خطبة بعنوان “في العبادة راحة وطمأنينة” .

الخميس 23 جمادى الآخرة 1440هـ 28-2-2019م

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وداوموا على الطاعة تحقيقا للغاية من خلقكم وطلبا لمرضاة ربكم فالنجاة كل النجاة والسعادة كل السعادة في الطاعة والعبادة قال تعالى:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}.
ورد في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال ابن عمر: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عن، وقال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه.

وعلى أية حال فالآية لا تشير إلى شخص بعينه ولكنها تصور النموذج الصحيح للمؤمن الصادق في علاقته بربه سبحانه وعبادته له عبادة ملؤها الحب والشوق تتردد فيها العطفة بين الخوف والرجاء.

فالمؤمن الحق يرى في العبادة راحة قلبه وطمأنينة نفسه وشفاء أسقامه، ألم تسمعوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمؤذنه بلال (أقم الصلاة أرحنا بها) لأنه لا يقوم إليها متكاسلا كما يقوم المنافقين وأشباههم، لقد سجل القرآن موقف المنافقين عند القيام إلى صلاة قرآنا يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}.

إنهم يون العبادة عبئا ثقيلا يراؤون بهم ظهرا أمام الناس لكنه لا يصل إلى قلوبهم في حقيقة الأمر، أترون لماذا؟ لأنهم لا تربطم بخالقهم علاقة الإيمان والحب والشعور بأن الله هو الخالق الرازق المنعم المتفضل، الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، فهم عكس المؤمنين الذين تتصل أرواحهم بخالقهم عن طريق العبادة ويتزودون من رحمته وفضله وصدق الله العظيم { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.

عباد الله! لقد أوضح الله جل وعلا العبادات المفروضة من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها وترك باب التطوع مفتوحا للراغبين يتنافسون في ذلك وهم يعلمون حقيقة أن النوافل طريق القرب من الله ودليل المحبة الصادقة له وعلامة على صدق الاتباع لحبيبه ومصطفاه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

جاء في الحديث القدسي : ( ما تقرب إليَّ عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها).

قال ابن عباس رضي الله عنه: ” من أحب أن يهوَّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة”.

قال أهل التفسير : ” وأراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الملة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم وفيه ازدراء عظيم للذين يقتنون العلوم ويفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء”.

إنها صورة مشرفة وضيئة يلحظها الناس في بيوتهم إذا كان لربهم من يحقق معنى هذه الآية إنه القنوت والطاعة والتوجه إلى فاطر السماوات والأرض وهو ساجد وقائم يحذر الآخرة يخاف عقاب الله ويرجو رحمة ربه أي يرجو مغفرته وعفوه وجنته.
هذه الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة وتمنح القلب نعمة الرؤية والتلقي إنها ترسم صورة مشرقة من البشر توجد في كل زمان ومكان.

عباد الله! إن قيام الليل شرف للمؤمن لأنه فيه سمو روحه وصفاء نفسه وأمارة يقينه وإخلاصه بعيدا عن المراءاة.

إن هذا المؤمن الصادق الذي يقوم يناجي ربه ويتلو كتابه آناء الليل أي في أوله ووسطه وآخره { يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} فهو يعيش بين الخوف والرجاء وهي الدائرة التي ينبغي ألا يتجاوزها المؤمن لأنه إذا لم يعلم معنى الخوف والحذر لم يعمل ولم يستقم وإذا لم يعرف معنى الرجاء والطمع في رحمة الله أصابه اليأس { إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}.

وهذا الخوف والرجاء هو الذي يسيطر على سلوكه ووجدانه وروحه فتنطلق أعماله خالصة صادقة تجمع بين حسن الاتباع وعظمة الإخلاص وصدق الله العظيم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل الطاعة ميدانا يتنافس فيه المتنافسون وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجزل المثوبة للطائعين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام يتهجد من الليل حتى تفطرت قدماه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من النوافل تقربا إلى الله لتفوزوا بالجنة ونعيمها أسأل الله بمنه وكرمه أن نكون من أهلنا.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ثم قرأ هذه الآية {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}قال ابن عباس رضي الله عنه: ” الأمر في هذا أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره” .

وهذا الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا كما جاء مبينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال ادخل الجنة فيقول أي ربي كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب فيقول لك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضي رب فيقول لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت رب، قال موسى فأعلاهم منزلة قال: أولئك الذين أردت غرس كراميتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر).

قال الحسن رحمه الله:” أخفى القوم أعمالا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت”.
وقال ابن القيم رحمه الله:” تأمل كيف قابل سبحانه ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة”.

عباد الله!:إنما تقر الأعين برؤية العين بمن تحب أو ما تحب فطالبوا القلوب ما دمتم في دار العمل وراعوا الأحوال ليحصل لكم السرور في هذه الدنيا في الآخرة فمن كان على الخلة حشر عليها .

اللهم احشرنا مع محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه الطيبين والطاهرين، اللهم أوردنا حوضه وارزقنا مرافقته في الجنة فأكثروا من الصلاة والسلام عليه فذلك عنوان محبته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين…