الصيام الزاكي

الأربعاء 22 جمادى الآخرة 1440هـ 27-2-2019م

أمل الصائمين في كريم الجزاء كأمل الأجير في فيض العطاء، كلاهما يأمل خيراً غير أن تضحية الصائم وجهده الذي يبذله في الصيام لا ترتقي إليه تضحية أي عامل، ولذلك ارتفع الله بأجر الصائمين إلى درجة تفضل العد وتفوق الحصر لأنهم عاملوا الله وضحوا بأفضل متعة امتثالاً لأمر الله، فكان الجزاء من الباري عظيماً كما كان العمل منهم كريماً، يوضح ذلك أتم بيان الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي)(متفق عليه).
إن الفرحة عند الفطر عظيمة لأن الصائم يطمع في أجر الصيام الذي يحتسبه طاعة لله واستجابة لأمره، واقتداءً برسوله صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما يدعو الصائمون بالقبول والغفران، والفرحة العظيمة عند لقاء الملك الديان للأمن من الفزع الأكبر، والشرب من حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم، والدخول من باب الريان الذي خصص للصائمين فقط، وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)(متفق عليه).
ولكن يا ترى من يدرك هذا الجزاء الضافي، ومن ينعم بالفرحتين؟
لاشك أن الذي يدرك ذلك من ارتفع بصومه عن الهفوات والسقطات وصانه عن النزوات والشهوات المحرمة.
لاشك أن للعين صياماً، وللسمع صياماً، وللسان صياماً، ولكل جارحة من جوارح العبد صياماً.
فصوم العين كفها عن النظر الحرام في أي أمر وعلى كل وجه ما دام المنظور محرماً.
وصوم السمع عدم الإصغاء إلا مالا يحل سماعه من الكذب والغيبة والوقيعة في الناس، وصوم اللسان حجزه عن الآثام كالفحش في القول والسباب والشتائم التي كثيراً ما يقع فيها الناس حتى وقت الصيام، وكذلك الاستهزاء بالناس والسخرية بهم مما يخدش الصوم ويقلل من أجره، وصدق الله العظيم:[ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولاتنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون](الحجرات:11).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)(صححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع برقم6539)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث)(رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ج1 برقم1082)، وقوله: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه التعب والسهر)(رواه ابن ماجه واللفظ له، والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري، وخرجه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ج1 برقم1083 وقال: حديث حسن صحيح).
لا يزال في الناس من يكذب ويغش ويخدع، ولا يزال فيهم من يحلف اليمين الفاجرة وهو صائم، ولا يزال فيهم من يستمع إلى المحرم وينظر إلى المحرم، وكل هؤلاء يزعم أنه صائم وأنه يحترم رمضان.
بل لا يزال في الناس من يشتغل في ليل رمضان بالأمور المحرمة والصالحون يشتغلون بإحياء الليل طاعة لله وتقرباً غليه.
إن رمضان فرصة العمر التي قد لا تتكرر على المسلم فينبغي أنة يستغلها ليدخر منها أجراً عظيماً للآخرة حينما يكون بأمس الحاجة إلى الحسنة الواحدة.
كم من الأقوام تصوم بطونهم عن الطعام ولكن جوارحهم تقترف المحرمات جهاراً نهاراً والعياذ بالله، ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قوله: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء، يقول ابن رجب رحمه الله: (الصائمون على طبقتين:
أحدهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا تاجر مع الله وعامله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخيب معه من عامله بل يربح أعظم الربح.
الطبقة الثانية: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته).
أسأل الله بمنه وكرمه أن يتقبل منا الصيام والقيام، وأن يعفو عن الزلل والتقصير إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسل على نبينا محمد.