الله على رسوله؛ فهذا المقلِّد إن كان يعرف ما أنَّزل الله على رسوله فهو مهتدٍ وليس بِمُقَلِّد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هُدى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم (إن كانوا) إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى.

فإن قيل: فأنتم تُقِرُّون أن الأَئِمَّة المقلدين في الدين على هدى، فمقلدوهم على هدى قطعًا؛ لأنهم سالكون خلفهم.

قيل: سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعًا؛ فإن طريقتهم كانت اتباع الحجَّة والنهي عن تقليدهم، فمن ترك الحجَّة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتَّبع الحجَّة، وانقَاد للدليل، ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يجعله مختارًا على الكتاب والسُّنَّة يعرضهما على قوله. وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعًا، وإيهامه وتلبيسه، بل هو مخالف للاتباع. وقد فَرَّق الله ورسوله وأهل العلم بينهما كما فَرَّقت الحقائق بينهما، فإن الاتِّباع سلوك طريق المُتَّبَع والإتيان بمثل ما أتى به”([280]).

الفرق بين الاتِّباع والتَّقليد:

هناك فرق بين الاتباع والتقليد كبير لمن كان له بصيرة بالعلم وأهله من حيث أن المتبع يسلك الطريق بالحجة الدامغة والعلم الصحيح الواضح من غير تذبذب ولا شك، أما المقلد فإنه يتبع كل ناعق دون أن يكون عنده علم يهديه ويبصره بصحة تقليده، وضرر التقليد عظيم على من سلك طريقه دون أن يعرف من يأخذ منه، أو الوقوف على ما يأخذه من المقلَّد.

قال ابن القيم رحمه الله: “قال أبو عمر في الجامع: باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتِّبَاع، قول أبو عمر: قد ذَمَّ الله تبارك وتعالى التَّقليد في غير موضع من كتابه فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: 31]، روي عن حذيفة وغيره قال: لم يعبدوهم من دون الله، ولكنهم أحلُّوا لهم وحرَّموا عليهم فاتَّبَعوهم. وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب، فقال: (يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ مِن عُنُقِكَ)، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: 31] قال: فقلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا، قال: (بَلَى، أَلَيسَ يُحِلُّونَ لَكُم مَا حُرِّم عَليكُم فَتُحِلُّونَه ويُحَرِّمُونَ عَليكُم ما أُحِلَّ لَكُم فَتُحَرِّمُونَهُ؟) فقلت: بلى، قال: (فتلكَ عِبَادَتُهُمْ).

قال: فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي الكتاب والسنَّة وما كان في معناهما بدليل جامع، ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنِّي لا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي إلا مِنْ أَعْمَالِ ثَلَاثَةٍ)، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: (أَخَافُ عَلَيْهِمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ) وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تَرَكْت فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم)”([281]).

المطلب الثالث:

الفتوى بالدليل والاجتهاد:

المفتي الذي يقوم بإفتاء الناس في أمور دينهم لابد أن يكون على بصيرة بما يبلغه عن ربه، لأنه يوقع عن رب العالمين في تعليم الناس وتوجيههم إلى الحق، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق العلم الشرعي المستخرج من الكتاب والسنة، فلابد من وجود أصول الأحكام التي يقف عليها هذا المفتي كي يكون أهلًا للفتوى، وقد ذكرها الخطيب البغدادي بقوله: “أصول الأحكام في الشرع أربعة:

أحدها: العلم بكتاب الله تعالى على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام: محكمًا ومتشابهًا، وعمومًا وخصوصًا، ومجملًا ومفسرًا، وناسخًا ومنسوخًا.

والثاني: العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله، وأفعاله، وطرق مجيئها في التواتر، والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سبب أو إطلاق.

والثالث: العلم بأقوال السلف فيما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه، ليتبع الإجماع، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف.

والرابع: العلم بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها، والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الحقِّ من الباطل.

فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه”([282]).

عن الضحاك قال: “لقي ابن عمر جابر بن زيد وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تُفْتِ إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت”([283]).

وعن أبي نضرة قال: “قدم أبو سلمة – وهو ابن عبد الرحمن – فنزل دار أبي بشير، فأتيت الحسن، فقلت: إن أبا سلمة قدم وهو قاضي المدينة وفقيههم انطلق بنا إليه، فأتيناه، فلما رأى الحسن، قال: من أنت؟ قال: أنا الحسن بن أبي الحسن، قال: ما كان بهذا المصر أحد أحب إليّ أن ألقاه منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي الناس، فاتق الله يا حسن وأفت الناس بما أقول لك: أفتهم بشيء من القرآن قد علمته، أو سنة ماضية قد سنها الصالحون والخلفاء، وانظر رأيك الذي هو رأيك فألقه”.

وهذا لن يستطيعه المفتي إلا أن يكون قد أكثر من الاطلاع على كُتبِ الأثر وسماع الحديث.

المبحث الثالث:

الإفتاء في دين الله بغير علم

وضرره على الإسلام والمسلمين،

وفيه مطلبان:

المطلب الأول:

خطورة القول على الله بغير علم:

إن المفتي الذي يعلم الناس ويوجههم إلى الحلال والحرام، ويبين لهم أمر دينهم يتحمل أمانة عظيمة، وتبعة ثقيلة، فإذا كان تقيًا ورعًا، عالمًا بضعفه وحاله، واحتياجه إلى عون ربه، وأن فتياه وتعليمه للناس إنما هو توقيع عن ربه تبارك وتعالى، فهو يحذر من أن يقول على الله إلا ما أمر به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك فيجب على من يفتي ألا يعرض نفسه للوعيد الشديد الذي أشار إليه القرآن الكريم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: 144]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}[النحل: 116]، وقوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف: 19]، وغير ذلك من الآيات الدالة على شدة خطر القول بأن هذا حلال أو هذا حرام، وهذا من أشد الأشياء التي تقال لأن المرء لا يجزم بموافقة حكم الله جل وعلا في المسائل الخلافية، أو في المسائل المجتهَد فيها، وقد كان هدي السلف رضوان الله عليهم في هذه المسائل الورع والاحتياط في الدين، فلا يقولون هذا حلال إلا لما اتضح دليله من أدلة الشرع، ولا يقولون هذا حرام إلا إذا اتضح دليله، وكثير منهم كان يعبر بقوله: أكرهه، لا أحبه، أو يقول: لا يجوز هذا، ونحو ذلك، وذلك بعدًا منهم وخلوصًا من استعمال لفظ الحلال والحرام، وقد قال الله تعالى في ذلك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 59، 60].

فكفى بهذه الآية زاجرًا زجرًا بليغًا عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وكفى بها باعثة على وجوب الاحتياط في الأحكام، وألا يقول أحدٌ في شيء هذا جائز وهذا غير جائز إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله ﻷ، وهذا يوجب الخوف من الدخول في الفتيا في كل ما يسأل عنه الناس، وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)([284])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)([285])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَفْتَى بِغَيرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ)([286]).

فهذه الآيات والأحاديث تدل دلالة واضحة على خطورة القول على الله بغير علم لما فيها من الضرر العظيم على المفتي والمستفتي، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدافعون الفتوى، حتى إن كل واحد منهم يود لو أن أخاه كفاه إياها، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى”.

وعن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: “ما رأيت أحدًا جمع الله فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أَسْكت عن الفتيا منه”.

فينبغي أن يعلم أن هدي السلف الصالح وما كان عليه أئمتنا رحمهم الله تعالى هو التشديد في أمر الفتوى، وأن المرء يجب عليه أن يربأ بنفسه أن يعرض دينه وحسناته للخطر بذنب يحدثه في الأمة.

المطلب الثاني:

أثر القول على الله بغير علم

على المفتي والمستفتي:

إن الفتوى الصحيحة التي لها أثرها العظيم على المفتي والمستفتي، ما كانت مرتبطة بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة فهذه لها الأثر الفعال في نفع المستفتي وغيره من الناس، وكذا على المفتي حيث يزيد علمه وفقهه وتمسكه بالحق، فالخير كل الخير في اتباع منهج السلف رضوان الله عليهم في التمسك بما جاء في الكتاب والسنة والوقوف عندهما لقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[الشورى: 1]، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59].

وأما إن كانت الفتوى غير صحيحة كان أثرها على الناس خطيرًا، وعادت على الأمة الإسلامية بالشر المستطير، وخاصة في زماننا الحالي الذي كثر فيه من يفتي الناس بغير علم، حتى غدا لكل قناة فضائية مفتٍ خاص بها يقول ما يشاء، ويفتي الناس بما يشاء، وهذه من المعضلات الخطيرة التي تمر بالأمة، ومن أسباب القول على الله بغير علم من ناحية المفتي ما يلي:

أولًا: يعرض للمفتي أحيانًا انحرافات تنشأ عن ضعف مراقبته لله، وغيبة أمر الآخرة عنه، وعظمة الدنيا وأهلها في عينه، فالطريق المستقيم أن يكون الناس أمامه سواسية، وأن يبين لهم حكم الله تعالى بما يعلم أنه الحق، ولقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، وقوله تعالى لداود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وأمر الله عباده المؤمنين بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، فأخبر تعالى أن محبة النفع للقريب ونحوه قد تحمل القائل على أن يحرِّف الحكم عن وجهه الصحيح، وقد يحمل على الإعراض عن الحق بالكلية بأن يحكم بحكم مخالف للحكم الصحيح.

وثانيًا: ألا يكون الناس عنده سواسية فيما يخبرهم به، فإن كان المستفتِي رجلًا من عامة الناس لم يبالِ أنَّى يعطيه الحكم مهما كان شديدًا دون تروٍّ أو تمحيص لحاله، فإن جاءه قريبه أو صديقه أو ذو هيئة أو منصب اهتم للتفهم منه، وابتغى له الرخصة والمخرج.

وثالثًا: أن يُعلِّم الناس الحيل التي يتخلصون بها ظاهرًا من الحقوق التي تلزمهم لله أو لعباده، كمن يفتي من ستجب عليه الزكاة لقرب انتهاء الحول، بأن يهب ماله لزوجه أو صديقه، ثم يستعيده منه، ليسقط حق الزكاة، وكمن يفتي الرجل بفساد عقد زواجه ليكون طلاقه الثلاث لاغيًا، فيستبيح الرجوع إلى مطلقته، أو يعلم المرأة أن ترتد لينفسخ عقد نكاحها، وبعض العلماء يسمي المفتي الذي يفتي على هذه الطريقة (المفتي الماجن) لأنه يتلاعب بأحكام الله تعالى ويستهزئ بها، فعمله كأنه سخرية وهزء بالمقاصد التي وضعت لها الأحكام.

ورابعًا: ومن ذلك مجاراة الظروف الواقعة وقبولها والإفتاء بصحتها وشرعيتها، مع مخالفتها للحكم الشرعي، وذلك أن للواقع الجاري سلطانًا على النفوس بتصور صعوبة تغييره.

وخامسًا: أن يشدد فيما سهَّل فيه الشرع، أو فيما له مخرج شرعي صحيح، فيترك الوجه المشروع ويخبر بفتيا أشد مما يجب إظهارًا للتمسك بالدين، وشدة التقوى، وغلبة الورع، والامتثال لظواهر الأحكام وحرفيات الدين، وغمزًا للآخرين بأنهم متساهلون ومنحرفون، وقد نقل عن سفيان الثوري أنه قال: “إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد”([287]).

فكل هذه الأسباب وغيرها لها تأثيرها على المفتي وغيره ممن يتصدرون لتعليم الناس وإفتائهم في أمور الدين، وهذه من أخطر الأشياء عليه حيث تخرجه من النفع إلى الضرر، ومن صرف الناس عن الأوزار إلى إعانتهم على كسبها وتحملها معه يوم القيامة، وصدق الله تعالى إذ يقول: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[النحل: 25].

المبحث الرابع: الحجر في الفتوى،

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول:

تعريف الحجر في الفتوى:

الحجر في اللغة: المنع، يقال: حجر عليه حجرًا منعه من التصرف فهو محجور عليه([288])، ومنه سمي الحطيم حجرًا لأنه منع من أن يدخل في بناء الكعبة. وقيل الحَطيم جدار الحجر، والحجر ما حواه الجدار. وسمي العقل حجرًا لأنه يمنع من القبائح، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الفجر: 5] أي لذي عقل([289]).

وفي الاصطلاح: منع نفاذ تصرف، قولي لا فعلي، لصغر، ورق، وجنون([290]).

مشروعية الحجر: ثبتت مشروعية الحجر بالكتاب والسنة.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[النساء: 6].

وأما السنة: فعن كعب بن مالك رضي الله عنه “أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضي الله عنه ماله وباعه في دين كان عليه”([291]).

وروى الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير أن عثمان رضي الله عنه حجر على عبد الله بن جعفر رضي الله عنه بسبب تبذيره.

حكمة تشريع الحجر: قرر الشارع الحجر على من يصاب بخلل في عقله كجنون وعَتَهٍ حتى تكون الأموال مصونة من الأيدي التي تسلب أموال الناس بالباطل والغش والتدليس، وتكون مصونة أيضًا من سوء تصرف المالك.

كما قرر الحجر أيضًا على من يسترسلون في غلواء الفسق والفجور والخلاعة ويبددون أموالهم ذات اليمين وذات الشمال صونًا لأموالهم، وحرصًا على أرزاق أولادهم، ومن يعولونهم في حياتهم وبعد مماتهم.

وكذلك شمل الحجر أيضًا من يتعرض للإفتاء وهو جاهل لا يعلم حقيقة الحكم الشرعي فيَضل ويُضل، وتصبح فتنة بين المسلمين من وراء فتياه.

وهذا يدخل في الحجر للمصلحة العامة، وقد ذهب الحنفية إلى فرض الحجر على ثلاثة ومنهم: المفتي الماجن.

فالمفتي الماجن: هو الذي يعلم الناس الحيل الباطلة، كتعليم الزوجة الردة لتَبِينَ من زوجها، أو تعليم الحيل بقصد إسقاط الزكاة، ومثله الذي يفتي عن جهل.

وليس المراد الحجر على هذا المفتي الماجن هو المنع الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف، لأن المفتي لو أفتى بعد الحجر وأصاب جاز، وإنما المقصود المنع الحسي، لأنه مفسد للأديان، فمنع هذا الصنف دفع لضرر لاحق بالخاص والعام، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([292]).

المطلب الثاني:

أصناف المحجور عليهم:

لقد ظهرت على الساحة الإعلامية كثير من القنوات الفضائية التي تعرض علينا أشكالًا وأنواعًا ممن ينتسبون إلى الإسلام والعلم الشرعي، فيبيحون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون، ويوقعون الناس في الحرج والضيق، ويَضلون ويُضلون، وهؤلاء إلا من شاء الله منهم ليس عندهم وازع من التقوى والإيمان، ولو كان العلم الذي يحملونه في قلوبهم يردعهم عن القول على الله بغير علم لحفظوا أنفسهم وإخوانهم المسلمين من الوقوع في براثن الضلالة والعمى، وصدق الله تعالى إذ يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28].

والمفتون في أي عصر معرضون للخطأ بحكم بشريتهم، وعدم ضمان العصمة لهم، ولكن المؤثرات الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية في عصرنا أشد منها في أي عصر مضى ومن هنا تكثر المزالق التي تزل فيها الأقدام، وتضل الأفهام، وتتعدد أسباب الخطأ إن لم نقل الانحراف.

والضرر المخوف من الخطأ أو الانحراف في فتاوى عصرنا أشد منه في أزمنة سلفت نظرًا لسعة الدائرة التي تنتشر فيها الفتوى الخاطئة أو المنحرفة، بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من طبع ونشر وإذاعة وتلفزة وغيرها، وبهذا كان لزامًا أن نبين بعض أصناف من يتعاملون بالفتوى بقدر الاستطاعة.

ومن أصناف المحجور عليهم:

الأول: المفتي الجاهل بالنصوص الشرعية:

وهذا الصنف ممن يقعون في القول على الله بغير علم فيضلون ويضلون، ومثال ذلك ما يفتي به بعضهم من جواز لبس ما يسمى (بالباروكة)، وهي رأس صناعي كامل من الشعر، تلبسه المرأة فوق شعرها الطبيعي تغطي بها رأسَهَا كلَّه تُزوِّرُ به على الناس، وهذا العمل محرم ظاهر التحريم.

فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأختها أسماء وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الواصلة والمستوصلة) والواصلة هي التي تقوم بوصل الشعر لنفسها أو لغيرها، والمستوصلة التي تطلب ذلك، وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة التي تدل على تحريم هذا العمل.

الثاني: المفتي الذي يقع في سوء التأويل للنصوص الشرعية:

من المفتين – هداهم الله – من يسيء تأويل بعض النصوص الشرعية بسبب سوء فهمه، أو اتباعًا لشهوة، أو إرضاء لنزوة، أو حبًا لدنيا، أو تقليدًا أعمى للآخرين، ومعلوم أن سوء الفهم أو سوء التأويل آفة قديمة مُنيَت بها النصوص الشرعية، وهو أحد الوجهين فيما وصم به القرآن أهل الكتاب من (تحريف الكلم عن مواضعه).

وليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي، والأول هو التحريف اللفظي.

ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة في شأن من لم يحكم بما أنزل الله، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة: 44، 45، 47].

قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا معشر المسلمين وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، ومقتضى هذا – في زعمه – أن من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق، وأما من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين فليس كافرًا ولا ظالمًا ولا فاسقًا!! وهذا والله مما لا ينقضي منه العجب.

صحيح أن سياق الآيات في أهل الكتاب لأنها جاءت بعد الحديث عن التوراة والإنجيل وأهلهما ولكن يلاحظ أنها جاءت بألفاظ عامة، تشمل كل من اتصف بها من كتابي أو مسلم، ولهذا حقق الأصوليون من علماء المسلمين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن ثم فإن نزول هذه الآيات في شأن أهل الكتاب لا يجعلها مقصورة عليهم لأنها جاءت بألفاظ عامة تشملهم وتشمل كل من شاركهم في الوصف المذكور.

الثالث: المفتي الذي يقع في عدم فهم الواقع على حقيقته:

فبعض المستفتين إذا سأل سؤالًا حول موضوع معين مثل ما نشرته إحدى الصحف على لسان أحد العلماء: أن لبس (الباروكة) – التي تحدثنا عن حكمها سابقًا – أمر مشروع ولا غبار عليه من الناحية الشرعية بدعوى أنها ليست أكثر من غطاء للرأس، فهي ليست داخلة في الوصل الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، وإنما هي بمثابة من وضع على رأسه عمامة أو خمارًا أو نحو ذلك، وتفريعًا على ذلك يجوز للمرأة أن تخرج بها دون أن تغطي رأسها بشيء لأنها هي نفسها غطاء!!.

وهذا فهم أعوج وأعرج لحقيقة موضوع الاستفتاء وهو (الباروكة فإن اعتبارها غطاء أو خمارًا للرأس أمر لا يقره الشرع، ولا العقل، ولا الفطرة، ولا العرف، ولا اللغة.

ولا يقول أحد من أهل الشرع أن لُبس الباروكة امتثالٌ لقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[النور: 31]، ولا يقول العرف: إن المرأة إذا لبست الباروكة قد اختمرت أو غطت رأسها، ولا تدعي لابسة الباروكة نفسها أنها مختمرة، ولا يزعم لغوي أن هذه الباروكة تصلح لأن تسمى خمارًا.

ومصدر الخطأ الذي وقع فيه المفتي هو إخراج (الباروكة) من مسمى الوصل الملعون فاعله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم توهمًا منه أنها ليست وصلًا، لأنها شعر كامل يلبس فوق الرأس كله، ولذلك يسميها بعضهم (الرأس الصناعي).

وهكذا من القضايا والموضوعات الكثيرة المعروضة كثيرًا على ساحة الفتوى.

الرابع: المفتي الذي يخضع للأهواء:

وهذا من أشد المزالق خطرًا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء أصحاب المكانة الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعًا لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم.

ومثال ذلك اتباع أهواء العامة وإرضائهم بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق.

هذا مع تحذير الله تعالى أشد التحذير من اتباع الهوى، يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية: 18-19].

وفي سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل من القرآن المدني يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[المائدة: 49]. وغير ذلك كثير في القرآن الكريم، فكل هذا التشديد والتنديد والتحذير والتنفير من الهوى لأنه كما قال بعض السلف شر إله عبد في الأرض.

وكثير من الضلال الذي هلكت به الأفراد والأمم لم يجئ نتيجة الجهل بالحق، بل نتيجة عبادة الهوى من بعد ما تبين لهم الهدى، ولهذا يكمن الخطر في ضعاف النفوس، ومرضى القلوب من علماء الدنيا الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرونه حسنًا.

وهذا من أشد الأصناف خطرًا على الإسلام والمسلمين حيث يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، نسأل الله المعافاة من ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: “فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه، وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر والله المستعان”([293]).

الخامس: المفتي الذي يخضع للواقع المنحرف:

وهذا الواقع إنما صنعه الاستعمار الغربي أيام سطوته وسيطرته على بلاد المسلمين ومقدراتهم الثقافية والاجتماعية وغيرها، ثم استمر بل نما على أيدي عملائه وتلامذته من بعده ممن تخرجوا على يديه، وصُنعوا على عينيه.

ولا ريب أن كثيرًا من الناس ممن يتصدون للحديث عن الإسلام وأحكامه يعانون هزيمة روحية أمام هذا الواقع، ويشعرون بالضعف البالغ أمام ضغطه القوي المتتابع.

فلا عجب أن تأتي أحاديثهم وفتاويهم (تبريرًا) لهذا الواقع المنحرف، وتسويغًا لأباطيله بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من برهان.

ولهذا رأينا بعض المشتغلين بالفقه والفتوى في بعض البلاد الإسلامية أيام سطوة الرأسمالية يجهدون أنفسهم في تبرير البنوك الربوية الرأسمالية وبذل المحاولات المستميتة لتحليل الفوائد رغبة في إعطاء سند شرعي لبقاء هذه البنوك واستمرارها مع رضا الناس عنها.

السادس: المفتي الذي يبيح ما حرّم الله بالحِيل:

وهذا الصنف من أخطر الأصناف التي يراها الناس هذه الأيام بحيث يحاول من يفتي أن يرخص للناس بعض الأمور الشرعية بطريقة الحيل الشيطانية كما كانت بنو إسرائيل يقع منها ذلك.

ومن أمثلة ما يقع من هذا الصنف تحايلهم على النصوص الشرعية الصريحة لإباحة ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، كمن يحلل للزوج الذي طلق امرأته ثلاثًا فبانت منه بينونة كبرى أن يأتي برجل فيزوجه امرأته التي طلقها دون دخول بها، أو يدخل بها ثم يطلقها تحليلًا لهذا الزوج حتى تحل له مرة أخرى، وهذا مناقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ)([294]).

وأيضًا كمن يبيح للمرأة أن ترتد عن الإسلام كي تطلق من زوجها، ثم تعود للإسلام مرة أخرى. وغير ذلك كثير من صور التحايل التي يقع فيها بعض المفتين.

المطلب الثالث:

من يقوم بالحجر في الفتوى:

ورد عن بعض السلف حجر الفتوى على أقوام دون غيرهم، وقد روي أن عمر قال لابن مسعود: “نبئت أنك تفتي الناس ولست بأمير فَوَلِّ حارَّها من تولى قارَّها”، قال الذهبي رحمه الله: “فدل على أن عمر رضي الله عنه يرى منع من أفتى بلا إذن”.

عن ابن سيرين أن عمر قال لابن مسعود: “أما بلغني أنك تقضي ولست بأمير؟ قال: بلى! قال: فول حارَّها من تولى قارها”([295]).

وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى: “إنه بلغني أنك تقضي ولست بأمير، قال: بلى، قال: فول حارّها من تولى قارّها”([296]).

وكانوا في زمان بني أمية يأمرون مناديًا في الحج يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نَجيح.

وأيضًا كانوا ينادون في المدينة: لا يفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مالك.

وعلى ذلك فالذي يقوم بالحجر على من يفتي بغير علم، أو يتجرأ على تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله هو ولي أمر المسلمين أو من ينوب عنه من أهل العلم المعتبرين إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين، لما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه عندما منع ابن مسعود من الفتيا.

وعلى ذلك فالحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان ولاسيما إذا تجرأ غير المؤهلين وتصدروا وتنمر الأصاغر.

المطلب الرابع: أثر الحجر في الفتوى:

الحجر أثره عظيم ونفعه عميم إذا كان من يقوم به ينظر لمصلحة المسلمين العامة، وعدم إيقاع الضرر عليهم فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن الجرأة على الفتوى وتساهل الكثيرين فيها أدى إلى بلبلة عظيمة، وأوقع الناس في الحرج، وأصبح الكثيرون يتندرون ببعض الفتاوى التي تصدر عن بعض القنوات الفضائية، ولا زلت أذكر ذلك الرجل الذي يذكر أنه سأل أربعة من المشايخ كل أسبوع يسأل واحدًا منهم، ويجيبه بجواب يختلف عن الآخر، وإذا ناقشه المستفتِي قال له إن ما تقوله خطأ وغير صحيح، فيقول المستفتي إنه أفتاه فيه شيخ آخر وهكذا.

وهنا ألتمس من العلماء كافة أن يعملوا على إيجاد لجان متخصصة في كل بلد للإجابة على تساؤلات المسلمين في جميع أنحاء العالم تجمع نخبة كبيرة من العلماء المعروفين بمنهجهم الصحيح النابع من الكتاب والسنة من جميع الدول الإسلامية، لئلا يحصل الشتات بين المسلمين في دينهم، ويحصل الشك والتنازع بسبب ما يمليه بعض من يُحسب على أهل العلم، ولعل في المجامع العلمية والهيئات الشرعية واللجان الدائمة ما يحقق شيئًا من هذا.

ولا بد أيضًا من إيقاف هذا المد الجارف ممن يفتون الناس بغير علم، على أن يكون المسؤول عن ذلك هم المجمع على فتاويهم، وتخاطب القنوات الفضائية وجميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية من أجل التعاون في ذلك حتى تعم الفائدة لجميع المسلمين، ويرتفع صوت الحق عاليًا خفاقًا يحكم بين الناس بالحق والهدى والرشاد.

وعلى ذلك فالحجر أثره عظيم ونفعه عميم إذا كان من يقوم به ينظر لمصلحة المسلمين العامة، وعدم إيقاع الضرر عليهم فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا بد أن تكون هناك جهة تقوم على هذا الأمر على مستوى الدولة داخليًا والعالم الإسلامي خارجيًا حتى يتم وقف هذا العبث الذي يذهب بعظمة هذا الدين، وحتى لا يتلاعب به كل من أراد الإفساد والفساد، وخير شاهد على ما نقول قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

المبحث الخامس:

تغير الفتوى واختلافها،

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول:

سبيل العلماء المتقدمين في الفتوى

واعتمادهم على الدليل:

الناظر في حال السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يرى شدة تقواهم وخشيتَهم لله، وحرصَهم على الحق وإظهاره والعمل به، ويتبين له سبيلهم في الأخذ بالدليل والنص، فكانت فتاويهم واجتهاداتهم لا تنافي الشرع ولا تخالف نصًا، إنما كان طريقهم في الفتوى هو الأخذ بالحق الذي لا مرية فيه ومن أجل رفع الحرج ودفع المفاسد.

وإيضاحًا لما كان عليه السلف نأتي ببعض الأمثلة من فتاويهم واجتهاداتهم في هذا السبيل وعلى رأسهم حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم:

فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمَّته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: (لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ) وقال: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ)، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بِكُفْرٍ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء([297])، وعلى ذلك سار خلفاؤه الراشدون ومَن بعدهم إلا من شذ عن طريقهم من الخوارج الذين خالفوا الإجماع في ذلك فسببوا كثيرًا من الفتن إلى يومنا هذا، ولعل ما يحدث اليوم من تكفير وتفجير وإرهاب خير شاهد على ما أقول.

ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نَهَى أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ) رواه أبو داود، فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حَمية وغضبا كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهُويَهْ والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال: “لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد أتى بِشر بن أَرطاةَ برجل من الغزاة قد سرق مِجَنه فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ) لقطعت يدك” رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة، روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن عمر “كتب إلى الناس أَلَّا يَجلدَنَّ أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حَميةُ الشيطان فيلحق بالكفار”([298]) وتبين بما سلف أن الصحابة وتابعيهم لم يخالفوا قول الحق في الاتباع، بل كانوا حريصين على النص والإجماع، وهذا دليل حرصهم على التمسك بصراط الله المستقيم.

ومثال آخر: أن المُطَلِّق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدرٍ من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة، كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس؛ فروى مسلم في صحيحه عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: “كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أَناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم”([299])، وما قام به عمر فيه عين المصلحة فلم يقع في خلاف النص، بل استند في ذلك إلى النصوص الأخرى الدالة على التشديد على المتهاونين بالدين، الذين قلّ إيمانهم، وبعدت طريقتهم عن نهج السلف الصالح في عملهم بما وصل إليهم من النصوص الشرعية.

المطلب الثاني:

سبيل العلماء المتأخرين

واعتمادهم على الرأي والمذهب:

في الأزمنة المتأخرة خرج على المسلمين من يتعصب للمذهب والرأي، وهذا يدل على ضعف إيمان هذا الشخص إذا كان عنده علم من الكتاب والسنة وقدم المذهب والرأي عليهما، وقد تكلم السلف في هذا النوع من أجل تبصرة المسلمين به لتجنبه والحذر منه.

قال ابن القيم رحمه الله: “عن السائب بن يزيدَ ابنِ أخت نَمِر أنه سمع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام؛ فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس؛ فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض، فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان؟، فالله المستعان.

قال أبو عمر: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لِكميل بن زياد النخعي – وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم-: (يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رِعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤُوا إلى ركن وثيق. ثم قال: آه إن ههنا علمًا – وأشار بيده إلى صدره – لو أصبت له حملة، بل قد أصبت لَقِنًا غيرَ مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرَّفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف دينه”([300]).

وذكر أبو عمر عن أبي البَختري عن علي قال: “إياكم والاستنانَ بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لابدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء”.

وقال ابن مسعود: “لا يُقَلّدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشَّر”.

قال أبو عمر: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ يَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالا، يُسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ)([301])، قال أبو عمر: وهذا كله نفي للتقليد، وإبطال له لمن فهمه وهدي لرشده.

ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى حدثنا سفيان بن عيينة قال: اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم: ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا.

وقال عبد الله بن المعتمر: لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد.

ثم ساق من حديث جامع بن وهب: أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمر عن عمرو بن أبي نعيمة عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنِ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ)([302]).

وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه إفتاء بغير ثبت؛ فإن الثبت الحجة التي يثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر([303]).

المطلب الثالث:

الفروق بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين

وأمثلة منها:

هناك فرق كبير وبون شاسع بين المتقدمين والمتأخرين في سلوك سبيل الفتوى والاجتهاد، فالمتقدمون كان اعتمادهم على النصوص وهو الأساس في الحكم والفتوى، وكانوا لا يألون جهدًا في سبيل الوصول إلى الحق بدليله، والسنة مليئة بأكثر مما ذكرنا، وأما المتأخرون فغلب على فتاواهم الرأي والمذهب، حيث جعلوا المذهب إمامهم، ورأيهم تبعًا لهواهم فضل الكثير منهم بسبب ذلك، وتشتت القلوب وتباغضت بسبب هذا السلوك المشين الذي سبب بعد الناس عن حقيقة شريعة رب العالمين التي جعلها الله خيرًا للعباد في العاجل والآجل.

وانظروا لهذا المثل العجيب لورع السلف وحرصهم على إيصال الحق بدليله، وخشيتهم من الوقوع في خطأ يعود أثره عليهم وعلى من يفتيهم:

قال ابن القيم رحمه الله: “ذكر محمد بن حارث في أخبار سُحنون بن سعيد عنه قال: كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم، فتعرض له ابن دينار يوما فقال له: يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي، وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذويَّ فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم، قال: إني قد كبِرَتْ سني ودقَّ عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقا قبلاه، وإن سمعا خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه.

قال ابن حارث: هذا والله الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزل قوله من العقاب منزلة القرآن”([304]).

وقد ورد من أقوال أئمة المذاهب المشهورة في عدم التقيد بمذهبهم على حساب النصوص الصحيحة ليبينوا للناس كافة أن الأساس هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك ما دون ذلك لكي لا يضل الناس بتركهم إياه.

فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روى عنه أصحابه أقوالًا شتى وعباراتٍ متنوعةً كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”([305])، وقال: “لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه”. وفي رواية: “حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”. زاد في رواية: “فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا”. وفي أخرى: “ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد”([306]). وقال: “إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي”([307]).

وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”([308]).

وقد روي مثل ذلك عن مجاهد وقال: “ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك”([309]).

قال ابن وهب: “سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدلِّك بخِنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع”([310]).

وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر، وأتباعه أكثر عملًا بها فمنها: “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصَّلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي”([311]).

وقال: “أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد”([312]).

وقال أيضًا: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت”. وفي رواية: “فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد”([313]).

وقال: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”([314]).

وقال: “أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا”([315]).

 وقال: “كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي”([316]).

وقال: “إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب”([317]). وقال: “كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني”([318]).

وقال: “كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني”([319]).

وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعًا للسنة وتمسكًا بها حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، لذلك قال: “لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخُذ من حيث أخذوا”([320]). وفي رواية: “لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين وما بعد فالرجل فيه مخير”.

 وقال مرة: “الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير”([321]). وقال: “رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار”([322]). وقال: “من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة”([323]).

 تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة، وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا، وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم، بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 6].

وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: 6].

 قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: “فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرَفَه، أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومَن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظَّم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه.

 قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها، ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العِيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها انفرادًا واجتماعًا في مجلد ضخم، قال في أوله: “إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام، وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم”.

 لقد ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتِّباعًا للسنة، ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثُلةً من الأولين وقليلا من الآخرين، لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيرًا منها؛ لما ظهر لهم مخالفتُها للسنة حتى إن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة (في نحو ثلث المذهب)، وكُتب الفروع كفيلة ببيان ذلك.

ونحو هذا يقال في الإمام المزَني وغيرِه من أتباع الشافعي، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلةَ لطال بنا الكلامُ، ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين: قال الإمام محمد في (موطئه) (ص 158): “قال محمد: أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه” إلخ.

 وهذا عصام بن يوسف البلْخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف “كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيرًا؛ لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به”، ولذلك (كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه) كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم ، فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها، وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم.

قال الشافعي: “مثل الذي يطلب العلم بلا حُجَّة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري” ذكره البيهقي.

وقال إسماعيل بن يحيى المُزَنِيُّ في أول مختصره: “اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامِيه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه”.

وقال أبو داود: “قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعي ثم بعد فالرجل فيه مُخيَّر”.

وقد فَرَّق أحمد بين التَّقليد والاتِّباع فقال أبو داود: سمعته يقول: “الاتِّباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعدُ في التابعين مخير، وقال أيضا: لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثَّوري ولا الأَوْزَاعي، وخذ من حيث أخذوا.

وقال: من قلة فقه الرجل أن يُقَلِّد دينه الرِّجال”.

وقال بشر بن الوليد: “قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا”.

وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطَّاب لقول إبراهيم النَّخَعيِّ أنه يُسْتَتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟، وقال جعفر الفِريَابِيُّ: “حدَّثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي حدّثني الهيثم بن جميل قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخَطَّاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم.

قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون، والله أعلم”([324]).

الخاتمة:

الحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنا على عونه وتوفيقه، والصلاة والسلام على قدوة الأنام، ورسول الإسلام الذي تركنا على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يَزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:

فهذا البحث الذي بين أيديكم والذي أردت فيه بيان طريق الحق لمن أراد التمسك به، وسلوك طريقه، والعمل بما جاء به، والتحذير من بعض المفتين في زماننا – إلا من رحم الله منهم – الذين ضلوا وأضلوا، وصرفوا الناس عن المصدرين الأساسيين كتابِ الله وسنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الرأي والهوى والتعصب للمذاهب، وأمَلي في الله تعالى أن يتعاون أهل الحق على منع من تُسول له نفسه الإفتاءَ في دين الله بغير علم، وأن تكون هناك مرجعية للمسلمين لتكون منارًا لمن أراد التبصر بدينه والنأي به عن أهل البدع والأهواء، وعلى كل مسلم أن يتحرى من يفتيه، وأن يتعلم من دينه ما يعينه على معرفة الطريق الصحيح الذي يوصله إلى صراط الله المستقيم.

وهذا ما تم تقييده فما كان فيه من صواب فبتوفيق من الكريم المنان، وما كان فيه من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأسأل الله جل في علاه أن يجعله خالصًا لوجهه، مقبولًا عند خلقه، وأن ينفع به المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وأن يكون في موازين الحسنات يوم نلقى ربنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الشيخ/ عبد الله بن محمد الطيار. . حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فهذه أسئلة حول موضوع: (من أحكام الفتوى)،

نأمل الإجابة عليها لنشرها بمجلة الدعوة، وهي كالتالي:

السؤال الأول: كيف يختار المسلم مفتيًا له؟ هل المتشدد أم المتساهل؟

الإجابة:

ينبغي للمستفتي أن يأخذ فتواه عمّن يثق في دينه وعلمه وورعه، فإذا حصل له ذلك فليأخذ منه، وينبغي للمفتي أن تكون فتواه حسب الدليل، وإذا كان في الأمر سعة فعليه أن يوسع على الناس، أما الترخيص دون مستند شرعي ودون الاستناد على قاعدة من قواعد الشرع فهذا لا ينبغي.

قال بعض السلف: “إن الفقيه هو الذي ييسر على الناس برخص الشرع”، فما دام أن هناك رخصة والمستفتِي واقع في أمر ما فإن الأَولى للمفتي أن يرخص للمستفتي ولا يشدد عليه في الفتوى، فإن الله يحب أن تؤتى رخصُه، ولا يتم هذا الترخيص إلا بما جاءت به النصوص الشرعية، وعلى اعتبار القواعد الشرعية التي وضعها أهل العلم والمستنبطة من الأدلة الشرعية، أما أن يرخص للمستفتي من قبل رأيه وهواه دون الرجوع إلى ما جاءت به نصوص الشرع فلا يجوز، أما عن جانب مراعاة المفتي جانبَ الرحمة في فتواه فلا شك أن الرحمة مطلب شرعي في جميع الأمور، بل هذا كان هديَه صلى الله عليه وسلم في فتواه ونصوصُ السنة في ذلك كثيرة.

السؤال الثاني: في مسألة اختلاف العلماء كيف يجد المسلم نفسه من فتواهم، فمثلًا التصوير الفوتوغرافي بعض العلماء قال: يجوز، وبعضهم قال: لا يجوز حرام، وكل منهم له بينتُه فماذا يفعل المسلم في هذه الفتوى؟ وأيٍّا منهم يتبع خصوصًا إذا اقتنع بكلتا الفتوتَين؟

الإجابة:

للإجابة على هذا السؤال نقول: سؤال نطرحه عليك إذا مرض المريض فذهب إلى طبيبين، كل منهما يصف له دواء غير الآخر، في هذه الحالة إلى من يرجع المريض؟ لاشك أنه يرجع إلى من يطمئن إليه قلبُه أنه هو الأعلمُ والأوثق لأنه ليس كل عالم يكون ثقة.

إذا كان هذا في أمر المرض العضوي فكيف لا يتحرى المسلم من يشفيه بعد إذن الله له بالشفاء من المرض المعنوي، وقد جاء في الحديث (شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ)([325]).

فالذي ينبغي على المسلم القيام به عند اختلاف عالمَين ينظر أيهما أوثق في نظره من حيث العلمُ ومن حيث الدين، ويأخذ بما يطمئن قلبه إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ)([326])، ولا ينبغي له سؤال غيره، لكن إن لم يكن عنده طمأنينة ولا ترجيح فبعض العلماء قال: لك أن تأخذ بقول هذا، أو بقول هذا؛ فأنت مخيّر، وبعضهم قال: يأخذ بالأشد لأنه الأحوط، هذا إذا كان العالمانِ محلَّ ثقة واطمئنان عندك.

وهناك قول آخر: وهو أنك تأخذ بالأيسر لأنه هو المناسب لروح لشريعة الإسلام، لأن الشريعة مبناها على اليسر؛ فما دمنا أننا لا نعلم أن الدين أوجب هذا الشيء أو منع هذا الشيء فنحن في حِلٍّ.

السؤال الثالث: هل يمكن أن يجعل المسلم له أكثرَ من مُفتٍ بحيث يسأل أكثر من مفت أم يلزمه مفتيًا واحدًا بأن يتبعه؟ وماذا لو سأل مفتيًا آخرَ في نفس المسألة؟

الإجابة:

ذكرنا في الإجابة على السؤال السابق نحوًا من الإجابة على هذا السؤال ولكن نقول: لا ينبغي للسائل أن يسأل أكثر من شخص إذا كان سؤاله من باب الاستفتاء لأنه يلزمه أن يعمل بفتوى من يجيبه، وعليه قبل أن يسأل أن يتحرى في سؤاله، فلا يسأل إلا من يثق بدينه وعلمه وتقاه وورعِه.

لكن لو كان السؤال من باب البحث والتعلم فلا إشكال في ذلك، وبهذا الجواب لا يرد الاختلاف لأننا نقول بأنه لا ينبغي أن يسأل إلا واحدًا، لكن لو قرأ الشخص جوابين لعالمين أو سمع ذلك من غير استفتاء منه فهنا يجوز له أن يأخذ بالأيسر والأحوط.

السؤال الرابع: ما السبب الذي يجعل البعض يفتي بغير علم؟ وما هي عقوبة ذلك في الدنيا والآخرة؟ وبمَ تنصحون أولئك المفتين بغير علم؟

الإجابة:

كان السلف يتحرجون من الفتوى ويتدافعونها حتى إنهم تعرض عليهم في المجلس الواحد المسألة فيتدافعونها فترجع إلى الأول.

ولذا فمن أخطر الأمور وأعظمها جرمًا القول على الله بغير علم، وقد قرنه الله جل وعلا بالشرك فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33]، وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].

ولذا فالناس حِيال هذا الأمر أربعةُ أصناف:

الأول: من رزق علمًا وعملًا، وهؤلاء هم الخيار، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

الثاني: من حُرم العلم والعمل وهؤلاء هم شر الدواب، وإن علموا شيئًا من ظاهر الحياة لكنهم في أبواب العلم والخير كالخُشب المسَنَّدة.

الثالث: من فتح له باب العلم وأغلق عنه باب العمل وهذا شر من الجاهل لأنه علم لم يزده إلا وبالًا.

الرابع: من رُزق العزيمةَ على العمل والطاعة واجتهد في هذا الباب وقلَّ نصيبه من العلم؛ فهذا خَليق أن يوفَّق بداع من دعاه.

وإذا لاحظنا مجالس الناس وجدنا الجرأة على هذا الأمر:

* فبعض العامة يستعجلون في أمور الشرع، ويقولون هذا جائز، هذا حرام، هذا بدعة، هذا ما عرفناه في حياتنا.

* بَعضُ الناس إذا أراد أن يستفتي عالمًا قال له فلان أو فلانة: هذا معروف، هذا حلال لماذا تسأل عنه.

* مَن عندهم شيء من العلم لكنهم حُرموا الورعَ والتروي؛ فهم أجرأ الناس على الفتيا وأكثرهم استعجالًا في التحليل والتحريم.

* بعض الشباب يتصدر المجلس وهو حدَث ويُسأل عن عشرات المسائل فلا يقول لا أدري أو الله أعلم، وقديمًا قيل: من ترك لا أدري أصيبت مقاتله، وإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم سئل عن أشياء فلم يجب وانتظر الوحي من ربه فكيف بعامة الناس.

وإني أنصح هؤلاء الذين يفتون بغير علم ويقولون على الله الكذب أن يتقوا الله تعالى فيما يقولون، وأن يحذروا غضب الله تعالى وسخطه وأليم عذابه، وليتوبوا وليحسنوا فيما بقي من أعمارهم عسى الله أن يتجاوز عنهم.

السؤال الخامس: في رأيكم متى يصل طالب العلم إلى مرحلة الفتيا؟

الإجابة:

وضع علماء أصول الفقه بابًا خاصًا به يسمى (باب المفتي والمستفتي)، بل أُلفت فيه كتب مستقلة تتناول فيه الشروط المعتبرة في المفتي والآداب المتعلقة بالمستفتي، وشروط الفتوى وغير ذلك، وللإجابة عن هذا السؤال نقول وبالله التوفيق: يجب على من يتصدر للفتوى الوصول إلى قدر معين من العلم الشرعي لكي يتمكن من الإفتاء والإجابة على استفسارات المستفتي، فينبغي أن يكون:

أولًا: عالمًا باللغة العربية: فإن شريعتنا عربية ولا تُفهم أصولها إلا من الكتاب والسنة، ولا نقول بأنه لا بد أن يكون غوّاصًا في بحور هذه اللغة، وإنما تكون عنده الأدلة التي من خلالها يتعرف على الاستنباط ومعرفة مراد المستفتي، وينبغي أن يكون أيضًا عارفًا بالنحو والإعراب لأنه قد تختلف باختلاف معاني الألفاظ ومقاصدها.

ثانيًا: ومما يُشترط أيضًا في المفتي أن يكون عالمًا بنصوص الكتاب والسنة التي لها تعلق بما يجتهد فيه من الأحكام، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة آيات الأحكام وتفسيرها والأحاديث التي تتعلق بها الأحكام.

لكن هل يشترط حفظ الآيات والأحاديث الخاصة بها؟

نقول إنه لا يشترط حفظها، بل يكفي معرفة مظانها في أبوابها لكي يراجعها وقت الحاجة إليها.

ومما يشترط أيضًا في معرفة الكتاب والسنة معرفة الناسخ والمنسوخ فيها، ومعرفة درجة الأحاديث من حيث الصحة والضعف والوضع، وهكذا.

ثالثًا: ومما يشترط فيه أيضًا أن يكون عالمًا بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بما يخالف الإجماع، ولا يلزم أن يكون حافظًا لجميع مواقع الإجماع والخلاف بل يكفي أن يعلم أنه لم يخالف الإجماع فيما قاله.

رابعًا: أن يكون عالمًا بأصول الفقه وفروعه؛ فأصولُه أدلةُ الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة من هذه الأصول، وفروعه أي مسائله الجزئية، ونقول هنا أيضًا: بأنه لا يُشترط حفظُ جميع القواعد الفقهية والمسائل الفقهية المتعلقة بها، بل يكون حافظا جملة من هذه القواعد لكي يتمكن من الفتوى.

فهذه بعض الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يأخذ بها كي يتمكن من التصدر للفتيا، وإلا فالأمور كثيرة. أذكر أن بعض أهل العلم أوصلها إلى أربعين شرطًا يجب أن تتوفر في الإنسان ليكون مفتيًا، والله المستعان.

السؤال السادس: يُطلق بعض الناس -هداهم الله- على بعض مشائخنا مسمى مفتي السلطان أو المتساهل في أمور الدين ويقاطعونه، بل ويتعدَّوْنَ في ذلك عليه بالنميمة والغِيبة بسبب ذلك الظن؛ فما تعليقكم على ذلك؟ وما الواجب علينا تجاه علمائنا الأفاضل؟

الإجابة:

إن الله تعالى رفع قدر العلماء وأعلى مكانتهم وقرنهم مع ملائكته في الشهادة على التوحيد، فهم الأدِلاءُ على طريق الله، وهم سراج الأمة، وهم النجوم التي يهتدى بها، وهم الذَّابُّونَ عن شرع الله، بهم يهتدي الحائرون، ويتبين الطريق للسالكين؛ فكم من قتيل لإبليس أَحيوه، وكم من تائه هدوه، وكم من غريق أنقذوه، بهم تنجلي عن الأمة الهموم والغموم لأنهم يقفون كالجبال سدًا منيعًا وقت الأزمات والفتن.

ولذا فهم يُبلغون عن الله شرعَه، وهم الموقعون عن الله يبينون أخطر الأمور وأعظمَها وهي مسألة الحلال والحرام في كل مناحي الحياة.

ولذا ينبغي على من يتكلمون في حق العلماء أن يتقوا الله وليعلموا أن الطعن في العلماء هو طعن في الحقيقة للوحيين الكتابِ والسنة رضِي الطاعن أم أبى.

ثم نقول لهؤلاء الطاعنين كيف سلِمَ منكم من طعن في الشريعة من أهل العلمنة والزندقة وأهل النفاق والشقاق، ولم يسلم منكم من ذبَّ عنها من أهل العلم والفضل، ومن هنا كان التشديد من قبل السلف عن النهي في طعن أهل العلم والفضل.

قال الإمام مالك رحمه الله: “حقٌ على العاقل ألا يستخف بثلاثة: العلماء، والسلاطين، والإخوانِ، فإنه من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته”.

وقال بعضهم: “إن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومةٌ، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنشر العلم خلق ذميم”. فالحذرَ الحذرَ منَ الاستهزاء بالعلماء والطعن فيهم، والحذر من غِيبتهم، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين.

السؤال السابع: في الحديث الشريف: (من تتبع رخص العلماء فقد تزندق) فما معنى ذلك؟ وما الواجب في اتباع العلماء؟

الإجابة:

هذا ليس بحديث وإنما هو قول مأثور عن بعض السلف، والمأثور عن الأوزاعي رحمه الله قوله: “من أخذ بنوادر العلم خرج من الإسلام”([327])، وهو قول وجيه لأنه مهما بلغ الإنسان في العلم فإنه ليس بمعصوم، فقد يصدر من بعض العلماء قول مخالف لبعض نصوص الكتاب والسنة، أو يكون هذا القول مبني على اجتهاد ورأي منه، وبهذا القول يخالف النصوصَ الشرعيةَ دون تعمد منه للمخالفة، وإنما لأمور ذكرها أهل العلم لشيخ الإسلام في رسالته المرموقة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) فقد ذكر فيها رحمه الله أسبابَ اختلاف العلماء.

فالمهم المطلوبُ من المسلم ألا يتتبع سَقطاتِ العلماء؛ فإنه إذا تتبع زلَّة كل عالم لم يبق له في دينه شيء، ومن هنا حذَّر السلف من تتبع زلات العلماء لأن ذلك في الحقيقة يوصل الإنسان إلى الزندقة.

والواجب على المسلم أن يأخذ الحق بدليله وألا يتتبع أحدا من العلماء إلا من حيث أنه متوجه نحو الشريعة، قائم بحجتها، حاكم بأحكامها جملة وتفصيلًا، وأنه متى وجد متوجهًا غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكمًا، ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة، هذا هو المطلوب من المسلم في اتباع العلماء.

السؤال الثامن: ما هي شروط الاستفتاء؟

الإجابة:

على المستفتي أن يحذر التصدر، وألا يتتبع الرخص، وألا يسيء الأدب، وألا يعرض المسائل الشاذة، ومن الشروط أيضًا:

أ – ينبغي للسائل أن يلطف بالسؤال ويرفق بالمفتي ولا يسأله في حالة ضجر أو ملل أو غضب لئلا يتصور خلاف الحق مع تشويش الذهن.

ب – ينبغي للسائل ألا يتكلف المسائل والأغاليط، ولذا قال بعض التابعين حينما سئل عن مسألة فيها أغاليط: “أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس”([328]).

وقد سُئل الإمام مالك رحمه الله عن رجل دهس دجاجة ميتة بقدمه فأخرجت بيضة فخرج منها فرخ أيأكله أم لا؟ فقال مالك: “سل عما يكون ودع ما لا يكون”، ومنه أن شخصًا سأل الشعبي عنِ امرأة إبليس ما اسمها؟ فقال: “ذاك عرس ما شهدته”([329]).

ومن سوء الأدب من بعض المستفتين أن يقول للمفتي: ما دليلك على هذا وهو لا يفقه شيئًا.

السؤال التاسع: لقد حصل من بعض الناس أن قال: لا أذهب إلى المفتي الفلاني بسبب أنه متشدد في الفتوى، فما ردكم على ذلك؟

الإجابة:

إذا كانت هذه الفتوى التي يريد أن يسأل عنها معلومة واضحة بأدلة الكتاب والسنة على أنها محرمة أو مكروهة؛ فإن الواجب على المستفتي ألا يذهب إلى من هو مشهور بالتساهل في فتواه، وإن أفتاه بما يخالف نصوص الشريعة فهذا لا يخرجه عن الإثم إن وقع في المخالفة، وذلك بسبب إعراضه عمن يفتي بما يوافق نصوص الشريعة، وهذا أمر معلوم ومُشاهَد ولا حول ولا قوة إلا بالله فبعض الناس يذهبون إلى من يتساهل في فتواه ويسأله فيجيبه بما يخالف النصوص الشرعية ويعمل بهذه الفتوى التي وافقت هواه ويقول: هو أجابني والعهدة عليه، وهذا خطأ بل كلاهما عليه إثم في ذلك.

أما إذا كانت المسألة التي يريد أن يسأل عنها ما يسع الخلاف فيه بين العلماء فبعضهم يشدد فيها، وبعضهم يتسامح فيها؛ فللمستفتي الخيار في اختيار من يفتيه وإن كان الأولى والأحوط أن يأخذ بما تبرأ به الذمة، هذا هو الأولى والأحوط في حقه.

السؤال العاشر: نود من فضيلتكم كلمةً أخيرة حول فضل العلماء ومعاملتهم؟

الإجابة:

قد ذكرنا من قبل بعضًا من فضائل العلماء الربانيين في إجابة السؤال السادس، ونزيد على ذلك فنقول: لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة في بيان فضل العلماء وهذه النصوص معروفة معلومة لكن الذي أذكره طرفًا مما قاله السلف رضوان الله عليهم في فضل العلماء.

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة”([330]).

وقال سفيان بن عينية رحمه الله: “أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وعباده هم الأنبياء والعلماء”([331]).

وقال سهل التستري رحمه الله: “من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء، فاعرفوا لهم ذلك”([332]).

وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله: “العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإن خفيت عليهم تحيروا”([333]).

وأختم بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فيجب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم”([334]).

أسأل الله تعالى أن يهدينا وإخوانَنا صراطَه المستقيمَ، وأن ينفعنا وإياهم بما نقول ونسمع إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

الفتوى والاجتهاد

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الشيخ/ عبد الله بن محمد الطيار. . حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فهذه أسئلة حول موضوع:

فقه الأقليات، ومذاهب التيسير في الفتوى، والدراسة المذهبية، وغير ذلك نأمل الإجابة عليها لنشرها بجريدة عكاظ، وهي كالتالي:

السؤال الأول: كيف تنظرون إلى ما يسمى بـ (فقه الأقليات)؟

الإجابة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فهذه العبارة التي ذكرتَ وهي (فقه الأقليات) لم تكن معروفة قديما، وإنما استحدثت أخيرًا حيث ظهرت هيئات إسلامية تقوم على الاهتمام بأوضاع المسلمين في الخارج، كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي. ومعنى هذه العبارة كما وضعتها الهيئات الإسلامية بالخارج هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.

فالأقلياتُ تواجه تحدياتٍ عنيدةً على مستوى الفرد والمجتمع، حيث توجد بيئة مختلفة لا مجال فيها للوازع الديني، وفيها تحديات عظيمة ضد العقيدة، والأخلاق، وغير ذلك مما هو معلوم في دين الله تعالى، ووجود أقليات مسلمة تعيش في وسط مختلف عن دينها وأخلاقها تحتاج معه إلى وجود فقه معين لتستطيع به التعايشَ الإيجابي فيه، وهذا يحتاجُ معه إلى فقه خاص بها، ولكن هذا لا يعني إحداثَ فقه جديد خارجَ إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب وغير ذلك من الأدلة التي اعتمدها أئمة الفقه الإسلامي، إنما يقوم فقه الأقليات موافقا لما عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

فوجودُ فقه الأقليات بين المسلمين في الخارج ضروريٌّ وهامٌّ جِدًّا حيث أنه يُعلِّم المسلم كيفيةَ التعايش مع غيره من البشر داخل نظام عملي موافق لشريعة الله تعالى، حيث أنه يُسهل الحياةَ الدينيةَ وييسرها، ويسهل عليه الحياة الدنيوية داخل نطاق شرعي لا يوقعه فيما يخرجه عن نطاق كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله أن ديننا شامل كامل، أينما كان المسلم في أي جزء من أرض الله وجد التوجيه السديد، والعلم الرشيد الذي يحفظ عليه دينه، وفقه الأقليات بين رعايا المسلمين في الخارج من أهم الضروريات الرئيسية التي تمنح المسلم حماية قوية له ضد التيارات المخالفة له في دينه وعقيدته وأخلاقه.

السؤال الثاني: ثمة من أخذ بمذهب (التيسير) في الفتوى، وآخرون أخذوا بـ (الأحوط)، قيل عن الأول: متساهل، وعن الثاني متشدد، برأيكم أين المسلك الموفق؟

الإجابة:

التيسير في الفتوى أو التشديد فيها راجع لحالة المفتي والمستفتي، فالمفتي الذي يستمع للفتوى من صاحبها ينظر لحال المستفتي وأمره وقوة تمسكه بدينه أو العكس، فيفتيه على ما يرى فيه المصلحة الشرعية حسب الدليل الشرعي الصحيح، فربما تكون الفتوى فيها تيسير عليه، أو العكس، وأما الذين يتساهلون في الفتوى فالأولى عدم الذهاب إليهم، وأما التشدد في الفتوى فالغالب عند ممن يتشددون فيها هو التورع وعدم الوقوع في إثم من يفتيه، وهذا لا حرج فيه، ولكن الأفضل والأولى لمن أراد أن يستفتي أحدًا أن يبحث عمن يتصف بالتقوى والورع والعلم الشرعي الصحيح، فهذا تكون فتواه في الغالب صحيحة، وينتفع بها من يستفتي وغيره من المسلمين.

وهنا أمر مهم: فبعض الناس لا يحب أن يذهب لمن يتشدد في الفتوى لأن في قلبه هوى يخالف النصوص الشرعية فيبحث عمن يجد له مخرجا، فيذهب إلى من يتساهل في الفتوى ويعلم أنه يفتيه بما يخالف الكتاب والسنة فيطيعه ويفرح بفتواه حيث وافقت هواه، وهذا مشارك لمن تساهل في الفتوى في الوزر والإثم، نسأل الله أن يجنبنا الزَّلل والضلال.

السؤال الثالث: ألا ترون بأن الدراسة المذهبية والدعوة إلى التقيد بالمذهب الفقهي أخرج فقهاءَ مقلدين غير قادرين على إيجاد إجابات للمسائل العصرية؟

الإجابة:

هذا مفهوم خاطئ لمن يحكم على الدراسة المذهبية بذلك، فالدراسة المذهبية مهمة في بداية حياة طالب العلم، وغالب العلماء السابقين واللاحقين نشأوا على الدراسة المذهبية ليتمكنوا من سلوك الطريق الصحيح، والواضح في غالب دول العالم الإسلامي أنهم يقيدون التعليم بمذهب معين، ويتفرع بعد ذلك إلى دراسة المذاهب الأخرى كي يحصل الدارس على العلم الجامع الشامل، لينتفع به ولينفع به غيره، وأما إخراج فقهاء مقلدين بسبب دراستهم المذهبية فهذا راجع أولا: لتوقفهم على الدراسة المذهبية فقط، أي الوقوف على المذهب الذي درسوه ولم يتوسعوا في معرفة غيره، وهذا خطأ لأن الواجب على طالب العلم أن يطلع على غالب المذاهب الموجودة ليستطيع الحكم على المسائل التي تَعرض له.

وثانيا: فإن التقيد بمذهب واحد ربما يكون فيه تيسير على بعض المسلمين حيث إن العمل بمذهب معين لا حرج فيه إلا إذا كان فيه ما يخالف الدليل الشرعي، ومعلوم أن عامة المسلمين يحتاجون إلى معرفة أحكام دينهم، والسؤال عما يشكل عليهم، فإن تيسر لهم من يفتيهم بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة فهذا أولى وأفضل، وإن لم يوجد ذلك، حيث يغلب المذهب في بلد المستفتين فيوجهون بحسب قول المذهب.

والحمد لله أن في ساحة الإفتاء الآن العديدَ من العلماء ممن يغلب عليهم عدم التمسك بمذهب معين، بل وُجد من يستطيع أن يوجد إجاباتٍ شافيةً للمسائل العصرية في وقتنا الحاضر، وخير دليل على ذلك ما ظهر مؤخرا حول أحكام البنوك، والاستنساخ، وغيرهما من المسائل المهمة والتي بت فيها العلماء بالحكم الشرعي الصحيح، مع ظهور الاجتهاد القوي من جانب البعض منهم ولاسيما في المجامع العلمية والهيئات الشرعية واللجان الفرعية للفتوى.

السؤال الرابع: من الملاحظ بأن مناهج الجامعات الشرعية عبر منهجها الفقهي الحالي لم تعد تخرج علماء يضيفون إلى الفقه الإسلامي ما يحتاجه أهل العصر الحالي؟

الإجابة:

المعلوم أن المساجد هي الأساس في تخريج علماءَ للأمة يقومون بواجبهم نحو دينهم وأمتهم، وهذا ما كان يفعله النبي مع صحابته حيث إن غالب التعليم كان في المسجد، وهذا ما درج عليه سلف الأمة، ولما غلب على الدول الإسلامية بناء جامعات لتتم الدراسة فيها حسب نظم معينة ومناهج مختلفة ظهر الخلل في عدم إيجاد علماء مجتهدين.

 وعلى الرغم من ذلك فالله تعالى وفق بعض العلماء الحاليين من التمكن من الجمع بين العلم الدراسي بالجامعات، والعلم الأساسي في بيوت الله تعالى، فخرج لنا علماء أجلاء يستطيعون الحكم في كثير من المسائل المهمة التي يحتاجها أهل هذا العصر، فالتعليم في الجامعات مفاتيح يستطيع من خلالها طالب العلم بناء نفسه ليتأهل للمراحل اللاحقة فيكون علاما لا يشق له غبار.

السؤال الخامس: انسداد باب الاجتهاد الفقهي، ما سببه؟ وإلى أي مدى يمكن أن يحد من قدرة العلماء على التفاعل مع الواقع الحالي؟

الإجابة:

باب الاجتهاد الفقهي لم يسد بفضل الله تعالى، بل هو مفتوح لكل من أراد ذلك وخاصة فيما ظهر من المسائل المتأخرة التي تحتاج الأمة إلى بيان حكمها، ولكن لابد من الوقوف أولا على النصوص الشرعية في جميع أحوالنا، فإذا عدمت الأدلة التي تدل على هذه المسائل، اجتهد الفقيه في إيجاد الحل المناسب لها.

السؤال السادس: هل غاب فقه الواقع عن مناهج صناعة العلماء وطلاب العلم؟

الإجابة:

أقول لا؛ ولا يمكن له أبدًا أن يغيب، وكيف يكون ذلك والعلماء وطلبة العلم هم الذين يقومون على إيجاد الحلول المناسبة التي تطرأ على الأمة من أمور جديدة مستحدثة تحتاج إلى توجيه وإرشاد، والبرهان على ذلك هو وجود مجامع فقهية لا تمر مسألة من مسائل الأمة الهامة عليها إلا وقد وجد لها الحل المناسب، وهذا يدل على عدم غياب فقه الواقع عن العلماء وطلبة العلم، ولو نظرنا إلى كثير من الفتاوى المتأخرة لوجدناها تعالج الكثير من النوازل والقضايا المستحدثة، وهذا لم يتم إلا بفضل الله تعالى، ثم بالجهد المبذول من قبل العلماء وطلبة العلم.

السؤال السابع: عزلة العلماء وطلاب العلم – انصرافهم عن العامة وانشغالهم بالبحث العلمي – كيف تنظرون إليها؟

الإجابة:

العلماء وطلبة العلم لا يغيبون إطلاقًا عن العامة، وعلى الرغم من الجهد المبذول من قبلهم في نفع الأمة بتأليف الكتب والأبحاث إلا أنهم لا يقصرون في نشر العلم الشرعي، والرد على ما يستحدث من مسائل، والناظر في أحوال الأمة يجد أن العلماء وطلبة العلم هم النور الذي يضيء الطريق للحائرين، ويدلهم عليه، وبفضل الله تعالى فالأمة لا تخلو إطلاقًا من هؤلاء، ولو رأينا الجهد المبذول من قبلهم من أجل نفع الناس لما قلنا إنهم ينصرفون عن العامة، بل هم موجودون بينهم، يردون على استفساراتهم، ويعلمونهم أمور دينهم، وكيف يعيش الناس بدون هؤلاء الصنف الذي إن عدم ضلت الأمة سعيها، وسلكت غير سبيلها الذي ارتضاه الله لها.

السؤال الثامن: يلحظ انصراف بعض العلماء عن الدعاة الشباب لحد القطيعة مما يقرأ بأنه عدم رضا، كيف تقرءون ذلك؟

الإجابة:

هذا الكلام غير وارد، بل الأصل انصراف كثير من الشباب عن العلماء، وهذا هو الذي نراه الآن ونعيشه، فلقد أصبح بعض الشباب ينظرون إلى العلماء نظرة غير طيبة، فيسيئون بهم الظن، ويتكلمون في أعراضهم، ويشوهون صورتهم أمام العامة، وهذا يدل على جهل هؤلاء الشباب وقلة علمهم، ولو رجعوا إلى علمائهم فيما يطرأ عليهم من أمور يحتاجون فيها للإيضاح لنالوا الخير الكثير، فبدون العلماء لا يستطيع الشباب تحصيل العلم الشرعي الصحيح، وهذا الانصراف الموجود من هؤلاء الشباب أوقع الكثير منهم في أمور خطيرة عادت على الأمة بالشر، فنصيحتي للشباب أن يتوجهوا إلى العلماء، وأن يجالسوهم، وأن يأخذوا منهم، وأن يستفيدوا من علمهم وخبرتهم، وأن يرجعوا إليهم عند التنازع في أي أمر من الأمور الشرعية، ويكفي فخرًا للعلماء قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فإذا فعل الشباب ذلك هُدوا بفضل الله تعالى إلى صراط الله المستقيم، وحازوا على خيرَيِ الدنيا والآخرة، ووالله ما أصاب البلادَ والعباد من المآسي والتكفير والتفجير إلا بسبب البعد عن العلماء والتزهيد في الأخذ منهم والطعن بهم من قبل هؤلاء الشباب، فتعلَّمُوا على أنفسهم فضلوا وأضلوا.

السؤال التاسع: ما هو برنامجكم الرمضاني؟

الإجابة:

رمضان يحتاج منا لمضاعفة الجهد في الدعوة ونشر العلم، وخاصة أن إقبال الناس على طاعة الله تعالى، والاستفادة من العلم الشرعي كثيرة جدًّا، وبفضل الله تعالى لي كلمات في بعض مساجد المحافظة عندنا، وفي بعض الدوائر الحكومية، وأرد على الفتاوى التي تأتيني إما عن طريق الهاتف، أو تكون مكتوبة، أو مقابلة الأشخاص المستفتين. وبفضل الله لي وقت مع نفسي لا غنى لي عنه، مع الحرص على أبواب الخير وغيرِ ذلك مما يُعيننا عليه. أسأل الله أن يجعلَ أعمالنا خالصةً لوجهه، وأن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر المبارك.

السؤال العاشر: هل أنتم مع حكر باب الاجتهاد في المجامع الفقهية؟

الإجابة:

نعم في المجامع والهيئات واللجان الدائمة للفتوى ودوائر الفتوى؛ وخاصة في هذا الوقت الذي قل فيه أصحاب العلم الرباني الصحيح، وحتى لا يكون الباب مفتوحًا لمن لا علم له ولا تَقوى لتوجيه الناس توجيهًا غيرَ سليم، ولأن المجامعَ الفقهية مرجعُها إلى علماءَ أفاضلَ مَوثوقين، معروفين بعلمهم، وخاصة مع تغير الفتوى، وتغير أحوال الناس وأمورهم، وضعف الإيمان عندهم، فوجود مجامع فقهية ترد على فتاوى الناس، ويكون الاجتهاد صادرا عنهم فيه فائدة عظيمة للأمة لتوحيد الجهود في إيصال الحق للناس، والناظر في المسائل المتأخرة المعروضة على الساحة يجد أنها تحتاج لعلم وجهد واستنباط، وهذا لن يتأتى إلا باتحاد العمل من أجل تحصيل الإجابة الصحيحة التي تنفع الأمة، وهذا لن يتم إلا بوجود التعاون على إجابة هذه المسائل.

وعلى الرغم من كلامي هذا وحرصي عليه، إلا أنه إذا وُجد من يكون مؤهَّلا للاجتهاد، وله منفعة ظاهرة تعود على الأمة فله الحق في المشاركة في إيجاد الحلول الشرعية لما يطرأ على الأمة من مسائل مستحدثة.

السؤال الحادي عشر: لماذا يغيب العلماء في النوازل والقضايا الكبرى للأمة مما يتيح المجال لغيرهم بشغل المكان؟

الإجابة:

العلماء لا يغيبون إطلاقًا عن أي نوازل وقضايا تتعرض لها الأمة، بل على العكس فالعلماء هم سراج الأمة، وهم الذين يَدلونها على الطريق الصحيح وخاصة في النوازل والقضايا المتأخرة، وخيرُ شاهد على ذلك هذه المؤتمرات التي تمت في الشهور الماضية، وقام عليها نخبةٌ من أهل العلم الأجلاء، مثل مؤتمر (الإفتاء في عالم مفتوح) والذي أقيم في دولة الكويت الشقيقة، والذي تمت فيه مناقشة العديد من القضايا الهامة وخاصة موضوع الفتوى وتغيرها، ولقد كان للمشاركين فيها جهد كبير، وظهرت فيه ثمرات فعالة لبعض العلماء سوف تعود على الأمة بالخير إن شاء الله.

أسأل الله تعالى أن يمن على أمة الإسلام بسلوك طريقه المستقيم، وأن يمد العلماء وطلبة العلم بالعون والتوفيق والسداد، وأن ينفع بهم أمة الإسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

فهرس المحتويات

تقديم

الفتوى وأهميتها

المقدمة  

الهدف من البحث:

خطةُ البحثِ:

المبحث الأول: حقيقة الفتوى ومجالاتها:

المطلب الأول: الفتوى، ومكانتها في الإسلام:

ا – تعريف الفتوى لغة:

والاستفتاء لغة:

والفتوى في الاصطلاح:

ب – حكم الفتوى:

ج – مكانة الفتوى وأثرها:

د – ضوابط الفتوى:

هـ – أثر الفتوى الشرعية في الأمة الإسلامية:

المطلب الثاني: أركان الفتوى (المفتي – المستفتي – الفتوى):

أولا: المفتي:

أ – تعريف المفتي لغة:

ب – ما يلزم المفتي حين يخبر عن الحكم الشرعي في مسألة:

ج – أثر الجانب الأخلاقي للمفتي على المستفتي:

د – صيغة فتوى المفتي:

ثانيًا: المستفتي:

ا – تعريف المستفتي:

ب – حكم الاستفتاء:

ج – آداب المستفتي:

د – حكم المستفتي إن لم يطمئن قلبه إلى الفتيا:

ثالثًا: الفتوى:

المطلب الثالثُ: أنواع الفتوى:

النوع الأول: الفتوى بالرأي:

ا – تعريف الرأي:

النوع الثاني: الفتوى بالتقليد:

ا – معنى الفتوى بالتقليد:

ب – تعريف التقليد:

ج – أقسام الأحكام:

د – فيمن يسوغ له التقليدُ ومن لا يُسوغ:

هـ – أقسام التقليد:

و – ذم التقليد وأهلِه:

ز – الفرقُ بينَ الاتِّباع والتَّقليد:

النوع الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد:

المطلب الرابع: مجالات الفتوى:

صور من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدةِ:        

ثانيًا: صور من فتَاوَى النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات:

(1) الطهارة:

(2) الصلاةُ:

(3) الزكاة:

(4) الصيام:

(5) الحج:

المبحثُ الثاني: عِظمُ شأن الفتوى

المطلب الأول: عظم شأن الفتوى في القرآن الكريم:   

المطلب الثاني: عظم شأن الفتوى في السنة المطهرة:

المطلبُ الثالث: عِظمُ شأن الفتوى عند السلف:

المبحث الثالث: شروط من له الإفتاء        

المطلب الأول: صفات المفتي:

(1) أهلية المفتي:

(2) خصال المفتي:

المطلب الثاني: شروط المفتي:

المطلب الثالث: إفتاء القاضي:

الخاتمة   

المراجع والمصادر

أثر الفتوى في المتغيرات الإعلامية

المقدمة  

تمهيد بين يدي البحث    

أولًا: تعريف الفتوى:      

ثانيًا: معنى المتغيرات الإعلامية:

ب- ومعنى كلمة إِعلاَم:

ج- مفهوم الإعلام الإسلامي:     

هـ – المراد بالمتغيرات الإعلامية:

المبحث الأول: مدى تأثير الفتوى على الأمم والمجتمعات

المبحث الثاني: برامج الفتوى في ظل المتغيرات الإعلامية

أولًا: إيجابيات الفتوى المباشرة في ظل المتغيرات الإعلامية الحديثة:

ثانيًا: الآثار السلبية للفتوى عبر الفضائيات

المبحث الثالث: العلاقة بين الفتوى والإعلام 

تمهيد:

المبحث الرابع: واقع الفتوى في وسائل الإعلام

المبحث الخامس: اختلاف العلماء في الفتوى:

المبحث السادس: المَلَكات الاستقبالية للمفتي

أولًا: المَلَكات الاستقبالية للمفتي عبر المتغيرات الإعلامية:       

ثانيًا: دور مقدم البرنامج مع المفتي:

المبحث السابع: أثر الفتوى في المتغيرات الإعلامية:

المطلب الأول: أثر الفتوى في تمسك المسلمين بدينهم:

ومن آثار الفتوى في تمسك المسلمين بدينهم: 

المطلب الثاني: أثر الفتوى في التصدِّي للغلوِّ في التكفير:        

أولًا: تعريف الغلو وصوره: 

ثانيًا: أثر الفتوى في التصدِّي للغلوِّ في ظل المتغيرات الإعلامية: 

المطلب الثالث: الفتوى وأثرها في المحافظة على الهويَّة الإسلاميَّة:

أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويَّته الإسلاميَّة:

المطلب الرابع: أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع:  

أثر الفتوى عبر وسائل الإعلام الحديثة في رسوخ الأمن:

الخاتمة   

أولًا: ملخص البحث:

ثانيًا: أهم التوصيات:     

المراجع والمصادر

الفتوى وأثرها في المحافظة على الهوية الإسلامية       

المقدمة  

الهدف من البحث:

سبب اختياري لهذا البحث:

المبحث الأول: التربص بالهوية الإسلامية بين الماضي والحاضر:  

ذكر الإطار الزماني لقضية تهديد الهوية الإسلامية:     

المبحث الثاني: التعريف بالهوية الإسلامية وأهمية الحفاظ عليها: 

المطلب الأول: تعريف الهوية:

أولًا: الهوية في اللغة:       

ثانيًا: الهوية اصطلاحًا:

ثالثًا: مفهوم الهوية الإسلامية:

المطلب الثاني: بيان حاجة المسلم إلى الهوية:

المطلب الثالث: مقومات الهوية الإسلامية:

المطلب الرابع: سمات وخصائص الهوية الإسلامية:

المطلب الخامس: التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية:

المطلب السادس: كيفية المحافظة على الهوية الإسلامية.

المبحث الثالث: أثر الفتوى في حماية الهوية الإسلامية:

المطلب الأول: العلاقة بين الفتوى وحفظ الهوية الإسلامية:     

المطلب الثاني: أثر الفتوى في الحفاظ على الهوية في جانب العقيدة:

أولًا: العلاقة بين الهوية والعقيدة:

ثانيًا: أثر الفتوى في المحافظة على العقيدة:    

ثالثًا: ضوابط للمفتي حينما يفتي في جانب العقيدة:

رابعًا: صور المخالفة للهوية الإسلامية في جانب العقيدة:

المطلب الثالث: أثر الفتوى في الحفاظ على الأحوال الشخصية:

1- تعدد الزوجات:

2- دعوى السماح للمسلمة بالزواج من أهل الكتاب:

3- دعوى مساواة الأولاد الذكور والإناث في الميراث:

المطلب الرابع: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية للمرأة.

أولًا: دور المرأة في حماية هوية المجتمع:

ثانيًا: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية للمرأة:

المطلب الخامس: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية:  

أولًا: مفهوم العبادة في الإسلام:

ثانيًا: العبادة بين الماضي والحاضر:  

ثالثًا: العلاقة بين العبادة والهوية:

رابعًا: أثر الفتوى في المحافظة على الهوية في جانب العبادات:

المطلب السادس: أثر الفتوى في المحافظة على هوية الشباب المسلم.

أولًا: دور الشباب في حفظ الهوية الإسلامية:

ثانيًا: الآثار السلبية للتيارات المعادية للشباب المسلم:

ثالثًا: أثر الفتوى في المحافظة على هوية الشباب المسلم:

الخاتمة   

المراجع والمصادر

الحجر في الفتوى لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان

المقدمة  

ملخص البحث:

الهدف من البحث:

خطة البحث:    

المبحث الأول: أركان الفتوى:

المطلب الأول: الفتوى:

تعريف الفتوى لغة:

تعريف الاستفتاء لغة:     

الفتوى في الاصطلاح:

مكانة الفتوى وأثرها:      

المطلب الثاني: المفتي:

تعريف المفتي لغة:

شروط المفتي:    

إفتاء القاضي:    

صيغة الفتوى:    

المطلب الثالث: المستفتي:

تعريف المستفتي:

حكم الاستفتاء: 

حكم المستفتي إن لم يطمئن قلبه إلى الفتيا:

المبحث الثاني: أنواع الفتوى، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الفتوى بالرأي:

المطلب الثاني: الفتوى بالتقليد:

أنواع التقليد:

ذم التقليد وأهله:

الفرق بين الاتِّباع والتَّقليد:

المطلب الثالث: الفتوى بالدليل والاجتهاد:

المبحث الثالث: الإفتاء في دين الله بغير علم:

المطلب الأول: خطورة القول على الله بغير علم:

المطلب الثاني: أثر القول على الله بغير علم على المفتي والمستفتي:

المبحث الرابع: الحجر في الفتوى، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: تعريف الحجر في الفتوى:

المطلب الثاني: أصناف المحجور عليهم:

ومن أصناف المحجور عليهم:

الأول: المفتي الجاهل بالنصوص الشرعية:

الثاني: المفتي الذي يقع في سوء التأويل للنصوص الشرعية:

الثالث: المفتي الذي يقع في عدم فهم الواقع على حقيقته:

الرابع: المفتي الذي يخضع للأهواء:  

الخامس: المفتي الذي يخضع للواقع المنحرف:

السادس: المفتي الذي يبيح ما حرّم الله بالحِيل:

المطلب الثالث: من يقوم بالحجر في الفتوى: 

المطلب الرابع: أثر الحجر في الفتوى:

المبحث الخامس: تغير الفتوى واختلافها:

المطلب الأول: سبيل العلماء المتقدمين في الفتوى:     

المطلب الثاني: سبيل العلماء المتأخرين:

المطلب الثالث: الفروق بين فتاوى المتقدمين والمتأخرين وأمثلة منها:

الخاتمة:

من أحكام الفتوى

الفتوى والاجتهاد

فهرس المحتويات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([2]) إعلام الموقعين (1/11).

([3]) لسان العرب، مادة فتى (15/145).

([4]) تفسير القرطبي (15/68)، وتفسير ابن كثير (4/3) ط عيسى الحلبي.

([5]) شرح المنتهى (3/456)، مطبعة أنصار السنة بالقاهرة، وصفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان ص4.

([6]) مقاييس اللغة لابن فارس، مادة: فتى (4/474).

([7]) القاموس المحيط، مادة: فتى (4/365).

([8]) أخرجه أحمد (2/344، رقم 8514)، وأبو داود (3/321، رقم 3658)، والترمذي (5/29، رقم 2649) وقال: حسن، وابن ماجه (1/98، رقم 266) .

([9]) شرح المنهاج (4/214).

([10]) إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، أصولي، حافظ، من أهل غرناطة، كان من أئمة المالكية، توفي سنة (790هـ). يُنْظَر: الأعلام للزركلي (1/75).

([11]) أخرجه أبو داود (10/49 رقم3157)، والترمذي (9/296 رقم2606)، وابن ماجة (1/259 رقم 219)، وأحمد (44/192رقم 20723)، وابن حبان (1/171 رقم 88)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6297).

([12]) انظر: (الموافقات) للشاطبي، بتحقيق الشيخ عبد الله دراز، (4/ 244-246).

([13]) إعلام الموقعين لابن القيم (1/11).

([14]) أخرجه الدارمي (1/69، رقم 157)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (147).

([15]) أخرجه أبو داود (2/276، رقم 2254)، والترمذي (5/331 ، رقم 3179) ، وقال: حسن غريب . وابن ماجه (1/668 ، رقم 2067)، وأصله في البخاري (5/2046، رقم 5034)، ومسلم (2/1134، رقم 1496).

([16]) إعلام الموقعين (2/280، 281).

([17]) أخرجه أحمد (2/361، رقم 8720)، والنسائي (1/50، رقم 59)، وابن ماجه (1/137، رقم 387)، وصححه الألباني في إرواء الغليل(ج1 رقم 9).

([18]) إعلام الموقعين (4/158).

([19]) إعلام الموقعين (4/ 204، 205).

([20]) إعلام الموقعين (4/229).

([21]) إعلام الموقعين (4/211).

([22]) صحيح جامع بيان العلم وفضله (رقم 399).

([23]) البحر المحيط (6/305).

([24]) أدب المفتي والمستفتي للشهروزي (1/21).

([25]) صفة الفتوى (ص13).

([26]) صفة الفتوى (ص4).

([27]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([28]) إعلام الموقعين (1/ 44).

([29]) إعلام الموقعين (1/ 45).

([30]) الموافقات للشاطبي (4/89ـ95).

([31]) ابن نفيل القرشي، أبو حفص: ثاني الخلفاء الراشدين، وأول مَن لُقِّب بأمير المؤمنين، صاحب الفتوحات، يُضرَب بعدله المَثَل، بُويِع بالخلافة سنة (13هـ)، وهو أول مَن وَضَع للعرب التاريخ الهجري، وأول مَن دوَّن الدواوين في الإسلام، له في كتب الحديث (537) حديثا. يُنْظَر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، رقم الترجمة (5736) (2/518-519).

([32]) الأشعث بن قيس، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفي سنة (40هـ)، بعد علي بن أبي طالب بأربعين ليلة. يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (2/37-43).

([33]) إعلام الموقعين (1/86).

([34]) أم المؤمنين، زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، بنت أبي بكر الصديق، أفقه النساء وأعلمهن بالدين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية للهجرة، روت عنه (2210)حديثًا، توفيت في المدينة سنة (58هـ). يُنْظَر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، كتاب النساء وكناهن، رقم الترجمة (704)، (4/359-361).

([35]) علي بن أبي طالب، أبو الحسن، رابع الخلفاء الراشدين، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وَلِي الخلافة سنة (35هـ)، وأقام بالكوفة إلى أن اغتاله ابن ملجم سنة (40هـ). يُنْظَر: الأعلام، الزركلي، 4/295. .

([36]) أخرجه النسائي (4/125، رقم 2094)، وصححه الألباني.

([37]) إعلام الموقعين (4/160، 259).

([38]) أخرجه مسلم (3/1357، رقم 1731).

([39]) صفة الفتوى لابن حمدان (ص60).

([40]) المستصفى للغزالي (2/124) القاهرة، المكتبة التجارية 1356هـ.

([41]) المجموع للنووي (1/54) وانظر الموافقات للشاطبي (4/261).

([42]) الموافقات للشاطبي (4/291)، والمجموع للنووي (1/58).

([43]) أخرجه مسلم في المقدمة (1/33).

([44]) المجموع (1/54).

([45]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/179) مكتبة أنس بن مالك، ط 1400هـ.

([46]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/458)، وحاشية ابن عابدين (4/303)، وإعلام الموقعين(4/254)، والمجموع للنووي (1/56)، والبحر المحيط للزركشي (6/318، 113)، والمستصفى للغزالي (2/125)، والموافقات (4/130، 133، 262).

([47]) أخرجه أحمد (6/451، رقم 27592)، والترمذي (4/311، رقم 1900) وقال: صحيح، وابن ماجه (2/1208، رقم 3663)، وابن حبان (2/167، رقم 425)، والحاكم (2/215، رقم 2799)، وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7145).

([48]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/457)، والمجموع للنووي (1/57).

([49]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/457).

([50]) أخرجه البخاري (2/867، رقم 2325)، ومسلم (4/2054، رقم 2668).

([51]) أخرجه البخاري (2/952، رقم 2534)، ومسلم (3/1337، رقم 1713).

([52]) إعلام الموقعين (4/254).

([53]) أخرجه مسلم (3/1513، رقم 1905).

([54]) إعلام الموقعين (1/66).

([55]) الإحكام للآمدي (4/46).

([56]) أخرجه الترمذي (3/616، رقم 1327)، وضعفه الألباني.

([57]) إعلام الموقعين (1/67 وما بعدها، و79، 85).

([58]) أخرجه أحمد (1/233، رقم 2069)، والترمذي (5/199، رقم 2950)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الكبرى (5/31، رقم 8085) .

([59]) إعلام الموقعين (1/69).

([60]) إعلام الموقعين (1/69ـ74).

([61]) أخرجه أحمد (3/452، رقم 15784)، الترمذي (4/426، رقم 2110)، وأبو داود (3/130، رقم 2927)، وابن ماجه (2/883، رقم 2642)، وصححه الألباني في سنن أبي داود.

([62]) أخرجه النسائي (8/57، رقم 4853) ، والحاكم (1/553) وصححه الألباني في إرواء الغليل (ج7، رقم 2273).

([63]) انظر مصنف عبد الرزاق حديث رقم (17706)

([64]) أخرجه البخاري (1/113، رقم 289).

([65]) أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث (ص91).

([66]) أخرجه أحمد (5/115، رقم 21138)، وأبو داود (1/55، رقم 214)، والترمذي (1/183، رقم 110)، وابن ماجه (1/200، رقم 609)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/55) رقم (215).

([67]) أخرجه مسلم (4/2060، رقم 2674).

([68]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/69)مكتبة أنس بن مالك، ط 1400هـ.

([69]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/355).

([70]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/344).

([71]) الفقيه والمتفقه (ص307، 308).

([72]) أخرجه أبو داود (1/93، رقم 336)، وابن ماجه (1/190، رقم 572)، وحسنه الألباني.

([73]) إعلام الموقعين (2/292).

([74]) أخرجه الترمذي (5/278، رقم 3095).

([75]) أخرجه البزار، والطبراني في المعجم الكبير، وخرجه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (ج1 رقم 36)، وقال: ضعيف جدا.

([76]) أخرجه مالك في الموطأ (1395)، وحسنه الألباني في المشكاة (ج1 رقم 186).

([77]) إعلام الموقعين (2/292).

([78]) الفقيه والمتفقه (2/330، 331).

([79]) أخرجه الدارمي (1/186، رقم 166).

([80]) شرح المنتهى (3/456)، مطبعة أنصار السنة بالقاهرة، وصفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان (ص4).

([81]) أخرجه البخاري (4/1671، رقم 4305)، ومسلم (1/167، رقم 183).

([82]) أخرجه أحمد (15617).

([83]) إعلام الموقعين (4/267).

([84]) أخرجه (4/1891، رقم 4666)، ومسلم (4/2040، رقم 2647).

([85]) أخرجه مسلم (1/253، رقم 315).

([86]) رواه البخاري (4/1626، رقم 4207)، ومسلم (1/90، رقم 86).

([87]) أخرجه أحمد (2/361، رقم 8720)، والنسائي (1/50، رقم 59)، وابن ماجه (1/137، رقم 387)، وصححه الألباني في إرواء الغليل(ج1 رقم 9).

([88]) أخرجه أحمد (3/86، رقم 11833)، وأبو داود (1/18، رقم 67)، والترمذي (1/95، رقم 66) وقال: حسن، والنسائي (1/174، رقم 326)، وانظر (مجموع الفتاوى) (21/40)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (ج1 رقم 14).

([89]) أخرجه البخاري (5/2087، رقم 5161)، ومسلم (3/1532، رقم 1930).

([90]) أخرجه أحمد (3/485، رقم 16016)، وابن ماجه (1/169، رقم 506)، وحسنه الألباني في جامع الترمذي (1/197) رقم (115).

([91]) أخرجه أحمد (4/342، رقم 19029)، وأبو داود (1/54، رقم 211، 212)، والترمذي (1/240، رقم 133) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1/213 رقم 651)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/54) رقم (211).

([92]) أخرجه البخاري (1/91، رقم 226)، ومسلم (1/262، رقم 333).

([93]) أخرجه البخاري (1/60، رقم 130)، ومسلم (1/251، رقم 313).

([94]) أخرجه البخاري (1/197، رقم 504)، ومسلم (1/89، رقم 85).

([95]) أخرجه مسلم (1/429، رقم 613).

([96]) أخرجه البخاري (1/376، رقم 1066).

([97]) أخرجه البخاري (1/143، رقم 358)، .

([98]) أخرجه البخاري (1/382، رقم 1086)، ومسلم (1/516، رقم 749).

([99]) أخرجه مسلم (2/685، رقم 988).

([100]) أخرجه أحمد (3/136، رقم 12417)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (رقم 453).

([101]) أخرجه مسلم (2/779، رقم 1108).

([102]) أخرجه البيهقي في الكبرى (4/229، رقم 7862).

([103]) أخرجه الدار قطني (2/180، رقم 34).

([104]) أخرجه البخاري (2/684، رقم 1834)، ومسلم (2/782، رقم 1111).

([105]) أخرجه البخاري (3/1026، رقم 2632).

([106]) أخرجه مسلم (2/974، رقم 1336).

([107]) أخرجه البخاري (6/2464، رقم 6321)، ومسلم (2/804، رقم 1148).

([108]) أخرجه أحمد (6/371، رقم 27135)، وابن حبان (5/595، رقم 2217)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1 / 135).

([109]) أخرجه ابن حبان (4/477، رقم 1599)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (ج1 رقم 201).

([110]) أخرجه ابن حبان (13/465، رقم 6100)، والحاكم (4/446، رقم 8223).

([111]) أخرجه البخاري (5/2283، رقم 5815)، ومسلم (4/2033، رقم 2639).

([112]) أخرجه أحمد (3/413، رقم 15457)، والترمذي (4/607، رقم 2410)، وابن ماجه، (2/1314، رقم 3972)، وصححه الألباني في جامع الترمذي (4/607) رقم (2410).

([113]) أخرجه البخاري (5/2267، رقم 5765).

([114]) إعلام الموقعين (1/38).

([115]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([116]) أخرجه أحمد (2/203، رقم 6896)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (1854).

([117]) أخرجه أبو داود (3/321، رقم 3657)، وابن ماجه (1/20، رقم 53)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (6068).

([118]) أخرجه أبو داود (3/299، رقم 3573)، والترمذي (3 /613، رقم 1322)، والنسائي في الكبرى (3/461، رقم 5922)، وابن ماجه (2/776، رقم 2315)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

([119]) أخرجه مسلم (1/9، رقم 1).

([120]) أخرجه البخاري (1/434، رقم 1229)، ومسلم (1/10، رقم 4).

([121]) أخرجه أحمد (1/323، رقم 2976)، والترمذي (5/199، رقم 2951)، وقال : حسن، قال الشيخ رحمه الله في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) ص (41) ط. معارف: (ثم تبين لي أن الحديث ضعيف، وكنت اتبعت المُناويَّ في تصحيحه لإسناد ابن أبي شيبة فيه، ثم تيسر لي الوقوف عليه فإذا هو بيِّن الضعف وهو نفس إسناد الترمذي وغيره، راجع كتابي (سلسلة الأحاديث الضعيفة 1783)، الترمذي 2951

([122]) سبق تخريجه.

([123]) أخرجه البخاري (2/938، رقم 2509)، ومسلم (4/1962، رقم 2533).

([124]) أخرجه الدارمي (1/69، رقم 160).

([125]) محمد بن عبد الرحمن، العلاَّمة الإمام، مفتي الكوفة وقاضيها، أبو عبد الرحمن الأنصاري الكوفي، كان نظيرا للإمام أبي حنيفة في الفقه، توفي في رمضان، سنة (148هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة التاسعة (6/310-316).

([126]) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/61). وإعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/238).

([127]) أخرجه الدارمي (1/69، رقم 157)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (147).

([128]) أبو عبد الرحمن: صحابي، من السابقين إلى الإسلام، أول مَن جهر بقراءة القرآن بمكة، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفي في خلافة عثمان سنة (32 هـ)، له (848) حديثًا. يُنْظَر: الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع، دار صادر، بيروت، د. ت (6/13).

([129]) إبطال الحيل، عبيد الله بن محمد العكبري العقبلي، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ (1/62)، وسنن الدارمي (1/73)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي (5/211).

([130]) المخزومي القرشي، أبو محمد: سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان أحفظ الناس لأقضية عمر بن الخطاب وأحكامه، حتى سُمِي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة (94هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، 4/217 وما بعدها، وتهذيب التهذيب، الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الهند، 1326هـ، الناشر دار صادر، بيروت، لبنان، 2/28.

([131]) فتاوى ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، تحقيق د. موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ (1/15)، وأدب المفتي والمستفتي، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (1/80).

([132]) عامر بن شراحيل، الإمام، ، توفي- رضي الله عنه -علاَّمة العصر، أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي، وُلِد في إمرة عمر بن الخطاب سنة (104). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (4/294-319).

([133]) إعلام الموقعين (4/218).

([134]) أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي، إمام المدرسة الحنفية، ولد بالكوفة سنة (80هـ)، ونشأ فيها، وتوفي سنة (150هـ). يُنْظَر: تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، 13/323-423، والبداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعارف، لبنان، مكتبة النصر، الرياض، الطبعة الأولى 1966م (10/107).

([135]) سير أعلام النبلاء، للذهبي (4/302).

([136]) أحمد بن علي بن ثابت، الإمام الأوحد، العلاَّمة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت، صاحب التصانيف، وخاتمة الحُفَّاظ، وكان من كبار فقهاء الشافعية، له ستة وخمسون مصنفًا، توفي سنة (463هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (18/270-297).

([137]) يعقوب بن إبراهيم: صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه، وأول مَن نشر مذهبه، وأول مَن وَضَع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. يُنْظَر: البداية والنهاية، لابن كثير (10/180) وما بعدها. .

([138]) آداب الفتوى، للنووي (1/16).

([139]) الإمام مالك بن أنس الأصبحي، أبو عبد الله: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، مولده ووفاته في المدينة (93-179هـ)، سأله المنصور أن يضع كتابًا للناس يحملهم على العمل به، فصنّف الموطأ، يُنْظَر: صفة الصفوة، جمال الدين ابن الجوزي، حققه وعلّق عليه محمود فاخوري، خرّج أحاديثه محمد رواس قلعه جي، مطبعة النهضة الجديدة، القاهرة، دار الوعي، بحلب، الطبعة الأولى 1390هـ/1970م، رقم الترجمة (189)، (2/177) وما بعدها.

([140]) مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، العلاَّمة الإمام، نزيل بغداد، كان أبوه أميًا على اليمن، توفي سنة (236هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، (11/30-32).

([141]) آداب الفتوى، للنووي (1/16).

([142]) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، علاء الدين أمين بن عمر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت (4/234).

([143]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([144]) أدب المفتي والمستفتي (ص86)، والمجموع (1/41).

([145]) إعلام الموقعين (1/46).

([146]) إعلام الموقعين (4/199).

([147]) شرح المنتهى (3/457)، وإعلام الموقعين (4/220)، وحاشية ابن عابدين (4/302)، وصفة الفتوى لابن حمدان ص13، والمجموع (1/75) تحقيق المطيعي.

([148]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4/302).

([149]) حاشية الدسوقي (4/130).

([150]) صفة الفتوى لابن حمدان (ص29)، والمجموع (1/41).

([151]) مجمع الأنهر (2/145).

([152]) إعلام الموقعين (4/220)، وشرح المنتهى (3/457)، وابن عابدين (4/301).

([153]) الفقيه والمتفقه للخطيب (3/168).

([154]) إعلام الموقعين (1/46).

([155]) إعلام الموقعين (1/46).

([156]) حاشية ابن عابدين (1/47)، والمجموع (1/45).

([157]) المجموع للنووي (1/42)، وإعلام الموقعين (4/220)، وصفة الفتوى لابن حمدان (ص29).

([158]) حاشية ابن عابدين والدر المختار (4/302).

([159]) الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي (4/139).

([160]) انظر مجمل اللغة (1/711)، ولسان العرب (15/147-148)، والقاموس المحيط (ص 1320).

([161]) انظر صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص4)، والفروق (4/48-54)، وإعلام الموقعين (4/196).

([162]) إعلام الموقعين (1/36)، الفروق (4/53-54).

([163]) انظر إعلام الموقعين (1/36)، (4/174، 196).

([164]) انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/221-222) وشرح الكوكب المنير (4/557).

([165]) التعريفات، الجرجاني، باب التاء، مادة (التغيير – التغير). دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م.

([166]) لسان العرب، ابن منظور، مادَّة (غير)، دار صادر. بيروت الطبعة، الثالثة – 1414 هـ.

([167]) محيط المحيط، لبطرس البستاني، مادة (علم)، ص(639) مكتبة لبنان ـ بيروت. ط1987م. وانظر لسان العرب مادة (علم).

([168]) العلاقات العامة والمجتمع، إبراهيم إمام، مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1981م، ص (316).

([169]) ضوابط الإعلام في الشريعة الإسلامية وأنظمة المملكة العربية السعودية، يوسف محمد قاسم، ص (4). عمادة شؤون المكتبات، جامعة الرياض, 1979م.

([170]) الإعلام الإسلامي، الأصول والقواعد والأهداف، محي الدين عبد الحليم، ص (54). مؤسسة اقرأ الخيرية، 1992م.

([171]) الأسس العلمية والتطبيقية للإعلام الإسلامي، عبد الوهاب كحيل، ص (29). عالم الكتب، بيروت، ط /1، 1985م.

([172]) وظائف الإعلام الإسلامي، محمد محمد يونس، ورقة مقدمة إلى ندوة، الإعلام الدولي وقضايا العالم الإسلامي، القاهرة، نوفمبر 1998م، ص (28-29).

([173]) انظر رسالة مسؤُولية الفتوى الشرعية وضوابطها وأثرها في رشاد الأمة الدكتور، محمد فؤاد البرازي ص (37).

([174]) أخرجه البخاري (1/350، رقم 989).

([175]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([176]) أخرجه الخطيب (4/107) .

([177]) انظر الفتوى والاستفتاء في البَرَامِجِ الإعلامية المُبَاشِرَةِ، د. فريد بن عبد العزيز الزامل السُّليم، ص (3) مكتبة الرشد 1426هـ.

([178]) انظر: ضوابط الفتوى عبر الفضائيات بحث مقدم لـ (المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها)، الذي عقده المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة – المملكة العربية السعودية، (20-23/ 1/ 1430هـ) الموافق (17-20/ 1/ 2009م). تأليف: ا د / عبد الناصر أبو البصل / رئيس جامعة العلوم الإسلامية العالمية.

([179]) الفقيه والمتفقه (2/375)، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة الثانية، 1421هـ.

([180]) انظر حقيقة الإفتاء الفضائي وخصائصه، د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان، مجلة البحوث الإسلامية، العدد السابع والتسعون، الإصدار من رجب إلى شوال 1433هـ.

([181]) خطبة المسجد الحرام، 11 صفر 1430، فتاوى الفضائيات، الشيخ عبد الرحمن السديس وهي خطبه منشورة في عدد من المواقع الإلكترونية.

([182]) أخرجه البخاري (6/2676، رقم 6919)، ومسلم (3/1342، رقم 1716).

([183]) الموافقات (5/102).

([184]) حكم شرب الدخان ص (10 – 11).

([185]) انظر مقال بعنوان الفتوى الفضائية: مصطفى مهدى خميس السيد. شبكة الألوكة، على الرابط: www. alukah. net/sharia/0/20976

([186]) انظر: بحث (حقيقة الإفتاء الفضائي وخصائصه) د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان. مجلة البحوث الإسلامية: العدد السابع والتسعون – الإصدار من رجب إلى شوال 1433 هـ

([187]) مفتاح دار السعادة (2/2).

([188]) أخرجه البخاري (1/386، رقم 1099)، ومسلم (1/541، رقم 784).

([189]) انظر مبحث (الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية) للدكتور فهد بن سعد الجهني، مجلة البحوث الإسلامية ع (80) ذو القعدة إلى صفر لسنة 1427هـ 1428هـ. وانظر بحثنا، أثر الفتوى في المحافظة على الهوية الإسلامية، موجود لدى المجموعة الكاملة لبحوث الفتوى واستشراف المستقبل ص (702).

 ([190]) أخرجه الترمذي (4/574، رقم 2346) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2/1387، رقم 4141). وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (10986)

([191]) انظر بحث أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة لمعالي الشيخ، عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين، مطبوع في مجلة البحوث الإسلامية العدد الثامن والثمانون، الإصدار: من رجب إلى شوال لسنة 1430 هـ.

([192]) انظر هوية الأمة الإسلامية، محمد محمد بدري، مجلة البيان العدد (54).

 ([193])المعجم الوسيط (2/998).

 ([194])انظر كتاب دَعْوة أهل السُّنة والجمَاعة على طريق إحياء الأمَّة، عبد المجيد بن يوسف الشاذلي، ص (27).

 ([195])انظر د. سليمان العقيل، بعض مؤشرات الحفاظ على الهوية، مجلة جامعة الملك سعود، المجلد 16، (ص243).

 ([196])انظر هويتنا الإسلامية بين التحديات والانطلاق. مجلة البيان، العدد 128.

 ([197])أخرجه الحاكم في مستدركه (1/62)، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

 ([198])أخرجه البخاري (5/2238، رقم 5665)، ومسلم (4/1999، رقم 2586).

 ([199])أخرجه البخاري (2/862، رقم 2310)، ومسلم (4/1996، رقم 2580).

([200]) هويتُنا أو الهاوية: محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، ص (9)، وانظر مقال: قضية الهوية. . صراع الهويات وحقيقته بقلم: د. محمد يحيى مجلة البيان ع (103)ص (94).

 ([201])انظر هويتُنا أو الهاوية، محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ص (6).

 ([202])الموافقات ص (2/8).

 ([203])مجموع الفتاوى (11/435).

 ([204])كتاب الردود ص (15 ـ 16).

 ([205])سير أعلام النبلاء (9/100).

 ([206])انظر كتاب موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبد الرحمن المحمود (1/159).

 ([207])انظر مبحث (الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية) للدكتور: فهد بن سعد الجهني، مجلة البحوث الإسلامية ع (80) ذو القعدة إلى صفر لسنة 1427هـ 1428هـ.

 ([208]) المرجع السابق، وانظر أيضًا أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة لمعالي الشيخ: عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين (مجلة البحوث الإسلامية) (الجزء رقم: 88، الصفحة رقم: 226).

([209]) رواه البخاري (5/2392، رقم 6163)، ومسلم (1/200، رقم 221).

 ([210])مجموع الفتاوى (10/149).

([211]) انظر مجلة البحوث الإسلامية (ع/ 18، ص/ 258)

([212]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([213]) إعلام الموقعين (1/11).

([214]) لسان العرب، مادة فتى (15/145).

([215]) تفسير القرطبي (15/68)، وتفسير ابن كثير (4/3) ط عيسى الحلبي.

([216]) شرح المنتهى (3/456)، مطبعة أنصار السنة بالقاهرة، وصفة الفتوى والمستفتي لابن حمدان (ص4).

([217]) مقاييس اللغة لابن فارس، مادة: فتى (4/474).

([218]) القاموس المحيط، مادة: فتى (4/365).

([219]) إعلام الموقعين لابن القيم (1/11).

([220]) أخرجه الدارمي (1/69، رقم 157)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (147).

([221]) أخرجه الدارمي (1/53)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/163).

([222]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/164).

([223]) أدب المفتي (1/20).

([224]) أدب المفتي (1/15).

([225]) مقدمة المجموع (1/73) تكملة المطيعي وتحقيقه.

([226]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([227]) البحر المحيط (6/305).

([228]) أدب المفتي (1/21).

([229]) صفة الفتوى (ص13).

([230]) صفة الفتوى (ص4).

([231]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100)، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([232]) الموافقات للشاطبي (4/89ـ95).

([233]) شرح المنتهى (3/457)، وإعلام الموقعين (4/220)، وحاشية ابن عابدين (4/302)، وصفة الفتوى لابن حمدان ص13، والمجموع (1/75) تحقيق المطيعي.

([234]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4/302).

([235]) حاشية الدسوقي (4/130).

([236]) صفة الفتوى لابن حمدان (ص29)، والمجموع (1/41).

([237]) مجمع الأنهر (2/145).

([238]) إعلام الموقعين (4/220)، وشرح المنتهى (3/457)، وابن عابدين (4/301).

([239]) الفقيه والمتفقه للخطيب (3/168).

([240]) إعلام الموقعين (1/46).

([241]) إعلام الموقعين (1/46).

([242]) حاشية ابن عابدين (1/47)، والمجموع (1/45).

([243]) المجموع للنووي (1/42)، وإعلام الموقعين (4/220)، وصفة الفتوى لابن حمدان (ص29).

([244]) حاشية ابن عابدين والدر المختار (4/302).

([245]) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (4/139).

([246]) إعلام الموقعين (4/160، 259).

([247]) أخرجه مسلم (3/1357 ، رقم 1731).

([248]) صفة الفتوى لابن حمدان (ص60).

([249]) المستصفى للغزالي (2/124) القاهرة، المكتبة التجارية 1356هـ.

([250]) المجموع للنووي (1/54) وانظر الموافقات للشاطبي (4/261).

([251]) الموافقات (4/291)، والمجموع للنووي (1/58).

([252]) أخرجه مسلم في المقدمة (1/33).

([253]) المجموع (1/54).

([254]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (3/259).

([255]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/458)، وحاشية ابن عابدين (4/303)، وإعلام الموقعين(4/254)، والمجموع للنووي (1/56)، والبحر المحيط للزركشي (6/318، 113)، والمستصفى للغزالي (2/125)، والموافقات (4/130، 133، 262).

([256]) أخرجه أحمد (6/451، رقم 27592)، والترمذي (4/311، رقم 1900) وقال: صحيح، وابن ماجه (2/1208، رقم 3663)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7145).

([257]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/457)، والمجموع للنووي (1/57).

([258]) شرح المنتهى للبهوتي الحنبلي (3/457).

([259]) أخرجه البخاري (2/867، رقم 2325)، ومسلم (4/2054، رقم 2668).

([260]) أخرجه البخاري (2/952، رقم 2534)، ومسلم (3/1337، رقم 1713).

([261]) إعلام الموقعين (4/254).

([262]) إعلام الموقعين (1/66).

([263]) الإحكام للآمدي (4/46).

([264]) أخرجه الترمذي (3/616، رقم 1327)، وضعفه الألباني.

([265]) إعلام الموقعين (1/67 وما بعدها، و79، 85).

([266]) أخرجه أحمد (1/233، رقم 2069)، والترمذي (5/199، رقم 2950)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الكبرى (5/31، رقم 8085) .

([267]) إعلام الموقعين (1/69).

([268]) إعلام الموقعين (1/69ـ74).

([269]) أخرجه أحمد (3/452، رقم 15784)، الترمذي (4/426، رقم 2110)، وأبو داود (3/ 130، رقم 2927)، وابن ماجه (2/883، رقم 2642)، وصححه الألباني في سنن أبي داود.

([270]) رواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (17706)، وانظر تعليق الألباني عليه في تمام المنة، (ص40).

([271]) أخرجه البخاري (1/113، رقم 289).

([272]) انظر اختلاف الحديث. للشافعي ص91.

([273]) أخرجه أحمد (5/115، رقم 21138)، وأبو داود (1/55، رقم 214)، والترمذي (1/183، رقم 110)، وابن ماجه (1/200، رقم 609)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/55) رقم (215).

([274]) أخرجه مسلم (4/2060، رقم 2674).

([275]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/353).

([276]) المرجع السابق (2/355).

([277]) المرجع السابق (2/344).

([278]) الفقيه والمتفقه (ص307، 308).

([279]) أخرجه أبو داود (1/93، رقم 336)، وابن ماجه (1/190، رقم 572)، وحسنه الألباني.

([280]) إعلام الموقعين (2/292).

([281]) إعلام الموقعين (2/292).

([282]) الفقيه والمتفقه (2/330، 331).

([283]) أخرجه الدارمي (1/186، رقم 166).

([284]) أخرجه البخاري (1/434، رقم 1229)، ومسلم (1/10، رقم 4).

([285]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([286]) أخرجه أبو داود (3/321، رقم 3657)، وابن ماجه (1/20، رقم 53)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (6068).

([287]) نقله ابن حمدان (ص32).

([288]) الفقهاء يحذفون الصلة تخفيفًا لكثرة الاستعمال ويقولون: محجور، وهو سائغ. المصباح المنير.

([289]) القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح المنير، وتبيين الحقائق (5/190).

([290]) التعريفات (1/26).

([291]) رواه الدار قطني برقم (4551)، وصوب عبد الحق الإشبيلي إرساله كما في التلخيص، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (ج5 رقم 1439).

([292]) ابن عابدين (5/93).

([293]) إعلام الموقعين (4/211).

([294]) أخرجه أحمد (1/87، رقم 660)، وأبو داود (2/227، رقم 2076)، والترمذي (3/427، رقم 1119)، وابن ماجه (1/622، رقم 1935)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (ج6 رقم1897).

([295]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (11/329).

([296]) رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/301).

([297]) إعلام الموقعين (3/151).

([298]) إعلام الموقعين (3/151).

([299]) إعلام الموقعين (3/153).

([300]) إعلام الموقعين (2/298).

([301]) أخرجه البخاري (1/50، رقم 100) ، ومسلم (4/2058، رقم 2673).

([302]) أخرجه البخاري (1/52، رقم 109) .

([303]) إعلام الموقعين (2/299، 300).

([304]) إعلام الموقعين (2/302).

([305]) ابن عابدين في (الحاشية) (1/63).

([306]) ابن عابدين في (حاشيته على البحر الرائق) (6/293).

([307]) الفلاني في الإيقاظ، (ص50).

([308]) جامع بيان العلم وفضله (2/32).

([309]) صفة الصلاة للألباني، (ص49).

([310]) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص31، 32.

([311]) أخرجه الحاكم بسنده المتصل إلى الشافعي كما في تاريخ دمشق لابن عساكر (15/1 /3)، وإعلام الموقعين (2/363، 364)، والإيقاظ ص100.

([312]) الفلاني، (ص 68).

([313]) النووي في المجموع (1/63).

([314]) النووي في المجموع (1/63).

([315]) الخطيب في الاحتجاج بالشافعي (8/1).

([316]) أبو نعيم في الحلية (9/107).

([317]) أخرجه ابن عساكر بسند صحيح (15/10/1).

([318]) أخرجه ابن عساكر بسند صحيح (15/9/2).

([319]) أخرجه ابن أبي حاتم (93، 94).

([320]) إعلام الموقعين (2/302).

([321]) مسائل الإمام أحمد، ص (276، 277).

([322]) جامع العلم وفضله (2/149).

([323]) ابن الجوزي في المناقب، (ص 182).

([324]) إعلام الموقعين (ج/ 305، 306، 345).

([325]) أخرجه أبو داود (1/93، رقم 336)، وابن ماجه (1/190، رقم 572)، وحسنه الألباني.

([326]) أخرجه أحمد (4/228، رقم 18035).

([327]) تذكرة الحفاظ (1/185).

([328]) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 74).

([329]) سير أعلام النبلاء ( 4/294).

([330]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/79)، وابن عساكر (50/254).

([331]) صفة الصفوة (1/ 425).

([332]) صفة الصفوة (2/ 273).

([333]) المجموع شرح المهذب (1/ 19)

([334]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص 11).