خطبة بعنوان: (مشاهداتي في حج 1437هـ) بتاريخ: 15 /12/ 1437هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: الآية 102).
عباد الله : ما أسرعَ مُضيِّ الأيام، وانقضاء الساعات والأعوام، فقبل أيام يسيرة كنَّا نعدُ الأيام والليالي، ونحسب الدقائق والثواني، نترقب قدوم شهر ذي الحجة، يترقبه الحجاج وينتظرونه بفارغ الصبر من أجل أن يؤدوا فريضة الحج، بل ويترقبه المسلمون في كل مكان؛ ليعمروه بطاعة الله -عز وجل- يترقبون أعظم أيام الدنيا، يوم عرفة أو النحر.
يريدون فيه القرب من الكريم الرحمن، ويريدون مغفرة الذنوب والعتق من النيران. جاءت أيام الحج فقضى الحجاج عبادةً من أعظم العبادات، وقُربةً من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيط عند الميقات، وهلت دموع التوبة في صعيد عرفات على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجت بالافتقار إلى الله كل الأصوات بجميع اللغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفة للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلة من أروع الرحلات، عاد الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58]، خير من الدنيا وأعراضها وأغراضها التي ما هي إلا طيف خيال، مصيره الزوال والارتحال، فهنيئًا للحجاج حجُهم، وللعُبَّاد عبادتهم واجتهادهم، وهنيئًا لهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )(رواه البخاري ومسلم).
أيها المسلمون: ما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والوقار الأرصن، والشيم المرضية، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن يعود الحاج حسن المعاملة لجلسائه، كريم المعاشرة لأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خيرٌ من المظهر، والخافي أجمل من البادي، وإنَّ من يعود بعد الحج بتلك الصفات الجميلة هو حقًا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.
أيها المسلمون: إن رحلة الحج هي رحلةُ ميلادٍ جديد للإنسان تجدِّد في حياته كلَّ شيء، تقوِّي أواصرَ المحبة ، تبني في الإنسان معانياً عظيمة من ذلك : التعلقُ بالله، عظمةُ الدين الإسلامي ، وحدةُ المسلمين ، البشارةُ بنصر الإسلام … إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يتعلمها الإنسان من مدرسة الحج، و قد تفضل عليَّ المولى الكريم بالحج هذا العام، عام 1437هـ فكانت لي بعض المشاهدات و الوقفات ومنها :
أولاً: مشهد الحجاج وقد أتوا من كل فجٍّ عميق على اختلاف أجناسهم وألوانهم وتباين لغاتهم ولهجاتهم، الأعمار متفاوتة، والألوان متغايرة، كلهم بذل الغالي والنفيس، وتحمل المشاق العظيمة للوصول إلى البيت العتيق، وأداء هذا المنسك العظيم استجابةً لنداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ..}(الحج: الآيتان 26، 27). نداؤهم واحد، ولباسهم واحد، وشعارهم واحد، لا الأنساب تفرق بينهم، ولا الأجناس ولا اللغات، ولا البلدان، يدعون رباً واحداً، ويؤدون نسكاً واحداً، فسبحان من جمعهم، وشرح صدورهم، ووفقهم لأداء هذه الشعيرة العظيمة.
ثانياً: تنامي العملِ الدعوي في الحج وحرصِ جميع العلماء والدعاة على المشاركةِ الفاعلةِ في حملات الحج بترتيبٍ وتنسيقٍ من التوعية الإسلامية في العمرة والحج التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية والمساجد والدعوة والإرشاد حتى إن حملات الحج تتسابق في التنسيق مع العلماء والدعاة .
ولذا نجد أن المخيمات تقوم بتنفيذ برامج دعوية متنوعة : [دروس ومحاضرات ـ لوحات تعليمية ـ رسائل و كتيبات . إلى غير ذلك].
ولقد أحدثت هذه البرامج تغيّراً كبيراً في حياة كثير من الناس تعلموا من خلالها الحج على منهاج النبوة ، وكانت سبباً في عودة كثير من الناس إلى الله عز وجل .
لقد حققت هذه البرامج في الغالب الهدف من منسك الحج والمعنى الحقيقي له فتسابق الناس على تحقيقه وأعادوا برمجة حياتهم من جديد .
إنَّ الهدف هو الفوز بجنة الله فـ ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )(متفق عليه). الهدف أن يولد الحاج من جديد فيتخلص من رق الذنوب و الآثام، فلا رفث ولا فسوق (من
حج فلم يرفث ولم يفسق عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(رواه البخاري ومسلم).
إن من تخلص من ركام الذنوب والمعاصي في هذه الرحلة المباركة ما كان له أن يعاود العصيان بعد ذلك وبالتالي فقد كانت رحلة الحج لكثير من الناس نقطةَ البدايةِ للتوبة إلى الله والميلادِ الجديد كلُّ ذلك بتوفيق الله وفضله ثم بفضل تلك البرامج الدعوية المباركة .
ثالثاً: ومن مشاهداتي في الحج إقبالُ المرأة المسلمة على الله عز وجل، فمن يلحظ كثرة عدد النساء في مناسك الحج من شتى بقاع الأرض يعلم علم اليقين أن المرأة المسلمة قد عادت إلى ربها، وأن محاولات الأعداء في صدها عن دينها وسترِها وعفافِها وحيائِها وقيمِها وأخلاقِها, كل تلك المحاولات قد باءت بالفشل بإذن الله جل وعلا، عادت المرأة إلى ربها من جديد، عادت ولكن بعلمٍ ووعيٍ وعبادةٍ وخشيةٍ ودعوةٍ إلى الله عز وجل .
رابعاً: ومن مشاهداتي في حج هذا العام: ما رأيته من رجال الأمن البواسل الذين هم أشداء في الحروب وحماية الوطن، وفي نفس الوقت رحماء في المواقف الإنسانية التي أظهروها في موسم حج هذا العام وغيره من المواسم الماضية.
لقد رأيت بأم عيني بعض مواقفهم الإنسانية وأداءهم لمهامهم في تنظيم أفواج الحجيج ومراقبتهم ومساعدتهم، و كان لذلك صدى كبير بين أوساط أفراد المجتمع.
هذه المواقف الإنسانية من الجندي وغيره من رجال الأمن تمثل نموذجاً واضحًا للقيم الأخلاقية التي ينشأ عليها أبناء هذه البلاد، سواءٌ من خلال مناهج التعليم التي تعلموها أو هوية المجتمع وعاداته دون تكلفٍ أو فرضٍ أو إكراهٍ.
إن أبناء الوطن بصفة عامة ورجال الأمن بصفة خاصة حينما يطبقون هذه المواقف الإنسانية في عملهم لا يرجون إلا الله ، وهذا بيان للناس جميعا عن طبيعة وسلوك المواطن السعودي السوي الذي يتمسك بدينه ووطنيته، وينعكس عليه ذلك سلوكاً وأخلاقاً، وسيظل جنود بلادنا بإذن الله يخدمون زوَّار بيته المعظم، يحفظون حرمةَ البيت وأمنَه ويقرنون ذلك بأدبٍ جمٍّ وتعاملٍ حضاريٍ أخلاقيٍ كبير، يقربهم إلى ربهم تبارك وتعالى، ويكون فيه طاعةٌ لولاة أمرهم الذين سخروا كل إمكانات الدولة لخدمة هؤلاء الحجيج وحفظ الأمنِ والسكينةِ والراحةِ لمن قصد هذا البيت الحرام وهذه الديار المقدسة. وإني لأرجو أن يكون للمسؤولين في بلادنا بدءًا من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وسمو ولي ولي عهده إلى أصغر مسؤول من مدني وعسكري من رجال الأمن أجر كل حاجٍ ومعتمرٍ أدى حجه بيسر وسهولة دون تعب أو عناء.
خامساً: ومن مشاهداتي في حج هذا العام إقبال العباد على الله و خاصة الشباب، فالمتأمل لحال الناس في منسك الحج يلحظ الإقبال على الله. فالناس ما بين داعٍ و ملبٍ و مكبرٍ وتالٍ للقرآن و مبتهلٍ وللهِ قائمٍ بليل , جوٌ إيمانيٌ عجيب، و المفرح جداً أن شريحة كبيرة من تلك الجموع هم من الشباب خاصة من شتى بقاع الأرض فلله الحمد و المنة .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن التقوى هي زادكم في هذه الدنيا للدار الآخرة، فاحرصوا على الطاعة والعبادة، واختموا أعمالكم بالصالحات لتفوزوا يوم العرض على الله.
سابعاً: عباد الله: ومن المشاهدات التي أثّرت في نفوس الحجيج كثرةُ البذلِ والإنفاقِ في سبيل الله كما رأينا، ويتمثل ذلك في هدايا خادم الحرمين الشريفين لحجاج بيت الله الحرام، كما حرص بعضُ المحسنين ممن فتح الله عليهم بالمال وأغناهم به يشترون الوجبات ويوزعون الصدقات المتمثلة في المطعومات والمشروبات، وألسنةُ الحجاج تلهج لهم بالدعاء بالبركة في المال والرزق.
ثامناً: ومن المشاهد تلك الجهود المباركة لوزارة الشؤون الإسلامية في انتشار أكشاك الوعظ والتوجيه وتيسير الفتوى عن طريق الهاتف المجاني الذي يتم الاتصال عن طريقه من جميع أنحاء العالم، فيجد السائل الجواب الشافي لمسألته بكل يسر وسهولة.
عباد الله: لعل نجاح حج هذا العام جاء بعد توفيق الله وفضله، ثم نتيجة جهودٍ كبيرةٍ بذلتها جميعُ الجهاتِ المختصةِ لخدمةِ الحجيج، وهم ينفذون توجيهاتِ قيادةِ هذه البلاد في جعل خدمة ضيوف الرحمن أهم المهمات، فبلادنا تتشرف بذلك ولله الحمد والمنة.
تلكم بعض المشاهدات و غيرها الكثير والكثير آثرت تركها لفرصة أخرى سائلاً الله جل
وعلا أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يعجل لأمة الإسلام نصرَها و وحدتَها وتمكينَها إنه سميع قريب مجيب .
كما أسأله سبحانه أن يتفضل على الحجاج بقبول حجهم وسعيهم، وأن يكتب الحج لمن يحج هذا العام.
اللهم إنا نسألك أن تتم الأمن والأمان على بلادنا وبلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بكيد اجعل كيده في نحره ورد تدبيره إليه.
ولقد تم الحج بأمن وأمان وسلامة وإسلام، فنحمد الله ونشكره، ولم يوجد فيه ما يكدر الصفو وهذا بفضل الله وتوفيقه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 14-12-1437هـ