خطبة بعنوان: (وقفات وتأملات في سورة الإنسان) بتاريخ: 14-4-1440هـ

الأربعاء 8 جمادى الآخرة 1440هـ 13-2-2019م

الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فَلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عباد الله:
وردَ في الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ قال: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)، فينبغي المداومةُ على قراءتهما صبيحةَ الجمعةِ، ولا بأسَ بترك قراءتهما في بعضِ الأحيانِ ليعلمَ الناسُ أنَّ قراءتِهما غيرُ واجبةٍ، وهذا دليلٌ على أنَّ هاتينِ السورتينِ لَهما فضلٌ عظيمٌ، لما فيهما من العبرِ والفوائدِ والتوجيهاتِ.
عبادَ اللهِ:
ولنا مع سورةِ الإنسانِ وقفاتٌ وتأملاتٌ عسى اللهُ تعالى أن ينفعَنا وإياكم بها، ومن ذلك:
الأولى: مداومةُ النبي صلى الله عليه وسلم على قراءتِها في صلاةِ الفجرِ يومَ الجمعةِ مع سورةِ السجدةِ، لما فيهما من التنبيهاتِ والتوجيهاتِ التي يجبُ على المسلمِ أن ينتبهَ لها وألا يغفلَ عنها.
الثانية: أنّها تتحدثُ عن الإنسانِ، وعن بدايةِ خلقهِ، وأنَّه لم يكنْ شيئًا مذكورًا، ثمَّ أوجدَه اللهُ جل وعلا من نطفةٍ أمشاجٍ ثم جعلَه إنساناً سوياً، وفي ذلك بيانُ عظيمُ قدرةِ اللهِ جل وعلا، وأنَّه كما خَلَقه من عدمٍ، فهو قادرٌ على إعادتِه إلى الحياةِ بعد موتِه ومجازاتِه.
الثالثة: أنَّ هذا الإنسانَ لم يُخلق عبثاً ولا جزافاً، بل خَلقَهُ ليبتليَهِ ويمتحنَه بالتكاليفِ الشرعيةِ التي يأمرُه بها، حتى يعلمَ الصَّادقَ في إيمانِهِ من الكاذِبِ.
الرابعة: أنَّ اللهَ جلَّ وعلا بيّن لهذا الإنسانِ طريقَ الخيرِ وطريقَ الشرِّ، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
الخامسة: إخبارُ اللهِ جلَّ وعلَا عمَّا أعدَّه للكافرينَ من العقوبةِ والنكالِ والسلاسلِ والأغلالِ والسعيرِ في نارِ جهنَّم {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلًا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}، جزاءً وفاقاً على كفرِهم وإعراضهِم واستكبارِهم عن طاعةِ ربِّهِم.
السادسة: أنَّ أهلَ الإيمانِ والطاعةِ والإخلاصِ الذين أدَّوا حقَّ ربِّهم واستجابوا لأمرهِ يُجازونَ بالشربِ من كأسٍ فيها خمرٌ ممزوجةٌ بأحسنِ أنواعِ الطيبِ، وهو ماءُ الكافورِ.
السابعة: أنَّ هؤلاءِ الأبرارَ المخلصينَ لمَّا تشوفتْ نفوسُهم واشرأبتْ أعناقهُم وتعلقتْ مهجُهم وهاجت أشواقهُم لتحصيلِ تلك الملذاتِ والفوزِ بالنعيمِ المقيمِ في جناتِ الخلدِ، بادروا إلى الأعمالِ التي توصلُهم إلى نيلِ هذه الكرامةِ.
الثامنة: أنِّ من صفاتِ هؤلاءِ الأبرارِ أنَّهم يؤثرونَ على أنفسِهم، ويعرفونَ الحقَّ الذي عليهم للسائلِ والمحرومِ، ويبذلون ذلك ابتغاءَ وجهِ ربِّهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}، لا يريدونَ من أحدٍ جزاءً ولا ثناءً ولا شكوراً، وفي ذلك دليلٌ على أنَّ الخيرَ لا يزال في أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما دامَ فيها أبرارٌ أمثالُهم.
التاسعة: أنَّ من صفاتِ هؤلاءِ الأبرار أنَّهم يخافونَ من يومٍ طويلٍ شديدِ الضيّق، تعبسُ فيه الوجوهُ من هولِه وشدّته.
العاشرة: أنَّ اللهَ جل وعلا برحمتِهِ أمّن هؤلاءِ الأبرارَ مما خافوا وأعطاهم حُسنًا ونورًا في وجوهِهم، وبهجةً وفرحًا في قلوبِهم، وجزاهم بصبرِهم على طاعتِه وترْكهم لما حرَّم عليهم جنًّةً عرضُها السماواتُ والأرضُ، يتمتعونَ فيها بجميعِ أنواعِ النّعيم، من لبسِ الحريرِ، والاتكاءِ على الأسرةِ المزينةِ بفاخرِ الثيابِ والستورِ، لا يرونَ فيها حرُ شمسٍ ولا شدةُ بردٍ. قرأَ رجلٌ على أبي سليمانَ الداراني سورةَ الإنسانَ، فلما بلغ:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}، قال أبو سليمان : بما صبروا على تركِ الشهواتِ في الدنيا. قال ابنُ القيَّم رحمهُ اللهُ: فلما كانَ في الصبرِ – الذي هو حبسُ النفسِ عن الهوى- خشونةٌ وتضييقٌ؛ جازاهم على ذلكَ نعومةَ الحريرِ وسعةَ الجنةِ.
الحاديةَ عشرة: أنَّ قطوفَ الجنةِ مُذلَّلة لأهلِها، بحيثُ إذا نظرَ العبدُ المؤمنُ إلى غصنٍ يريدُ أن يأخذَ منه ثمرةً أو فاكهةً في الجنةِ تدلَّى فوقَ رأسِهِ فيأخذُ منه ما يريدُ، وإذا كان مضطجعاً يتدلّى إليه، وإذا كان جالساً يأتيه، لا يُمنعونَ من شيءٍ يريدونَه. قال مجاهدُ رحمه اللهُ في تفسيرِ هذه الآية: “أُدنيتْ منهم يتناولُونهَا، إن قامَ ارتفعتْ بقدرِه، وإن قعدَ تدلَّتْ حتى يتناولَها، وإن اضْطجعَ تدلَّتْ حتى يتناولَها، فذلكَ تذليلُها.
الثانيةَ عشرةَ: أنَّ من كرامةِ أهلِ الجنةِ أنْ جعلَ اللهُ لهم غلماناً يدورونَ عليهم لخدمتِهم، إذا أبْصروهم ظنُّوا- من شدةِ حسنِهم وجمالِهم وصفاءِ ألوانِهم وإشراقِ وجوهِهم- أنَّهم اللؤلؤُ المفرَّقُ المضيءُ. وهذا من التشبيهِ العجيبِ؛ لأنَّ اللؤلؤَ إذا كانَ متفرقًا كان أحسنَ في المنظرِ؛ لوقوعِ شعاعِ بعضهِ على بعضِ.
الثالثةَ عشرةَ: إذا نظرَ العبدُ المؤمنُ إلى أيَّ مكانٍ في الجنةِ رأى فيه نعيمًا لا يُدْركهُ الوصفُ، ومُلْكا عظيمًا واسعًا لا غايةَ له، وهذا يزيدُ يقينَ كلِّ واحدٍ منَّا أنَّه مهما عاشَ في هذهِ الدنيا في ترفٍ ونعيمٍ فليسَ يساوي شيئاً من نعيمِ الجنّة وملكِها العظيمِ، فيزيدهُ ذلك شوقاً لنيلِ هذهِ الكرامةِ من الربِّ جلَّ وعلَا.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا* عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا* يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:5- 10]. باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ
الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ والمؤمناتْ: واعلمُوا أنَّ من التأملاتِ أيضاً في هذهِ السورةِ المباركةِ:
الرابعةَ عشرةَ: أنَّ المؤمنينَ في الجنةِ يكسُوهمْ ويُجمِّلُ أبدانَهم ثيابٌ بطائنُها من الحريرِ الرقيقِ الأخضرِ، وظاهرُها من الحريرِ الغليظِ، ويُحَلَّون من الحُليِّ بأساورَ من الفضةِ، ويسقيهم ربُّهم شرابًا لا رجسَ فيه ولا دَنَسَ، وهذا من إكرامِ اللهِ لهم، وفيه أيضاً دلالةٌ على عظمِ نعيمهِم.
الخامسةّ عشرةَ: أنَّ اللهَ جلَّ وعلَا بعدَ أن يرضى عن عبادِهِ المؤمنينَ ويجازِيهم، يَشكرُ لهم سعيَهم وهو الغنيُّ عنهم، كما قال جل وعلا {إن الله شاكر عليم}، لِيُشعرَ السَّاعينَ إليه أنَّ في انتظارِهم مقاماً كريماً لهم عندَه.
السادسةَ عشرة: أنَّ اللهَ جلّ وعلَا أنزلَ القرآنَ على رسولهِ صلى الله عليه وسلم لتذكيرِ العبادِ بما فيه من الثوابِ والعقابِ، والوعدِ والوعيدِ، والتبشيرِ والتحذيرِ، وليكونَ عاملاً قوياً في الثباتِ على الدينِ، والصبرِ على المصائبِ والمحنِ والابتلاءاتِ.
السابعةَ عشرةَ: أنَّ من أسبابِ الثباتِ على الحقِّ بعدَ القرآنِ هو كثرةُ ذكرِ اللهِ جلّ وعلَا، فهو يُزيدُ الإيمانَ واليقينَ ويبعثُ في النفوسِ الطمأنينةَ والسكينةَ. الثامنةَ عشرةَ: ومن أسبابِ الثباتِ أيضاً الحرصُ على قيامِ اللّيلِ، وقد كانَ صلى الله عليه وسلم أحرصَ الناسِ على القيامِ لما فيه من نعيمِ القربِ من الربِّ، والتلذُّذِ بمناجاتِهِ، وتلاوةِ كلامِه، ودعائِه.
التاسعةَ عشرةَ: يتذكرُ المسلمُ متى ثقُل جسدُه عن طاعةِ ربِّهِ، ولسانُه عن ذكرِهِ وشكرِهِ وتلاوةِ كتابهِ شدةَ ذلك اليوم الثقيلِ، وهو يومُ القيامة.
العشرون: هذه السورةُ فيها الكثيرُ من العظاتِ والتنبيهاتِ للعالمين، فمنْ أرادَ الخيرَ لنفسهِ في الدنيا والآخرةِ فليتخذْ الإيمانَ والتقوى طريقًا يوصلُه إلى مغفرةِ اللهِ ورضوانِهِ. وما يريدُ الناسُ أمرًا من الأمورِ إلا بتقديرِ اللهِ ومشيئتِه. إنَّ اللهَ كان عليمًا بأحوالِ خلقِهِ، حكيمًا في تدبيرِهِ وصُنعِهِ. يُدْخل مَن يشاءُ مِن عبادِهِ في رحمتِهِ ورضوانِهِ، وهم المؤمنونَ، وأعدَّ للظالمينَ المتجاوزينَ حدودَه عذابًا موجعًا.
أسألُ اللهَ جلّ وعلَا أنْ ينفعَنَا بما سمِعنَا، وأنْ يجعلَه حجّةً لنا لا علينا. هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: {إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 14-4-1440هـ