مكانة الأخ وشيء من حقوقه – خطبة الجمعة 19-6-1446هـ
الحمْدُ للهِ المحْمُودِ في كُلِّ حَالٍ، تَفَرَّدَ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلالِ، وَالْعَظَمَةِ وَالْجَمَالِ إِلَيْهِ المرْجِعُ والمآلُ، سُبحَانَهُ عظيمُ النَّكَالِ، شَدِيدُ المِحَالِ وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صَلَّى اللهُ وسلم عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجْمَعِينَ أمّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ واعلمُوا أنَّكم مخلوقونَ، ولآجالِكُمْ سَائِرُونَ، ويومَ القيامَةِ تُبْعَثُونَ، وعَلَى رَبِّكُمْ تُعرَضُونَ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ للأخِ مكانَةً سَامِيَةً وَمَنْزِلَةً عَالِيَةً، فَهُوَ شَرِيكُ الْحَشَا، وَرَفِيقُ الصِّبَا ولَقَدْ اعْتَنَى الإِسْلامُ بِمَكَانَةِ الأَخِ وَشَأْنِهِ، وَفَضْلِهِ وَحَقِّهِ، وَذَلِكَ لأَنَّ الأَخ هِبَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعِزَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَعَوْنٌ وَقُوَّةٌ قَالَ تَعَالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) مريم: [53]
عِبَادَ اللهِ: وَعَلاقَةُ الأُخُوَّة أَوْطَدُ الرَّوَابِطِ وَأَوْثَقهَا، وهيَ رابِطَةٌ نَسَبِيَّةٌ، ومحبَّةٌ فِطْرِيَّةٌ، وقُرْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ، والحفاظُ عليها قويَّةً وطيدةً يحتاجُ لصبرٍ وحِنْكَةٍ، وإِحْسَانٍ وحِكْمَةٍ، وَجَلْدٍ وتَضْحِيَةٍ، قَالَ إِخْوَةُ يوسُفَ ليُوسُف: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يوسف: [36].
أيُّهَا المؤمنُونَ: والأخُ مَلاذٌ في الْوَغَى، وَأَنِيسٌ وَقْتَ الرِّضَا، يزينُهُ مَا يزينُكَ، ويعيبُهُ مَا يعِيبُكَ، يَنْشُرُ فَضَائِلَكَ، وَيَطْوِي مَعَايِبَكَ، إِنَّهُ ابْنُ أُمِّكَ، كَاتِمُ سِرِّك، وَعِصَابَةُ رَأْسِك، وَعِمَادُ ظَهْرِك إِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى فِيكَ سَيِّئَةً سَدَّهَا، إِنْ سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ، وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُ ابْتَدَاكَ، وَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ وَاسَاكَ، بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ.
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: والأَخُ هُوَ عَصَاكَ وَعَضُدَكَ، وَشَرِيكُكَ وَسَنَدُكَ، تَأْوِي إِلَيْهِ في المهَمَّاتِ وَتَلُوذُ بِهِ في الشَّدَائِدِ والملَمَّاتِ، سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) طه: [29-32] فَأَجَابَهُ اللهُ سبحانَهُ بِقَوْلِهِ: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) القصص: [35]
عِبَادَ الله: والأَخُ هُوَ سَلْوَةُ الْخَاطِرِ، وَأُنْسُ النَّفْسِ وَبَهْجَةُ الْقَلْبِ، وَأَمْنُكَ إِذَا غَالَبَتْكَ الْخُطُوبُ، وَلَفَظَتْكَ الدُّرُوبُ، تَطْمِئِنُّ بِقُرْبِهِ، قالَ يُوسُفُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأَخِيهِ مُطَمْئِنًا وَمُبَشّرًا: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يوسف: [69].
أيُّهَا المؤمِنُونَ: وَالأَخُ هُوَ النَّاصِحُ المؤْتَمَنُ، والمُسْتَشَارُ المعْتَمَدُ، يَقُولُ خَالِدُ بنُ الولِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (كَانَ أَخِي الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي وَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ! فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ، وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ لا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؟ قَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْتُ: يَأْتِي اللهُ بِهِ فَقَالَ: مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجِدَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ وَقَدْ فَاتَتْكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ، يَقُولُ خَالِدُ: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشَطْتُ لِلْخُرُوجِ وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ) دلائل النبوة للبيهقي (4/350).
عِبَادَ اللهِ: وَإِذَا كَانَ الأَخُ بِتِلْكَ المكَانَةِ، وَذَاكَ الْفَضْلِ، فَإِنَّ حَقَّهُ أَصِيلٌ وَوَاجِبَهُ أَكِيدٌ، وَأَوَّلُ حُقُوقِ الأَخِ: صِلَتُهُ وَبِرُّهُ، وَالإِحْسَانُ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِ، وَإِنْزَالُهُ مَنْزِلَتَه، وَالتَّغَاضِي عَنْ خَطَئِهِ، قَالَ يُوسُفُ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لإِخْوَتِهِ بِلِسَانٍ سَلِيمٍ، وَمَنْطِقٍ قَوِيمٍ، وَقَلْبٍ رَحِيمٍ: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: [92]. ولمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، حُزْنًا عَلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ، وَمَهَمَّةِ الرِّسَالَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ هَارُونَ إلا أَنْ ذَكَّرَهُ بِتِلْكَ الصِّلَةِ المتِينَةِ، وَالْعَلاقَةِ الأَصِيلَةِ (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأعراف: [150] فأجابَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الأعراف: [151].
أيُّهَا المؤمنُونَ: والتَّوَاصُلُ والتَآلُفُ والتَّرَابُطُ بينَ الإِخْوَةِ، كمَا أنَّهُ صِلَةٌ وطَاعَةٌ، وقُرْبَةٌ وعِبَادَةٌ، فَهُوَ أَعْظَم أبْوَابِ البِرِّ، وإنَّ أعْظَمَ بِرٍّ يُقَدِّمُهُ المرْءُ لِوَالِدَيْهِ، أنْ يُحْسِنَ إلى إِخْوَانِهِ، ويَلْتَفَّ حَوْلَهُمْ ويَرْتَبِطَ بِهِمْ، يُسَدِّد خُطَاهُم ويُوَجِّه أفْكَارَهُم، وَيَسُدّ خَلَلَهُم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) الفرقان: [35].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وليُّ الصَّالِحِينَ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، قَيُّومُ يَوْمِ الدِّينِ وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّه إِذَا كَانَ الأَخُ بِتِلْكَ المكَانَةِ، وَذَاكَ الْفَضْلِ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَفُتَّ عَاقِلٌ كَبِدَهُ، فَيُقَاطِعَ أَخَاهُ وَعَضُدَهُ؟! هَذَا وَاللهِ مِنَ الْغَبَنِ وَالْوَهَنِ، وَسُوءِ الْفِقْهِ، وَقِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ، وَإِذَا مَنَعَ الرَّجُلُ خَيْرَهُ عَنْ أَخِيهِ، فَأَيُّ خَيْرٍ فِيهِ؟!
أيُّهَا الْعَبْدُ الموَفَّق: اللهَ اللهَ في الرَّحِمِ، اللهَ اللهَ في الأَخِ، التَفَّ حَوْل إِخْوَانِكَ، وارْفُقْ بِهِم، واعْلَمْ أنَّهُ مَهْمَا طَالَتْ علاقَتُكَ بِإِخْوَانِكَ فَهِيَ لَنْ تَدُوم، فَلَسَوْفَ يَقْطَعُهَا أَقْرَبُكُم أَجَلاً، وَأَعْجَلُكُمْ مَوْتًا، فَبَادِرْ – رَعَاكَ الله – بِكُلِّ خَيرٍ ومَكْرَمَةٍ، قَولاً وفِعْلاً، ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ، ولا تَسْتَمْرِئِ الْهَجْرَ، ولا تَأْلَف الْبُعْدَ، ولا تَرْضَى بِالْقَطِيعَةِ وَالإِثْمِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ إِخْوَاننَا وَأَخَوَاتِنَا، وَأَطِلْ أَعْمَارَهُمْ، وَأَحْسِنْ نِيَّاتِهُمْ، وَأَلْبِسْهُمْ لِبَاسَ الْعَافِيَةِ، اللَّهُمَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، فَاشْمَلْهُ بِعَفْوِكَ، وَأَدْخِلْهُ في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، ومن عاش منهم فاحفظهُمْ بحفظك يا كريم، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المسْلِمِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ. اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 19/ 6/ 1446هـ
مواضيع ذات صلة
-
الخشوع في الصلاة – خطبة الجمعة 10-3-1446هـ....
الجمعة 10 ربيع الأول 1446هـ 13-9-2024م قراءة -
تربية الأبناء في الإسلام – خطبة الجمعة 5- 2- 1446....
الأثنين 8 صفر 1446هـ 12-8-2024م قراءة -
الزكاة فضلها وأثر منعها وأنصبتها وبعض أحكامها – خ....
الجمعة 12 رمضان 1445هـ 22-3-2024م قراءة -
السنن الرواتب فضلها والحث على المواظبة عليها....
الجمعة 27 شوال 1446هـ 25-4-2025م قراءة -
بشراكم يا أهل الفجر – خطبة الجمعة 27-5-1446هـ....
الجمعة 27 جمادى الأولى 1446هـ 29-11-2024م قراءة -
مغبة التأخر في قسمة التركة – خطبة الجمعة 3-7-1446....
الجمعة 3 رجب 1446هـ 3-1-2025م قراءة