خطبة بعنوان “الخوف من الله” بتاريخ

الخميس 23 جمادى الآخرة 1440هـ 28-2-2019م

الخطبة الأولى:

الحمد لله الخالق العظيم الذي من خافه دخل الجنة { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأرض والسماء وصاحب العظمة والكبرياء، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الخوف من الله أقوى أسباب الإصلاح وأفضل طرق التقوى والنجاح، قال تعالى:{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}.

وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أقرؤهم للقرآن وأفقههم في دين الله وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأولهم للرح)، وقال صلى الله عليه وسلم: (خير جلسائكم من ذكَّركم الله رؤيته وزاد في عملكم منطقه وذكركم الآخرة عمله)، وقال صلى الله عليه وسلم ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم ورجل ذكر الله خاليا ففضات عيناه).

عباد الله ! الناس حيال الخوف من الله فريقان: فريق أرقَّاء القلوب أقلاَّء الذنوب يعمل في نفوسهم الخوف من الله عمله، فرتاهم يخشعون ويتأثرون ويتفكرون في كلام الله جل وعلا، وفريق أشرار فجار وقعوا في المآثم والمظالم فكثرت ذنوبهم وقست قلوبهم وطغت عيوبهم وهؤلاء لا يمنعهم ويردعهم إلا التحذير والتخويف والتهديد بعذاب الله وأليم عقابه.
ولذا أفاض الله في كتابه العظيم من التحذير والتخويف والتهديد وهذا على سبيل التعميم وذكر الناس بجبروته سبحانه وسطوته وقهره قال تعالى: { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

وكل ما صيب الناس من المصائب والنكبات فإنما هي تأديب لهم على ما ارتكبوه من معاص وجرائم وما وقعوا فيه من مخالفات ومنكرات، قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.

والذنوب التي يرتكبها الناس تسود القلب وتكدر صفوها وتحدث فيها القساوة قال صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ) وصدق الله العظيم { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

عباد الله ! ومتى اسود القلب والعياذ بالله فإنه يقسو ولا يبقى فيه موضع للخوف ولا مكان للخشية ومن ثم غلب الأمن من العذاب على العصاة والمجرمين فلا يفكرون في العقوبة ولا في سوء الخاتمة ولا في الجزاء والحساب وينسون الموت وسكراته والقبر وظلمته والصراط وزلته وهاتيك الأحوال.

أما الأخيار والصالحون ومن غلب عليهم التفكر بما صنع الله وأبدع فهؤلاء يتولد في نفسوهم الخوف من الله وعلى قدر علم الشخص يكون خوفه من الله وصدق الله العظيم {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وقال صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية).

وقال ذات ليلة لعائشة:يا عائشة ذريني أتعبد لربي، فقالت: إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم كان جالسا فلم يزل يبكي حتى بل لحيته ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ولي لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}.

ولما نزلت عليه قول ربه جلال وعلا : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } ظهر الخوف عليه وعلم أن لا شأن له يذكر مع الأقربين فناداهم قائلا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا)

هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سار عليه صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فقد كان الخوف يقلق مضاجعهم ويسهر عيونهم ويجري دموعهم كما قال الله عن المتقين الصادقين: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.

فها هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه كان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، ولما مرض الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أن يصلي بالناس قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف حزين إذا قام مقامك لا يُسمع الناس من البكاء.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُرى أثر البكاء في وجهه وقد سمع ذات مرة تال يتلو القرآن فلما بلغ قوله تعالى { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ . مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} قال عمر: قسم ورب الكعبة حق فمكث طويلا حتى عاده الناس من المرض ولا يُدرى سبب مرضه.

وهكذا حال سائر الصحابة رضوان الله عليهم، فينبغي لنا الخوف من الله وصدق اللجوء إليه وعدم الاغترار بالصحة والنعمة فلو دامت لغيرنا لما وصلت إلينا إنما نحن مستخلفون مسؤولون يوم العرض على الله لابد من الندم على التفريط في طاعة الله والتقصير أداء ما أوجب علينا، لابد من الندم على أعمار تمر باللهو والغفلة والذهول، لابد من البكاء على قلوب قاسية ونفوس مخطئة وزلات متكاثرة وصدق الله العظيم: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل للطاعة نورا في قلوب الطائعين وجعل للمعصية ظلمة في قلوب العاصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ورضي الله على من تبعهم إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الذنب قد يبدو في ظاهرة الكسب والمتعة واللذة والغلبة ولكنه في حقيقة الأمر ظلمة في نفس مقترفه يشعر به دائما لأنه لا يعلم في قرارة نفسه أن ما يقوم به خطأ مخالف للشرع فيشعر بجريمته دائما كما يشعر بضيق الظلمة بين جنبيه ويحرم من الشعور بالسعادة الحقة وإن كان يبدي أمام الناظرين السعادة والضحك ولكن أثر الظلمة فتبدو على وجهه فيعرفها أقل الناس فراسة في هذا الأمر.

قال ابن عباس رضي الله عنه: ” إن للحسنة ضياء في الوجه، ونور في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القلوب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق”.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ” إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطئية يعملها ”
.
عباد الله!
هذا هو حال الطائعين وحال العاصين، هؤلاء هم الخائفون من الله الناجون من عذابه وأولئك هم العاصون المفرطون المذنبون.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من حزبه الخائفين وأن يحشرنا في زمرة المتقين إنه جواد كريم.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ….