الرؤيا وجهالات المعبرين – خطبة الجمعة 24-7-1446هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ السميعِ البصيرِ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا أمّا بعدُ فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) البقرة : [203].
أيُّهَا المؤمنونَ: للرُّؤْيَا في الإسلامِ منزلةٌ عظيمةٌ، فهي بابٌ من أبوابِ الدَّعْوَةِ إلى الخيرِ وتَرْكِ الشَّرِّ، والرُّؤْيَا ثابتَةٌ بالكِتَابِ والسُّنَةِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ عن إبراهيمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) الصافات: [102-103].
وقالَ عنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامٌ: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِين) يوسف: [4-5].
وقالَ عنْ نَبِيِّهِ محمَّدٍ ﷺ:(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) الفتح: [27].
أيُّهَا المؤمنونَ: والرُّؤْيَا على أنواعٍ ثلاثةٍ ذكرهَا النبيُّ ﷺ بقولِهِ: (الرُّؤيَا ثلاثٌ فَرُؤْيَا حَقٌّ وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيطانِ) أخرجه البخاري (7071) والمشروعُ لمنْ رَأَى رُؤْيَا صَالِحَةً أَنْ يَسْأَلَ عَنْ رُؤْيَاهُ، وَيَطْلُبَ مَنْ يُعَبِّرُهَا، وَلا يَغْفَلُ عنهَا فَيَتْرُكُهَا، ففي الحديثِ: (كَانَ النبيُّ ﷺ إذا صَلّى الصُّبْحَ أقْبَلَ عليهم بوَجْهِهِ فَقالَ: (هلْ رَأى أحَدٌ مِنكُمُ البارِحَةَ رُؤْيا؟) أخرجه مسلم (2275).
عِبَادَ اللهِ: والرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، قالَ ﷺ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ) أخرجه البخاري (6989) فرُؤْيَا المؤمن تَقَعُ صَادِقَةً؛ لأنّهَا أَمْثَالٌ يَراهَا الرَّائِي، وَتَكُونُ خَبَرًا عَنْ شَيْءٍ وَاقِعٍ أَوْ شَيْءٍ سَيَقَعُ فَيَقَعُ مُطَابِقًا لِلرُّؤْيَا فتكونُ الرُّؤْيَا كَالوَحْيِ في صِدْقِ مَدْلُولِهَا وإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ عَنْهَ، قال ﷺ:(إنَّه لم يَبْقَ من مُبَشِّرَات النُّبُوَّةِ إلا الرُّؤْيَا يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ) أخرجه ابن حبان (6046).
أيُّهَا المؤمنونَ: وَقَدْ عَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ مَا يُشْرَعُ للرَّائِي بِقَوْلِهِ: (إذا رَأى أحَدُكُمُ الرُّؤْيا يُحِبُّهَا فإنّهَا مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عليها ولْيُحَدِّثْ بها وإذا رَأى غيرَ ذلكَ ممّا يَكْرَهُ فإنّما هي مِنَ الشَّيْطانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِن شَرِّها ولا يَذْكُرْها لأحَدٍ فإنّها لَنْ تَضُرَّهُ) أخرجه البخاري (7045)
عِبَادَ اللهِ: والواجِبُ علَى مَنْ رَأَى رُؤْيَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رُؤْيَاهُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، ويُحَدِّثَ بِهَا إنْ كانَتْ خَيرًا، قالَ ﷺ: (فَإذا رَأى أحَدُكُمْ ما يُحِبُّ فلا يُحَدِّثْ به إلّا مَن يُحِبُّ) أخرجه البخاري (7044) وأنْ يَقُصَّهَا عَلى لبيبٍ حكيمٍ، وعالمٍ ناصحٍ، قال ﷺ: (وَلا تُحَدِّثْ بِهَا إلّا لَبِيبًا أَوْ حَبِيبًا) أخرجه أبو داود (5020) فلا تُقَصُّ عَلى حَسُودٍ لَدُودٍ، وَلا تُقَصُّ عَلى جَاهِلٍ قَوْلُهُ مَرْدُودٌ، بَلْ تُقَصُّ على الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، والدُّعَاةِ المخلصينَ وأربابِ الفقهِ والدِّينِ.
أيُّهَا المؤمنونَ: وَعِلْمُ تَأْوِيلِ الرُّؤْى مِنْ عُلُومِ الأنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الإيمَانِ، وهُوَ عِلْمٌ مَمْدُوحٌ شَرْعًا، قالَ تَعَالى عنْ يُوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) يوسف: [6].
عباد الله: وقَدْ انْتَشَرَتْ المخالفاتُ والأخطاءُ في باب تعبير الرؤى ومردّها لأمرين:
الأول: التفريطُ مِنَ الرَّائِي، فتَجِدْهُ لا يتحرَّى مَنْ يُعَبِّرُ لَـُه رُؤْيَاهُ، بَلْ يَعْرِضها على مَنْ هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ للتَّعْبِيرِ، وبِالتَّالِي تَضِيعُ الْفَائِدَةُ المرْجُوَّةُ مِنَ الرُّؤْيَا.
الثاني: جَهْلُ المعبِّرِ، فبَابُ تعبيرِ الرُّؤَى مِنْ الأبوابِ الَّتِي وَلِجَهَا بعضُ الْجُهَّالِ وتَجَرَّأ عليهَا كثيرٌ مِنَ العَوَامِ، فتَجِدُ الرَّجُلَ الذي لا يَصْلُحُ للتَّأْوِيلِ والتَّعْبِيرِ يَتَجَرَّأُ على تَعْبِيرِ الرُّؤَى، طَلَبًا للشُّهْرَةِ، وَحُبًّا لِلْمَالِ، وهَذَا جَهْلٌ بِأَحْكَامِ دِينِنَا الْحَنِيفِ ودَلالَةٌ عَلى ضَعْفِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ، وقَدْ بَرَزَ بعضُ هؤلاءِ على مِنَصَّاتِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ، والمواقِعِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ يَدَّعُونَ تَعْبِيرَ الرُّؤَى، وَيَتَجَرَّؤُونَ عَلى الْقَوْلِ عَلى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ للإِمَامِ مَالِكٍ: (أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟!
أَيُّهَا المؤمنونَ: ومِنَ الآَثَارِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي نَتَجَتْ عَن الْكَلامِ فِي الرُّؤْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ: اعْتِمَادُ بَعْضِ النَّاسِ على الرُّؤْيَا، وَضَعْفُ التَّوَكُّلِ على اللهِ عزّ وجلَّ، والْكَسَلُ والْبَطَالَةُ والقُعُودُ عن الأَخْذِ بالأسْبَابِ، وكَذَا إِثَارَةُ الْخَوْفِ والْفَزَعِ عِنْد الرَّائِي، ومَا يَنْتُجُ عنْ الْجَهْلِ في التَّعْبِيرِ مِنْ غَرْسِ الْعَدَاوَاتِ، وَقْطْعِ الأَرْحَامِ، وَفَسَادِ الدِّيَارِ.
أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء: [36].
أقولُ قولِي هذا، وأستغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي ولَكُمْ ولِسَائِرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى مَنْ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ، أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّهُ يُشْتَرَطُ فيمَنْ يَتَصَدَّرُ لِتَعْبِيرِ الرُّؤى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ دِينٍ، فَطِنًا ذَكِيًّا، عَالمًا بِكِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ وسُنَّةِ نبيِّهِ ﷺ، وعَالمًا بِالرُّؤَى، لا يُؤَوِّلُهَا إلا بِعِلْمٍ وَإِدْرَاكٍ، وَفَهْمٍ واسْتِنْبَاطٍ، ولا يَجْزِمُ بِصِحَّةِ التأويلِ؛ لأنَّ تَفْسِيرَ الرُّؤَى اجْتِهَادٌ، وإنْ كَانَ في الرُّؤْيَا مَكْرُوهٌ، أَوْصَى الرَّائِي بِالتَّقْوَى والْعَمَلِ الصَّالِحِ، وإِنْ جَهِلَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا فيَقُولُ: لا أَعْلَمُ، أَوْ: لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي فِيهَا شَيْءٌ، وَلا يَتَحَرَّجُ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ أَمِينًا نَاصِحًا، يَكْتُمُ على النَّاسِ أَسْرَارَهُمْ، ويَحْفَظُ عَلَيْهِم عَوْرَاتِهِمْ، قالَ ابنُ الْقَيِّمِ رحمهُ اللهُ: (فَالْمُفْتِي وَالْمُعَبِّرُ وَالطَّبيبِ يَطَّلِعُونَ مِنْ أَسْرَارِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ؛ فَعَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ السَّتْرِ فِيمَا لَا يَحْسُنُ إظْهَارُهُ) إعلام الموقعين (4/197). أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُعَلِّمنَا مَا يَنْفَعنَا، وأن يَنْفَعنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَيَزْيدَنا عِلْمًا وَفَهْمًا. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 24 /7/ 1446هـ
مواضيع ذات صلة
-
الرؤيا وجهالات المعبرين – خطبة الجمعة 24-7-1446هـ....
الجمعة 24 رجب 1446هـ 24-1-2025م قراءة -
السكينة وحاجة العباد إليها – خطبة الجمعة 2-11-144....
الجمعة 2 ذو القعدة 1445هـ 10-5-2024م قراءة -
العجلة المذمومة – خطبة الجمعة 29-4-1446هـ....
الجمعة 29 ربيع الثاني 1446هـ 1-11-2024م قراءة -
عشر ذي الحجة فضائل وأحكام – خطبة الجمعة 1-12-1445....
الجمعة 1 ذو الحجة 1445هـ 7-6-2024م قراءة -
قليل دائم – خطبة الجمعة 20-8-1445هـ....
الجمعة 20 شعبان 1445هـ 1-3-2024م قراءة -
وداع رمضان وزكاة الفطر – خطبة الجمعة 26-9-1445هـ....
الجمعة 26 رمضان 1445هـ 5-4-2024م قراءة