التسول ظاهرة مقيتة ودخيلة – خطبة الجمعة 15-8-1446هـ

الجمعة 15 شعبان 1446هـ 14-2-2025م

الحمْدُ للهِ المحْمُودِ في كُلِّ حَالٍ، تَفَرَّدَ بِالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلالِ، سُبحَانَهُ عظيمُ النَّكَالِ، شَدِيدُ المِحَالِ، أمرَ بالعملِ والكسبِ الحلالِ، ونهى عن التَّسَوُّلِ والسُّؤَالِ،  وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صَلَّى اللهُ وسلّمَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجْمَعِينَ أمّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ واعلمُوا أنَّكم مخلوقونَ، ولآجالِكُمْ سَائِرُونَ، ويومَ القيامَةِ تُبْعَثُونَ، وعَلَى رَبِّكُمْ تُعرَضُونَ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَُمون) البقرة: [281].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنَّ مِنَ الأُصُولِ التِي قامَتْ عليْهَا الشَّرِيعَةُ الإسْلاميَّةُ: الدَّعْوَة إلى الْعَمَلِ بِصِدْقٍ وَأَمَانَةٍ، وكَسْبِ الرِّزْقِ بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ، والْحَذَرَ مِنَ التَّسَوُّلِ والتَّكَاسُلِ والْبَطَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) البقرة: [172].
عباد الله: والسَّعْيُ لِلْكَسْبِ بِعِزَّةٍ وَأَدَبٍ، وَطَلَبُ الرِّزْقِ بِجِدٍّ وَتَعَبٍ، دَأْبُ المؤْمِنِينَ، ونَهْجُ الصَّالِحِينَ، قَالَ ﷺ: (لأَنْ يَغْدُوَ أحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ على ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ به ويَسْتَغْنِيَ به مِنَ النّاسِ؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أعْطاهُ، أوْ مَنَعَهُ ذلكَ، فإنَّ اليَدَ العُلْيا أفْضَلُ مِنَ اليَدِ السُّفْلى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ) أخرجه البخاري (2074) ومسلم (1042).

أيها المؤمنون: وفي الحديثِ يُحَذِّرُنَا النَّبِيُّ ﷺ مِنْ بَسْطِ الْيَدِ لِلْغَيْرِ تَسَوُّلاً، وَبَذْلِ مَاءِ الْوَجْهِ تَذَلُّلاً، وأَنَّ عِزَّ المَرْءِ فِي اسْتِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ، قَالَ ﷺ (ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) أخرجه البخاري (1427) ومَهْمَا كَانَ الْعَمَل تَنْتُجُ عَنْهُ المَشَقَّةُ والتَّعَبُ، والْعَنَاءُ والنَّصَبُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ مَذَلَّةِ السُّؤَالِ، بِأَنْ يَمُدَّ المرْءُ يَدَهُ لِغَيْرِهِ، أَعْطَاهُ بِفَضْلٍ وَمَنٍّ، أَوْ مَنَعَهُ بِذِلَّةٍ وَغَمٍّ.

عباد الله: ومِنَ الظَّوَاهِرِ المقِيتَةِ، والنَّوَازِلِ الدَّخِيلَةِ على مُجْتَمَعِنَا، ظَاهِرَةُ التَّسَوُّل والشَّحَاذَةِ، واتِّخَاذِ المَسَاجِدِ والْجَوَامِعِ، والشَّوَارِعِ والتَّجَمُّعَاتِ، أَمَاكِنَ لِلتَّسَوُّلِ، في مَنَاظِرَ مُؤْذِيَةٍ، ومَشَاهِدَ مُزْرِيَةٍ، عَلى أَيْدِي فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ، بِهَيْئَةٍ رَثّةٍ، وَمَلابِسَ بَالِيَةٍ، وأَيْمَانٍ كَاذِبَةٍ، وادِّعَاءَاتٍ فَارِغَةٍ، بِأَنَّهُمْ مَدِينُونَ لا يَجِدُونَ الْوَفَاءَ، ومَرْضَى يَحْتَاجُونَ الْعِلاجَ، والصَّحِيح أنَّ غَالِبهم، أَدْعِيَاءُ جُهَلاءُ، جَعَلُوا التَّسَوُّلَ مِهْنَةً وَحِرْفَةً.

أيها المؤمنون: ولَقَدْ حَارَبَ الإِسْلامُ التَّسَوَّلَ، وسُؤَالَ النَّاسَ لَغَيْرِ حَاجَةٍ، فَفِي الْحَدِيثِ أنَّ رَجلًا أَتَى النَّبيَّ ﷺ فَسَألَهُ فَأَعْطَاهُ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَوْ تَعلَمُونَ مَا في المَسْأَلَةِ مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئًا) أخرجه النسائي (5/94) وصححه الألباني في صحيح النسائي (2585)

عِبَادَ اللهِ: والتَّسَوُّلُ، وَسُؤَالُ النَّاسِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لا تَزِيدُ المَرْءَ إلا فَقْرًا وَذُلًا في الدُّنْيَا، قَالَ ﷺ: (وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ الله تَعَالَى بِهَا قِلَّةً) أخرجه أحمد (9624) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5646). وأمَّا عقُوبتهَا في الآَخِرَةِ، فَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: (ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) أخرجه البخاري (1475).

وَظَاهِرَةُ التَّسَوُّل سَادَتْ في كَثِيرٍ مِنَ المُجْتَمَعَاتِ، بَلْ أَضْحَى التَّسَوُّل شَبَكَاتٍ وَشَرِكَاتٍ، تَكْثُرُ في أَمَاكِنَ مُعَيَّنَةٍ، وَمَوَاسِمَ مُحَدَّدَةٍ، وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، وَأَشْكَالٌ شَتَّى، كُلُّهَا تَنُمُّ عَنْ خِسَّةِ الطَّبْعِ، وَدَنَاءَةِ النَّفْسِ، واحْتِدَامِ الْجَهْلِ، والرُّكُونِ إلى الْكَسَلِ، والْعُزُوفِ عَن الْجِدِّ وَالْعَمَلِ، كَمَا أَنَّهَا تُعَدُّ خَرْقًا جَسِيمًا في الْبِنَاءِ الْعَقَدِيِّ لِلْمُسْلِمِ، وَضَعْفِ الْيَقِينِ والتَّوَكُّلِ عَلى اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ ﷺ: (مَن سَأَلَ النّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ) أخرجه مسلم (1041).

وظَاهِرَةُ التَّسَوُّلِ هِيَ إِسَاءَةٌ لِلإِسْلامِ الَّذِي حَارَبَ الْفَقْرَ، وَفَرَضَ الزَّكَاةَ، وهيَ حقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ والمَحْرُومِ، وحثَّ على بَذْلِ الْخَيْرِ، وَنَفْعِ الْغَيْرِ، وبِانْتِشَارِ التَّسَوُّل يَظْهَرُ المجْتَمَعُ الإِسْلامِيُّ كَمُجْتَمَعٍ مَادِّيٍّ طَبَقِيٍّ، وَهَذِهِ صُورَةٌ مَغْلُوطَةٌ عَن الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَظَاهِرَةُ التَّسَوُّلِ إِسَاءَةٌ لِمُجْتَمَعِنَا الْقَائِمِ عَلى التَّكَافُلِ والتَّعَاضُدِ، والتَّعَاوُنِ والْبَذْلِ وَبلادنا المُبَارَكَة الَّتِي لَهَا يَدٌ طُولَى في الإِعَانَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ والْخَارِجِيَّةِ وَتَأْسِيسِ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيرِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلى رِعَايَةِ الْفُقَرَاءِ، وَإِعْفَافِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ.
وَظَاهِرَةُ التَّسَوُّلِ هَضْمٌ لِحُقُوقِ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَالْفُقَرَاءَ المْتُعَفِّفِينَ، الَّذِينَ امْتَدَحَهُم رَبُّنَا جَلَّ وَعَلا بِقَوْلِهِ: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) البقرة: [273].

عِبَادَ اللهِ: وَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا تِجَاهَ تِلْكَ الظَّاهِرَةِ، مَقْتُهَا وَوَأْدُهَا، والتَّحْذِيرُ مِنْهَا والإِبْلاغُ عَنْ أَصْحَابِهَا مِنَ المتَسَوِّلِينَ، وَعَدَمُ التَّعَاطُفِ مَعَهُم، أَوْ إِعَانَتِهِمْ، أو التَّسَتُّرِ عَلَيْهِم، فَبَعْضُهُم يُشَكِّلُونَ حَلَقَاتٍ صَغِيرةً، في دَوَائِرَ إِجْرَامِيَّةٍ، وعِصَابَاتٍ بَشَرِيَّةٍ، يَتِمُّ اسْتِخْدَامُهم مِنْ أفْرَادٍ وَجِهَاتٍ خَارِجِيَّةٍ؛ لِجَمْعِ الأَمْوَالِ بِطُرُقٍ غَيرِ مَشْرُوعَةٍ، تَحْتَ غِطَاءِ الْفَقْرِ وَالحَاجَةِ مُسْتَغِلِّينَ حُبَّ النَّاسِ في الْبَذْلِ وَحِرْصَِهِم عَلَى الصَّدَقَاتِ والخَيرِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) المعارج (24-25). بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَالصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَاعْلَمُوا أَنّّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ والاكْتِسَابِ، لا تَحِلّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ سُؤَالُ النَّاسِ، قَالَ ﷺ: (لا تحلُّ الصَّدقةُ لغنيٍّ ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) أخرجه أبو داود (1634) وصححه الألباني. وفي السُّنَنِ أنَّ رَجُلَينِ أتَيا النَّبيَّ ﷺ في حَجَّةِ الوَداعِ وَهوَ يُقسِّمُ الصَّدَقةَ، فسألاهُ مِنْهَا -قَالا -فرفَعَ فينا البصَرَ وخفَضَه فرآنا جَلدَينِ فقالَ: (إنْ شئتُما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مُكتسِبٍ) أخرجه أبو داود (1633) وصححه الألباني.

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنّ الْوَاجِبَ على المسْلِمِ أَنْ يَتَحَرَّى في زَكَاتِهِ وَصَدَقَاتِهِ، وَيَبْحَثَ عَنْ أَهْلِهَا وَالمستَحِقِينَ لَهَا، وَلا يَسْتَخِفَّنَّهُ أُولَئِكَ المُتَسَوِّلُونَ المرْتَزَقَةَ، الَّذِينَ سَقَطَتْ أَقْنِعَتُهُم، وانْكَشَفَ سِتْرُهُم، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ ضَالَّ المسْلِمِينَ، وَأَنْ يَدْحَرَ عَنَّا كَيْدَ الْكَائِدِينَ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الجمعة 15 /8/ 1446هـ

مواضيع ذات صلة