خطبة بعنوان: (عبودية السراء: الشكر) جامع الملك عبدالله بالأفلاج – بتاريخ: 16-1- 1428هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

الخطبة الأولي :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله عليه، وآله وصحبِه وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعدُ: أيها المؤمنون والمؤمنات اتقوا الله جل وعلا حق التقوى، يقول ربكم جل وعلا مخاطباً الذين آمنوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

عبادَ اللهِ: عبودية السراء، عبودية الشكر، عبودية بالجنان، واللسان، والجوارح، وقد أثنى الله جل وعلا على عباده الشاكرين، قال ربنا جل وعلا {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} . وأثنى على عبده ورسوله نوحٍ عليه الصلاة والسلام، أثنى عليه فأخبر أنه:{كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ، وأثنى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأخبر أنه:{ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ }.

فالشكر عبادة ينبغي أن تظهر في كل حين، ولا سيما في وقت الفتن والأزمات، ينبغي أن يظهر العبد شكره لله جل وعلا. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “الشكر نصف الإيمان”.

أيها المؤمنون: ورسولنا صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بأن يكثروا من شكر الله جل وعلا وذكره، فقال صلى الله عليه وسلم في وصيته الجامعة لمعاذ: (لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)(رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود).

أخي المبارك: وأنت تسمعُ الآن أخبار البلاد هنا وهناك، وتنظرُ إلى واقع المسلمين اليوم، ذلك الواقع المر ينبغي عليك أن تشكر نعمة الله جل وعلا، فغني شاكر خير من فقيرٍ صابر.

رُوي أن بكرَ المزني رأى حمالاً يسمعه يقول: الحمد لله، أستغفر الله، ويردد ذلك كثيراً، والمتاع على ظهره، فيتبعه بكر حتى أنزل ما على ظهره فقال له: ألا تحسن غير ذلك؟ فقال بلى: أقرأ كتاب الله، وأحسن خيراً كثيراً، ولكن العبد بين نعمةٍ وذنب. فأنا أحمدُ الله على النعمة، واستغفرهُ من الذنب. فقال بكرٌ: الحمالُ أفقهُ منك يا بكر.

وقد جاء في الصحيح أن رجلا بلغ به العطش أعظم مبلغ، فوجد بئرا فنزل فيها وشرب، فلما خرج وجد كلباً يأكلُ الثرى من شدة العطش، فقال: لقد بلغ بهذا الكلب ما بلغ بي، فنزل البئر وسقى الكلب، أخذ بخفه ماء وأمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً مر بطريق فوجد غصن شوكٍ فأزاحه عن الطريق، فشكر الله له فغفر له.

أخي المبارك: احرص على عبادة الشكر، احرص عليها، في السراء والضراء، لتكن في قلبك وعلى لسانك، وليظهر أثرها على جوارحك، فقليل من عباد الله الشكور.

كم من الناس ييأسونَ في وقتِ الأزمات، ويتحدثونَ عن الطوام، ولكنهم ينسونَ فضلَ الله جل وعلا عليهم، ألم يقول رسولنا الله صلى الله عليه: (منَ أصَبْحَ منِكْمُ آمنِاً فيِ سرِبْهِ ، معُاَفىً فيِ جسَدَهِ ، عنِدْهَ قوُت يوَمْهِ ، فكَأَنََّماَ حيِزتَ لهَ الدُّنيْاَ)(رواه البخاري في “الأدب المفرد” ، والترمذي، وحسنه الألباني).

أين الشكر على نعمة الأمن والأمان والطمأنينة؟ أين الشكر على نعمة الاجتماع والألفة والمحبة؟ أين الشكر على نعمة الصحة والمعافاة؟ أين الشكر على نعمة رغد العيش والأرزاق؟ أين الشكر على أداءك العبادات على أتم وجه وأكمله.

أظهر الشكر يا عبد الله من أجل أن تتقلب بين النعمتين، بين نعمة العافية والصحة وشكر هذه النعم.

ولهذا مما يعنيك على شكر نعم الله جل وعلا، عليك أن تتذكر أن الذي أنعم عليك بهذه النعم لم يعطكَ إياها لنسبك ولا لحسبك ولا لفضلك، وقد حُرمها أقوامٌ آخرون، وإنما هي فضلٌ ومنة من الله جل وعلا.

ومما يعينُك على الشكر أيضاً أن تتذكر من هو دونك، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)(رواه مسلم).

ومما يعنيك يا عبد الله على الشكر أن تستغلَ هذهِ النعم التي أنعم الله جل وعلا بها عليك، أن تستغلها بطاعته، فقد ألبسك الصحةَ والعافيةَ والأمنَ والأمان من أجل أن تعبد الله جل وعلا، وصدق الله العظيم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون}.

وأيضاً مما يعينك على الشكر أن تحرص على حفظ النعمة وألا يظهر الإسراف عليك وكسر قلوب من حُرموا هذه النعمة، ألم تسمع قول حبيبك صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك )(رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع).

فهنا إذا استغل المسلم هذه النعم التي أنعم الله جل وعلا بها عليه حريٌ أن يكون من عباد الله الشاكرين. وصدق الله العظيم{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد}.

بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

أيها المؤمنون: ونحن في بيت من بيوت الله، يرفع فيه ذكره، وتتلى فيه آياته، نحمد الله جل وعلا على نعمة الصحة والعافية، وقد جئنا على أقدامنا إلى المسجد، ونحمد الله جل وعلا على نعمة الأمن والأمان، ونحمد الله جل وعلا على نعمة رغد العيش، ونحمد الله جل وعلا الذي جعلنا من أمة الإسلام، مهتدين، متحابين، متعاونين، يألف بعضنا بعضا.

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة على أصحابه وهم في حجر الكعبة يتحدثون. فقال من القوم؟ قالوا: مؤمنون، قال صلى الله عليه وسلم: وما علامة إيمانكم؟ قالوا: نشكر عند النعماء، ونصبر على البلاء، ونرضى بمر القضاء. فقال: مؤمنون ورب الكعبة (رواه الطبراني في الأوسط).

وقال صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ثلاثة نفر من بني إسرائيل، قال:(إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ ـ شَكَّ إِسْحَقُ ـ إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ أَوْ الْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ قَالَ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. قَالَ فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. قَالَ فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا. قَالَ فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الْإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْغَنَمِ. قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي. فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)(رواه مسلم).

أخي المبارك: احرص على حفظ نعمة الله عليك، واشكره عليها، واعلم أن من شكره أن تنفقها على نفسك وأهلك، وأن تبذل منها ما فضل عن حاجتك، وأن تحقق ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في تشبيه المؤمنين:( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(رواه مسلم). وقال صلى الله عيه وسلم:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)(رواه البخاري ومسلم).

فاحرص على إعانة إخوانك، ومد لهم يد العون، ولا سيما عند الحاجة، فكم في المجتمع من مكروب ومكلوم ومحتاج، فاحرص أن يكون لك صدقة في السراء، من أجل أن تجدها نوراً في قبرك، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)(رواه البخاري ومسلم).

أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لشكر نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يعيننا على ذلك، وأن يزيدنا من نعمه علينا.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 16 /1 /1428هـ