فيض الرحيم الرحمن في أحكام ومواعظ رمضان (القسم الثاني) إلى الدرس السابع والعشرون.
وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف
والدعوة والإرشاد لشؤون المساجد
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] ( ).
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً] ( ).
وبعد:
فنظراً لرغبة الأئمة، حيث درجوا على أن يقرءوا على المسلمين بعض الدروس في رمضان، والتي تفيد المسلم في شؤون دينه ودنياه وتلك سنة حميدة؛ لأن الناس يقبلون في هذا الشهر على سماع المواعظ والتأثر بها.
وقد كان للقسم الأول الذي وضعته لهذا الغرض أثر كبير ولله الحمد، مما جعل الكثيرين يلحون عليّ بوضع دروس تقرأ بعد العصر وآخر الليل؛ ولذا قمت بوضع هذه الدروس وركزت فيها على الأخلاق الفاضلة لما لها من أهمية عظمى في حياة المجتمع المسلم.
فالأخلاق أرض خصبة تنمي قيمتنا وترفعنا من عال إلى أعلى، والأداء الدائم لها يجعل الإنسان حكيماً شجاعاً في خصومته، كريماً في رخائه، والالتزام بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم يطهر قلوبنا وألسنتنا من كل شيء بذيء ويطهر أنفسنا، ويجعلها ترقى إلى أعلى درجة في حسن التعامل مع غيرنا، خاصة إذا عشنا أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاق أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ تطبيقاً وواقعاً والتزمنا حديثه صلى الله عليه وسلم الذي روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)( ).
وركزت أيضاً على الأخلاق الذميمة الشائعة في المجتمع لما لها من ضرر كبير وعاقبة وخيمة على الأفراد والمجتمعات، يقول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويقول آخر:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتماً وعويلا
ولما كان للناس فيما بينهم حقوق وواجبات من خلال الصلات التي بينهم كالأخوة، والجوار، والأبوة، والبنوة، والزواج فقد آثرت أن أتحدث عن أهم هذه الحقوق الواجبة عليهم تجاه بعضهم البعض.
والمرء إذا أراد أن ينجو من عذاب الله يوم القيامة وأن يغفر الله له ويوفقه في الطاعة ويبارك له في كل شيء فعليه أن يحاسب نفسه كل يوم قبل أن ينام، وينظر في صفحة يومه، فإن وجد خيراً فليحمد الله وإن وجد غير ذلك فليبادر بالتوبة ويقبل على فعل الخيرات والأعمال الصالحة.
وليكن حيث أمره الله وليفتقد حيث نهاه الله وليزهد في الدنيا وزينتها الفانية، وليعمل للآخرة ونعيمها الدائم ويستعد للقاء الله سبحانه وتعالى، ويكثر من الدعاء أن يوفقه الله لذلك وأن يتغمده برحمته وأن يفقهه في الدين، لأنه إذا واظب على دروس العلم وأقبل عليها وصار يسمع للعلماء خاصة المحققين منهم استطاع بفضل الله تعالى من خلال هذا العلم أن يعرف ما هو الطريق الذي يجب أن يسلكه إلى شاطئ السلامة.
وقد بينت ذلك ووضحت هذه المعاني العظيمة من خلال حديثي عن فضل العلم، والاستقامة، والدعاء والزهد في الدنيا، والعمل للآخرة، والإيمان بالقضاء والقدر وغيرها من الموضوعات التي جاءت في ثنايا هذه الدروس وقمت بتقسيم هذه الدروس إلى قسمين:
القسم الأول: ثلاثون درساً خاصة تقرأ بعد الصلاة العصر في رمضان، يقرأ الإمام كل يوم درساً واحداً.
القسم الثاني: عشرة دروس تقرأ في صلاة التهجد آخر الليل.
وقد اجتهدت في عزو الأحاديث وتخريجها والحكم عليها لتكون الموعظة سليمة مؤثرة.
وفي نهاية عملي هذا أدعو الله عز وجل أن يجعله في ميزان الحسنات، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به كاتبه وقارئه وسامعه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه
أبو محمد/ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
مساء الأربعاء: 3/2/1417هـ ـ الزلفي ـ ص.ب 188
الأخلاق الفاضلة
ــــــــــــــــــــ
يقول تعالى مبيناً أن المرء ينال الدرجات العلى في الجنة بسبب الأخلاق الفاضلة: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أحب الناس إليه أصحاب الأخلاق الحسنة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن من أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقاً…)( ).
ويثقل ميزان العبد بحسن خلقه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)( ).
وبحسن الخلق يرضى الله سبحانه وتعالى على العبد ويحبه ثم يحبه الناس بحسن تعامله معهم، وعظيم خلقه، وكثرة حيائه، وقلة أذاه، وكثرة صلاحه وصدق لسانه، وقلة كلامه، وقلة زللـه، وزهده فيما في أيديهم، وثقته فيما في يد الله سبحانه، وحسن بره، وعظم وقاره، وصبره، وشكره، ورضاه وحلمه، ووفائه، وعفته، وبسط وجهه، واجتنابه المحارم، وطلبه الحلال لا يتكلف في امتثال هذه الأخلاق الحسنة، بل هو يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع سلوكياته. ليس لعّاناً، ولا سباباً، ولا نماماً، ولا مغتاباً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا بخيلاً، ولا حسوداً، يحب في الله، ويبغض في الله.
وإنّ منبع ومصدر هذه الأخلاق كلها الأسوة الحسنة والمثل الأعلى رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه فيما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)( ).
حديثه الذي رواه عنه صفوان بن سليم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم…)( ).
لكن المؤمن الحق هو الذي يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء ولا يترك خلقاً من الأخلاق قط، قائلاً: إن الداعي لذلك سوء معاملة الناس له، بل عليه أن يفعل مثلما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطي من حرمه.
الدروس الخاصة التي تقرأ بعد صلاة العصر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدرس الأول:
ـــــــــــــ
الاتحاد والتحذير من التفرق
ومن هذه الأخلاق الفاضلة التي سنتحدث عنها إن شاء الله (الاتحاد والتحذير من التفرق).
الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين بالإسلام وأمر بالاتحاد والتعاون، ونهى عن التفريق والتنازع في كتابه المبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقوي المتين، وأشهد أن محمداً رسول الله ذو القلب الرحيم والخلق الكريم، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحاب الذين طابت نفوسهم وصفت قلوبهم فكانوا هم السعداء الفائزين، وأما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ودعانا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوحدة والاعتصام، والتواد والتحاب مبيناً أن المؤمنين جميعهم جسد واحدٌ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)( ).
فالإسلام هو حبل الله القوي، والحق الواضح، من التزام أوامره فاز وسعد، ومن امتثل آدابه حظي بخيري الدنيا والآخرة، ومن تمسك به فقد هدي إلى صراط مستقيم.
وإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب علينا أمراً عظيماً إن نحن أطعنا الله فيه نُلنا من الخير ما نحب وبلغنا من الفلاح الغاية التي نطلب؛ ذلك أن تحدد قلوبنا، وتتألف نفوسنا، ونتعاون على الخير فيما بيننا، يكون تعاوننا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، فإن أساس كل نجاح وسعادة وتقدم ورُقي، الاتحاد والتعاون، وما حظيت أمة من الأمم برغد من العيش، ولا فاز شعب من الشعوب بالتقدم إلا باتحاد القلوب واجتماع الكلمة والتعاون على ما يصلح الفرد والمجتمع والتضامن للقيام بكل عمل مفيد.
فالمسلم الحق هو الذي لا يألو جهداً في مساعدة أي محتاج، بل هو حريص كل الحرص على التعاون مع الآخرين وعمل الخير في كل مكان، وهو يتحرك من خلال منطلق إيماني يدعوه إلى ذلك، وهذا المنطلق نابع من الإسلام الذي ينهى عن التهاجر والتقاطع والبغضاء والحقد والحسد، ويأمر بالاجتماع والائتلاف وينهي كذلك عن التفريق والاختلاف قال تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).، وقال تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
واعلم أخي المسلم أن الفرقة هي مآل كل شقاء وخسارة وندامة، بل إن المسلمين إذا تفرقوا ضعفوا، وما استطاعوا الانتصار على عدوهم حيث أصبحوا لقمة سائغة سهلة، لأن بقلتهم وتفرقهم يمتثلون ضعفاً ووهناً عظيماً، على العكس لو كانوا مجتمعين؛ فإنهم يمثلون قوة عظيمة ولا يستطيع أحدٌ أن ينال منهم حيث إنهم يملكون سلاحاً لا يملكه غيرهم وهو الإيمان بالله تعالى، قال تعالى: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
إذن فالإصلاح بين الناس، التآلف بين المؤمنين، والاعتصام بحبل الله المتين، والاجتماع على كلمة واحدة من أفضل الخصال المنجية من عذاب الله يوم القيامة، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بالاتحاد وينهى فيه عن التهاجر يقول فيه: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخواناً)( )، ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه أبو أيوب الأنصاري: (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)( ).
وإن من الأمور التي تزيد الود والمحبة بين الناس أن يبدأ المسلم أخاه المسلم بالسلام، وأن يناديه بأحب الأسماء إليه، وأن يوسع له في المجلس.
وإن من أعظم الأمور خطراً والتي تزيد الحقد والبغضاء والتفرق والتشاجر والتشاحن بين الناس، الغيبة والنميمة وسوء الظن.
فليجتنب المرء ما يجعل بينه وبين الناس عداوة، وليحافظ على ما يزيد الاتحاد بينه وبين الناس ويجعل علاقته بهم ذات أواصر قوية.
فعلينا أيها الأحبة في الله أن نزيل ما في قلوبنا من حسد وبغضاء وشحناء، وحقد وتهاجر، وعلينا أن لا نشمت أعداءنا فينا بالتفرق، وأن نغيظهم بالاجتماع والاتحاد والائتلاف، ولا ننسى أن الشيطان لما آيس أن يعبد في أرض هذه الجزيرة العربية الإسلامية، رضي بأن يُحرش بين المسلمين ويشن عليهم الغارات من جميع الجوانب، فمن اعتصم بالله وجاهد هذا العدو المضل المبين فاز وفلح، ومن اتبع هواه ولم يلتفت إلى ما أمره مولاه كان الهلاك أقرب إليه من حبل الوريد.
وعندما نقول: إن الاتحاد والتعاون ينتج عنهما كل سعادة ونجاح، نستدل لكم على ذلك بما كان للصحابة والتابعين والسلف الصالح من الشرف العظيم والعزة القوية التي قهروا بها الجبابرة، وأسقطوا عروش الظلم والاستبعاد، ونشر لواء العدل والمساواة بين الناس في كل مكان.
وأن ذلك لم يكن بسبب كثرة عددهم، ولا قوة عتادهم، ولكنهم نالوا ذلك بتوفيق الله ومنته بفضل الاتحاد والتعاون والصدق والوفاء والإخاء. قال تعالى: [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ).
أيها المسلمون: إن في حوادث الأيام لعبراً كثيرة، وعظات نافعة، والحوادث ونوائب الدهر تمر بنا في كل يوم فهل من متعظ؟ وهل من معتبر؟ أما آن لنا أن نفيق من سكرتنا؟ وننتبه من غفلتنا؟ ونعلم أن سعادتنا متوقفة على الاتحاد والتعاون، وصفاء قلوبنا، وإخلاص بعضنا لبعض، وامتثالنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه والذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)( ).
أم أننا سنظل في تفريقنا وتخاذلنا وشقاقنا وحسدنا؟ لا ريب أن أقوى عامل على رفع شأن الأمم، وأعظم ساعد على نهوضها، ونيلها منتهى العزة والشرف هو اجتماع القلوب واتحاد الكلمة وحسن العلاقة بالله عز وجل.
فها هو ربعي بن عامر يدخل على رستم أمير الفرس في موقعة القادسية بكل عزة، وفخر، وهو يركب بغلته القصيرة، وسيفه يتدلى من جرابه يقطع السجاد الأعجمي وهو لا يعبأ بذلك، ثم يعبر له عن الفكرة التي يعتنقها والرسالة التي يدعو إليها كل مسلم بعزة قائلاً: (لقد ابتعثنا الله عز وجل لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام)( ).
وما تفرقت أمة واختلفت كلمتها، وتنازعت في أمرها إلا اضمحل سلطانها، وزالت دولتها، وتبدل عزها ذلاً، ورفعتها انحطاطاً، وكان نصيبها الخسران المبين، والفشل الذريع.
أيها الإخوة الأحباب: إن العاقل من اتعظ بغيره، وفي الأيام السالفة الماضية لعبرة وعظة، فانظروا إلى ما كان عليه العرب في جاهليتهم كانوا على أسوء حال: حرب مستمرة نزاع دائم، تفرق مستحكم، يعتدي بعضهم على بعض، يبطش القوي بالضعيف، حيث لا دين يزجره، ولا قانون يردعه ولا إنسانية تحجزه، ولا منصف يوقفه عند حده حتى سطع نور الإسلام فأضاء بلاد العرب، وارتجت لأجله بلاد الفرس والروم، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره على يد الصادق الأمين صلوات الله وتسليماته عليه، فانظم إليه العقلاء والتف حوله السعداء فنزع الله من قلوبهم داء العداوة والبغضاء، وطهرها بدواء الإخلاص والمحبة، فصاروا روحاً واحدةً في جسد واحد، ففازوا بخير عميم، وكان لدولة الإسلام على أيديهم العز الذي لا يدانى، والسلطان الذي لا يضاهى؛ فقهروا الجبابرة، وانتصروا على الأكاسرة، وملكوا مشارق الأرض ومغاربها لم تنكس لهم راية، ولم ينهزم لهم جيش، بل انتصروا في كل الوقائع وكان كل منهم يعمل بإخلاص لإعلاء الدين ورفع شأنه، ناسياً حظ نفسه، وناسياً كل مأرب شخصي.
وما حازوا ذلك إلا عندما اتحدت كلمتهم وخلصت نيتهم، وصفت سريرتهم، لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ينامون وقلوبهم نظيفة حتى إن أحدهم ليبشر بأنه من أهل الجنة بسبب ذلك؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة) فطلع رجل من الأنصار تنطُف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لا حيت أبي فأقسمت أني أدخل عليه ثلاثاُ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم.
قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى صلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك فلم أراك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك. وفي لفظ أحمد: وهي التي لا نطيق( ).
فنتمنى أن يكون المسلمون جميعهم كذلك لا يحملون في قلوبهم شيئاً على إخوانهم؛ لما في ذلك من الأثر العظيم على أعمالهم وحياتهم، بل وعلى عباداتهم حتى إن الأمر ربما يتعلق بمغفرة الله لهم ورحمته إياهم بسبب هذا الأمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا أو اركوا هذين حتى يفيئا)( ).
فإياكم إياكم والشحناء التي تجعل المرء مذموماً عند الناس بل ينفر منه الناس كل الناس حتى أقربهم إليه، بل ربما ضاع وفقد خير كثير للأمة بخلق ذميم مثل هذا وهم يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)( ).
فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، وأصلحوا قلوبكم يصلح الله أعمالكم، وأخلصوا أعمالكم يصلح الله أحوالكم، وارحموا ضعفاء كم يرفع الله درجاتكم، وواسوا فقراءكم يوسع الله في أرزاقكم، وخذوا على أيدي سفهائكم يبارك الله لكم في أعماركم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يمنّ علينا جميعاً بالهداية والتوفيق، وأن يسلك بنا وبكم أحسن منهج وأقوم طريق وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصار دينه وشرعه، وأن يحفظ إمامنا المسلمين ويزيده توفيقاَ وصلاحاً وأن يحقق على يديه الخير للبلاد والعباد وأن يغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا ومن له حق علينا، وأن يتقبل منّا صيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الثاني :
ــــــــــــــــ
الحياء
الحمد لله الذي جمل الإنسان بالحياء ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله الصادق المصدوق الذي عدّ الحياء شعبة من الإيمان، أما بعد:
فالحياء من الأخلاق العظيمة التي دعانا إليها الإسلام وحثنا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فمن القرآن يقول الله تعالى: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ]( )،
ويقول تعالى: [إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ]( ).
أما من السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة منها: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أضرَّبك، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء من الإيمان)( ).
فاعلم أخي المسلم أن هذا الخلق وهو الحياء له أثر عظيم على أخلاق المرء كلها، بل على إيمانه فلنمتثل الأسوة الحسنة والمثل الأعلى لنا في الأخلاق وخاصة في هذا الخلق، في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه)( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الحياء والإيمان في قرن فإذا نزع الحياء تبعه الآخر)( )، وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)( ).
يدل هذا الحديث على أن هذا الكلام وهو التخلق بخلق الحياء مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن حتى وصل إلى أول هذه الأمة، ومعنى هذا الحديث أن من لم يستح صنع ما شاء؛ فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر.
واعلم أخا الإسلام أن الحياء يقرب العبد من ربه ويجعل العبد دائماً في مراقبة مع الله تعالى في كل أفعاله يستحي أن يفعل المعصية، بل هو يستحي أن يقابل الله عز وجل يوم القيامة، وعليه ذنوب، يستحي في الدنيا من الحفظة أن يعمل شيئاً قبيحاً، إلى حد أنه يستتر في عوراته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً من شدة الحياء فهو يستتر في طعامه، وفي نومه، وفي خلائه، وفي جماعه أهله، وما ذلك إلا من الإيمان والورع والخوف من الله تعالى.
يوضح ذلك الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء والعيُّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)( ).
الحياء نوعان:
أحدهما: ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب، وهو من أجلَّ الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها، وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)( )؛ فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من استحيا اختفى ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقي)( ).
الثاني: ما كان مكتسباً من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده واطلاعه عليهم وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان( )، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء). قال: قلنا: يا رسول الله إنّا نستحي والحمد لله. قال: (ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)( ).
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونستعيذك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم حسَّن أخلاقنا يا كريم وتجاوز عن سيئاتنا يا رحيم. وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدرس الثالث :
ــــــــــــــــ
العدل
الحمد لله الذي أعلى، درجة المسقطين ومنحهم حبه ووعدهم بظل عرشه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جعل العدل والمساواة من ركائز دولة الإسلام حين أنشأها فساد الأمن والطمأنينة بين الناس، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
ويقول تعالى: [َإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]( )، ويقول تعالى: [وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ضله: إمام عادل وشاب نشأ بعبادة الله…)( ).
فالله الله إذا قام العدل بين المسلمين، فالسعيد من عدل، والشقي من ظلم، العادل راضية عنه نفسه، محب له ربه، راضي عنه قومه، والظالم أحل لنفسه شيئاً حرمه الله على نفسه وهو الظلم، فنفسه به شقية، والبشرية منه في بلية، عقاب الله له بالمرصاد: في الدنيا زوال والعز وخراب الديار، وفي الآخرة النار، وبئس القرار، العادل لا يراعى إلا الله في عمله، فلا يحابي أحداً من الخلق؛ فإن دُعي إلى الشهادة أقامها بالقسطاس المستقيم لا يفرق فيها بين العدو والحميم، وإن دُعي إلى منصة القضاء استضعف الظلمة الأقوياء حتى ينتصر منهم للضعفاء، لا يفضل خصماً لماله وجاهه، بل كل الخصوم أمامه سواء حتى يقضي بينهم بالحق، ويعطي كلاً ما استحق، سلطان الله قائم في نفسه، لا يخضع إلا لأمره، يد الله تؤيده، وجند الله يمده، أولئك عباد الله المخلصون، أولئك حزب الله المفلحون، أولئك الذين تقوى بهم الدولة، وتعزّ بهم الأمة، فتعيش عيشة راضية أفرادها وجماعاتها، فقراؤها وأغنياؤها، ضعفاؤها وأقوياؤها يعيشون على أنفسهم مطمئنين، وعلى أموالهم وأعراضهم آمنين( )، وهم الذين قال فيهم الله سبحانه وتعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
ومن نماذج العدل الرائعة ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه، رجل من أهل مصر وكان قبطياً وقال له: يا أمير المؤمنين، سابقت على فرسٍ ابناً لعمرو بن العاص فسبقته، فجعل يقمعني بسوطه ويقول: أنا ابن الأكرمين، فبلغ ذلك أباه فخشي أن آتيك فحبسني في السجن، فانطلقت منه، فهذا الحين جئتك.
فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ـ وهو أمير على مصر ـ : إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وولدك فلان وقال للمصري: أقم حتى يجيء، فقدم عمرو فشهد الحج، فلما قضى عمر الحج وهو قاعد مع الناس وعمرو بن العاص وابنة إلى جانبه، قام المصري فرمى إليه عمر بالدرة وضربه فلم ينزع حتى أحب الحاضرون أن ينزع من كثرة ما ضربه وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، فقال: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت واشتفيت، قال: ضعها على صلعة عمرو، قال: يا أمير المؤمنين قد ضربت الذي ضربني، قال: أما والله لو فعلت ما منعك أحد حتى تكون أنت الذي تنزع. ثم قال لعمرو: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً( ).
اللهم ائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود، اللهم مكّن لدينك في الأرض وافتح له قلوب الناس، اللهم اجعل العدل يسود بين الناس اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعدل في رعاياهم والرفق بهم والاعتناء بأمور دينهم ودنياهم، اللهم واجز ولاة أمرنا عنا خير الجزاء على ما يقومون به من تحكيم شرع الله، والعناية بالمقدسات ورعاية الحجاج، وزوار بيت الله العتيق ومسجد الرسول الكريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدرس الرابع :
ــــــــــــــــ
الرحمة
الحمد الله الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعد جنته للمتقين المؤمنين، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله أرسله رحمة للعالمين، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ]( )، وقال تعالى: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ]( ).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء) ( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)( ).
والرحمة وإن كانت رقة القلب، وانعطاف النفس المقتضي للمغفرة والإحسان؛ فإنها لن تكون مجرد عاطفة نفسية لا أثر لها في الخارج( )، بل أنها ذات آثار خارجية، ومظاهر حقيقية تتجسم فيها في عالم الرؤية، ومن آثار الرحمة الخارجية؛ العفو عن ذي الزلة، والمغفرة لصاحب الخطيئة، وإغاثة الملهوف، ومساعدة الضعيف وإطعام الجائع، وكسوة العاري، ومداواة المريض، ومواساة الحزين. كل هذه آثار الرحمة، وغيرها الكثير؛ لأن المؤمن إذا أراد أن يرحمه الله فليرحم الناس، وإن أردا أن يغفر الله له فليغفر للناس، وإن أراد أن يعفو الله عن زلاته فليعفو عن الناس، عن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُقبل الحسن فقال: إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه من لا يَرحم لا يُرحم)( ).
فتراحموا أيها الناس فيما بينكم وواسوا فقراءكم، واعطفوا على صغاركم، وارحموا الضعفاء وكبار السن والمرضى والأرامل والأيتام فبهم ترزقون، وبصلاحهم تنصرون، ومن أجلهم من العذاب ترحمون ألا تسمعون لقول القائل: (لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع؛ لصب عليكم العذاب صباً).
واعلموا أحبتي في الله أن الرحمة تجعل قلب العبد رقيقاً، ومن لان قلبه ورقّ استطاع أن يخشع في صلاته ويبكي عندما تمّر به آية من آيات العذاب وهو يقرأ القرآن، وإن لم يبك فإنه يستطيع التباكي، على العكس من القاسية قلوبهم اللاهين عن ذكر الله والخوف منه يقرؤون القرآن بألسنتهم، لا يعرف الخوف من الله لقلوبهم طريقاً، يسمعون آيات العذاب تمّر بهم ولا تؤثر فيهم فهم على حالهم لا يتغيرون، ولا يبكون وإن كان عليهم أن يبكوا لفقدهم البكاء، ولكن أنى لهم ذلك؟
والقلوب لها أبواب والأبواب لها أقفال، والأقفال لها مفاتيح وهؤلاء أقفال أبواب قلوبهم قد صدأت، ومفاتيحها قد فقدت من طي النسيان، والبعد عن الله تعالى، فقسمت قلوبهم؛ فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة.
والرحمة إخواني في الله لا تتعلق بالإنسان فقط؛ حيث إنه يستطيع الدفاع عن نفسه ويستطيع الثأر والانتقام، بل الرحمة يجب أن تشمل جميع الكائنات التي خلقها الله عز وجل كالحيوانات والنباتات وغيرها من مخلوقات الله. وقارن أخي المسلم بين من يرحم حيواناً لا يعقل وانظر إلى الثواب الحاصل عن هذه الرحمة وبين من قسى على حيواناً أيضاً والنتيجة الحاصلة من وراء ذلك.
أما عن الثواب الحاصل من الرحمة فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله فغفر له.
قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) ( ).
أما النتيجة القسوة ففيها روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار، قال: فقال والله أعلم: (لا أنت أطعمتيها ولا سقيتيها حين حبستيها ولا أنت أرسلتيها فأكلت من خشاش الأرض)( ).
فتخير لنفسك أخي المؤمن في أي الفريقين تحب أن تكون؟
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم ارحمنا بالقرآن واجعله شفيعاً لنا لا علينا، اللهم تغمدنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم املأ قلوب المسلمين بالرحمة والعطف والإخاء وانزع من قلوبهم الغل والحقد والحسد والبغضاء. اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين وضاق النفس، اللهم اجعلنا من عبادك الرحماء.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدرس الخامس :
ــــــــــــــــ
الحلم
الحمد لله الحليم رب العرش الكريم ذي القوة المتين. وأشهد أن لا إله إلا الله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله ساد الناس بأخلاقه فكان يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه.
أما بعد:
فيقول تعالى: [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، ويقول تعالى: [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ] ( )، ويقول تعالى: [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ( ).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال: يا محمد! مُر لي مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر بعطاء)( )، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)( ).
فكن رفيقاً أخي المسلم حليماً بالناس وليسع صدرك جهل الجاهلين وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، وما عليك إلا أن تتضرع إلى الله وتطلب منه الهداية لهم. وكن مخفض الجناح لإخوانك، واصبر على الجاهل وعلمه برفق وحكمة وموعظة حسنة مقتدياً في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم في فعله وخلقه مع الأعرابي الذي بال في المسجد وثار إليه الناس ليقعوا به في الحديث الذي رواه أبو هريرة فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (دعوه وأهريقوا ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)( ).
فإذا غضبت أخي المسلم من شيء فتذكر ثواب الله على كظم الغيظ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخبره في أي الحور شاء)( ).
اللهم قنط منا الشيطان كما قنطته من رحمتك، وآيس منا الشيطان كما أيسته من مغفرتك، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم ارزقنا الصبر على ما يغضبنا، ووفقنا للالتزام بالأخلاق الحسنى.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدرس السادس :
ــــــــــــــــــ
العفة
الحمد لله الذي وعد من يستغني بالغنى ومن يستعفف بالعفة ومن طلبهما من غير الله ذل وضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الكريم، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله عفّ نفسه عن الحرام وتورع عن الشبهات؛ فاستحق الفردوس الأعلى في الجنة، أما بعد:
فيقول تعالى: [وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( )، ويقول تعالى: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ]( )، ويقول تعالى: [وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أوصني وأوجز فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاتك وأنت مودع، وإياك وما تعتذر منه)( )، وقال الحسن البصري: (لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه)( ).
من خلال النصوص السابقة ترى أخي المسلم أن العفة خلق له أثر عظيم على منزلة المسلم عند الناس فإن هو يئس فيما في أيديهم أحبوه، وإن هو طمع فيما في أيديهم أبغضوه.
وترى أيضاً من خلال الأحاديث والآيات السابقة أن العفة لها مظاهرة كثيرة فمنها: العفة عما حرم الله بأن يكف عما لا يحل ويبتعد عن كل ما يغضب الله من زنا، وفواحش وغير ذلك، وأن يغض بصره ويستعفف حتى يرزقه الله عز وجل مؤونة الزواج؛ فيتزوج ويحصن نفسه، ومنها العفة عن المال الحرام والتي أمر الله بها في قوله: [وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
ومنها: العفة عما في أيدي الناس، فكن أخي المسلم عفيفاً مستغنياً عما في أيدي الناس؛ لتبقى عندهم سيداً محبوباً جليلاً مهيباً ينتفع بك، واعلم أنك إذا طمعت فيما في أيدي الناس فقد بعت دينك بدنياك وأصبحت لديهم محتقراً مهيناً، ممقوتاً، ثقيلاً، مرذولاً، وهان عليك كل ما تلاقيه من أنواع الذلة والإهانة في سبيل الحصول على ذلك الحطام الفاني، وهذا يا أخي هو السقوط الذي لا خلاص منه والفقر الذي لا غنى معه.
فكن نزيه النفس عن شبه المكاسب واكتف بالميسور عن ذل المطالب؛ فإن شبه المكتسب إثم، وكدّ الطلب ذل، والأجر أجدر به من الإثم، والعزّ أليق به من الذل( )، وصدق من قال:
لا تخضعن لمخلوق على طمع
*** فإنّ ذلك نقص منك في الدين
لن يقدر العبد أن يعطيك خردلة
*** إلا بإذن الذي سواك من طين
فلا تصاحب غنياً تستعز به
*** وكن عفيفاً وعظم حرمة الدين
واسترزق الله مما في خزائنه
*** فإن رزقك بين الكاف والنون
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك ولا تكلنا إلا إليك، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين حتى لا نذل، اللهم ارحمنا برحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك يا كريم.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدرس السابع
القناعة
الحمد لله القائل: [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى]( )، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، سبحانه وتعالى يعطي ويمنع ويجود ويصفح، خيره إلى العباد نازل فمنهم شقي وسعيد، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله رضي الله من الدنيا بالقليل فكتب الله له السعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنه لم يأخذ منها إلا ما يعينه على طاعة الله عز وجل، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس…)( ).
وعدّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه القناعة من مظاهر التقوى وأساسيتها فقال: (التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل).
فكن أخي الحبيب راضياً بما قسم الله ولو كان قليلاً يبارك الله لذلك فيه، واقنع بذلك بقلب راض مطمئن، وإياك والطمع والحرص على الدنيا أو الانهماك في طلبها واحذر ذلك حذراً شديداً؛ لأنه ربما يؤدي بك إلى أن تحصل رزقك مما حرّم الله لتكثر أموالك.
فالمؤمن الواعي الفطن الذي يبتغي مرضاة الله تعالى هو الذي يتحرى الحلال في كل شيء خاصة في رزقه ليكون مجاب الدعوة ويبتعد عن الحرام مهما كثر، لقد كانت الصحابيات يُوصين أزواجهن وهم ذاهبون إلى العمل فكانت الواحدة منهن تقول لزوجها: يا عبد الله، أطعمنا من حلال ولو قليل يبارك الله لك، وإياك والحرام وإن كثر فإننا نصبر على جوع الدنيا ولا نصبر على عذاب الآخرة.
واعلم أخا الإسلام أن خزائن الله لا تنفد وأن كل شيء يسير بأمره سبحانه فلا تعبأ بأمور الدنيا وكن قنوعاً بنصيبك في كل شيء، فلقد مرّ أحد الصالحين على رجل مهموم فسأله قائلاً: يا هذا هل ينتقص من عمرك لحظة كتبها الله لك؟ قال: لا، قال: هل ينتقص من رزقك درهماً واحداً كتبه الله لك في رزقك؟ قال: لا،قال: هل يحدث في الكون كله أمر بدون إرادة الله؟ قال: لا، فقال له: علام الهم إذن؟
واعلم أخي في الله أن الحرام لا يبارك الله فيه مهما كثر، وصدق من قال:
جمع الحرام على الحلال ليكثره *** جاء الحرام على الحلال فبعثره
والمرء وإن كان يملك أشياء قليلة في قيمتها ومستواها ونوعها إلا أنها ذات قيمة عالية في عين المؤمن الرضي بما قسم الله؛ لأنه ينظر إلى ما يمتلكه نظرة طيبة عظيمة بأن هذا الشيء وإن كان قليلاً فهو يغنيه عن سؤال الناس ويقتنع به ويرضى، بل هو في أشد السعادة بهذا الممتلك القليل، كان محمد بن واسع رحمه الله، يبل الخبز بالماء و]أكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد.
لذا قال بعض الحكماء: (وجدت أطول الناس همّاًً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع، …)( ).
أيها الناس اقنعوا بما قسم الله لكم ولا تجتهدوا في جمع الدنيا؛ لأنكم لن تأخذوا منها إلا شيئاً من القماش يكون كفناً لكم، واعلموا أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، واسمعوا قول القائل:
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها
*** هل راح منها بغير الزاد والكفن
خذ القناعة من دنياك وارض بها
*** لو لم يـكن لــك إلا راحـة البـدن( )
اللهم ارزقنا القناعة واجعلها لنا بضاعة، اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع ونفس لا تشبع.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدرس الثامن :
ــــــــــــــــ
الإحسان
الحمد لله الذي وعد المحسنين بالجنة وتفضل عليهم بأن يروا وجهه الكريم يوم القيامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه العزيز: [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله خير من أحسن إلى الناس مع إساءتهم إليه؛ لأنه كان يعمل ما يقربه إلى الله وإلى الجنة، أما بعد:
فقد ذكر الإحسان في القرآن الكريم في مواضع عدة؛ فتارة مقروناً بالإيمان كقوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، وتارة مقروناً بالإسلام كقوله تعالى: [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]( )، وتارة مقروناً بالتقوى كقوله تعالى: [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ]( )، والآيات في الإحسان كثيرة.
أما من السنة: فعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)( )، وكانت إجابة النبي صلى الله عليه وسلم على سؤال جبريل عندما سأله ما الإحسان؟ فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فأنت أيها المسلم إذا أمرت بمراقبة الله في العبادة أيّاً كان نوعها، واستحضار قربك منه حتى كأنك تراه، فإنه قد يشق عليك ذلك فتستعين على ذلك بإيمانك بأن الله يراك، ويطلع على سرك، وعلانيتك وباطنك وظاهرك ولا يخفى عليه شيء من أمرك)( ).
فقد قال بعضهم: خف الله على قدر قدرته عليك واستحي من الله على قدر قربه منك( ).
والإحسان في العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك هو استكمال شروطها، وأركانها، واستيفاء سننها وآدابها.
وأما الإحسان في المعاملات فهو للوالدين ببرهما وطاعتهما، وإيصال الخير إليهما، وإكرام صديقهما، وكف الأذى عنهما، والدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما.
والإحسان للأقارب ببرهم ورحمتهم، والعطف عليهم، وترك ما يسيء إليهم، أو يقبح قولهم، أو فعله معهم( ).
والإحسان لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم، وعدم قهرهم، والهش في وجوههم، والمسح على رؤوسهم.
والإحسان للمساكين بسد جوعتهم، وستر عورتهم، والحث على إطعامهم وعدم المساس بكرامتهم، فلا يحتقرون، ولا يزدرون.
والإحسان لابن السبيل بقضاء حاجته، ورعاية ماله وإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضل.
والإحسان إلى الخادم بإيتائه أجره قبل أن يجف عرقه، وعدم إلزامه ما لا يلزمه، وتكليفه ما لا يطيق، وأن يطعم مما يطعم منه أهل البيت إن كان خادماً للبيت وكسوته مما يكسبون.
والإحسان إلى الحيوان بإطعامه إن جاع والرفق به إن عمل وإراحته إن تعب ومداواته إن مرض.
اللهم اجعلنا من المحسنين، وشفع المحسنين منا في المسيئين، وتجاوز عن سيئاتنا وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا من الشاكرين لنعمتك يا أرحم ما الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس التاسع :
ــــــــــــــــ
الصدق
الحمد لله الذي جعل الصديقين في منزلة بين النبيين والشهداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الودود اللطيف الكريم، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الصادق المصدوق الذي ما جُرب عليه كذب قط حتى قبل بعثته؛ فاستحق أن يطلق عليه الصادق الأمين، أما بعد:
فيقول الله تعالى آمراً بالصدق: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( )، ويقول تعالى في الثناء على أهل الصدق: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)( ).
أخي المسلم: إن الاستمساك بالصدق في كل شأن وتحريه في كل قضية والمصير إليه في كل حكم، دعامة ركينة وأساسية في خلق المسلم وصبغة ثابتة في سلوكه، أما الكذب أو خلف الوعد، والتدليس، والافتراء فهي أمارات النفاق، وعلامات تنبئ عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها.
والمسلم لا ينظر إلى الصدق كخلق فاضل يجب التخلق به فحسب، بل إنه يذهب إلى أن الصدق من متممات الإيمان، ومكملات الإسلام كما أوضحت النصوص السابقة التي تناولناها.
وإذا كانت هناك أعذار لمن يخاف أو يبخل أو غير ذلك، فلا عذر البتة لمن يتخذ الكذب خلقاً يعيش به على خديعة الناس، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)( ).
واعلم أخي في الله أن للصدق ثمرات يجنيها الصادقون، منها:
1ـ راحة الضمير وطمأنينة النفس، عن الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : (… الصدق طمأنينة …)( ).
2ـ البركة في الكسب، وزيادة الخير، عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)( ).
3ـ الفوز بمنزلة الشهداء: عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغة الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)( ).
4ـ النجاة من المكروه: يروى أن والياً خطب يوماً فأطال الخطبة فقال أحد الحاضرين: الصلاة! فإن الوقت لا ينتظرك، والربّ لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أن الرجل مجنون فقال الوالي: إن أقر بالجنون خلصته من سجنه، فقال الرجل: لا يسوغ لي أن أجحد نعمة الله التي أنعم بها عليّ وأثبت لنفسي صفة الجنون التي نزهني الله عنها، فلما رأى الوالي صدقة خلى سبيله.
وإن أردت معرفة صدق أحد الناس فلا يمكنك ذلك إلا إذا كان هذا الشخص متصفاً بالصدق في أمور عدة، منها:
1ـ الصدق في الحديث: فالمسلم إذا حدث لا يحدث بغير الحق والصدق وإذا أخبر فلا يخبر بغير ما هو الواقع في نفس الأمر، إذ إن كذب الحديث من علامات النفاق كما بينا سابقاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف)( ).
2ـ الصدق في المعاملة: فالمسلم إذا عامل أحداً صدق في معاملته فلا يغش ولا يخدع، ولا يزور، ولا يغرر بحال من الأحوال.
3ـ صدق العزم، فالمسلم إذا عزم على فعل ما ينبغي فعله لا يتردد في ذلك بل يمضي في عمله غير متلفت إلى شيء أو مبال بآخر حتى ينجز عمله، ودائماً ما يلجأ إلى الله عز وجل قائلاً: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل) مقتدياً في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح كالحسن البصري، الذي عندما سئل عن أسباب زهده في الدنيا ذكر منها قوله: (علمت أن لي شغلاً لن يشغله غيري فعلمت به).
4ـ صدق الوعد: فالمسلم إذا واعد أحداً أنجزله ما وعد به، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثمن الكلمة التي يقول، ويحترم الكلمة التي يسمع، وكان ذلك شارة الرجولة الكاملة فيه حتى قبل أن يرسل إلى الناس، فعن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت، فإذا هو في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت، فإذا هو في مكانه فقال: (يا فتى لقد شققت عليّ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك)( ).
5ـ صدق الحال: فالمسلم لا يظهر في غير مظهره، ولا يظهر خلاف ما يبطن، فلا يلبس ثوب زور، ولا يرائي، ولا يتكلف ما ليس له، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)( ).
فهو بذلك يتظاهر بالزهد وهو ليس بزاهد ولا متقشف، فإن توفرت هذه المظاهر في شخص ما فاعلم أنه صادق حقاً.
اللهم احشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم أجري الصدق على ألسنتنا، اللهم اهدنا لصالح الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اجعلنا من المتقين الصادقين يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس العاشر والحادي عشر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكرم
الحمد لله الكريم رب العرش العظيم وعد المتصدقين بالأجر الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله فاق كرم أخلاقه أن عفا عن أعدائه بعد أن علت كلمة الله وملك الأمر في قريش؛ فإذا به يقول لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) كما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه( )، أما بعد:
فالسخاء من أخلاق المسلم والكرم من شيمه، والمسلم نفسه طاهرة وقلبه مشرق بإيمانه بالله سبحانه وتعالى وعمله الصالح، وإشراق القلب وطهارة النفس يتنافى معها أن يتصف الإنسان بالشح والبخل.
والشح وإن كان مرضاً قلبياً عاماً لا يسلم منه البشر إلا أن المسلم بإيمانه وعمله الصالح كالزكاة والصلاة يقيه الله تعالى شر هذا الداء الوبيل ليعده للفلاح، ويهيئه للفوز الأخروي، قال تعالى: [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( )، وقال تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ]( )، وقال تعالى: [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
فدعوة الإسلام إلى الجود والإنفاق مستفيضة مطرودة، وحربه على البخل موصولة متقدة، ولا يوجد في الدنيا ولن يوجد نظام يستغني فيه البشر عن التعاون والتكافل الاجتماعي والمواساة والرحمة، بل لابد لاستتباب السكينة وضمان السعادة من أن يعطف القوي على الضعيف، وأن يرفق المكثر بالمقل، ما دامت طبيعة المجتمع البشري أن تتجاوز فيه القوة والضعف والإكثار والإقلال.
والله سبحانه وتعالى قد خلط الناس بعضهم ببعض وجعل اختلاطهم على اختلاف أحوالهم اختباراً عظيماً يمحص به الإيمان ويوزع به الفضل، قال تعالى: [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً]( ).
وإنه لأمر شاق جداً على النفس أن ترى شخصاً مشقوق الثياب تكاد فتوته تكشف سوءته، أو حافي الأقدام أبلى أديم الأرض كعوبة وأصابعه، أو جوعان يمد عينيه إلى شتى الأطعمة ثم يرده الحرمان وهو حسير.
والذين يرون هذه الصورة المفزعة ثم لا يكترثون بها ليسوا بشراً في قلوبهم رحمة فبين البشر رحم يجب أن توصل ولا تمزقها الفاقة؛ خاصة وأن نبينا صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين قد دعانا إلى الكرم والجود وحثنا عليه في أحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام فيما روى عنه ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب مكارم الأخلاق ويكره سفاسفها)( )، وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)( )، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)( ).
وبما أن الإنسان قد جبل على حب المال والحرص الشديد على اقتنائه؛ لذا تجده يفكر في نفسه كثيراً وفي الآخرين قليلاً، ولو أن بعض الناس أوتي ما في الأرض جميعاً بل لو أنه امتلك خزائن رحمة الله لما طوعت له نفسه الشحيحة أن ينفق بسعة ولقامت له من طبيعته الضيقة علل شتى وأسباب كثيرة تضع في يديه الأغلال عن الإنفاق، قال تعالى: [قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً]( ).
إخوتي في الله: اعلموا أن الأموال المستخفية في الخزائن والمختبئ فيها حق المسكين والبائس، شر جسيم على صاحبها في الدنيا والآخرة؛ إنها أشبه شيء بالثعابين الكامنة في جحورها كأنها رصيد الأذى للناس، بل إن الإسلام بيّن أنها تتحول فعلاً إلى حيات قد أمرقت واحتدت أنيابها تطارد صاحبها لتقضم يده التي غلها البخل كما بينت ذلك الأحاديث الصحيحة، وإن من العجب أن يشقى امرؤ في جميع ما يتركه لغيره، وبذلك يصدق قول القائل: (البخلاء يبخلون على الناس ببعض أموالهم حتى إذا ماتوا خلفوا لهم جميع أموالهم).
إن كل ما يتعلق به البشر من حطام الدنيا سوف يتركونه لمالك السماوات والأرض وسينقلون إلى ربهم عراة لا مال ولا جاه كما خلقوا أول مرة وسيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، فلا غرو إذا توعد الله من ينسى هذه الحقائق وينطلق في ربوع الأرض، لا هم له إلا جمع ما يضره ونسيان ما يفيده.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (عاد بلالاً فأخرج له صبرة من تمر فقال … أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً)( ).
وإن للكرم مظاهر كثيرة منها:
1ـ أن يعطي الرجل العطاء في غير منّ ولا أذى قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ]( ).
2ـ أن يفرح المعطي بالسائل الذي سأله، ويسر لعطائه، وفي هذا المعنى الطيب يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاثة لا أعرف كيف أكافئهم، والرابع يكافئه عني ربي، فأما الثلاثة فرجل بدأني بالسلام، ورجل ناداني بأحب الأسماء إلي، ورجل وسع لي في المجلس، وأما الرابع الذي يكافئه عني ربي، فأما الثلاثة فرجل بدأني بالسلام، ورجل ناداني بأحب الأسماء إلي، ورجل وسع لي في المجلس، وأما الرابع الذي يكافئه عني ربي فهو رجل نزلت به نازلة فرآني أهلاً لأن ينزلها بي ففعل).
3ـ أن ينفق المنفق في غير إسراف ولا تقتير قال تعالى: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً]( ).
4ـ أن يعطي المكثر من كثيره والمقل من قليله في رضا نفس وانبساط وجه وطيب قول، قال تعالى: [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( ).
5ـ أن يكون كريماً ويتصدق عندما ينعم الله عز وجل عليه بالمال بعدما كان فقيراً، خاصة وأنه ذاق الحرمان ويعلم أن الحسنة بعشر أمثالها وأن الله سبحانه وتعالى مجازيه بالخير والرحمة على ما يقدم.
يروي أن الأغنياء ذهبوا يهنئون هارون الرشيد بالعيد الفطر أمر له هارون بأن تملأ له جرة ثلثها ذهب وثلثها فضة وثلثها طعام، وبعدما انتهى الأغنياء من تهنئتهم دخل رجل فقير فألقى عليه السلام وهنأه بالعيد، فسأله هارون من أنت أيها الرجل؟ فقال الرجل: أنا من الرعية التي يرعاها أمير المؤمنين. ثم سأله وما الذي جاء بك؟ فقال الرجل: جئت أنهل من بحر جودك يا أمير المؤمنين.
فأمر هارون بأن تملأ له جرة كاملة ذهباً فاعترض الأغنياء، إنه لا يعرف قدر الذهب يا أمير المؤمنين ولا يعرف كيف ينفقه، ولم يعبأ أمير المؤمنين باعتراض الأغنياء وأمر أحد الحراس أن يتبع الرجل ويراقبه من بعيد دون أن يراه الرجل ليرى ماذا سيصنع الفقير بالذهب، وتبعه الحارس ساعة وعاد مهرولاً يقول: يا أمير المؤمنين لقد ذهب هذا الرجل إلى مكان يكثر فيه الفقراء وأخذ ينادي قائلاً: أيها الناس، أيها الفقراء هلموا إلى رزق الله، هلموا إلى حقوقكم، فاجتمع عليه ناس كثير وأخذ يقسم عليهم الدراهم درهماً درهماً فما أبقى لنفسه درهماً واحداً منها.
فقال هارون: أسرع بإحضاره فأحضره الحارس ومثل الرجل بين يدي أمير المؤمنين فسأله: أين المال؟ فقال الرجل: رجعت به إلى صاحبه يا أمير المؤمنين، فقال هارون: ومن صاحبه؟ قال الرجل: الرزاق ذو القوة المتين الذي رزقك به، فقال هارون: لنعاملنك بمعاملة القرآن حيث يقول الله تعالى: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، ثم أمر الحارس أن يملأ له عشر جرات ذهب وأمره أن يتبعه أيضاً فتبعه الحارس وعاد إلى هارون ليقول له: يا أمير المؤمنين لقد عاد الرجل إلى سابقته، فأمره أن يحضره إليه فأحضره فسأله هارون: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فأنشد الرجل يقول:
يجود علينا الخيرون بمالهم *** ونحن بمال الخيرين نجود
وهكذا يجب أن نكون أخي المسلم منفقين في سبيل الله كرماء من أهل الجود، وأن نعمل على تنمية الأخلاق الفاضلة التي نريد أن نتخلق بها بإيراد خاطرنا على ما ورد في الشرع الحكيم من ترغيب في تلك الأخلاق وترهيب من ضدها.
فمن أراد تنمية خلق الكرم في نفسه فليعكف قلبه متأملاً متدبراً في مثل قول
الله تعالى: [وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ]( )،
وقوله تعالى: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى]( ).
وليعلم المسلم أن بذل القليل اليوم سيرجع غداً أو بعد غد بالكثير، وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى العطاء الجميل قرضاً حسناً، لا يرده لصاحبه مثلاً أو مثلين بل يرده أضعافاً مضاعفة، وبين للعبد أن نفقته على غيره وسيلة لأن يغدق الله تعالى على هذا العبد من خزائنه التي لا يلحقها نفاد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنفق عليك. وقال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع)( ).
اللهم اجعلنا من الكرماء الأسخياء الذين ينفقون في السراء والضراء، اللهم عاملنا بلطفك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم ارزقنا العافية في أبداننا والعصمة في ديننا وأحسن منقلبنا ووفقنا للعمل بطاعتك أبداً ما أبقيتنا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الثاني عشر والثالث عشر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصبر
الحمد لله ولي الصابرين وولي الذين آمنوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بشر الصابرين بصلاته ورحمته وهداه، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله خير من صبر من عباد الله لإعلاء كلمة الله ونشرها في ربوع المعمورة كلها.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، ويقول تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ]( )، ويقول تعالى: [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)( )، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… والصبر ضياء …) ( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يصب منه)( ).
إن من محاسن أخلاق المسلم التي يتحلى بها: الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى.
أما الصبر فهو حبس النفس على ما تكره أو احتمال المكروه بنوع من الرضا والتسليم، فالمسلم يحبس نفسه على ما تكرهه من عبادة الله وطاعته، ويلزمها بذلك إلزاماً ويحبسها دون معاصي الله عز وجل فلا يسمح لها اقترابها، ولا يأذن لها في فعلها مهما تاقت لذلك بطبعها وهشت له؛ فإنه إن فعل ذلك وأصبح أميراً عليها قادها إلى الجنة، أما إن تأمرت هي عليه قادته إلى نار جهنم بسبب كثرة ميلها إلى الشهوات والهوى.
والمؤمن يحبس نفسه على البلاء إذا نزل بها فلا يتركها تجزع ولا تسخط، وقد قال الحكماء: الجزع على الفائت آفة، وعلى المتوقع سخافة. وهو يستعين في ذلك بذكر الله، تعالى، والجزاء الحسن على الطاعات وما أعد لأهلها من جزيل المثوبات والأجر وذكر وعيده تعالى لأهل معصيته من أليم العذاب وشديد العقاب، ويتذكر أن أقدار الله جارية وأن قضاءه تعالى عدل وأن حكمه نافذ صبر العبد أم جزع،غير أنه مع الصبر الأجر ومع الجزع الوزر.
والمسلم عندما يتحلى بهذا الخلق فهو يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي صبر وصابر على أذى قومه في سبيل تبليغ دعوة الله عز وجل حتى إنهم وضعوا سلى الجزور على رأسه الشريفة ووضعوا على رأسه التراب وهو راكع، وضغط عقبة بن أبي معيط على عنق النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى قال الرسول: ظننت أني قد قبضت، وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بلده مكة وضيق الخناق على دعوته وأتباعه فذهب إلى الطائف عله يجد من يؤمن برسالته لكن سفهاء الطائف وصبيانها قذفوا الرسولصلى الله عليه وسلم بالحجارة بتسليط من كبرائهم حتى سال الدم من عقبه الطاهر، ومع ذلك كله صبر وكان يصبّر أصحابه فيقول لبعضهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) ( ).
ومع هذا الصبر العظيم تتمثل الأخلاق العالية الحميدة في قولته صلى الله عليه وسلم التي رواها عنه ابن مسعود رضي الله عنه قائلاً: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)
وهذا خباب بن الأرت يقول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)( ).
والصبر يقوم على حقيقتين هامتين:
أما الأولى فتتعلق بطبيعة الحياة فإن الله لم يجعلها دار جزاء وقرار بل جعلها دار تمحيص وامتحان والفترة التي يقضيها المرء بها فترة تجارب متصلة الحلقات يخرج من امتحان ليدخل في امتحان آخر، وقد يكتب الله على البعض صنوفاً من الابتلاء ربما انتهت بمصارعهم، وليس أمام الفرد إلا أن يستقبل البلاء بالصبر والتسليم، وما دامت الحياة امتحاناً فلنكرس جهودنا للنجاح فيها.
والحقيقة الثانية تتعلق بطبيعة الإيمان( ).
فالإيمان صلة بين الإنسان وبين الله عز وجل وخضوع هذه الصلة للابتلاء ما هو إلا تمحيص لها؛ فإما أن يكشف عن طيبها وإما أن يكشف عن زيفها، قال الله تعلى: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ]( ).
ولكي تبين الحقيقتان يقوم الصبر ومن أجلهما يطالب الدين به بيد أن الإنسان، ومن عادته تجاهل الحقائق، يدهش للصعاب إذا لاقته، ويتبرم بالآلام وإذا ما مسته، ويقوم له من طبعه الجزوع ما يبعض له الصبر ويجعله في حلقه كريه المذاق؛ فإذا أحرجه أمر، أو صدمته خيبة أو نزلت به كارثة، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه الأيام مهما امتدت وحاول أن يخرج من حالته بأسرع من لمح البصر، وهي محاولة قلما تنجح؛ لأنها ضد طبيعة الدين والدنيا وأولى بالمسلم أن يدرب نفسه على طول الانتظار، قال تعالى: [خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ]( ).
والصبر من عناصر الرجولة الناضجة والبطولة الصادقة؛ فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله لم يستأجر له أطفالاً أو مرض أو خوارين، إنما ينتقي له ذوي الكواهل الصلبة والمناكب الشداد، كذلك الحياة لا ينهض برسالتها الكبرى ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صبارون، ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء مكافئاً لما أوتوا من مواهب ولما أدوا من أعمال؛ فالأنبياء هم أكثر الناس بلاءً.
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: (قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)( ).
فأكثر الناس بلاءً هم الأنبياء بطبيعة مهمتهم في هذه الحياة وهي تبليغ دعوة الله عز وجل وهو طريق شاق حافل بالعقبات والأشواك، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب بل هي حقيقة كبرى ينبغي أنم يعيها السالكون والسائرون على طريق الأنبياء والمرسلين، ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن أكثر الناس صبراً هم الأنبياء بل إن الصبر من أهم عوامل نجاحهم في دعوتهم قال الله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ]( ).
ونبي الله أيوب عليه السلام ضرب لنا أروع الأمثلة في الصبر عندما صبر على بلاء الله مدة طويلة ثم رفع أكف الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى يسأله أن يكشف عنه هذا الضر والبلاء واستجاب الله سبحانه وتعالى لنبيه أيوب عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ]( ).
ولنأخذ العبرة والعظة والدرس من نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام وما حدث له عندما ضاق صدراً بالقوم في لحظة من اللحظات وألقى عبء الدعوة وذهب مغاضباً، ضيق الصدر حرج النفس فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذوبين، ولو لا أنه تاب إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه لما فرج الله عنه هذا الضيق، يقول الله تعالى: [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ]( ).
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة وكل نسمة رخية وكل رجاء في الفرج، ويستبد به الضيق ويثقل عن صدره الكرب فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء، إلا إنه سبيل لاحتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله، وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ومضاعفة الشعور به والعجز عن دفعه بغير عون الله سبحانه وتعالى.
أما الذين صبروا على بلاء الله وعلى فتنة الناس وفتنة النفس وجاهدوا في سبيل الله فأولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع أعمالهم ولن ينسى جهادهم، وسينظر إليهم من علياء سمائه فيرضيهم وسينظر إلى جهادهم في سبيله فيهديهم وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم يقول الله تعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وتتجلى أعلى مراحل الصبر في موقف أم سليم الرميصاء وهي أم أنس بن مالك لما مات لها ابن من أبي طلحة فإذا هي بقوة الإيمان والصبر الراسخ والثقة في الله التي لا تتزعزع تقوم فتغسّل لبنها وتكفنه وتسجيه بثوب وتضعه في ناحية من نواحي البيت وتهيئ العام لزوجها وتستقبله بالبشر ثم تهيئ نفسها لزوجها وعندما أصبحت بعدما قضى زوجها منها وطره تسأله ـ كما تقول رواية مسلم ـ قائلة: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك.
ونص الحديث هو ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (اشتكى ابن لأبي طلحة قال: فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة قال: فبات فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبره بما كان منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما. قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لها تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن)( ).
فعلى ضوء هذه الصور الناطقة والأمثلة الحية من الصبر والتحمل يعيش المسلم صابراً محتسباً متحملاً، لا يشكو ولا يسخط ولا يدفع المكروه بالمكروه ولكن يدفع السيئة بالحسنة ويعفو ويصبر ويغفر، قال تعالى: [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]( ).
وقال بعض الصابرين: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري، وأصبر حتى يأذن الله في أمري، وأصبر حتى يعلم الصبر أني صابر على شيء أمرّ من الصبر.
اللهم اجعلنا من الصابرين، وأجرنا في مصائبنا خيراً وارزقنا الثبات عند البلاء، اللهم إنا نسألك الثبات على الإسلام والسنة وألا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ونعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس الرابع عشر:
ــــــــــــــــــــــــ
الإيثار
الحمد لله الذي أعد الفلاح للمؤثرين الناس على أنفسهم، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي هو أرحم على الوليد من أمه، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله علّم أصحابه الإيثار والأخوة وعدم حب النفس فسادوا الدنيا بأسرهم، أما بعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يضيفه هذه الليلة، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا رسول الله.
فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله، لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة. فأنزل الله عز وجل [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
فمن أخلاق المسلم التي اكتسبها من تعاليم دينه ومحاسن إسلامه الإيثار على النفس وحب الغير، فالمسلم متى رأى محلاً للإيثار آثر غيره على نفسه وفضله عليها، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه، بل قد يموت في سبيل حياة آخرين، وما ذلك بغريب ولا جديد على مسلم تشبعت روحه بمعاني الإسلام العظيمة، وانطبعت فيه نفسه بطابع الخير وحب الفضيلة، تلك هي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟
وكما أن الله سبحانه وتعالى اختار نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وخصه، بمزايا لم تكن لسواه من الناس حاشا الأنبياء والمرسلين الذين أثنى الله عليهم في غير موضع من القرآن تنبيهاً على علو منزلتهم، وعظيم فضلهم وشرفهم، وأثنى الله سبحانه وتعالى على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى يصفهم بالرحمة ولين الجانب لبعضهم بعضاً وشدتهم على الكفار المعاندين: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
ويبين الله أخلاق الأنصار الذين استقبلوا إخوانهم المهاجرين بحب وإيثار وتضحية وبذل وفداء بدون أن تتضرم القلوب أو توغل الصدور، فيقول سبحانه: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
والمسلم في إيثاره وحبه للخير ناهج نهج الصالحين السابقين وضارب في درب الأولين الفائزين. وأخلاق المسلم الفاضلة كلها بل كل الخصال الحميدة والجميلة إنما هي مستوحاة من الرحمة الإلهية أو مستقاة من الحكمة المحمدية، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال: لجاره ما يحب لنفسه)( ).
على مثل هذا القول الطيب تزداد أخلاق المسلم علواً وسمواً، وإليك أخي المسلم بعض النماذج الحية والصور العظيمة في الإيثار فلقد وصل الإيثار أعلى مراحله بين المهاجرين والأنصار عندما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أنا أكثر أهل المدينة مالاً ولي بستانان، ولي امرأتان، أرضى عندك حتى أطلقها لك.
ونقول: إن النفس البشرية ربما تسمح بالتنازل عن الماء وغيره إيثاراً لكن أشد ما يكون المرء حريصاً عليه هو عرضه… زوجته لا يسمح لغيره أن يقربها، لكن الإيثار وصل بالصحابة أن تتنازل أحدهم عن زوجته لأخيه المهاجرين، لكن عفة المسلم اتضحت جلية في قول عبد الرحمن بن عوف وهو يرد على أخيه سعد ابن الربيع قائلاً: بارك الله لك في أهلك ومالك ولكن دلني على السوق لكي أعمل وأتجر وأربح من عمل يدي( ).
وصورة أخرى تبين المعنى العظيم للتضحية والفداء وهي أنه: في دار الندوة وافق مجلس شيوخ قريش بإجماع الآراء على الاقتراح المقدم من أبي جهل بالقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وقتله واغتياله في منزله، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القرار الغاشم وقد أذن له بالهجرة فعزم عليها وبحث عن من ينام على فراشه فوجد ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعرض عليه الأمر فلم يتردد عليٌ في أن يقدم نفسه فداءً للرسول صلى الله عليه وسلم ونام وهو لا يدري متى تتخطفه السيوف لترمي به إلى المتعطشين إلى الدماء، وآثر الرسول بالحياة فضرب بذلك مع حداثة سنه وقتئذ أروع مثل في التضحية والفداء والإيثار وهكذا يؤثر المسلم على نفسه ويجود حتى بنفسه، والجود بالنفس أقصى غاية الكرم والإيثار.
وصورة ثالثة تبين أن المسلم يمكن أن يؤثر أخاه المسلم على نفسه بشربة ماء ربما كانت سبباً في إنقاذ حياته، يقول حذيفة العدوي انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي( ) ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم، فإذا رجلُ يقول: آه، فأشار ابن عمي إليّ أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، رحمة الله عليهم أجمعين، وهكذا يضرب هؤلاء الشهداء الثلاثة الأبرار أعلى مثال في الإيثار، وتفضيل الغير على النفس، وهذا هو شأن المسلم في هذه الحياة( ).
اللهم اجعلنا منالؤثرين على أنفسهم ولو كان بنا خصاصة، اللهم اجمعنا مع الأنبياء والأتقياء والكرماء، اللهم آت أنفسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وأنت رب العرش العظيم، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم حسن أخلاقنا جميعاً، اللهم ارزقنا التحلي بأخلاق القرآن، اللهم يسرنا لليسرى وجنبينا العسرى، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يوم القيامة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس الخامس عشر:
ــــــــــــــــــــــــ
الحسد
الحمد لله الذي جعل سلامة الصدر سبباً من أسباب دخول الجنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الذي أمره ربه أن يتعوذ من شر الحاسد كما أمره أن يتعوذ من الشيطان في قوله تعالى: [وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ]( ).
أما بعد:
فالمسلم لا يحسد ولا يكون الحسد خلقاً له ولا صفاً فيه ما دام يحب الخير للجميع ويؤثر على نفسه فيه، والمسلم يبغض خلق الحسد ويمقت عليه؛ لأن الحسد اعتراض على قسمة الله فضله بين خلقه، قال تعالى: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
والحسد من الذنوب المهلكات ومعناه: أن يجد الإنسان في صدره وقلبه ضيقاً وحرجاً وكراهية لنعمة أنعم الله بها على عبد من عباده في دينه أو دنياه حتى أنه ليحب زوالها عنه وربما تمنى ذلك أو سعى في إزالتها، والحسد من مداخل الشيطان إلى القلب فالحسد إذا غطى القلب ـ أعاذنا الله وإياكم ـ ولم يبصر استطاع الشيطان الدخول إليه.
ولذا لما كان الحسد بهذه الدرجة ورد فيه تشديد عظيم حتى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه أنس بن مالك رضي الله عنه: (الحسد يأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب…)( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (…ولا يجتمعان في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد) ( ).
والذي يجب أن يفهم من هذا الحديث أن الإيمان الصادق الكامل الذي يستحضر صاحبه أن كل أفعال الله لحكمة لا يجتمع مع الحسد الذي يغضب من فعل الله وقسمته.
عن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا)( )، وكأن المراد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : أن الخير يرتفع من الناس عندما يتحاسدون وكيف لا يرتفع منهم الخير وكل منهم يتمنى أن يزول الخير الذي عند أخيه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا…)( ).
واعلم أخي المسلم أن الحسد قسمان:
أولهما: أن يتمنى المرء زوال النعمة من مال أو علم أو جاه أو سلطان عن غيره لتحصل له.
وثانيهما: وهو شرهما أن يتمنى زوال النعمة عن غيره ولو لم تحصل له ولو لم يظفر بها.
والحسد بقسميه محرم تحريماً قطعياً، والحسد نتيجة من نتائج الحقد وثمرة من ثمراته المترتبة عليه؛ فإن من يحقد على إنسان يتمنى زوال نعمته ويغتابه وينم عليه ويعتدي على عرضه ويشمت فيه لما يصيبه من البلاء، وكثيراً ما ترى الحاسد ينقب عن مساوئ المحسود فيبرزها على صفة الذم فينتبه المحسود لها فيتجنبها كما قيل:
عُداتي لهم فضل عليّ ومنّةٌ
*** فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاياد
هموا بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
*** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ويقول آخر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
*** طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار في جزل الغضا
*** ما كان يعرف طيب العود
ويقول ثالث:
إني حُسدت فزاد الله في حسدي
*** لا عاش من عاش يوماً غيرد
ما يحسد المرء إلا من فضائله
*** بالعلم والظروف أو بالبأس والجود( )
وأما ما لا يعد من الحسد ويقال عنه غبطة: فهو تمني حصول نعمة مثل نعمة غيره من علم أو مال أو إصلاح حال بدون تمني زوالها عن غيره لقوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمه فهو يقضي بها ويعليهما)( ).
وعلاج الحسد متى خطر للمسلم خاطر الحسد بحكم بشريته وعدم عصمته
مقاومته بدفعه من نفسه، وكراهيته له حتى لا يصير هماً أو عزيمة له فيقول بموجبة أو يعمل فيهلك، وإن أعجبه شيء قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ وبذلك لا يؤثر فيه بإذن الله تعالى، ويسلم
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر وشتات الأمر ووسوسة الصدر، اللهم طهر قلوبنا من الحسد والغل والحقد، اللهم نقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلنا بالماء والثلج والبرد، اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس السادس عشر :
ــــــــــــــــــــــــ
الكسل
الحمد لله الذي جعل السعي والحركة سبباً في الرزق والبركة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الذي كان يتعوذ كثيراً من الهم والحزن والعجز والكسل، أما بعد:
فالمسلم لا يعجز ولا يكسل، بل يحزم وينشط، ويعمل ويحرص؛ لأن العجز والكسل من الأخلاق الذميمة التي استعاذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم …)( ).
وأوصى صلى الله عليه وسلم بالعمل والحرص، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو كان كذا كان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)( ).
فلهذا لا يرى المسلم عاجزاً ولا كسولاً، وكيف يقعد عن العمل، أو يترك الحرص على ما ينفعه، وهو يؤمن بنظام الأسباب ومجريات السنن في الكون، بل كيف يتكاسل وهو يعلم أن الأخذ بالأسباب من مظاهر الإيمان بالله سبحانه وتعالى؟ وقد ذكر الحسن البصري أن من أسباب زهده في الدنيا قوله: (علمت أن لي شغلاً لن يشغله غيري فعلمت به).
وكيف يقعد المسلم عن العمل وهو يسمع هاتف القرآن به( ): (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وقوله تعالى: [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ]( ).
وإذا تكاسل المسلم فإن ذلك يؤثر على دعوته وأمته، وها هو الشاعر يتعجب من بعض شباب هذا العصر الذين انشغلوا بأمور تافهة وتكاسلوا عن تحصيل العلم الشرعي فيقول:
سلوا الشباب شباب العصر كم حفظوا
*** من سورة العصر أو من سورة القلم
وكم حديثاً لخير الخلق قد فهموا
*** وهو المصدق بعد الوحي في الكلم
والراشدون نسوا أسماءهم وهموا
*** كالشمس في الغيم أو كالبدر في الظلم
إبليس زخرف دنيا اللهو مصيدة
*** كالشوك في الورد أو كالسم في الدسم
ونحن نتساءل عمّن سينقذ الأمة إذا تكاسل كل منّا وقعد عن العمل وتوقف الإنتاج ووقفت مسيرة الحياة وانغمس الناس في الملذات والشهوات؟ فعلينا أحبتي في الله أن نجعل النشاط وعلو الهمة والعزيمة شعارنا في هذه الحياة، وألا نؤخر عمل اليوم إلى الغد ونأخذ على أيدي الكسالى ونعلمهم علو الهمة والسعي والاجتهاد في العمل.
وليعلم المرء المسلم أن للكسل مظاهر وما هي إلا تزيين من الشيطان فليستعن بالله ويبتعد عنها ومنها:
1ـ أن يسمع المرء نداء المؤذن للصلاة ويتشاغل عن الإجابة بنوم أو كلام أو عمل غير ضروري حتى يكاد يخرج وقت الصلاة فيقوم فيصلي منفرداً في آخر وقت الصلاة.
2ـ أن يترك العمل النافع كتعلم العلم أو غراسة الأراضي أو عمارة المنازل أو مساعدة أهل حيه في مشروع هام يخص أحد مرافق البيئة بحجة أنه غير أهل لهذا العمل أو أن هذا العمل يتطلب وقتاً واسعاً وزمناً طويلاً، وإذا به يترك الأيام تمر والأعوام تمضي ولا يعمل عملاً ينتفع به في دنياه أو أخراه وما ذلك من شيم المسلم ولا صفاته خاصة وأنه يعلم يقيناً أن الإسلام يدعو إلى الهمة والنشاط والسعي والحركة وينهي عن التكاسل أو التعاجز كما جاء في الآيات والأحاديث الصحيحة.
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم دبر لنا فإنا لا نحسن التدبير، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا ونسألك القصد في الفقر والغنى يارب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس السابع عشر :
ـــــــــــــــــــــــ
الغضب
الحمد لله الذي خلق الغضب وجعله ركيزة في المخلوقين وجعل علاجه الصبر والحلم وبذلك يستقر النظام ويقف كل واحد عند الحد الذي قدره الله له في هذه الحياة قال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه ما غضب إلا الله وما تمعر وجهه إلا للحق، أما بعد:
فلقد ذم الله سبحانه وتعالى الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب والتهور بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل عليهم من السكينة والثبات فقال تعالى: [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني قال: لا تغضب فردد مراراً قال: لا تغضب)( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي نفسه عند الغضب)( ).
وللغضب أسباب كثيرة منها: الجدال، والمزاح، والسخرية بالناس، والاستهزاء بهم، وإطلاق اللسان في السب واللعن والغيبة والنميمة، وإذا نهي من يفعل ذلك في كثير من الأحيان غضب غضباً شديداً بحماقة ولم يكترث بما يقال له.
ومن أسباب الغضب: مصاحبة الأشرار، الذين لا يفرقون بين الممدوح والمذموم من الغضب، فيحسبون التهور والطيش شجاعة، ويعدون طغيان الغضب الموجب للظلم رجولة ويتبجحون بذلك فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على مكروه ولا على مكر ولا أتحمل من أحد أمراً، فإذا سمعه الجاهل رسخ في ذهنه حسن الغضب وأحب التشبه بمثل هؤلاء فيقوى به الغضب.
ومن أسباب الغضب: فوات اللذات والشهوات من مطعم ومشرب ومسكن ونحو ذلك لكن إن كانت هذه الأشياء مملوكة له وحيل بينه وبينهما فإن كان بدون عذر شرعي فله أن يغضب حتى يحصل عليها أو يستردها ويكون غضبه في هذه الحالة ليس مذموماً، ثم إن كان الذي فاته ضرورياً كان الغضب من أجله واجباً، وإن كان كمالياً كان الغضب من أجله جائزاً، وإن كان حراماً عليه أو ليس مملوكاً له كان الغضب مذموماً.
ولما كانت هذه المتطلبات اليومية لها أهميتها في حياة الإنسان جاءت هذه الوصية العظيمة من أمامه بنت الحارث إلى ابنتها أم إياس بنت عوف بن مسلم الشيباني وهي تقول لها فيها تجاه زوجها: أي بنيتي أوصيك بالتفقد لوقت منامه وطعامه؛ فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة( ).
ومن أسباب الغضب الوشايات والنمائم بين الناس؛ فمن الناس من يغضب لمجرد وشاية نقلت إليه عن بعض الناس أو لمجرد نميمة بلغته من نمام بدون أن يتثبت من الأمر فيعتدي على الأبرياء بإزالتهم عن أعمالهم أو نقلهم عنها إلى بلاد بعيدة جداً، أو يتسبب في قطع ما هو لهم من أرزاق أو يؤذيهم في أبدانهم أو يقدح في أعراضهم بدون أن يلتفت إلى قول سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
علاج الغضب:
الغضب أيها الأخوة المؤمنون: إما أن يكون طبعاً في الإنسان أو مكتسباً، فإن كان طبعاً فيه فليجتنب الأسباب المثيرة له كالتكبر والافتخار والاستهزاء بالآخرين والمزاح والجدل وغيره.
أما إن كان الغضب مكتسباً بالعادة والاختلاط فعلاجه اجتناب مصاحبة الأشرار والابتعاد عنهم واجتناب الأسباب المهيجة للغضب المذكورة آنفاً، وأن يعلم أن ليس للإنسان أن يغضب إلا لدينه أو نفسه أو عرضه أو ماله، وما وراء هذا فالغضب رذيلة يجب الاحتراس منها( ).
ومن العلاجات أيضاً أن يخوف نفسه بعقاب الله فيقول: قدرة الله عليّ أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو نفذت غضبي عليه، فما آمن أن يمضي الله غضبه عليّ يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو.
ومن العلاجات أيضاً أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو ومن العلاجات أيضاً: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب فيتمثل صورة غيره وهو غضبان كالكلب الضاري أو السبع العادي، ويتمثل صورة الحليم أنه يتشبه بالأنبياء والعلماء والحكماء والصالحين، ويخير نفسه في أي الصورتين يود أن يكون.
وعلى المسلم دائماً أن يتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاق الصحابة والسلف الصالح في مثل هذه المواقف، فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يلقى صنوف الأذى من المشركين ولا يزيد على أن يقول فيما روى عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)( ).
وإذا اقتفينا آثار الصحابة والسلف الصالح وتتبعنا سيرهم وجدناها مليئة بالصبر عند الغضب وكظم الغيظ ومن ذلك ما يروى عن أمير المؤمنين عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كان يسير في المسجد ليلاً ذات مرة فتعثر في رجل نائم في المسجد فاستيقظ الرجل من نومه فزعاً وأمسك بتلابيب ثوب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقال له: أحمار أنت؟ فقال عمر: لا، فأخرج الجندي الذي كان يسير مع أمير المؤمنين سيفه وقال: دعني يا أمير المؤمنين أضرب عنقه، قال عمر: ولم؟ قال: لأنه سبّك وأنت أمير المؤمنين، قال عمر: إن الرجل سألني سؤالاً أحمار أنت؟ فقلت: لا. هكذا أيها الأحبة في الله كانت أخلاق الصحابة والتابعين.
وروي أيضاً أن الإمام الشافعي رحمه الله قابله أحد الناس حين عودته من صلاة الصبح فقال له: أيها الإمام إنك لفاسق، فقال الشافعي: اللهم إن كان فيّ ما يقول فاغفر لي، وإن لم يكن فيّ ما يقول فاغفر له يارب العالمين.
وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لا جزاء لمن عصى الله فينا بأن سبّنا وشتمنا إلا أن نطيع الله فيه بأن ندعو له قائلين: اللهم اغفر له اللهم ارحمه.
وهكذا يجب أن نكون نحن أيضاً صابرين عند الغضب، نكظم غيظنا ونعفو عمن ظلمنا ونعطي من حرمنا ونصل من قطعنا ونتقصى الحقائق قبل إصدارنا لأي حكم حتى لا نندم مرة ثانية لأن الغضب كثيراً ما يخرج صاحبه عن الحق ويؤدي به الهلكة.
اللهم جنبنا كل خلق رذيل واجعل غضبنا لك ولابتغاء وجهك الكريم، اللهم ارحم ضعفنا، وجد علينا بكرمك وأفض علينا من نعمك وتغمدنا برحمتك وعاملنا برأفتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس الثامن عشر :
ـــــــــــــــــــــــ
الكبر
الحمد لله الذي جعل الكبرياء رداءه والعظمة إزاره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله خير من تواضع لله فرفعه الله إلى أعلى الدرجات، أما بعد:
فيقول تعالى: [وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)( )،وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)( ).
إن خلق الكبر من الرذائل التي يتأكد تحريمها ويجب اجتنابها، والكبر يثير الغضب والحقد ويورث العداوة والبغضاء ويورث الاحتقار والازدراء بالناس واغتيابهم، ويجافي بين الصدق وكظم الغيظ وقبول النصح ويعمي المرء عن عيوبه ويحول بينه وبين العلم والانقياد للحق( ).
والكبر داء منشؤه جهل المرء بنفسه وحكمه الله في أمره، والكفر بنعمة ربه، فما عرف فرعون قدر نفسه حينما قال: أنا ربكم الأعلى، وما أدى قارون شكر النعمة حينما قال: إنما أوتيته على علم عندي.
فيا من يتقلب في ظلماته ويرتع في شهواته، إن الكبرياء لمن فطر السماوات،
والسلطان الأعظم لمدبر الكائنات، من شاركه فيه غلبه، ومن نازعه فيه قصمه؛ فإن كنت ملكاً فسلطانك لا يعلو سلطان ربك، وإن كنت ذا مال فإنما هو من مواهب مولاك.
أغرك من ربك أيها المتكبر أن خولك جاهاً تجول فيه؟ أو غرّك منه أن منحك مالاً تصول به، والذي حملك على بغيك هذا نبأ المستكبرين. تا لله ما جاء نبؤهم إلا بسلطان الله؛ فطرد إبليس من رحمته، وأهلك فرعون على جرأته، وخسف الأرض بقارون لكفره بنعمته، فباءوا بالنكال وبئس مثوى المتكبرين، يا ابن آدم ما لك والكبر وأنى يكون لك؟ هل أنت في غشيتك وسكرتك لا تفيق؟( ).
انظر بقلبك قبل بصرك إذ أنت لم تدرك حكمة خالقك، فهلا أبصرت عيوب نفسك التي بين جنبيك؟ وهلا شممت نتن إبطيك؟ أو لا تزيل بيدك خبث فرجيك؟ فما أجهلك بنفسك وما أظلمك! والله لا يحب كل كفار أثيم، أتضع أيها المتكبر ولا ترتفع فما أنت إلا عبد أخرجك ربك من العدم، ورعاك في ظلمات الأرحام وقومك في أحسن الصور، ألم تستمع إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يصفك ويذكرك بأصلك فيقول: إن الإنسان أوله نطفة مذرة وآخر جيفة قذرة، وما بين الاثنين يحمل العذرة. وكأن مقصود علي رضي الله عنه أن الإنسان بين الحياة والموت مورد للأدران، ومجمع للأقذار فسبحان الله، ما أقدر من أحكم هذا الإنسان والله على كل شيء قدير.
فيا من يجر ذيل الكبرياء والخيلاء، ويكفر بنعمة الله، ويزدري الضعفاء قد وضح أمرك وتم نصحك، فما بالك لا تبالي بمهاوي الوبال، ولا ترجع عن سيئات الأعمال وأنت على نفسك بصير، يقول الله تعالى: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
والكبر له أسباب كثيرة: فقد يكون عن صفة كمال كالعلم والنسب والجاه والسلطان، وربما نشأ عن غرورهم بحيث يعتقد أنه أكمل من غيره خطأ وجهلاً، وهذا برهان على نقصان عقله.
فإذا كان الكبر ناشئاً عن العلم كان صاحبه قدوة رديئة، ومثالاً سيئاً خاصة إذا دفعه الكبر إلى صفة ذميمة كالحسد والحقد وغيره، أما العلم النافع فهو الذي يربي الأنفس ويطهرها من الصفات الرديئة ويعرف العبد ربه ونفسه وخطر أمره؛ وهذا يورث الخشية والتواضع فيكون صاحبه مثالاً حسناً في الناس وقدوة صالحة في الأقوال والأفعال.
وإن كان الكبر ناشئاً عن الجاه والسلطان فإن غالبه يفضي إلى شر أنواع الظلم وانتهاك المحارم من حقوق الله وحقوق العباد، فما ترتب عليه مظلمة أو ضياع حق فهو الكبر الضار، والله تعالى يقول: [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]( ).
وقال بعض الحكماء: من برئ من ثلاث نال ثلاثاً: من برئ من السرف نال العز، ومن برئ من البخل نال الشرف، ومن برئ من الكبر نال الكرامة التواضع.
لكن المتكبر كالمغرور فكثيراً ما تفوته الحقائق العلمية؛ لأنه تأبى عليه نفسه أن يأخذ الحق حيث وجده لذا قيل: يضيع العلم بين الحياء والكبر، ثم إن كان المتواضع تلميذاً يجد لطفاً وعطفاً من الأستاذ فلا يبخل عليه بمجهوده، ولا يشح عليه بفائدة؛ لأن التواضع يستلزم الأدب. يقول الشاعر( ):
إن التواضع من خصال المتقي
*** وبه التقيّ إلى المعالي يرتقي
ومن العجائب عجب من هو جاهل *** في حاله أهو السعيد أم الشقي
أم كيف يُختم عُمره أو روحه
*** يوم النوى مستفل أو مرتقي
وقيل: إن أصول الخطايا كلها ثلاثة: الكبر وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره، والحرص وهو الذي أخرج آدم من الجنة، والحسد وهو الذي جرَّ أحد ابني آدم على أخيه.
فمن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبغي والظلم من الحسد.
اللهم اجعلنا من المتواضعين واحشرنا في زمرة الأنبياء والصديقين، اللهم وفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب، واغفر لنا ولو الدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس التاسع عشر :
ـــــــــــــــــــــــــ
الغيبة والنميمة
الحمد لله الذي نهى عباده عن سوء الظن والغيبة وترك التجسس والريبة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الذي ربى أصحابه على الفضائل من الأخلاق، وحذرهم من حصائد ألسنتهم التي تؤدي بالناس إلى نار جهنم، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره)( ).
إذاً فالغيبة هي ذكر الرجل بما فيه من خلفه وهي من الأمور المحرمة قطعياً في الشرع لما رواه يحي بن أبي كثير عن رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا أحد وسبعون أو قال: ثلاثة وسبعون حوباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم)( ).
الله أكبر، أين العقول؟ أين الإيمان الذي يعمر النفوس؟ أين الإيمان الذي يمنع حظوظ النفس وشهواتها؟ أين الإيمان الذي يمنع الاستطالة في أعراض المسلمين؟ ما أعظم حرمة الربا وأشدها! لقد بلغ من عظيم أمره أن جعل الله تعالى الإيذان بالحرب على من يتعامل به وإن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه، أفلا يتعظ الإنسان أفلا يعقل كلام الله عز وجل؟ أفلا يتفكر في ترهيب الرسول من هذا الخلق العضال الذي يهدم بناء الأسر والمجتمعات بل الأمة كلها لما له من آثار ذميمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (… يا رسول الله، إن صفية امرأة وقالت بيدها هكذا ـ كأنها تعني قصيرة، فقال: لقد مزجت بكلمة لو مزجت بها ماء البحر لمزج)( ).
سبحان الله ألا ترى ما يفعله المغتابون اليوم، وألسنتهم لا تكل ولا تمل مما يفعلون. أي بحار تمزج كلماتهم لو مزجت بها؟ وأي مياه تنتن؟ وأي طيب عيش يفسدون؟
إن على المسلم الحقيقي ألا يجلس مع المغتابين، وأن يعرض عن استماع الغيبة والقول القبيح الذي يقال في المؤمنين وأن يرد غيبة أخيه المسلم؛ فإن ذلك من حقوقه عليه وعلى الذي يغتاب أن يعلم أن الغيبة من الذنوب التي يعذب بها المرء في القبر كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة والأقوال المأثورة، من ذلك ما قاله عمرو بن العاص رضي الله عنه حين مرّ على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: (لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم)( ).
وذكر رجل آخر بسوء أمام صاحبه فقال له: هل غزوت الروم؟ قال: لا، قال: هل غزوت الترك؟ قال:لا، قال: سلم منك الروم، وسلم منك الروم، ولم يسلم منك أخوك المسلم!( ).
وقيل إن ضعفت عن ثلاث فعليك بثلاث إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر، وإن كنت لا تستطيع أن تنفع الناس فأمسك عنهم ضرك، وإن كنت لا تستطيع أن تصوم، فلا تأكل لحوم الناس.
وصدق من قال:
المرء إن كان عاقلا ورعاً
*** أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله
*** عن وجع الناس كلهم وجعه
ما يباح من الغيبة:
ويباح من الغيبة ستة أمور هي:
1ـ التظلم كالتظلم للسلطان والقاضي، ودليل ذلك ما روته أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن هند قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، وأحتاج أن آخذ من ماله فقال صلى الله عليه وسلم : (خذ ما يكفيك وولدك بالمعروف)( ).
2ـ الاستفتاء: كأن يقول للمفتي ظلمني أخي، أو فلان فما طريقتي في الخلاص، وغير ذلك.
3ـ الاستعانة على تغيير منكر أو رفع بلاء عن مسلم، لحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (… فلما حللت ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضيع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد…)( ).
4ـ تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر، وممن يضر بالمسلمين، ومن ذلك جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك للذبّ عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة: (ومما يدل على ذلك دلالة بينة، ما ورد في النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وخاصتهم، فإن بيان كذب الكذابين من أعظم النصيحة الواجبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع المسلمين)( ).
5ـ ذكر المجاهر بما فيه، أو صاحب البدعة ببدعته، عن عائشة رضي الله عنها قالت: اسـتأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة…)( ).
6ـ التعريف إن كان الإنسان معروفاً بلقب معين كالأعرج، والأعمى
والأصم، ونحو ذلك، ولا يحل إطلاقه على وجه التحقير والتنقيص، وإن أمكن
تعريفه بغير ذلك فهو أفضل وأولى.
وقد جاءت هذه الأغراض الستة الشرعية المذكورة آنفاً منظومة في بيتين:
القدح ليس بغيبة في ستة
*** متظلم ومعرف ومحذر
ومجاهر فسقاً ومستفت ومن
*** طلب الإعانة في إزالة منكر
أما النميمة فهي تقل الكلام بين الناس على وجهة الإفساد يقول الله تعالى: [وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ]( ).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة نمام)( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين يعذبان فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الأخر فكان يمشي بالنميمة…)( ).
واعلم أخي المسلم أن النمام مفش للسر، هاتك للستر، مفرق للأحبة، واعلم أن من نمّ لك نمّ عليك،فلا تصدق النمام؛ لأنه فاسق مردود الشهادة قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا( ) أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
وعليك أخي المسلم أن تنهى النمام عن ذلك الخلق الذميم وتنصحه وتبين له أن هذا الفعل من الرذائل قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ).
وعليك أيضاً أخي المسلم ألا تنقل ما قاله لك النمام إلى غيرك، روي أن عمر ابن عبد العزيز دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك؛ فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( )، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: [هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ]( )،وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً( ).
وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن فلاناً يذكرك بسوء فقال له عمرو يا هذا، ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حيث أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين( ).
اللهم جنبنا الأخلاق الذميمة جميعها وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم يا حي يا قيوم فرَّغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكلفت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك ويرضى بقضائك ويقنع بعطائك ويخشاك حق خشيتك، اللهم اجعل رزقنا رغداً، ولا تشمت بنا أحداً، اللهم رغبنا فيما يبقى وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعوّل في الدين إلا عليه، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس العشرون :
ــــــــــــــــــــــ
إرشاد الصائمين
الحمد لله الذي أذاق الطائعين حلاوة الطاعة، وعلق قلوب الموفقين بالمساجد والجماعة، وجعل السعادة للصائمين القائمين الخاشعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وفق من شاء للتجارة معه فكانوا هم الرابحين، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله إمام الصائمين والصابرين المتواضعين، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين صانوا صيامهم عن اللغو والكذب فكانوا هم الفائزين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
أيها الصائمون: إن التجارة ينتظرون المواسم لعظيم الرواج فيها فإذا جاءت تلك المواسم شمروا عن ساعد الجد في أعمال التجارة، واستحضروا من الأصناف أجودها وأعلاها واختاروا من الألوان أجملها وأحسنها، يسوقهم إلى هذا رجاء الربح، وقد تحملهم شدة الحرص عليه إلى التضحية براحتهم، ومفارقة الأهل والأحباب والإخوان والأوطان، ويركبون البحار ويتعرضون للأخطار والمخاوف، ويقطعون الطرق الوعرة، وليس فيها إلا أسد ضار أو قاطع طريق، أو لص محتال.
يركبون ذلك كله غير مبالين بما ينالهم من مشقة وعناء، بل يستسهلون في سبيل الربح العظيم من الصعاب مواصلين في ذلك الأيام والليالي، ولا عجب في تحمل التجار هذه المشاق؛ فإن من ذاق لذة الربح هانت لديه جميع الشدائد، وسهلت عليه كل المتاعب، تلكم حال تجار الدنيا الذين يطلبون ربحاً غير مضمون؛ فقد يكون وقد لا يكون وعلى فرض أنهم ربحوا الدنيا بأسرهم فالفناء مآلهم، والزوال مصير ما يربحون.
وكما أن للدنيا تجاراً مجدين منهمكين، فللآخرة تجارُ أمناء صادقون، أوفياء رحماء مخلصون، قال تعالى [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، فلا هم بتجارة الدنيا يفتنون، ولا هم عليها وحدها يعولون وإنما عولوا على التجارة بخالص الأعمال مع الغني الكريم الجواد الرحيم، الذي لا غش في التجارة معه ولا خسارة ولا كساد، بل هي تجارة مأمونة رابحة رائجة لن تبور.
أحبتي في الله: هل سمعتم أو رأيتم أن المشتري يعطي التاجر أكثر من الثمن؟ لا. ولكن الله الغني الكريم يأخذ عمل العبد ويعطيه على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله تعالى: [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
يتضح هذا المعنى العظيم من خلال موقف عثمان بن عفان في غزوة العسرة عندما عرض عليه بعض التجار أن يشتروا منه تجارته مقابل خمسة دنانير في السلعة فرفض عثمان، فقال أحدهم: بسبع دنانير، فرفض، ثم عرض ثالث ثماني دنانير، وأعقب هذا العرض بقوله: ولا أعلم أحداً في المدينة كلها يشتري منك بأكثر من ذلك، فقال عثمان: كلا إنه يوجد من يشتري مني بعشر، فقالوا له: من؟ قال: ربي سبحانه وتعالى القائل في كتابه العزيز: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، ثم تصدق عثمان بماله في هذه الغزوة ابتغاء وجه الله تعالى، وقد بلغ مقدار ما تصدق به تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود( ).
نعم والله إنها لصفقة رابحة تلك التي تمت بين الله عز وجل وعباده المؤمنين وبيّن نصوصها وبنودها جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى نزولاً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ووضح معالمها ومظاهر الربح فيها القرآن الكريم في سورة التوبة وكان من أهم البنود الواضحة الصريحة في هذه الصفقة أن المشتري هو المالك للسلعة، ملكها للبائع ثم اشتراها منه وكان الثمن الجنة، يقول الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
فاتقوا الله أيها الصائمون ولا تنهمكوا في تجارة الدنيا وتقصروا في تجارة الآخرة فما عندكم ينفد وما عند الله باق، فاتقوا الله ولا تضيعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، يقول الله تعالى: [وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
اعلموا أيها الصائمون أنكم الآن في موسم ربح عظيم، لا يتيسر لتجار الآخرة إلا مرة واحدة كل عام، موسم من اتجر فيه مع مولاة الكريم كان ربحه أن يعتق رقبته من النار، ويغفر له تقدم من ذنبه وما تأخر، موسم من تقرب فيه من ربه بالبر والطاعات وواظب على الجمعة والجماعة، فاز بعظيم الخير وعميم الرحمة.
اللهم تقبل من صيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا بين يديك إنك جواد كريم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل آخر كلامنا لا إله إلا الله، اللهم شفع فينا عبدك ونبيك محمداً يا أكرم الأكرمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الحادي والعشرون :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
محاسبة النفس
الحمد لله القائل في كتابه العزيز: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ]( )، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار العزيز الغفار، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله القائل فيما روى عنه شداد بن أوس: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)( )، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
وضحت لنا الآية الكريمة السابقة سنة من سنن الله تعالى وهي أن من غفل عن ذكر الله ونسيه وألهته دنياه عن العمل للآخرة أنساه الله نفسه التي بين جنبيه فلا يسعى لما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعادتها وإصلاحها، ولا يسعى في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والهلاك وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة.
وإن من العجب الشديد أن العبد يسعى بنفسه في هوان نفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ويجتهد في حرمنها من حظوظها وشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حفظها. وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رُب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومذل لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحقها.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزن عليكم؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ لا تخفى منكم خافية على الله تعالى).
وقال الحسن البصري: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته.
أيها المسلمون: لقد تراكمت عليكم الذنوب وأنتم في غّيكم ولهوكم في دنياكم، مشتغلون بما سيفنى، منصرفون عمن سيبقى، أحاطت بكم البلايا من كل جانب ولستم لإصلاح أنفسكم تجنحون، أما سمعتم قول الله تعالى: [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ]( ).
شعر:
عليك بمنع نفسك عن هواها
*** فما شيء ألذ من الصلاح
تأهب للمنية حين تغدوا
*** كأنك لا تعيش إلى الرواح
فكم من رائح فينا صحيح
*** نعمته نعاته قبل الصباح
وبادر بالإنابة قبل موت
*** على ما فيك من عظم الجناح
وليس أخو الرزانة من تجافى
*** ولكن من تشمر للفلاح
أيها الأخ المؤمن: إذا غلبتك نفسك وقهرتك فصلُ عليها بسوط العزيمة فإنها إن عرفت جدك استأسرت لك، وامنعها ملذوذ مباحها ليقع الاصطلاح على ترك الحرام؛ فإذا صبرت على ترك المباح، فإما منّا بعد وإمّا فداءً.
الدنيا والشيطان خارجان عنك، والنفس عدوٌ مباطن وإن من أدب الجهاد أن تعمل بقول الله تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ]( )، إن مالت نفسك على الشهوات فألجمها بلجام التقوى، وإن تركت الطاعات فسقها بسوط المجاهدة، وإن استحلت شراب التواني، واستحسنت ثوب البطالة فصح عليها بصوت العزم، فإن رمقت بعين العجب، فذكرها خساسة الأصل.
كان أحد السلف إذا قهر بترك شهوة أقبل يهتز اهتزاز الرامي إذا قرطس، إذا قوي عزم المجاهدة لان له الأعداء بلا حرب، لما قويت مجاهدة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعدت إلى كل من تعدى فأسلم شيطانه.
يقول ابن القيم ــ رحمه الله ــ في إغاثة اللهفان: على المرء أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض فإن تذكر فيها نقصاً تداركه بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يخلو بربه ذكراً وصلاة وقياماً وتسبيحاً وكذلك كان الصحابة والتابعون لهم وقفات مع أنفسهم يحاسبونها على ما فعلت ويقومونها فيما قصّرت ويتهمونها على ما فعلت، ويقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى يسألونه العفو والمغفرة والرحمة على ما قصروا وهم يتذللون بين يدي العزيز سبحانه وتعالى محقرين من شأن أنفسهم.
ومن هؤلاء: صلة بن أشيم العدوي الذي روى في شأنه جعفر بن زيد قائلاً: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم، قال: فترك الناس عند العتمة ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبة منه، فدخلت في إثره فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة قال: وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصعدت إلى شجرة، قال: أفتراه التفت إليه؟ أو وعذ به؟ حتى سجد، فقلت الآن يفترسه فلا شيء.
فجلس ثم سلم، فقال: أيها السبع: اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئيراً، أقول: تصدعت منه الجبال.
فما زال كذلك يصلي حتى لما كان عند الصبح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار كما أسألك أن ترزقني الجنة، ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا وقد أصبحت وبي من الفترة شيء الله تعالى به عليم( ).
هكذا كانوا يتهمون أنفسهم ويسألون الله سبحانه وتعالى أن يغفر لهم ويتجاوز عن سيئاتهم، يقيمون الليل ويقرؤون القرآن ويتدبرون ما فيه.
شعر:
بادر بتقوى الله واسلك سبيلها
*** ولا تتبع غي الرجيم المعاند
وإياك دنيا لا يدوم نعيمها
*** وإنك صاح لست فيها بخالد
تمسك بشرع الله والزم كتابه
*** وبالعلم فاعمل تَحْوِ كل المحامد
اللهم دلنا على قهر أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا إلينا وأكثرهم نكاية فينا، اللهم هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راضٍ عنا يا كريم، اللهم تقبل منا اليسير واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الثاني والعشرون :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستقامة وأثرها في صلاح
الفرد والمجتمع
الحمد لله الذي أرشد العباد إلى ما فيه الخير والسعادة وما يضمن لهم الفوز والفلاح في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسر الخير لمن أراد ووفقه في الطاعة والعبادة، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله خير من التزم أمر به واستقام على المنهج القويم حتى أنه كانت تتورم قدماه من إطالة السجود بيت يدي ربه، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ]( ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شيبتني هود والوقعة…)( )، وقد قيل إن الذي شيب النبي صلى الله عليه وسلم في هود قول الله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ]( )، وعن سفيان ابن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك (وفي حديث أبي أسامة: غيرك) قال: (قل آمنت بالله ثم استقم)( ).
قال بعض الحكماء: الاستقامة توبة بلا إصرار، وعمل بلا فتور، وإخلاص بلا التفات، ويقين بلا تردد، وتفويض بلا تدبير.
فاعلم أخي المسلم أن أعظم ما في الإسلام الاستقامة على أوامر الله عز وجل واتباع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء سنته وعدم الابتداع في الدين وإنه ليسير على من يسره الله عليه، وإن كانت النفس بطبيعتها تركن إلى الكسل والخمول والشهوات والملذات، لكن الإنسان صاحب العزيمة القوية والهمة العالية والإيمان الصحيح والعقيدة الراسخة يستطيع بفضل الله تعالى أن ينتصر على هذه النفس ويلزمها مداومة الطاعة، ويبعدها عن المعصية.
والمستقيم هو الذي يتميز في الناس عن غيره فهو كالجبل لا يذيبه الحر ولا يضره البرد، ولا يحركه الريح ولا يذهب به السيل العظيم، إذا أسيء إليه قابل الإساءة بالإحسان يقول الله تعالى: [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً]( ).
والمستقيم لا يشغله متاع الحياة الدنيا وزخرفها الزائل عن عبادة ربه سبحانه وتعالى وتجده صبوراً في الشدائد، ثابتاً عند البلايا، والمرء إذا عود نفسه أن يراقب الله تعالى عند كل عمل عمله موقناً أن الله تعالى مطلع على جميع أعمال العباد ومعتقداً أنه تعالى يجازي من أطاعه برضوانه وإحسانه، وأنه ينزل غضبه ومقته على من خالفه وعصاه؛ فإذا عود نفسه ذلك سهل عليه أن يفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه الله عنه يترك المنكرات، ويسارع إلى الخيرات، صارت الاستقامة له عادة ينتقل بها من وهدة الشقاء إلى ذروة العز والسعادة والهناء، يخرج بها من الظلمات إلى النور لأن الاستقامة هي امتثال كل مأمور واجتناب كل منهي.
أيها المؤمنون: اعلموا أن منزلة المستقيمين عند الله عز وجل منزلة عظيمة رفيعة فهم الآمنون حيث يفزع الناس، وهم في الدرجات العلى في الجنة بل ويخلدون فيها وهذا جزاء ما قدموا من صنوف البر وأنواع الحسنات العلمية والعملية والمآثر النافعة لهم يقول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
أما أثر الاستقامة في صلاح الفرد والمجتمع فهو كالآتي:
المستقيم إذا كان حاكماً صلحت رعيته، وإذا كان مدرساً فلح على يديه
تلاميذه، وإذا كان صناعاً تقدمت صناعته ونجحت، وإذا كان تاجراً ربحت تجارته وبارك الله له فيها، وإذا كان زارعاً كثر خيره، ونما زرعه، وبورك له في عمل يده، وإذا كان رب أسرة استقام أهله وصلحت ذريته ولا ريب أنه متى استقام الأفراد وصلح حالهم استقامت الأسر، ومتى استقامت الأسر استقامت الأمة بأسرها وغنيٌ عن البيان أن كل أمة يكون حظها من الرقي والسعادة على قدر حظ أفرادها من الاستقامة وسلوك المنهج القويم والسير على الصراط المستقيم.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك، وصرف قلوبنا إلى طاعتك وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واغفر لنا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الثالث والعشرون :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأخوة في الله وحقوقها
الحمد لله الذي ألف بين قلوب أوليائه، فأصبحوا بنعمته إخواناً ونزع الغل من صدورهم فصاروا في الدنيا أخداناً وفي الآخرة خلاناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه قولاً وفعلا وعدلاً وإحساناً، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ]( )، ويقول تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ويقول تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً]( ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) ( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)( ).
ويقول ابن رجب رحمه الله: ومن تمام محبة الله محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه فمن أحب شيئاً مما كرهه الله، أو كره شيئاً مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما أحبه الله أو أحبه مما كرهه الله( ).
وقال بعضهم:
وأحبب لحب الله من كان مؤمناً
*** وأبغض لبغض الله أهل التمرد
وما الذين إلا الحب والبغض والولا
*** كذاك البرا من كل غاوٍ ومعتدي
فما أعظم هذه الفضيلة وهي فضيلة الأخوة في الله، التي تصل أحياناً إلى أن يشعر طرفاها أنهما شخص واحد بوجدان واحد، ويتضح هذا المعنى العظيم في مقولة أبي بكر رضي الله عنه في أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم للرسول اللبن ليشرب اللبن يقول أبو بكر: فشرب رسول الله حتى رضيت( ).
وضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه أروع الأمثلة في التضحية والفداء والأخوة في الله حين نام مكان الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة ليفديه بنفسه، وقدم الكفار ليقتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ودخلوا على عليّ لكي يمزقوه بسيوفهم ظآنين أنه الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خاب أملهم ولم يجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم فكان قد خرج متجهاً إلى غار ثور.
وفي هذا المعنى العظيم وهذه التضحية الكبيرة يقول أبو إسحاق محمد ابن إبراهيم الثعلبي المفسر: رأيت في بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه وقال له: اتشح ببردي الأخضر الحضرمي؛ فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما الحياة.
فأوحى الله إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب؟ آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثر بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبريل عند رأس علي، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ! من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله عز وجل بك الملائكة، فأنزل الله عز وجل على رسوله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي( ) قول الله تعالى: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( )، هكذا أخي المسلم يجب أن تكون الأخوة في الله يعلوها الإيثار والتضحية والبذل والعطاء وقضاء الحوائج.
وإن من حقوق الأخوة في الله إجمالاً: إفشاء السلام، ورد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، والاهتمام بالمنصوح له، والتنفيس عن المكروب، والتيسير على المعسر، والإغضاء عن العيوب، والابتعاد عن الأذى كالحسد والتباغض والظلم والتحقير وغيره، وتحريم الهجر أكثر من ثلاثة أيام إذا كان الهجر لأسباب شخصية، والتفاعل مع الأخوة كل الأمور والأحوال والتغاضي عن الأخطاء، وستر العيوب، وحفظ الغيبة، وجواز الأكل من بيت الصديق بدون إذنه إلخ.
هذه الحقوق التي تحدثنا عن أهمها في حديثنا عن خلق الإيثار ضمن الأخلاق الفاضلة مستدلين على ذلك بالأدلة من القرآن والسنة، وذكرنا بعض النماذج الحية تبين هذه الحقوق من خلال واقع الصحابة رضوان الله عليهم فمن شاء فليراجع إليها في مكانها.
اللهم اجعلنا من المتحابين بجلالك، المستظلين تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم اجعلنا لكتابك الكريم من التالين، ولقضاء حوائج المسلمين ساعين ولإصلاح ذات البين مشمرين، وبذلك على الله متوكلين، ولأكف الدعاء رافعين، اللهم اجمع شمل المسلمين المخلصين من عبادك الموحدين
على طاعتك واجعلهم من الفائزين بجنتك يا كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الرابع والعشرون :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
آداب الاستئذان والزيارة
الحمد لله الذي جعل لنا من بيوتنا سكناً نفيء إليها فتسكن أرواحنا وتطمئن نفوسنا ونأمن على عوراتنا وحرماتنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حبيبنا وشفيعنا وقائدنا ورائدنا والقدوة الحسنة إلى يوم الدين، خير من التزم بآداب الاستئذان على الغير وخير من اتبع الصراط المستقيم صراط الله رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ]( ).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأته لم يكن عليك جناح)( ).
من خلال النصوص السابقة يتبين لنا أن المسلم عليه أن يلتزم بآداب الاستئذان قبل أن يدخل بيت غيره، لأن البيوت لها حرمة لا يجوز المساس بها فلا يفاجأ الناس بدخول الغرباء عليهم في بيوتهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم لهم بالدخول خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت وعلى عورات أهلها وهم غافلون؛ لأنه إذا التقت عيون الداخلين بمفاتن تثير الشهوات تهيأت فرصة الغواية وتحولت هذه النظرات إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرمة، ولقد كان الناس في الجاهلية يهجمون هجوماً على البيوت فيدخل الزائر البيت ثم يقول لقد دخلت، وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليهما أحد.
فلما جاء الإسلام وجاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن أنزل الله عز وجل في كتابه العزيز آيات تبين آداب الاستئذان على البيوت والسلام على أهلها لإيناسهم، وإزالة الوحشة من نفوسهم قبل الدخول، ومن هذه الآداب:
1_ على المؤمن أن يستأذن عند دخول بيت غيره، وقد أجاز بعض أهل العلم دخول البيت بدون إذن في حالات الضرورة كوجود حريق أو طلب النجدة من داخل البيت أو خوف هلاك معصوم من الصغار أو من في حكمهم أو غير هذه الأمور مما يأخذ حكمها.
2_ ينبغي للمؤمن أن يسـتأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع والرجوع هنا للوجوب، قال الله تعالى: [وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ] ( )، فعن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً قال قيس: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذره يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله. فرد سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال: يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام، فقال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة…)( ).
هكذا يعلمنا الصادق الأمين وهو المثل الأعلى لنا في الأخلاق أن المسلم إذا استأذن فله أن يستأذن ثلاثاً، فإن أذن له وإلا رجع.
3_ من مظاهر الاستئذان إلقاء السلام كما اتضح من هديه صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق وفعله صلاة الله وسلامه عليه مع سعد بن عبادة رضي الله عنه.
4_ ألا يقف الزائر تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليجعل الباب عن يمينه أو عن يساره، عن عبد الله بن بٍُسر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، فيقول: السلام عليكم، السلام عليكم)( )، وذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.
5_ على الزائر أن يفصح عن اسمه أو كنيته المشهور بها ولا يقل (أنا) ليطمئن أهل البيت وينزع الوجس من نفوسهم، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر ابن عبد الله رضي الله عنه يقول: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا أنا كأنه كرهها)( ).
وقال بعضهم: ما قال أنا إلا اثنين: فرعون عندما قال: [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، وإبليس أعاذنا الله منه عندما قال: [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( )، فأما الأول فأغرق هو وجنوده ونُجي بدنه ليكون عبرة لمن يخشى، والثاني طرد من رحمة الله وأصبح مكانة الحمام.
6ـ على المؤمن أن يستأذن على أمه أو أخته، روى عطاء بن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال: تحب أن تراها عريانة، قلت: لا، قال: فاستأذن، قال: فراجعته أيضاً فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قال: قلت نعم، قال: فاستأذن( ).
7ـ حرمة الدخول إذا لم يكن في البيت أحد: يقول الله تعالى: [فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا]( ).
8ـ البيوت غير المسكونة لا حرج من دخولها: مثل الفنادق والخانات وبيوت التجار وغيرها، يقول الله تعالى: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ]( ).
اللهم أدبنا بأدب الإسلام، اللهم احمنا عن أسباب الشر والفساد، ويسرنا للعمل بالباقيات الصالحات بالجد والاجتهاد، اللهم كلل أعمالنا بالنجاح والسداد، وأدخلنا الجنة مع أوليائك خير العباد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الخامس والعشرون:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسباب المغفرة وأسباب العذاب
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسعت رحمته كل شيء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ]( )، والله سبحانه وتعالى يغفر للعبد جميع الذنوب ماعدا الشرك بالله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً]( ).
ولكي يغفر الله عز وجل لعبده فلذلك أسباب منها:
1ـ التوبة النصوح في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات قال الله تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )؛ فإذا تبتم أفلحتم ونجحتم وسعدتم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
2ـ الإيمان الصادق بالله تعالى، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، والإيمان بالملائكة، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والإيمان بالكتب المنزلة وأن أفضلها هو القرآن الكريم الدستور الخالد إلى يوم القيامة، قال تعالى: [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
والإيمان بالرسل جميعاً وفي مقدمتهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم خير الخلق وخير الرسل أجمعين أرسله الله رحمة للعالمين، والإيمان باليوم الآخر وبالبعث والنشر والجزاء والحساب، والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه…)( ).
3ـ العمل الصالح الخالص: فالعمل لا يكون مقبولاً لدى رب العالمين حتى يكون موافقاً للكتاب والسنة ويكون خالصاً لوجهه الكريم سبحانه وتعالى.
4ـ الثبات والاستقامة على هذا الإيمان وهذا العمل الصالح، عن سفيان ابن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك (وفي حديث أبي أسامة: غيرك) قال: قل آمنت بالله ثم استقم( ).
فهلا استقمنا أحبتي في الله على الإيمان بالله تعالى وعملنا بهذه الأسباب علنا نفوز برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء وننال مغفرته ورضوانه.
أسباب العذاب:
لنزول عذاب الله على العبد أسباب كثيرة لكننا نذكر منها هنا الأهم والأخطر:
1ـ تكذيب القلب لخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: [إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )، وقال تعالى: [فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )؛ فيا سبحان الله يوجد نفر من المسلمين لم يكتمل إيمانهم بعد لا يصدقون بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يثقون في قدرة الله تعالى ولا يحسنون الظن بالله! عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)( ).
وهنا نجد أن اليهود عليهم لعائن الله قد صدقوا خبر الرسول وقاموا بزرع ستة ملايين شجرة من شجر الغرقد، على صعيد آخر نرى بعضاً من المسلمين لا يصدقون أنه سيأتي اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على اليهود وتعلو كلمة الله، وذلك ما هو إلا تكذيب لخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يمكن أن ينتج عنه نزول عذاب الله عليهم.
2ـ إعراض جسد العبد عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: [فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار، ربنا كفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس السادس والعشرون :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أسباب النجاة وأسباب الرزق
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الصادق الأمين، أما بعد:
فيقول الشاعر:
بأربعة أرجو نجاتي وإنها
*** لآكد مذخور لدي وأعظم
شهادة إخلاص وحبي محمداً
*** وحسن ظنوني ثم إني مسلم
ذكر الشاعر في البيتين السابقين أربعة أسباب للنجاة وهي:
1ـ شهادة أن لا إله إلا الله عن علم ويقين وصدق ومحبة وانقياد وقبول لما دلت عليه من الأمور والنواهي، عن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)( ).
2ـ حب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)( ).
ولا شك أن محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم تقتضي الانقياد والمتابعة والطاعة في كل شيء قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ( )، وصدق من تحدث عن صدق حب العبد لله تعالى وعلامة ذلك حيث قال:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
*** هذا لعمري في القياس بديـــع
لو كان حقاً ما تقـول أطعتـــه *** إن المحب لمن يحب مـطيــع
3ـ حسن الظن بالله تعالى: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: (أنا عند عبدي بي …)( )، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته أيام يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)( )؛ لان ذلك من متممات الإيمان الأساسية والتي لا بد منها.
4ـ الاستسلام لله والانقياد له بالقول والعمل: فالمسلم في إسلامه يرتكز على ثلاثة ركائز مهمة:
ـ اللسان ينطق بالشهادتين.
ـ القلب يصدق ذلك ويوقن به ويعتقده.
ـ الجوارح تعمل بمقتضى ذلك في مرضاة الله عز وجل.
فعلى المسلم الحقيقي ألا يأتي بواحدة ويترك أخرى وإلا احتاج إسلامه إلى نظر؛ فإذا نطق لسانه بالإسلام وصدق ذلك قلبه فعليه أن يتقي الله ويصرف أفعال جوارحه فيما يرضي الله؛ فالعين لا تنظر إلا إلى ما أحل الله، واللسان لا يتكلم إلا في ذكر الله وما والاه، والأذان لا تسمع إلا ما يرضي الله، واليد والقدم لا يتحركان إلا فيما يرضي الله، والقلب لا يسع إلا الخير والحب والتعاون والمودة والإخاء والمواساة والمساعدة للمسلمين، بل الجسد كله لا ينصرف إلا لخدمة دين الله عز وجل.
أسباب الرزق:
للحصول على الرزق أسباب لابد على العبد أن يتبعها ومنها:
1ـ السعي في تحصيله: يقول تعالى: [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
2ـ تقوى الله عز وجل: التي أجمل ابن مسعود رضي الله عنه تعريفها فقال: (تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)، يقول الله تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً]( ).
3ـ الاستغفار: والاستغفار جعله الله سبحانه وتعالى سبباً في نزول المطر،
وجعله سبباً في الحصول على الرزق، وسبباً في أن يرزق الله العبد بنعمة الأولاد وهي من أجل نعم الله عز وجل على العبد يقول الله تعالى: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارا]( )، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب)( ).
4ـ التوكل على الله والاعتماد عليه والاستعانة به سبحانه وتعالى: قال تعالى: [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( )، وصدق من قال: (من اعتمد على الناس مل، ومن اعتمد على ماله قل، ومن اعتمد على عقله ضل، ومن اعتمد على سلطانه ذل، ومن اعتمد على الله فلا مل، ولا قل، ولا ضل، ولا ذل).
5ـ الدعاء بحصول الرزق: فالله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين فمن دعا الله بإخلاص استجاب الله منه، قال تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، والله سبحانه وتعالى قد تكفل بأمر الرزق وأقسم ربنا عز وجل على ذلك فقال: [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ]( )، حتى أن أعرابياً لما سمع هذه الآية قال: من أغضب الحليم حتى يقسم!! يارب إنا لموقنون بذلك، والله
سبحانه وتعالى الذي أمر بالدعاء هو الذي تكفل بالإجابة.
6ـ شكر الله على نعمه: فكفى بنعمة الخلق نعمة، وما أعظم نعمة الهداية على الإسلام، بل ما أعظم نعمة الالتزام بالإسلام، والشكر أحبتي في الله قرن بالزيادة قال تعالى: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]( ).
اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم ارزقنا رزقاً واسعاً حلالاً طيباً كثيراً مباركاً فيه، اللهم طهر أرزاقنا من الحرام، اللهم اجعل لنا من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً وارزقنا من حيث لا نحتسب، اللهم ارزقنا القناعة والحفاظ على صلاة الجماعة، اللهم وفقنا إلى طاعتك وباعد بيننا وبين معاصيك، وارحم أمة محمد رحمة عامة يا كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس السابع والعشرون :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
موجبات الشكر
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، والحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أسبغ نعمه على العباد ظاهراً وباطناً، وأشهد أن محمداً رسول الله خير من شكر الله على نعمته حتى إنه تورمت قدماه من إطالة الوقوف بين يدي ربه في الصلاة مع أنه غفر له ما قدم من ذنبه وما تأخر ليضرب لنا أروع الأمثلة في شكر الله على نعمه والتي من أعظمها التوفيق في الطاعة، أما بعد:
فعن عبد الله بن محصن الخطمي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)( ).
وقال الشاعر:
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتى
*** وكان صحيحاً جسمه وهو في أمن
فقد ملك الدنيا جميعاً وحازها
*** وحق عليه الشكر لله ذي المن
فيا سبحان الله من يمتلك هذه الأشياء فقط فكأنما حيزت له الدنيا!! فما بال من ملك أضعاف ذلك مئات المرات ما كان يجب عليه من شكر لله تعالى؟ فالمسلم إذا أراد أن تستقر عليه هذه النعم فليحمد الله سبحانه وتعالى ويشكره بقلبه ولسانه وعمله؛ بمحبته وطاعته لله تعالى، وليمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وليفعل ما أوجب وليترك ما حرم، وليكثر من ذكر الله تعالى، وليكثر من شكره سبحانه، وليحافظ على أحسن العبادة وليدعُ الله ليل نهار أن يوفقه.
يقول تعالى: [وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] ( )، وقال تعالى: [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
فعلى العبد أن ينتبه لهذا الأمر العظيم وهو الدعاء فالله سبحانه وتعالى هو الذي رزقنا بنعمه العظيمة وأسبغها علينا ظاهرة وباطنة وهو الذي علمنا سبحانه وتعالى الدعاء وآدابه ثم بعد ذلك يستجيب منا هذا الدعاء ويعتبر أن كلمة (الحمد لله) من أساليب شكره على هذه النعم العظيمة؛ فيا لكرم الله تعالى الكريم اللطيف بعباده، ويا لعظمة الإسلام ويسره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا…)( ).
وليحافظ العبد على نعم الله عليه ولا يصرفها إلا في الوجه الذي يرضي الله؛ لأنه مسؤول عن ذلك يوم القيامة، وليعلم العبد أن المعاصي سبب من أسباب زوال النعمة فليتق الله وليكن في طاعته دائماً وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (الدنيا ملعونة ملعونُ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)( ).
وليتذكر قول القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها
*** فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ على شكر الإله دائماً
*** فإن الإله سريع النقم
اللهم اقض عنا الدين واغننا من الفقر برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وفقنا لشكرك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع ونفس لا تشبع ودعوة لا يستجاب لها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.