شعيرة الحج أحكام وآداب – خطبة الجمعة 3-12-1446هـ

الجمعة 3 ذو الحجة 1446هـ 30-5-2025م

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اصْطَفَانَا مِنْ خَلْقِهِ مُوَحِّدِينَ، وَاجْتَبَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَخَصَّنَا بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ، فَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَأَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَشَرَّفَنَا بِخَيْرِ الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، فَفِي تَقْوَاهُ النَّجَاةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) الزمر: [61].
عِبَادَ اللهِ: نَعِيشُ مِنْحَةً عَظِيمَةً وَغَنِيمَةً ثَمِينَةً، فنحن في عَشْرٍ مُبَارَكَاتٍ وَأَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ شَرَّفَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِأَحَدِ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، قَالَ تَعَالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) البقرة: [197]
وَالْحَجُّ شَعِيرَةُ المسْلِمِينَ وَعِبَادَةُ المُخْبِتِينَ، وَاجْتِمَاعُ الموَحِّدِينَ وَهُوَ تَجْدِيدٌ لِلْعَهْدِ، وَتَطْهِيرٌ لِلنَّفْسِ، وَتَرْبِيَةٌ لِلرُّوحِ، وَمَظْهَرٌ لِلتَّآلُفِ بَينَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَعْرَاقِ وَالْأَشْكَالِ وَاللُّغَاتِ، ويَجْتَمِعُونَ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فِي عَرَفَاتٍ، قَالَ تَعَالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج: [27].
وَفِي الْحَجِّ تَتَجَلَّى أَسْمَى مَظَاهِرِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ عزَّ وجلَّ، فَيُقْبِلُ الْحَجِيجُ عَلى خَالِقِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ مُذْعِنِينَ، وَلِنِدَاءِ رَبِّهِم مُلَبِّينَ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ
عِبَادَ اللهِ: وَهَذِهِ بَعْضُ التَّوْجِيهَاتِ لِحُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِتَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَتَبْصِرَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَبَلاغًا لِلْعَالمِينَ، فَأَقُولُ:
أولًا: الواجبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أنْ يُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ والرُّجُوعِ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، وأَنْ يَتَحَرَّى الحَلالَ، فَاللهُ عزَّ وجلَّ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَأَنْ يُبْقِيَ نَفَقَةً لِأَهْلِهِ وَمَنْ يَعُول، تَكْفِيهِم عَنِ السُّؤَالِ، ويُوصِيهِمْ بِالتَّقْوَى، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يُشرَعُ لَهُ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، وَيَتَفَقَّهَ فِي ذَلِكَ، وَيَسْأَلَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَخَيَّرَ الصُّحْبَةَ الصَّالِحَةَ. ثَانِيًا: الْحِرْصُ عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ الْعُبُودِيَّةِ في الْحَجِّ: حُسْنُ الاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَمُتَابَعَتُه في الأَرْكَانِ وَالأَقْوَالِ، وَالأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ، فَقَدْ حَجَّ ﷺ بِالمُسْلِمِينَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَشُرُوطَهُ، وَوَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: (يا أَيُّها النَّاسُ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) أخرجه النسائي (3062).
حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ تَنَقُّلًا بَينَ المَشَاعِرِ فَحَسْب، إِنَّمَا هُوَ امْتِثَالٌ وَاتِّبَاع، وَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْحَاجُّ هَذَا المعْنَى، ذَاقَ حَلاوَةَ الْعِبَادَةِ، قَالَ ﷺ (نَحَرْتُ هاهُنا وَمِنًى كُلُّها مَنْحَرٌ، فانْحَرُوا في رِحالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هاهُنا، وَعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هاهُنا، وَجَمْعٌ كُلُّها مَوْقِفٌ) فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الدِّينَ وَحْيٌ مُتَّبَعٌ، لا هَوًى مُبْتَدَعٌ.
ثَالثًا: حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ: أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، وَالْزَمُوا السَّكِينَةَ وَالْوَقَار، فَقَدْ أَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ الْحَجِيجَ بِقَوْلِهِ: (أيُّها النّاسُ، علَيْكُم بالسَّكِينَةِ؛ فإنَّ البِرَّ ليسَ بالإِيضاعِ) أخرجه البخاري (1671) والإيضَاعُ: الإِسْرَاعُ، وَالمعْنَى أَنَّ الْبرَّ وَالخَيرَ في التَّأَنّي وَالسَّكِينَةِ، لا في الْعَجَلَةِ والانْدِفَاعِ، فَاحْذَرُوا التَّدَافُعَ والزَّحَامَ، فَإِنَّهُ ذهَابٌ لِلْخُشُوعِ، وَإيِذَاءٌ لِلْجُمُوعِ وَلَيْسَتْ السَّكِينَةُ في المَشْيِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا في الأَقْوالِ والأَفْعَالِ، وَالسُّلُوكِ وَالْهَيْئَاتِ، قَالَ تَعَالى: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) الحج: [34].

رابعًا: حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّع، ارْفُقُوا بِأَنْفُسِكُمْ، فَالشَّرِيعَةُ سَمْحَةٌ غَرَّاءُ جَاءَتْ لِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَإِزَالَةِ الْعَنَتِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج: [78] فَالْحَجُّ لَيْسَ مِضْمَار مَشَقَّةٍ وَلا مَيْدَان مُشَادَّةٍ، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ قَوَامُهَا الاتِّبَاعُ وَسَمْتُهَا السَّكِينَةُ وَسَبِيلُهَا التَّخْفِيفُ والتَّسْهِيلُ وَفي الْحَدِيثِ لمَّا خَطَبَ ﷺ المسْلِمينَ يَوْمَ النَّحْرِ: وَفِيهِ: (فَما سُئِلَ يَومَئذٍ عن شيءٍ إلّا قالَ: افْعَلْ ولا حَرَجَ) أخرجه البخاري (1737) ومسلم (1306). خَامِسًا: ضَرُورَةُ التَّقَيُّدِ بِالأَنْظِمَةِ الأَمْنِيَّةِ والصِّحِّيَّةِ، واتِّبَاعِ التَّوْجِيهَاتِ والتَّعَاوُنِ مَعَ المُشْرِفِينَ والمُنَظِّمِينَ، وَرِجَالِ الأَمْنِ، وَمُقَدِّمِي الْخَدَمَاتِ والالْتِزَامِ بَأَوْقَاتِ التَّفْوِيجِ لما فِي هَذَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعِيرَةِ الْحَجِّ، وَالتَّعَاونِ عَلَى الْبرِّ والتَّقَوى، وَطَاعَةِ وُلاةِ الأَمْرِ وَاحْرِصُوا عَلَى إِجْرَاءَاتِ السَّلامَةِ، وَإِرْشَادَاتِ الْوِقَايَةِ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ المُبَاشِرِ لأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، خَاصَّةً أَوْقَاتَ الظَّهِيرَةِ. أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة: [185]. بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي كَانَ غَفَّارًا.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة: الْحَمْدُ للهِ وَلِيِّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ أمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا -رَعَاكُمُ اللهُ- أنَّ الْحَجَّ مَدْرَسَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، تَتَجَلَّى فِيهَا مَعَانِي الْعُبُودِيَّةِ، وَيَتَرَبَّى فِيهَا الْعَبْدُ عَلَى السَّكِينَةِ وَالتَّوَاضُع والتَّيْسِيرِ والرِّفْقِ، والتَّعَاوُنِ والبَذْلِ، والتَّقْوَى في السِّرِّ وَالْعَلَنِ، فَطُوبَى لمنْ صَلُحَتْ نِيَّتُهُ، وَصَحَّتْ حَجَّتُهُ قَالَ ﷺ: (الحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ) أخرجه البخاري (1773).
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يَجْعَلَ حَجَّ هَذَا الْعَامِ مُبَارَكًا مَيْمُونًا، وَأَنْ يَحْفَظَ الْحَجِيجَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوه، وَأَنْ يُتِمَّ عَلَى بِلَادِنَا نِعْمَةَ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَأَنْ يَجْزِيَ وُلَاةَ أَمْرِنَا خَيْرَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا يُقَدِّمُونَهُ لِخِدْمَةِ الحجيج.اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَالمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، وَرِجَالَ أَمْنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَمْنِ الطُّرُقِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الجمعة 3 /12 /1446هـ