الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
عباد الله: آياتُ الله تعالى في خلقه عجيبة، وسننُه في عباده كثيرة، وهذه الآياتُ والسننُ ثابتةٌ لا تتبدلُ ولا تتغير، لا يملك البشرُ لها دفعاً ولا رفعاً، ولا يجدون منها ملجئًا ولا مفرا، {سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. ومن تلك الآياتِ والسننِ التي قدَّرها الله جلَّ وعلا على البشرية ـ منذ خلق آدم عليه الصلاة السلام وحتى قيام الساعة ـ سنَّةُ التدافع.
وهي ماضيةٌ وقائمةٌ بين الحق والباطل ما دامت السموات والأرض، فالباطل له رجال يقومون به، وكذا الحقُّ له رجال يدافعون عنه، ويقدِّمون الغالي والنفيس في سبيل نصرته وإعلاءِ كلمتهِ.
ومن آثار هذه السنةِ الربانيةِ العظيمةِ أنها حقٌ قائمٌ ومستمرٌ لإصلاح ما فسد من حياة البشر وعقائدِهم وأفكارِهم وعباداتِهم وأخلاقِهم، وهي دليلٌ على جريانِ سنةِ الابتلاءِ فيهم واستمرارِها إلى آخر الزمان.
وبهذه السنةِ أيضاً يُسخِّرُ اللهُ تعالى المؤمنين للدفاع عن دينه، والذودِ عن حياضِه مسترخصين أرواحَهم وأموالَهم ابتغاءَ رضوانِ الله تعالى.
وبهذه السُّنَّة يُبتلى المؤمنون الصادقون بالكفار والمنافقين بباطلهم وحججِهم وشبهاتِهم، فينبري لهم العلماءُ الصادقون والدعاةُ المخلصون، لدحض باطلهم، وكسرِ حججهم، وإزالةِ شبهاتهم.
وبهذه السُّنَّة يقومُ المحتسبون بإزالةِ المنكرات والأخذ على أيدي السفهاء.
وبهذه السُّنَّة يسعى أهلُ الحق في إقامةِ شرعِ اللهِ وتحكيمِه في الناس، ومقاومةِ كل قانونٍ وضعيٍ يخالفه.
وبهذه السُّنَّة يرفعُ الله تعالى العذابَ العامَ عن البشرية، فلولا دفعُ الله تعالى بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرضُ بمن فيها.
عباد الله: إن بلادنا ــ المملكة العربية السعودية ــ محسودةٌ بما حباها الله جلَّ وعلا من نعم كثيرة لا تعد ولا تحصى, ومن ذلك: تحكيمُ شرع الله، واجتماعُ الكلمة، وتوحدُ الصف، وطاعةُ ولاة الأمر والعلماء، ورغدُ العيش، ونصرةُ الإسلام والمسلمين، ورعايةُ الحرمين الشريفين، وخدمةُ الحجاج والمعتمرين، ونشرُ الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن أجل ذلك وغيره خطَّط أعداءُ الملةِ للاعتداء عليها، وزعزةِ أمنها، وتفريقِ صفها، وإخافةِ أهلهِا، واحتلالِ أرضها، ولكن الله جلَّ وعلا بفضله وكرمه أفشل مخططاتِهم، ورد كيدهم ومكرهم في نحورهم، فوفق جنودنا الأشاوس الأبطال فرابطوا على الحدود، ووقفوا حائط صد ضد تلك الاعتداءات الغاشمةِ الظالمةِ للدفاع عن الدينِ والأنفسِ والأعراضِ والأموالِ والوطنِ؛ فلله درهم في رباطِهم وجهادِهم وصمودِهم محتسبين راجين ما عند الله.
أيها المؤمنون: لقد قمت بزيارة لهؤلاء المرابطين في الحد الجنوبي خلال الأيام الماضية، ورأيت منهم ما سرني كثيراً، رأيتهم أبطالاً كالأسود في وقت المواجهات والحروب، وعيوناً ساهرة على الحدود والثغور ، قوةٌ قاهرةٌ ـ بتوفيق الله ـ لكل ظالم غاشم، وصخرةٌ قويةٌ في وجه كل معتدٍ آثمٍ، تركوا أهليهم وأولادَهم لحمايةِ ثغور هذه البلاد.
وهم في نفس الوقت يقومون بدفع فئةٍ ضالةٍ باغيةٍ فاسدةِ المعتقدِ تسلطتْ على إخواننا في اليمن، وتطاولتَ على حدودِنا وبلادِنا، فقاموا بهمةٍ ونشاطٍ وعزيمةٍ صادقةٍ، استجابة لأمر الله جل وعلا ثم أمرِ ولي الأمر بالذود عن حياض الإسلام، وحفظِ بيضةِ المسلمين وحمايةِ الحرمين الشريفين وباقي الديار من هذا العبث المهين، وأظافرِ الشرِّ العقيم، فجاءت تلك العاصفةُ ـ عاصفة الحزم والعزم ـ التي أعادت الأمور إلى نصابِها، ووقفتْ بالمرصادِ أمامَ عدوِّها.
عباد الله: إن هؤلاء الجنودَ وحرسَ الحدود في جهاد ورباط؛ وقتالُهم ليس حميةً ولا عصبيةً، ولا طلباً لحظوظ النفس والدنيا، بل نيتُهُم خالصة، وعزيمتُهم قوية صادقة، وصفهم متوحد، ونصرُهم بإذن الله متحقق ولو بعد حين، فقد وعد الله جل وعلا عباده المؤمنين بالنصر المؤزر والتمكين، ما أقاموا شرعه في أرضه، وأطاعوه في أمره ونهيه.
وأقول لهؤلاء المرابطين على الثغور: ليعلموا أنهم على خير وعلى أجر، ورباطهم في سبيل الله؛ فهنيئاً لهم هذه البشارة الطيبة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(رواه الترمذي). وإني لأرجو أن يتحقق لهم الأمران كلاهما؛ عينٌ تبكي من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله.
وهنيئاً لهم قول الحبيب صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)(رواه البخاري ومسلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم:(رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان)(رواه مسلم).
وليعلموا أنهم يدافعون عن المقدسات والأعراض والديار، ويؤمِّنون الراكعين الساجدين في مساجدهم، والطلاب والطالبات في مدارسهم، والشيوخ الركع والنساء والأطفال الرضع؛ فهنيئاً لهم هذا الرباط وهنيئاً لهم تلك الطاعة.
وهم أيضاً يلبون دعوة ولي أمرهم ـ خادم الحرمين الشريفين ـ للدفاع عن المقدسات والديار، وتلبون نجدة إخوانهم الذين ابتلوا في دينهم وفي الاعتداء على ديارهم؛ فهنيئاً لهم ثم هنيئاً لهم جهادهم وبذلهم وعطائهم، وثوابهم وأجرهم عند رب عظيم كريم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني)(رواه البخاري). ونحن عندما نرى رباطهم، وصبرهم، وكفاحهم، وتوحد صفهم، وقوة إيمانهم، واعتمادهم على ربهم سبحانه وتعالى فهذا يسرنا كثيراً ويؤكد قرب موعود الله جل وعلا القائل في كتابه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد: 7، 8].
وأقول للجميع لكل من يقيم على ثرى هذه الأرض الطيبة ـ بلاد الحرمين الشريفين ـ حرسها الله: إن إخوانكم المرابطين على الحدود لهم حق عظيم عليكم؛ فهم يحتاجون لمساندتكم ومؤازرتكم ودعائكم، وأن تخلفوهم في أهليهم وذرياتهم بالرعاية وقضاء حاجاتهم، لتزداد معنوياتهم، ويستمر ثباتهم، ويعودوا إن شاء الله تعالى ظافرين بإحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة. أسأل الله لهؤلاء الأبطال الثبات والنصر، ولجرحاهم الشفاء والمعافاة، ولمن مات منهم الشهادة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169ـ 171].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على فضلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجِه إلى يومِ الدِّين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله جل وعلا، واحمدوه واشكروه على ما تحقق من خير وفضل، فقد تمكن رجال أمننا البواسل بفضل الله تعالى وعونه خلال الأيام الماضية من رصد أماكن تواجد اثنين من أصحاب الفكر الضال، وقاموا بتطويق موقعهما مع توجيه نداءات تحذيرية لهما بتسليم أنفسهما وعدم إطلاق النار، إلا أنهما رفضا الاستجابة وبادرا بإطلاق النار بشكل كثيف على رجال الأمن لمحاولة الهرب، مما استوجب التعامل معهما بالمثل، فتم إطلاق النار عليهما، وتحييد خطرهما حيث أنهما كانا يرتديان حزامين ناسفين كانا على وشك استخدامهما. فنتج عن ذلك مقتلهما وإصابة أحد رجال الأمن بإصابة طفيفة نُقل على أثرها للمستشفى وحالته بفضل الله مستقرة، فيما لم يصب أحد من الساكنين أو المارة بأي أَذى.
وقد أعلنت وزارة الداخلية أن أحدهما يعد خبيراً يعتمد عليه تنظيم “داعش” في تصنيع الأحزمة الناسفة والعبوات المتفجرة وتجهيز الانتحاريين بها وتدريبهم عليها لتنفيذ عملياتهم والتي كان من ضمنها عملية استهداف المصلين بمسجد قوة الطوارئ بعسير، والعمليتان اللتان جرى إحباطهما، الأولى في المواقف التابعة لمستشفى سليمان فقيه، والثانية التي استهدف فيها ساحة المسجد النبوي.
أسأل الله تعالى أن يحفظ رجال أمننا من كل سوء ومكروه، وأن يوفقهم لما فيه حفظ البلاد والعباد من شر الأشرار ومكر الفجار، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا واجتماع كلمتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 15 / 4 /1438هـ