خطبة بعنوان: (مع الآيات الخمس في سورة النساء 31، 40، 48، 64، 110) بتاريخ: 20-10-1438هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر به بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداّ عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: حق التقوى، واشكروه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).

عباد الله: لقد تبوأت سورة النساء مكانة سامقة، ومنزلة رفيعة بين سور القرآن الكريم، وهي من طوال السور، وترتيبها الرابع في المصحف العثماني، وآياتها ست وسبعون ومائة آية، وهي سورة مدنية بالإجماع؛ ولهذه السورة فضائل عديدة ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي)، قلت يا رسول الله: أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: (نعم)، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً..} (النساء:41)، قال:(حسبك الآن) فالتفتُ إليه، فإذا عيناه تذرفان. وما رواه البخاري عن عائشة رضي عنها، قالت: “وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده”، ولا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بعائشة في المدينة.

ومن فضائلها أيضاً ما ورد عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “إِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، لَخَمْسَ آيَاتٍ، مَا يَسُرُّنِي، أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: آية 40)، و{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}(النساء: آية 31) ، الآيَةَ و{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء: آية 48)، و{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء: آية 64)، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَمَا أَظُنُّ الْخَامِسَةَ و{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا}(النساء: آية 110)”(رواه الحاكم وصححه، والذهبي، والطبراني، والبيهقي، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح).

ومع هذا الأثر العظيم، والكلام البديع، لنا وقفات حول هذا الأثر من خلال هذه الآيات التي شغف بها ابن مسعود، وفرح بها قلبه، وسعد بها لبه، وأقسم أنها أحب إليه من الدنيا وما فيها، لكونها آيات تتدفق بالعطف، وتفيض بالرحمة، وتعلن عن الكرم الرباني، فتملأ الأفئدة رضا، والأنفس أملاً، والقلوب رجاءً.

* ففي الآية الأولى يقول جل وعلا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)(النساء:40). في هذه الآية يبين الله تعالى أنه لا يظلم عباده يوم القيامة، ولا حتى مثقال ذرة، ولا حبة من خردل، كما في قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ}(الأنبياء:47)، فإن كانت حسنة يوفيها ويضاعفها، وإن كانت سيئة فلا يجازي إلا بمثلهـــا، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزلزلة:7 ـ 8).

وروى البخاري ومسلم في حديث الشفاعة الطويل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (..ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا “، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا})، فسبحانه ما أرحمه وما أعظمه وما أعدله وما أحكمه من إله.

* وأما الآية الثانية يقول تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}، يبين تعالى أنه إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها نكفر عنكم صغائر الذنوب، وندخلكم الجنة. وهذا من عظم كَرَمِ الله جل وعلا الذي امتن به على عباده بهذا الفضل العظيم. وقد فسَّر ابن عباس رضي الله عنهما معنى الكبائر في هذه الآية بقوله:” الْكَبَائِرُ كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللهُ بِنَارٍ، أَوْ غَضِبٍ، أَوْ عَذَابٍ، أَوْ لَعْنَةٍ”.

وعن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما قالا: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: “والذي نفسي بيده!” ــ ثلاث مرات ــ ثم أكبَّ، فأكبَّ كلُّ رجل منا يبكي لا ندري على ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحبَّ إلينا من حمر النعم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويُخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له ادخل بسلام)(رواه النسائي). ومن سعة رحمة الله تعالى، وجميل عفوه، وعظيم مغفرته، أن من أذنب ذنباً سواء كان صغيراً أو كبيراً، ثم استغفر الله، غفر له، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، يقول تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء:110).

وعن معاوية بن قرة، قال: أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا قال: لَمْ أَرَ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ رَبِّنَا، لَمْ نَخْرُجْ لَهُ مِنْ كُلِّ أَهْلٍ وَمَالٍ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْهَةً وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّفَنَا رَبُّنَا أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ تَجَاوَزَ لَنَا عَمَّا دُونَ الْكَبَائِرِ، فَمَا لَنَا وَلَهَا ثُمَّ تَلَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}(النساء:31). فمن أعرض عن الكبائر، وحفظ نفسه منها، فقد ضمن الله له غفران زلاته، وتكفير سيئاته.

* وأما الآية الثالثة يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(النساء:48)، فيبين تعالى أن الشرك من أعظم الذنوب، وقد نهى عنه في كثير من الآيات، وحذّر منه تحذيراً شديداً، وتوعد عليه الحرمان من الجنة وسكنى دار البوار، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}(المائدة:72)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشرك أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب؛ فمن أشرك بالله تعالى لا يُقبَل له عمل، ولا يُقَام له وزن، ولا تنفعه طاعة، ولا تقرِّبه حسنة؛ وأن التوحيد هو السبب الأول لنيل مغفرة المولى ورضوانه، والفوز بنعيمه وجنانه، ومَن جاء به فقد جاء بأعظم أسباب المغفرة، ولو كان محملاً بملء الأرض خطايا، ومن عُذِّبَ مِن الموحِّدين فإنه لا يخلد في النار.

بسم الله الرحمن الرحيم{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(العصر).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا أيها المؤمنون والمؤمنات اتقوا الله تعالى: واعلموا أن سعادة المرء واطمئنان قلبه لا يكونان إلا بتقواه والعمل بما يرضيه.

عباد الله: وفي الآية الرابعة التي ذكرها ابن مسعود رضي الله عنه يقول الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء: آية 64)، يخبر سبحانه وتعالى عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} أي: معترفين بذنوبهم، {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها. فلو أن هؤلاء المنافقين الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله  صدوا عن كتاب الله وسنة رسوله , وظلموا أنفسهم باكتسابهم الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت، ثم جاءوك يا محمد  تائبين منيبين, فسألوا الله أن يصفح عنهم فيما وقعوا فيه, وسأل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(النساء: 64).

* وفي قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا}(النساء: آية 110)، أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاماً يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة. فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلاً عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه. عباد الله: إن ما مر معنا من خلال هذا الأثر العظيم لابن مسعود رضي الله عنه يقودنا إلى أهمية تدبر القرآن والتأثر به وحسن العمل بما فيه، كما قال تعالى:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، ويدل أيضاً على حسن تدبر ابن مسعود وعنايته وجمعه لهذه الآيات المتفرقة والتي جمع بينها في الغالب رابط واحد ألا وهو سعة رحمة الله تعالى.

أسأل الله تعالى أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يتغمدنا بواسع رحمته.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
20 / 10 / 1438هـ